( تفسير سورة البقرة )
قوله تعالى
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء }البقرة13- الآية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين :
أما بعد /
فقد قال الله عز وجل عن حال المنافقين :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }البقرة13
( من الفوائد )
" أن على المسلم أن يدعو إلى الله عز وجل ولو غلب على ظنه أن المدعو لن يستجيب
فهؤلاء المنافقون دعاهم أهل الخير ، وبالتالي فإن العبد لا ييأس من أن تستجاب دعوته لذلك المدعو ذكر ابن كثير - رحمه الله - في البداية :
" أن عامر بن ربيعة كان يتهيأ للهجرة ، فخرج من زوجته ، ومر بها عمر – وكان إذ ذاك مشركا – فلما رجع زوجها قالت لقد مر بي آنفا عمر ورأيت منه رِقة – يعني عطفا ورحمة – فقال عامر إليك عني يا امرأة – يعني تنحي عني – والله لو أسلم حمار بن الخطاب لأسلم عمر "
ومع ذلك هدى الله عز وجل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصار إماما في الدين.
( ومن الفوائد )
أن الفاعل وهو الداعي هنا " مجهول "
من هو ؟
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ }
من القائل ؟
اعلموا إنه في اللغة " يحذف الفاعل لأغراض شتى " من بينها :
[ أن يخاف على هذا الفاعل ]
كما لو قيل :
" شُتم الأميرُ "
لم يذكر الشاتم خيفة أن يعرف فيتسلط عليه هذا الأمير ببطشه .
ومن الأغراض : ما ذكر هنا " أن الفاعل يحذف للعلم به "
لو قرأت قول الله عز وجل :
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ }الأنبياء37
أين الفاعل ؟
ليس موجودا ، لكنه معلوم ، من الذي خلق الإنسان ؟ هو الله عز وجل .
هنا كذلك :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا }
فالقائل هنا / ليس مذكورا للعلم به ، لأن كل من وقر في قلبه الإيمان من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة من المهاجرين أو من الأنصار يدعون هؤلاء .
( ومن الفوائد )
" أن على الداعية إلى الله عز وجل أن يعرف حال المدعو وما يناسبه في الدعوة "
هؤلاء منافقون ، وهم أظهروا الإيمان وقالوا آمنا :
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }البقرة8 .
ومراحل الدعوة إلى الله عز وجل ودرجاتها تختلف باختلاف المدعو :
$ إما أن يكون هذا المدعو جاهلا ، فهذا له شأن .
$وإما أن يكون فاعلا لهذا الشيء المنكر اجتهادا منه ، فهذا له حال .
$وإما أن يفعل المنكر أو يترك الواجب عنادا ، وبالتالي فإن الله عز وجل جعل لكل صنف من هؤلاء ما يناسبه .
أين الدليل ؟
قال تعالى :
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }النحل125 .
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ }
هذا في حق الجاهل .
{ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }
لمن يريد الخير ولكنه لم يُوفَّق إليه .
{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
لمن خالف الشرع عنادا .
ومن ثمَّ في مثل هذا الزمن علينا أن نرفق بالناس، لأن المقصود من أن يدعى هذا ، أو يدعى هذا المقصود من ذلك أن يُقرب إلى الخير وأن يُنحى عن الشر ، فيكون بالأسلوب المناسب دون أن تكون هناك ألفاظ فظة أو غليظة :
{ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }آل عمران159.
ولذا هنا قال عز وجل :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ }
( ومن الفوائد )
أن الإيمان الذي نطقوا به فيما مضى إيمان مبني على دعوة مجردة "
لكن الإيمان الحقيقي هو الإيمان الذي آمنه الناس ، ألم يقل المنافقون :
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ }البقرة8 ؟
بلى ، فلماذا يقال لهم :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ } ؟
لأن إيمانهم مجرد أقاويل ودعاوي ، وإنما الإيمان الحقيقي هو الذي يكون معه اعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ }
كما سيأتي معنا – إن شاء الله عز وجل –
{ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ }البقرة137.
( ومن الفوائد )
أن كلمة " الناس " مر معنا اشتقاقها، وأنها تدل على " الظهور – والنسيان – والأنس – والحركة "
( ومن الفوائد )
أليس هؤلاء من الناس ؟
بلى ، لكن في صورة الناس ، لكن الناس الحقيقيين حقيقة هم " من آمن بالله عز وجل " وأما من لم يؤمن بالله عز وجل فإنه في الصورة إنسا ن ، لكنه في الحقيقة مثل البهائم أو أغفل من البهائم :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }محمد12 .
