( تفسير سورة البقرة )
قوله تعالى
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }البقرة14 - 16 الآية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين :
أما بعد /
فيقول الله عز وجل عن صفات المنافقين :
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{16}
( من الفوائد )
" بيان جبن وخوف المنافقين"
فليست لديهم الشجاعة أن يظهروا ما في ضمائرهم للصحابة رضي الله عنهم ، ولذا إذا مروا بهم قالوا خوفا منهم :
{ آمَنَّا }
لكن إذا ذهبوا إلى رؤسائهم أظهروا الكفر ، كما قال عز وجل عن جبن المنافقين :
{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }المنافقون4 .
ومع ما لديهم من هذا الجبن الخالع ، لديهم صفة أخرى وهي صفة " البخل " فإن الله عز وجل بيَّن بخل هؤلاء المنافقين :
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا }المنافقون7 .
وهاتان الصفتان متى ما اجتمعت في قلب العبد فقد خسر خسرانا مبينا ، إذا كان لديه :
" جبن خالع وشحٌ هالع "
ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أسوء صفتين تكون في الإنسان ، قال عليه الصلاة والسلام :
( جبن خالع أو شحٌ هالع )
( ومن الفوائد )
" أن هؤلاء المنافقين يتولون غير المؤمنين "
وهذا من أعظم الإفساد في الأرض ، أن يتولى المؤمن من هو كافر ، فهذا من أعظم الإفساد في الأرض ، ولذا إذا خلوا إلى شياطينهم ، من هم ؟ رؤساؤهم من أهل الكتاب من اليهود ، ورؤسائهم من صنف هؤلاء المنافقين .
ما الذي دعاهم إلى أن يتولوا غير المؤمنين ؟
ما ذكره عز وجل في سورة المائدة :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
ثم قال عز وجل :
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ }المائدة52 .
يقولون : نحن نواليهم ربما ألا تكون هناك نصرة للمؤمنين ، فيكون لنا حظ وقدر عند هؤلاء ، فلا نخسر هذا الجانب ، ولا نخسر هذا الجانب .
ولذا أوضح جل وعلا حال هؤلاء في سورة النساء :
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }
كنتم في حوزتنا ، يمكن أن نعين المؤمنين عليكم ، فانظر إلى حال من رغب أن يعيش أي حياة ، بقطع النظر عن صفة هذه الحياة ، وهذا شأن كل من خرج عن دين الله عز وجل ، ولذلك بين جل وعلا ما يطلبه اليهود :
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ }البقرة96
أي حياة ، أهم شيء أن يحيى ، لكن المؤمن التقي هو الذي يرغب في الحياة التي تكون عامرة بطاعة الله عز وجل ، لم ؟
لأن هذه الحياة هي مدد لما يكون له في الحياة الباقية :
{ قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا }الأنعام31
على ما فرطوا في هذه الدنيا من الأعمال الطيبة التي تقربهم إلى الله عز وجل .
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }الفجر24
( ومن الفوائد )
أن الله جل وعلا قال :
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ }
قال بعض العلماء :
[ إن بعض الحروف ينوب بعضها عن بعض ]
يعني " خلوا بشياطينهم "
فـ { إِلَى } هنا بمعنى ( الباء )
وقال بعضهم : { إِلَى } بمعنى ( مع )
يعني إذا خلوا مع شياطينهم .
وهذا قول لبعض أهل اللغة .
ولكن الصواب / وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله :
[ أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض ]
لأن الأصل أن تبقى على ما هي عليه ، إذاً ماذا نصنع ؟
نثري معاني القرآن ، فهذا الحرف يُضَمَّن فعلا "
فقوله تعالى :
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ }
نبقي فعل ( خلا ) على ظاهره ، ونضمنه هذا الحرف فعلا، يعني إذا انصرفوا إلى شياطينهم .
كما قال عز وجل :
{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ }الإنسان6
هل العين إناء ؟
لا ، ولذلك قال من يقول بأن بعض الحروف ينوب بعضها عن بعض "
قال : يعني ( يشرب منها )
فالباء بمعنى " من "
لكن نقول " لا "
{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ }
تبقى على حالها ، ونضمن فعلا ، يعني :
( عينا يرتوي بها ) وهكذا .
( ومن الفوائد )
أن " الشيطان " هو كل من تمرد وعتا وبلغ في الشر مبلغه ، هذا يسمى " بشيطان "
ولذلك ذكر عز وجل : أن من أصناف الشياطين " شيطان الإنس "
فهذا الآية تدل على أن في الإنس شياطين
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ }
وصفوا بالشيطنة ، لأنهم بلغوا في الشر مبلغه ، والآيات في هذا كثيرة ، منها قوله عز وجل :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً }الأنعام112
{ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ{5} مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ{6}
يعني أن الموسوس يكون من الجن ويكون من الإنس .
بل إن الحيوانات فيها شياطين ، شياطين من نوعها ، ليست من صنف الشيطان الذي خلق من نار – لا – وإنما هو شيطان لأن هذا الحيوان بلغ أسوء ما يكون في الشر ، النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم :
( لما أخبر أن الكلب الأسود يقطع الصلاة ، قال يا رسول الله " ما بال الكلب الأحمر والأبيض من الأسود ؟! قال صلى الله عليه وسلم " ذاك شيطان " )
شيطان كلاب ، وليس شيطان جن ، كما أن في نوعيتنا نحن الإنس شياطين إنس .
( ومن الفوائد )
بيان أن المنافقين اتسموا بسمة الاستهزاء المذموم ، لم ؟
لأنه على وجه التنقص والعيب والعبث .
لكن هناك نوع من الاستهزاء لا يذم ، وذلك إذا كان في مقابلة ذلك الاستهزاء بالعدل والمجازاة .
ماذا قال نوح عليه السلام ؟
{ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }هود38
ولذا قال عز وجل بعدها :
{ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }
هل الله يستهزئ ؟
يجب أن يعلم كل مسلم ما يتعلق بأسماء الله عز وجل وبصفاته وما هو معتقد أهل السنة والجماعة
لم ؟
لأن من علم حق العلم ما لله عز وجل من الأسماء والصفات ازداد إيمانه ، فأعظم آيات الله في القرآن هي آيات الصفات ، لماذا نالت سورة :
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثلث القرآن ؟
لأنها أخلصت في أسماء الله عز وجل وصفاته .
لماذا كانت آية الكرسي أعظم آية ؟
لأنها تضمنت صفات الله عز وجل .
ولذا من يوقن حق اليقين أن من بين أسمائه عز وجل " الشافي " أنَّى له أن يستبعد العلاج والشفاء ، لو كان فقيرا يتذكر اسم الله ( الغني ، الوهاب ) وهكذا.
ولذلك على المسلم أن يحرص على معرفة أسماء الله عز وجل وصفاته .
وما يتعلق بأسماء الله عز وجل وصفاته ينقسم إلى قسمين :
" صفات سلبية " : يعني منفية عن الله عز وجل
" وصفات ثبوتية " : يعين مثبتة لله عز وجل .
وخذها قاعدة :
[ أي صفة تمر بك في كلام الله عز وجل في القرآن أو في السنة الصحيحة أثبتها ولا تقل إنها لا تتناسب مع الله ، أأنت أعلم من الله عز وجل بنفسه لما ذكر ذلك في كتابه ؟
أأنت أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم بربه لما ذكر ذلك في سنته ؟
أأنت أعلم من الصحابة رضي الله عنهم بربهم الذين قرءوا القرآن وقرءوا السنة ؟ لا .
لكن تثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه في القرآن أو في السنة بشرط ، أنك لا تشبهها بصفة المخلوق ، ولا تكيفيها "
لا تقل إن صفة الله لها كيفية كذا وكذا ، اعلم أنه ما من صفة لله عز وجل إلا ولها كيفية ، لكن نجهلها ، ولذلك الإمام مالك رحمه الله :
لما أتاه رجل وقال : كيف استوى الله على العرش؟
قال الإمام مالك : الاستواء معلوم )
من حيث اللغة : فهو الارتفاع والعلو .
( والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا مبتدعا وأخرجه من مجلسه )
إذاً لها كيفية ، لأنه ما من شيء موجود إلا وله كيفية ، لكن قد تعرفها .
لكن صفات الله عز وجل لها كيفية ولكن نجهلها ، أما معناها من حيث اللغة فنعلمها ، لم ؟
لأن القرآن نزل بلغة العرب وأمرنا الله عز وجل بالتدبر :
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }ص29.
ومن آيات الله عز وجل التي تتدبر في كتاب الله " آيات الصفات "
ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما لما ذكرت صفة لله عز وجل في كتابه " ارتعد رجل " فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( ما فَرَقُ هؤلاء ؟ ) يعني ما خوف هؤلاء ( يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه )
يعني إذا أتى الشيء الواضح آمنوا به ، وإذا أتى الشيء المتشابه في القرآن هلكوا وارتعدوا – لا – معنى ذلك أنك تثبت ما لله عز وجل من صفات ، لكن تشبهها بصفات المخلوقين ولا تكيفها :
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11.
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }الإخلاص4
{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } ؟
الجواب : لا .
" صفات سلبية – وصفات ثبوتية "
الصفات السلبية هي المنفية ، يعني ما نفاه الله عز وجل عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، هذه ما واجبك نحوها ؟
يجب عليك أن تنقي ما نفاه الله عز وجل عن نفسه وتثبت كمال الضد :
{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ }فصلت46
ننفي الظلم عن الله عز وجل لكمال عدله .
ننفي النسيان عن الله عز وجل :
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }مريم .
لكمال علمه عز وجل .
هذا هو الإثبات الكامل .
هناك صفات ثبوتية أثبتها القرآن أو أثبتتها السنة "
هذه أقسام :
أولا : صفات خبرية لله عز وجل " يعني أخبر بها الشرع ، هي بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء .
مثل " اليد- العين " الله عز وجل بين أن له يدين ، وكذلك له عيناه ، فهذه صفات خبرية ، ولا نقول هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لله – لا – وإنما نقول هي صفات خبرية .
ثانيا : " صفات ذاتية " لا تنفك عن الله عز وجل ، مثل : العلم – السمع – البصر "
ثالثا : " صفات فعلية " يفعلها عز وجل متى شاء .
مثل " استوائه على العرش " كنزوله جل وعلا إلى السماء الدنيا من الثلث الأخير من الليل .
تأتي رسالة على " الواتساب " تقول :
" اغتم فقد ترك الله جل وعلا عرشه ونزل إلى السماء الدنيا "
وهذا قول قبيح أن يقال " ترك الله عرشه "
ولذلك أنكر شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى من يقول " إن الله عز وجل إذا نزل إلى السماء الدنيا خلا منه العرش "
فإذاً هذه صفات فعلية ، يفعلها متى شاء جل وعلا .
رابعا : " صفات ثبوتية ولكن ليس على وجه الإطلاق وإنما على وجه التقييد "
كما هنا :
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }
لم ؟
لأن الاستهزاء منه ما هو محمود إذا كان على وجه المجازاة والعدل .
ومنه ما هو مذموم إذا كان على سبيل العبث والعيب .
مثل صفة " الخداع "
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }النساء142 .
ومثل صفة " المكر " :
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }آل عمران54.
فلا نقل إن من صفات الله الخداع ، أو الاستهزاء ، أو المكر – لا – نقول من صفاته الاستهزاء بمن يستهزئ به أو بشرعه أو بالمؤمنين .
الله جل وعلا من صفاته المكر لمن يمكر بشرعه أو يمكر بالمؤمنين .
الله جل وعلا من صفاته الخداع لمن يخدع عباده.
لو قال قائل : هل يوصف الله عز وجل بالخيانة ؟
بعض الناس إذا أراد أن يؤكد أمرا قال :
" الله يخون إللي يخونك "
عبارة جارية على ألسنة بعض من الناس .