( ومن الفوائد )
" أن المنافقين أنكروا إيمان هؤلاء الناس المذكورين في الآية "
من هم هؤلاء الناس الذين هم إيمانهم إيمان عظيم وكامل ؟
هم الصحابة رضي الله عنهم ، لكنهم أتوا " بهمزة الاستفهام " التي تدل على الإنكار ، قالوا :
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء }
فهذا إنكار منهم لهذه الدعوة ، وبالتالي فإنك أنت أيها الداعي إلى الله عز وجل قد تواجه إنسانا ويغالطك في دعوتك ، ومن ثم فإن الواجب عليك ألا تحزن ، لم ؟ لأنك قمت بالواجب ، قضية أن فلانا يهتدي أو لا يهتدي ، هذا أمر مرده إلى الله عز وجل :
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }
هداية التوفيق والإلهام
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }القصص56
فعليك بالبيان والتوضيح ، وأما قضية أن فلانا يهتدي أو لا ، فهذا مرجعه إلى الله عز وجل ، قد يكون هذا المدعو من أهل بيتك ، قد يكون أحد أولادك ، قد يكون هذا المدعو أباك ، أخاك ، فما عليك إلا أن تدعو إلى الله عز وجل ، وقضية الثمرة مردها إلى الله عز وجل
( ومن الفوائد )
" فيه تشويش أو إذا صح التعبير – فيه إساءة إلى أهل الخير من أهل الشر "
كيف ؟
هؤلاء المنافقون ماذا قالوا ؟
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء }
فلا يتأثر أهل الخير بما يقال فيهم من الأوصاف مما لا يلائمهم ، لأن هذا دَيْدَن من خالف شرع الله عز وجل ، ولذلك أرادوا أن يخرجوا بصورة مشرفة من أنهم هم العقلاء وأن هؤلاء الداعين لهم هم السفهاء .
( ومن الفوائد )
أن " السفه " هو سوء التصرف .
وهؤلاء المنافقون يقولون عن الصحابة رضي الله عنهم " إنهم سفهاء " لم ؟
لأن هذا الإيمان الذي هم عليه سفه ، وإنما الإيمان الذي نحن عليه هو الحكمة والرشد ، كيف ؟
قالوا نحن نقول " آمنا بالله ، لكن كوننا ننفق أموالنا في سبيل الله ، كوننا ندع أوطاننا وأموالنا كما فعل المهاجرون ، هذا هو عين السفه
وبالتالي فإن أهل الشر قد يأتون بالمغالطات التي يغالطون بها الناس حتى يشوشوا على أهل الخير دعوتهم ، ولذلك يحذر المسلم في مثل هذا الزمن ، لم ؟
لأنه قد يكون داعية إلى الله عز وجل عبر وسائل التواصل ثم تأتي تعليقات عليه لا تناسب ، أو قد يُجرح أو يُلْمز ، أو ما شابه ذلك ، فلا يتأثر ، لم ؟
لأن هذه سنة الله عز وجل ، قد تقول وتنطق بالخير ولكن يأتي من يظهر بصورة أنه من أهل الصلاح أو من أهل السنة ويدس السم في السمن بحيث يؤثر على الآخرين الذين تأثروا بدعوة هذا الداعي إلى الله عز وجل ، كما فعل هؤلاء ، هم في الصورة مؤمنون ، فقالوا هذا القول :
{ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء }
( ومن الفوائد )
أن على الداعية إلى الله عز وجل – كما أسلفت – ألا يتأثر ، لم ؟ لأنه منصور ، ألم يتفكل الله عز وجل بنصرتهم كما هنا ؟
فرد الله عز وجل ونافح عن المؤمنين وأكَّد ذلك بثلاثة مؤكدات :
أولا :{ أَلا } " أداة تنبيه للتوكيد "
ثانيا : { إِنَّ } " توكيد "
ثالثا : { هُمْ } " ضمير فصل يفيد التوكيد "
{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء }
فنافح الله عز وجل عنهم ، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة ، قال تعالى :
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا }الحج38.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }غافر51 .
{ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }الأعراف128
وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }طه132.