هذا خطأ ، الله لا يخون ، لأن الخيانة صفة ذم مطلقا ، ولذلك عز وجل لما ذكر صفة الخيانة للكفار
{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ }الأنفال71 ، ولم يقل " فخانهم "
ولذلك يتنبه المسلم من هذه الجملة .
( ومن الفوائد )
بيان فضل المؤمنين إذ إن الله عز وجل معهم ، وما أعظم وما أكثر الاستهزاء الذي يحصل من أعداء الله عز وجل لأوليائه في هذا الزمن وفي غيره من الأزمان .
إذاً / لا تخف ولو طال الزمن ، فإن الله ناصرك ، والله عز وجل مستهزئ بمن يستهزئ بك .
ومن آثار استهزائه عز وجل بالمنافقين في الدنيا :
أنه جل وعلا يستهزئ بهم إذ إنهم ظنوا أن المؤمنين لما قالوا لهم " آمنا " ظنوا أن المؤمنين قد اغتروا بقولهم ، ولكنه جل وعلا فضح أمرهم .
ومن آثار استهزائه عز وجل بالمنافقين يوم القيامة :
أن الله عز وجل يجعل لهم نورا يوم القيامة ، النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم لما أخبر أن الأرض تبدل ، قالت عائشة رضي الله عنها :
( يا رسول الله أين الناس يومئذ ؟ قال في الظلمة عند الجسر )
فيجعل الله عز وجل نورا للمؤمنين ظاهرا وباطنا ، ويجعل نورا للمنافقين المؤمنين ظاهرا دون الباطن ، فإذا وصلوا إلى مقربة من هذا المكان :
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً }الحديد13.
تحصيل النور ليس هنا ، وإنما في الدنيا ، عن طريق الإيمان بالله عز وجل .
( ومن الفوائد )
بيان أن المنافقين حرصوا على دمائهم وعلى أموالهم
لم ؟
لأنهم علموا أن كلمة الإيمان تعصم الإنسان من أن يُقتل ، فيدخل في دين الله عز وجل ، بقطع النظر عن مآلات هذه الحياة التي يريدونها .
( ومن الفوائد )
أنه يجب على المسلمين أن يأخذوا بظواهر الناس ، ولا يبحثوا عن بواطنهم "
جاء في الصحيحين : لما قتل أسامة رضي الله عنه ذلك الرجل الذي عتا في المسلمين عتياً عظيما بالقتل وقتل فلانا وفلانا ، فلما تبعه أسامة مع رجل من الأنصار ، فلاذ بشجرة ، فلما رأى السيف قال " لا إله إلا الله " فيقول الأنصار فكففت عنه ، لكن أسامة قتله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أقتلته بعدما قال " لا إله إلا الله " ؟
قال يا رسول الله : إنه فعل وفعل ، وقتل فلانا وفلانا ، فقال صلى الله عليه وسلم كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ )
وفي رواية أخرى :
( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه قالها صدقا أم لم يقلها ؟ )
( ومن الفوائد )
أن أهل الباطل يتواصلون على البقاء على باطلهم "
كما ذكر عز وجل هنا في قولهم :
{ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{14}
يعني ابقوا على ما أنتم عليه ، فنحن نظهر للمؤمنين الإيمان ولكننا على ما أنتم عليه من هذا المعتقد ، وهذا شأن أهل الباطل ، فإذا كان العدو هو الإسلام وأهله فإنهم يتآزرون فيما بينهم ، هؤلاء منافقون مع منافقين مثلهم ومع اليهود ، ومع ذلك تواصوا بالباطل .
وهذا شأن هؤلاء الكفار ، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه في بيت أبي طالب فقال لهم :
( قولوا كلمة واحدة تسودوا بها العرب والعجم ، قالوا كلمة واحدة نقولها ما هي ؟
" لا إله إلا الله ")
فماذا قال عز وجل ؟
{وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }ص6
ألم يقل الله عز وجل عن قوم نوح عليه السلام :
{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً }نوح23 ؟
لا تدعوا عبادة هذه الأصنام ، تواصوا بالبطل ، إذاً حري بأهل الحق أن يكونوا أحرص من هؤلاء على أن يتواصوا بالحق .
قال ابن القيم رحمه الله لا يكون العبد عبدا عالما ربانيا إلا بهذه الصفات الأربع :
" أن يتعلم العلم – وأن يعمل به – وأن يدعو إليه – وأن يتواصى هو وغيره على هذا الحق "
وهذه مجموعة في قوله تعالى :
{ وَالْعَصْرِ{1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ{2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا }
هذا العلم .
{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
هذا العمل .
{ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ }
هذا الدعوة .
{ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{3}
هذا تحمل الأذى في سبيل هذه الدعوة .
إذاً / لابد من العلم والعمل والدعوة والصبر على تحمل ما يكون لك في سبيل هذه الدعوة .
( ومن الفوائد )
بيان عقوبة الله عز وجل لمن أعرض عن أمره وعن شرعه ، فإن القلب إذا بلغ مرتبة عالية في الإعراض زيَّن الله عز وجل له إعراضه ، فظن على أنه طريق حسن وهو ليس كذلك ، ولذلك قال عز وجل :
{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15}
كما قال عز وجل في آيات كثيرة :
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }آل عمران178
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ{55} نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ{56}
فالحذر الحذر ، قال تعالى :
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } من الخير والهدى .
{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ } ليس بابا واحدا ، بل أبواب { كُلِّ شَيْءٍ } من الخير ، ولذلك في المسند ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر رضي الله عنه :
( إذا رأيت الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه ، فاعلم بأنه استدراج " ثم قرأ هذه الآية :
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ }الأنعام44 )
( ومن الفوائد )
أن كلمة: { يَمُدُّهُمْ } من " مدَّ " وهي تختلف عن " أمدَّ "
" مدَّ " في الغالب تأتي في الشر ، كما هنا :
{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15}
بينما " أمد َّ " تأتي في الغالب للخير ، قال تعالى :
{وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ }الطور22
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل قال :
{ فِي طُغْيَانِهِمْ }
أتى بـ { في } المستغرقة في السفل .
ومر معنا ما ذكر في صفات المؤمنين :
{أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }البقرة5
كما قال ابن القيم رحمه الله :
إذا كان في سبيل المتقين أتت " على " لم ؟ لأنهم علوا بهداهم ، لكن إذا أتت في سياق أهل الشر ، أتى بـ " في المستغرقة " في السفل والانحطاط ، ولذلك جمعهما عز وجل في قوله :
{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }سبأ24
إذاً / كأنهم ينزلون نزولا عميقا سحيقا في هذا الطغيان .
( ومن الفوائد )
أن الطغيان هو مجاوزة الحد "
معنى أنهم تجاوزوا الحد في عصيان الله عز وجل ، وهذه مادة ": طغى " : " تجاوز الشيء "
قال تعالى :
{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ }الحاقة11
يعني علا وارتفع ارتفاعا شديدا .
( ومن الفوائد )
أن من أراد الخلاص من الطغيان فعليه بالاستقامة على شرع الله عز وجل .
والاستقامة ضدها الطغيان ، قال ابن القيم رحمه الله
دليل هذا : قوله عز وجل في سورة هود :
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ }هود112.
دل هذا على أن الطغيان هو ترك الاستقامة .
حتى قال بعض العلماء : إن هذه الآية :
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ }هود112 هي الآية العظمى التي شيبت النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال ( شيبتني هود وأخواتها )
ما الذي شيبه في هود ؟
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ }هود112 .
وهذا يعطينا دلالة على أن أول الآيات له ارتباط بآخر الآيات .
( ومن الفوائد )
أن الطغيان سبب لحجب القلب عن الهدى وسبب لحيرته وتقلبه ، ولذلك قال :
{ يَعْمَهُونَ{15}
العمه : يكون في القلب .
والعمى : يكون في العين .
فرق بين " عمى وعمه "
العمه : في القلب ، كما هنا .
والعمى: يكون في العين .
يمكن أن يأتي العمى في القلب ، كما قال عز وجل : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }الحج46 .
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل أشار إلى هؤلاء بإشارة البعد ، ولذلك قال :
{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ }
لماذا أتى بإشارة البعد هنا ؟
ليدل على أنهم بعدوا عن طاعة الله عز وجل ، ومن علامات هذا البعد : أنهم :
{ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}
سبحان الله – الذي يشتري شيئا أليست نفسه تواقة وراغبة في شرائه ؟
بلى ، هؤلاء – نسأل الله السلامة والعافية – لبعدهم عن طاعة الله عز وجل دفعوا شيئا ثمينا مقابل ونظير أن يشتروا شيئا ضارا عليهم في دنياهم وفي أخراهم .
ما هو الثمن ؟ الهدى .
وخذها قاعدة : في صيغة البيع والشراء :
[ إذا دخلت الباء على كلمة فهي الثمن ]
{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}
إذاً / الثمن هو " الهدى "
تقول : " اشتريت ثوبا بمائة ريال "
أين الثمن ؟ مائة .
وهذا يدل على سفهم ، لما قالوا :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء }البقرة13 .
ومن سفههم أنهم :
{ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}
( ومن الفوائد )
هل هم مؤمنون حتى يقدموه ثمنا للضلالة ؟
ليسوا بمؤمنين ، إذاً المعنى : أنهم استبدلوا الإيمان بالكفر ، وهذا يؤخذ منه تعريف البيع .
تعريف البيع عند العلماء : " مبادلة مال بمال "
وهذه الصيغة يجب أن تفهمها ، لم ؟
لأن أي مبادلة تقع بينك وبين شخص في مالين يكون بيعا "
ما حكم البيع في المسجد ؟
غير جائز ، تصور لو أن المسجد أعطاني هدية " شماغ " وأعطاك هدية " ثوبا " ونحن في المسجد قال أحدنا للآخر " يا فلان خذ هذه الشماغ ، وأن آخذ هذا الثوب " هل يصح ؟
لا يصح ، لم ؟
لأن البيع : " مبادلة مال بمال "
ولذلك ما يترتب على البيع يترتب على ذلك .
لو ذهب شخص إلى صاحب الذهب ومعه قطعة من الذهب وزونها " خمسون جراما " فأتى إليه وقال أعطيك قطعة مثلها لكنه وزنها " خمسة وأربعون جراما " هل يجوز ؟
لا يجوز ، لم ؟
لأنه سيقع في الربا ، فالذهب بالذهب لابد أن يكون مثلا بمثل .
لو أن بنتا وأمها ذهبتا إلى السوق فاشترت إحداهن سوارة والأخرى سوارة ، لما أتين البيت ، قالت يا فلانة إني سرارتك أعجبتني ، وقالت الأخرى إن سوارتك أعجبتني ، إذاً تأخذي سوارتي وأنا آخذ سوارتك "
هل يجوز ؟
لا يجوز ، لأننا لا نعلم بالوزن ، فلابد أن يتفطن لمثل هذا الأمر .
إذاً دليل العلماء على تعريف البيع : قوله تعالى :
{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}
لأنهم استبدلوا الهدى بالضلالة ، وشتان ما بين هذا الصنف وذلك الصنف ، أمثال مصعب بن عمير رضي الله عنه :
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }البقرة207
( ومن الفوائد )
أن الشخص له تجارة مع الله ، إما أن تكون تجارة رابحة ، وإما أن تكون تجارة خاسرة "
فالتجارة مع الله نوعان ، ذكر هنا أحد نوعي التجارة ، وهي " التجارة الخاسرة "
{ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ }
بينما التجارة الرابحة هي تجارة المؤمنين :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }الصف10
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ }فاطر29
لن تكون صفقة خاسرة .
( ومن الفوائد )
أنهم بفعلهم هذا لم ينالوا الهدى ، فحكم الله عز وجل عليهم بقوله :
{ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } لم ؟
لأنهم طغاة ، وهذا يربطنا بالآية التي في سورة هود ، لما وقعوا في الطغيان انتفت عنهم الهداية .
في سورة هود :
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ }هود112
نسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يبارك لنا في كلام ربنا ، وفي سنة نبينا ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
منقول
قوله تعالى
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }البقرة14 - 16 الآية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين :
أما بعد /
فيقول الله عز وجل عن صفات المنافقين :
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{16}
( من الفوائد )
" بيان جبن وخوف المنافقين"
فليست لديهم الشجاعة أن يظهروا ما في ضمائرهم للصحابة رضي الله عنهم ، ولذا إذا مروا بهم قالوا خوفا منهم :
{ آمَنَّا }
لكن إذا ذهبوا إلى رؤسائهم أظهروا الكفر ، كما قال عز وجل عن جبن المنافقين :
{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }المنافقون4 .
ومع ما لديهم من هذا الجبن الخالع ، لديهم صفة أخرى وهي صفة " البخل " فإن الله عز وجل بيَّن بخل هؤلاء المنافقين :
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا }المنافقون7 .
وهاتان الصفتان متى ما اجتمعت في قلب العبد فقد خسر خسرانا مبينا ، إذا كان لديه :
" جبن خالع وشحٌ هالع "
ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أسوء صفتين تكون في الإنسان ، قال عليه الصلاة والسلام :
( جبن خالع أو شحٌ هالع )
( ومن الفوائد )
" أن هؤلاء المنافقين يتولون غير المؤمنين "
وهذا من أعظم الإفساد في الأرض ، أن يتولى المؤمن من هو كافر ، فهذا من أعظم الإفساد في الأرض ، ولذا إذا خلوا إلى شياطينهم ، من هم ؟ رؤساؤهم من أهل الكتاب من اليهود ، ورؤسائهم من صنف هؤلاء المنافقين .
ما الذي دعاهم إلى أن يتولوا غير المؤمنين ؟
ما ذكره عز وجل في سورة المائدة :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
ثم قال عز وجل :
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ }المائدة52 .
يقولون : نحن نواليهم ربما ألا تكون هناك نصرة للمؤمنين ، فيكون لنا حظ وقدر عند هؤلاء ، فلا نخسر هذا الجانب ، ولا نخسر هذا الجانب .
ولذا أوضح جل وعلا حال هؤلاء في سورة النساء :
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }
كنتم في حوزتنا ، يمكن أن نعين المؤمنين عليكم ، فانظر إلى حال من رغب أن يعيش أي حياة ، بقطع النظر عن صفة هذه الحياة ، وهذا شأن كل من خرج عن دين الله عز وجل ، ولذلك بين جل وعلا ما يطلبه اليهود :
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ }البقرة96
أي حياة ، أهم شيء أن يحيى ، لكن المؤمن التقي هو الذي يرغب في الحياة التي تكون عامرة بطاعة الله عز وجل ، لم ؟
لأن هذه الحياة هي مدد لما يكون له في الحياة الباقية :
{ قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا }الأنعام31
على ما فرطوا في هذه الدنيا من الأعمال الطيبة التي تقربهم إلى الله عز وجل .
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }الفجر24
( ومن الفوائد )
أن الله جل وعلا قال :
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ }
قال بعض العلماء :
[ إن بعض الحروف ينوب بعضها عن بعض ]
يعني " خلوا بشياطينهم "
فـ { إِلَى } هنا بمعنى ( الباء )
وقال بعضهم : { إِلَى } بمعنى ( مع )
يعني إذا خلوا مع شياطينهم .
وهذا قول لبعض أهل اللغة .
ولكن الصواب / وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله :
[ أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض ]
لأن الأصل أن تبقى على ما هي عليه ، إذاً ماذا نصنع ؟
نثري معاني القرآن ، فهذا الحرف يُضَمَّن فعلا "
فقوله تعالى :
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ }
نبقي فعل ( خلا ) على ظاهره ، ونضمنه هذا الحرف فعلا، يعني إذا انصرفوا إلى شياطينهم .
كما قال عز وجل :
{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ }الإنسان6
هل العين إناء ؟
لا ، ولذلك قال من يقول بأن بعض الحروف ينوب بعضها عن بعض "
قال : يعني ( يشرب منها )
فالباء بمعنى " من "
لكن نقول " لا "
{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ }
تبقى على حالها ، ونضمن فعلا ، يعني :
( عينا يرتوي بها ) وهكذا .
( ومن الفوائد )
أن " الشيطان " هو كل من تمرد وعتا وبلغ في الشر مبلغه ، هذا يسمى " بشيطان "
ولذلك ذكر عز وجل : أن من أصناف الشياطين " شيطان الإنس "
فهذا الآية تدل على أن في الإنس شياطين
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ }
وصفوا بالشيطنة ، لأنهم بلغوا في الشر مبلغه ، والآيات في هذا كثيرة ، منها قوله عز وجل :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً }الأنعام112
{ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ{5} مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ{6}
يعني أن الموسوس يكون من الجن ويكون من الإنس .
بل إن الحيوانات فيها شياطين ، شياطين من نوعها ، ليست من صنف الشيطان الذي خلق من نار – لا – وإنما هو شيطان لأن هذا الحيوان بلغ أسوء ما يكون في الشر ، النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم :
( لما أخبر أن الكلب الأسود يقطع الصلاة ، قال يا رسول الله " ما بال الكلب الأحمر والأبيض من الأسود ؟! قال صلى الله عليه وسلم " ذاك شيطان " )
شيطان كلاب ، وليس شيطان جن ، كما أن في نوعيتنا نحن الإنس شياطين إنس .
( ومن الفوائد )
بيان أن المنافقين اتسموا بسمة الاستهزاء المذموم ، لم ؟
لأنه على وجه التنقص والعيب والعبث .
لكن هناك نوع من الاستهزاء لا يذم ، وذلك إذا كان في مقابلة ذلك الاستهزاء بالعدل والمجازاة .
ماذا قال نوح عليه السلام ؟
{ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }هود38
ولذا قال عز وجل بعدها :
{ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }
هل الله يستهزئ ؟
يجب أن يعلم كل مسلم ما يتعلق بأسماء الله عز وجل وبصفاته وما هو معتقد أهل السنة والجماعة
لم ؟
لأن من علم حق العلم ما لله عز وجل من الأسماء والصفات ازداد إيمانه ، فأعظم آيات الله في القرآن هي آيات الصفات ، لماذا نالت سورة :
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثلث القرآن ؟
لأنها أخلصت في أسماء الله عز وجل وصفاته .
لماذا كانت آية الكرسي أعظم آية ؟
لأنها تضمنت صفات الله عز وجل .
ولذا من يوقن حق اليقين أن من بين أسمائه عز وجل " الشافي " أنَّى له أن يستبعد العلاج والشفاء ، لو كان فقيرا يتذكر اسم الله ( الغني ، الوهاب ) وهكذا.
ولذلك على المسلم أن يحرص على معرفة أسماء الله عز وجل وصفاته .
وما يتعلق بأسماء الله عز وجل وصفاته ينقسم إلى قسمين :
" صفات سلبية " : يعني منفية عن الله عز وجل
" وصفات ثبوتية " : يعين مثبتة لله عز وجل .
وخذها قاعدة :
[ أي صفة تمر بك في كلام الله عز وجل في القرآن أو في السنة الصحيحة أثبتها ولا تقل إنها لا تتناسب مع الله ، أأنت أعلم من الله عز وجل بنفسه لما ذكر ذلك في كتابه ؟
أأنت أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم بربه لما ذكر ذلك في سنته ؟
أأنت أعلم من الصحابة رضي الله عنهم بربهم الذين قرءوا القرآن وقرءوا السنة ؟ لا .
لكن تثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه في القرآن أو في السنة بشرط ، أنك لا تشبهها بصفة المخلوق ، ولا تكيفيها "
لا تقل إن صفة الله لها كيفية كذا وكذا ، اعلم أنه ما من صفة لله عز وجل إلا ولها كيفية ، لكن نجهلها ، ولذلك الإمام مالك رحمه الله :
لما أتاه رجل وقال : كيف استوى الله على العرش؟
قال الإمام مالك : الاستواء معلوم )
من حيث اللغة : فهو الارتفاع والعلو .
( والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا مبتدعا وأخرجه من مجلسه )
إذاً لها كيفية ، لأنه ما من شيء موجود إلا وله كيفية ، لكن قد تعرفها .
لكن صفات الله عز وجل لها كيفية ولكن نجهلها ، أما معناها من حيث اللغة فنعلمها ، لم ؟
لأن القرآن نزل بلغة العرب وأمرنا الله عز وجل بالتدبر :
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }ص29.
ومن آيات الله عز وجل التي تتدبر في كتاب الله " آيات الصفات "
ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما لما ذكرت صفة لله عز وجل في كتابه " ارتعد رجل " فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( ما فَرَقُ هؤلاء ؟ ) يعني ما خوف هؤلاء ( يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه )
يعني إذا أتى الشيء الواضح آمنوا به ، وإذا أتى الشيء المتشابه في القرآن هلكوا وارتعدوا – لا – معنى ذلك أنك تثبت ما لله عز وجل من صفات ، لكن تشبهها بصفات المخلوقين ولا تكيفها :
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11.
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }الإخلاص4
{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } ؟
الجواب : لا .
" صفات سلبية – وصفات ثبوتية "
الصفات السلبية هي المنفية ، يعني ما نفاه الله عز وجل عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، هذه ما واجبك نحوها ؟
يجب عليك أن تنقي ما نفاه الله عز وجل عن نفسه وتثبت كمال الضد :
{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ }فصلت46
ننفي الظلم عن الله عز وجل لكمال عدله .
ننفي النسيان عن الله عز وجل :
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }مريم .
لكمال علمه عز وجل .
هذا هو الإثبات الكامل .
هناك صفات ثبوتية أثبتها القرآن أو أثبتتها السنة "
هذه أقسام :
أولا : صفات خبرية لله عز وجل " يعني أخبر بها الشرع ، هي بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء .
مثل " اليد- العين " الله عز وجل بين أن له يدين ، وكذلك له عيناه ، فهذه صفات خبرية ، ولا نقول هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لله – لا – وإنما نقول هي صفات خبرية .
ثانيا : " صفات ذاتية " لا تنفك عن الله عز وجل ، مثل : العلم – السمع – البصر "
ثالثا : " صفات فعلية " يفعلها عز وجل متى شاء .
مثل " استوائه على العرش " كنزوله جل وعلا إلى السماء الدنيا من الثلث الأخير من الليل .
تأتي رسالة على " الواتساب " تقول :
" اغتم فقد ترك الله جل وعلا عرشه ونزل إلى السماء الدنيا "
وهذا قول قبيح أن يقال " ترك الله عرشه "
ولذلك أنكر شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى من يقول " إن الله عز وجل إذا نزل إلى السماء الدنيا خلا منه العرش "
فإذاً هذه صفات فعلية ، يفعلها متى شاء جل وعلا .
رابعا : " صفات ثبوتية ولكن ليس على وجه الإطلاق وإنما على وجه التقييد "
كما هنا :
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }
لم ؟
لأن الاستهزاء منه ما هو محمود إذا كان على وجه المجازاة والعدل .
ومنه ما هو مذموم إذا كان على سبيل العبث والعيب .
مثل صفة " الخداع "
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }النساء142 .
ومثل صفة " المكر " :
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }آل عمران54.
فلا نقل إن من صفات الله الخداع ، أو الاستهزاء ، أو المكر – لا – نقول من صفاته الاستهزاء بمن يستهزئ به أو بشرعه أو بالمؤمنين .
الله جل وعلا من صفاته المكر لمن يمكر بشرعه أو يمكر بالمؤمنين .
الله جل وعلا من صفاته الخداع لمن يخدع عباده.
لو قال قائل : هل يوصف الله عز وجل بالخيانة ؟
بعض الناس إذا أراد أن يؤكد أمرا قال :
" الله يخون إللي يخونك "
عبارة جارية على ألسنة بعض من الناس .
هذا خطأ ، الله لا يخون ، لأن الخيانة صفة ذم مطلقا ، ولذلك عز وجل لما ذكر صفة الخيانة للكفار
{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ }الأنفال71 ، ولم يقل " فخانهم "
ولذلك يتنبه المسلم من هذه الجملة .
( ومن الفوائد )
بيان فضل المؤمنين إذ إن الله عز وجل معهم ، وما أعظم وما أكثر الاستهزاء الذي يحصل من أعداء الله عز وجل لأوليائه في هذا الزمن وفي غيره من الأزمان .
إذاً / لا تخف ولو طال الزمن ، فإن الله ناصرك ، والله عز وجل مستهزئ بمن يستهزئ بك .
ومن آثار استهزائه عز وجل بالمنافقين في الدنيا :
أنه جل وعلا يستهزئ بهم إذ إنهم ظنوا أن المؤمنين لما قالوا لهم " آمنا " ظنوا أن المؤمنين قد اغتروا بقولهم ، ولكنه جل وعلا فضح أمرهم .
ومن آثار استهزائه عز وجل بالمنافقين يوم القيامة :
أن الله عز وجل يجعل لهم نورا يوم القيامة ، النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم لما أخبر أن الأرض تبدل ، قالت عائشة رضي الله عنها :
( يا رسول الله أين الناس يومئذ ؟ قال في الظلمة عند الجسر )
فيجعل الله عز وجل نورا للمؤمنين ظاهرا وباطنا ، ويجعل نورا للمنافقين المؤمنين ظاهرا دون الباطن ، فإذا وصلوا إلى مقربة من هذا المكان :
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً }الحديد13.
تحصيل النور ليس هنا ، وإنما في الدنيا ، عن طريق الإيمان بالله عز وجل .
( ومن الفوائد )
بيان أن المنافقين حرصوا على دمائهم وعلى أموالهم
لم ؟
لأنهم علموا أن كلمة الإيمان تعصم الإنسان من أن يُقتل ، فيدخل في دين الله عز وجل ، بقطع النظر عن مآلات هذه الحياة التي يريدونها .
( ومن الفوائد )
أنه يجب على المسلمين أن يأخذوا بظواهر الناس ، ولا يبحثوا عن بواطنهم "
جاء في الصحيحين : لما قتل أسامة رضي الله عنه ذلك الرجل الذي عتا في المسلمين عتياً عظيما بالقتل وقتل فلانا وفلانا ، فلما تبعه أسامة مع رجل من الأنصار ، فلاذ بشجرة ، فلما رأى السيف قال " لا إله إلا الله " فيقول الأنصار فكففت عنه ، لكن أسامة قتله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أقتلته بعدما قال " لا إله إلا الله " ؟
قال يا رسول الله : إنه فعل وفعل ، وقتل فلانا وفلانا ، فقال صلى الله عليه وسلم كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ )
وفي رواية أخرى :
( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه قالها صدقا أم لم يقلها ؟ )
( ومن الفوائد )
أن أهل الباطل يتواصلون على البقاء على باطلهم "
كما ذكر عز وجل هنا في قولهم :
{ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{14}
يعني ابقوا على ما أنتم عليه ، فنحن نظهر للمؤمنين الإيمان ولكننا على ما أنتم عليه من هذا المعتقد ، وهذا شأن أهل الباطل ، فإذا كان العدو هو الإسلام وأهله فإنهم يتآزرون فيما بينهم ، هؤلاء منافقون مع منافقين مثلهم ومع اليهود ، ومع ذلك تواصوا بالباطل .
وهذا شأن هؤلاء الكفار ، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه في بيت أبي طالب فقال لهم :
( قولوا كلمة واحدة تسودوا بها العرب والعجم ، قالوا كلمة واحدة نقولها ما هي ؟
" لا إله إلا الله ")
فماذا قال عز وجل ؟
{وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }ص6
ألم يقل الله عز وجل عن قوم نوح عليه السلام :
{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً }نوح23 ؟
لا تدعوا عبادة هذه الأصنام ، تواصوا بالبطل ، إذاً حري بأهل الحق أن يكونوا أحرص من هؤلاء على أن يتواصوا بالحق .
قال ابن القيم رحمه الله لا يكون العبد عبدا عالما ربانيا إلا بهذه الصفات الأربع :
" أن يتعلم العلم – وأن يعمل به – وأن يدعو إليه – وأن يتواصى هو وغيره على هذا الحق "
وهذه مجموعة في قوله تعالى :
{ وَالْعَصْرِ{1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ{2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا }
هذا العلم .
{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
هذا العمل .
{ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ }
هذا الدعوة .
{ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{3}
هذا تحمل الأذى في سبيل هذه الدعوة .
إذاً / لابد من العلم والعمل والدعوة والصبر على تحمل ما يكون لك في سبيل هذه الدعوة .
( ومن الفوائد )
بيان عقوبة الله عز وجل لمن أعرض عن أمره وعن شرعه ، فإن القلب إذا بلغ مرتبة عالية في الإعراض زيَّن الله عز وجل له إعراضه ، فظن على أنه طريق حسن وهو ليس كذلك ، ولذلك قال عز وجل :
{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15}
كما قال عز وجل في آيات كثيرة :
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }آل عمران178
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ{55} نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ{56}
فالحذر الحذر ، قال تعالى :
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } من الخير والهدى .
{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ } ليس بابا واحدا ، بل أبواب { كُلِّ شَيْءٍ } من الخير ، ولذلك في المسند ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر رضي الله عنه :
( إذا رأيت الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه ، فاعلم بأنه استدراج " ثم قرأ هذه الآية :
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ }الأنعام44 )
( ومن الفوائد )
أن كلمة: { يَمُدُّهُمْ } من " مدَّ " وهي تختلف عن " أمدَّ "
" مدَّ " في الغالب تأتي في الشر ، كما هنا :
{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15}
بينما " أمد َّ " تأتي في الغالب للخير ، قال تعالى :
{وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ }الطور22
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل قال :
{ فِي طُغْيَانِهِمْ }
أتى بـ { في } المستغرقة في السفل .
ومر معنا ما ذكر في صفات المؤمنين :
{أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }البقرة5
كما قال ابن القيم رحمه الله :
إذا كان في سبيل المتقين أتت " على " لم ؟ لأنهم علوا بهداهم ، لكن إذا أتت في سياق أهل الشر ، أتى بـ " في المستغرقة " في السفل والانحطاط ، ولذلك جمعهما عز وجل في قوله :
{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }سبأ24
إذاً / كأنهم ينزلون نزولا عميقا سحيقا في هذا الطغيان .
( ومن الفوائد )
أن الطغيان هو مجاوزة الحد "
معنى أنهم تجاوزوا الحد في عصيان الله عز وجل ، وهذه مادة ": طغى " : " تجاوز الشيء "
قال تعالى :
{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ }الحاقة11
يعني علا وارتفع ارتفاعا شديدا .
( ومن الفوائد )
أن من أراد الخلاص من الطغيان فعليه بالاستقامة على شرع الله عز وجل .
والاستقامة ضدها الطغيان ، قال ابن القيم رحمه الله
دليل هذا : قوله عز وجل في سورة هود :
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ }هود112.
دل هذا على أن الطغيان هو ترك الاستقامة .
حتى قال بعض العلماء : إن هذه الآية :
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ }هود112 هي الآية العظمى التي شيبت النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال ( شيبتني هود وأخواتها )
ما الذي شيبه في هود ؟
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ }هود112 .
وهذا يعطينا دلالة على أن أول الآيات له ارتباط بآخر الآيات .
( ومن الفوائد )
أن الطغيان سبب لحجب القلب عن الهدى وسبب لحيرته وتقلبه ، ولذلك قال :
{ يَعْمَهُونَ{15}
العمه : يكون في القلب .
والعمى : يكون في العين .
فرق بين " عمى وعمه "
العمه : في القلب ، كما هنا .
والعمى: يكون في العين .
يمكن أن يأتي العمى في القلب ، كما قال عز وجل : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }الحج46 .
( ومن الفوائد )
أن الله عز وجل أشار إلى هؤلاء بإشارة البعد ، ولذلك قال :
{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ }
لماذا أتى بإشارة البعد هنا ؟
ليدل على أنهم بعدوا عن طاعة الله عز وجل ، ومن علامات هذا البعد : أنهم :
{ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}
سبحان الله – الذي يشتري شيئا أليست نفسه تواقة وراغبة في شرائه ؟
بلى ، هؤلاء – نسأل الله السلامة والعافية – لبعدهم عن طاعة الله عز وجل دفعوا شيئا ثمينا مقابل ونظير أن يشتروا شيئا ضارا عليهم في دنياهم وفي أخراهم .
ما هو الثمن ؟ الهدى .
وخذها قاعدة : في صيغة البيع والشراء :
[ إذا دخلت الباء على كلمة فهي الثمن ]
{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}
إذاً / الثمن هو " الهدى "
تقول : " اشتريت ثوبا بمائة ريال "
أين الثمن ؟ مائة .
وهذا يدل على سفهم ، لما قالوا :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء }البقرة13 .
ومن سفههم أنهم :
{ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}
( ومن الفوائد )
هل هم مؤمنون حتى يقدموه ثمنا للضلالة ؟
ليسوا بمؤمنين ، إذاً المعنى : أنهم استبدلوا الإيمان بالكفر ، وهذا يؤخذ منه تعريف البيع .
تعريف البيع عند العلماء : " مبادلة مال بمال "
وهذه الصيغة يجب أن تفهمها ، لم ؟
لأن أي مبادلة تقع بينك وبين شخص في مالين يكون بيعا "
ما حكم البيع في المسجد ؟
غير جائز ، تصور لو أن المسجد أعطاني هدية " شماغ " وأعطاك هدية " ثوبا " ونحن في المسجد قال أحدنا للآخر " يا فلان خذ هذه الشماغ ، وأن آخذ هذا الثوب " هل يصح ؟
لا يصح ، لم ؟
لأن البيع : " مبادلة مال بمال "
ولذلك ما يترتب على البيع يترتب على ذلك .
لو ذهب شخص إلى صاحب الذهب ومعه قطعة من الذهب وزونها " خمسون جراما " فأتى إليه وقال أعطيك قطعة مثلها لكنه وزنها " خمسة وأربعون جراما " هل يجوز ؟
لا يجوز ، لم ؟
لأنه سيقع في الربا ، فالذهب بالذهب لابد أن يكون مثلا بمثل .
لو أن بنتا وأمها ذهبتا إلى السوق فاشترت إحداهن سوارة والأخرى سوارة ، لما أتين البيت ، قالت يا فلانة إني سرارتك أعجبتني ، وقالت الأخرى إن سوارتك أعجبتني ، إذاً تأخذي سوارتي وأنا آخذ سوارتك "
هل يجوز ؟
لا يجوز ، لأننا لا نعلم بالوزن ، فلابد أن يتفطن لمثل هذا الأمر .
إذاً دليل العلماء على تعريف البيع : قوله تعالى :
{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}
لأنهم استبدلوا الهدى بالضلالة ، وشتان ما بين هذا الصنف وذلك الصنف ، أمثال مصعب بن عمير رضي الله عنه :
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }البقرة207
( ومن الفوائد )
أن الشخص له تجارة مع الله ، إما أن تكون تجارة رابحة ، وإما أن تكون تجارة خاسرة "
فالتجارة مع الله نوعان ، ذكر هنا أحد نوعي التجارة ، وهي " التجارة الخاسرة "
{ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ }
بينما التجارة الرابحة هي تجارة المؤمنين :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }الصف10
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ }فاطر29
لن تكون صفقة خاسرة .
( ومن الفوائد )
أنهم بفعلهم هذا لم ينالوا الهدى ، فحكم الله عز وجل عليهم بقوله :
{ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } لم ؟
لأنهم طغاة ، وهذا يربطنا بالآية التي في سورة هود ، لما وقعوا في الطغيان انتفت عنهم الهداية .
في سورة هود :
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ }هود112
نسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يبارك لنا في كلام ربنا ، وفي سنة نبينا ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
منقول