وهذا شرف لأهل الخير ، وشرف لأهل الإيمان أن يكون الله عز وجل ناصرا ومعينا لهم ، فلا ييأسوا ولو طال الزمن ، النبي صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة يدعو قومه إلى أن يقولوا " لا إله إلا الله " فقط ، قبل الهجرة بثلاث سنوات فرضت الصلاة ، وإلا فكل تلك السنين هي دعوة إلى التوحيد ، لكن ما الذي جرى في نهاية الأمر بعدما هاجر إلى المدينة ، وكانوا إذ ذاك في مكة يدخلون في دين الله عز وجل وحدانا فرادى ، في آخر حياته – صلى الله عليه وسلم –
{ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ{1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً{2}
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه ، عاصر أناسا – نسأل الله العافية – قد خرجت عقولهم من أجسادهم ، يقولون " إن الله حلَّ في كل مكان ، فكل ما تراه هو الله ، نسأل الله السلامة والعافية – خلل ، لم ؟
لأن الإنسان كلما بعد عن شرع الله عز وجل خرج من دائرة العقلاء ، وكلما زاد خروجا كلما كان أكثر جنونا ، ومع ذلك عودي أكثر من مرة ، ونافح لأنه على طريق الحق ، فرسم الله عز وجل اسمه في قلوب المؤمنين إلى زماننا هذا ، والحقبة الزمنية التي بيننا وبينه أكثر من سبعمائة سنة ، ومع ذلك يذكر رحمه الله ، لم ؟
لأنه نصر الدين .
فهؤلاء المنافقون قالوا عن الصحابة إنهم سفهاء ، ماذا قال عز وجل في هذه السورة ؟
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }البقرة130.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا }البقرة142 .
إذاً / السفه الحقيقي هو أن يكون الإنسان بعيدا عن طاعة الله عز وجل .
كيف يكون سفها ؟
لأنه لا يحسن التصرف ، لأنه رغب عن الآخرة وعن النعيم الدائم السرمدي الباقي ، بهذا النعيم الزائل ، فقدَّم ما يفنى على ما يبقى ، وهذا في الحقيقة عين السفه .
( ومن الفوائد )
أنه عز وجل قال :
{ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }البقرة13
لا يعلمون أنهم هم السفهاء حقيقة .
في الآية التي قبلها :
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }البقرة12.
لماذا اختلف التعبيران هنا ؟
{ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } { وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }
لأن الفساد شيء محسوس يشعر به ، بينما " السفه " شيء غير محسوس ، وإنما يتعلم .
( ومن الفوائد )
" أنه عز وجل بدأ بنهيهم عن الفساد في الأرض قبل أمرهم بالإيمان "
لماذا قدم قوله تعالى :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ }
على قوله
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ }؟
لأن :
[ درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ]
ولأن :
الإيمان ينحصر فيهم فيستفيدون منه ، لكن الإفساد يكون عليهم وعلى غيرهم ، وأعظم الذنب أن تذنب ذنبا يؤثر عليك ويؤثر على غيرك ، كون البلاء يحل بك وحدك أهون من أن يحل بك ويحل بالجميع ، ولذلك لما كان الإفساد في الأرض سبيلا لإيذاء خلق الله عز وجل قُدِّم في الذكر قبل أمرهم بالإيمان .
( ومن الفوائد )
" أن الأمور لا ينظر إليها بالدعاوي "
هم قالوا فيما مضى :
{ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ }البقرة8 .
هنا أمروا بالإيمان ، وبالتالي فإنه لا ينظر إلى الإنسان حينما يوصف بأوصاف إلا إذا رئي فعله .
مثال / لو أتى إنسان وقال " أنا كهربائي " نقول هذه دعوى ، أرنا عملك ، فإن فعل استحق هذا الوصف ، إن لم يفعل ولم يحسن لا يستحق هذا الوصف .
فكذلك هنا من يقول أنا مؤمن ، أنا مستقيم ، أنا خيِّر ، هذا لا يلتفت إليه ، من يقول أنا عالم ، أنا مفتي ، أين أنت ؟
قد يكون صاحب بلاغة ويتحدث ، لكن العلم – ولاسيما العلم الشرعي – ليس بالكلام ، وإنما بما يذكره من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويزاد على ذلك أمر " أن يفهم القرآن والسنة على مقتضى ما فهمه السلف "
لم ؟
لأن الطوائف الضالة تقول نحن نستشهد بالقرآن ، ونستشهد بالأحاديث ، ولكن على منهج من ؟
يجب أن يكون على منهج السلف رحمهم الله .
نسأل الله عز وجل أن يبارك لنا في قرآننا وفي سنة نبينا ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
منقول
قوله تعالى
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء }البقرة13- الآية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين :
أما بعد /
فقد قال الله عز وجل عن حال المنافقين :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }البقرة13
( من الفوائد )
" أن على المسلم أن يدعو إلى الله عز وجل ولو غلب على ظنه أن المدعو لن يستجيب
فهؤلاء المنافقون دعاهم أهل الخير ، وبالتالي فإن العبد لا ييأس من أن تستجاب دعوته لذلك المدعو ذكر ابن كثير - رحمه الله - في البداية :
" أن عامر بن ربيعة كان يتهيأ للهجرة ، فخرج من زوجته ، ومر بها عمر – وكان إذ ذاك مشركا – فلما رجع زوجها قالت لقد مر بي آنفا عمر ورأيت منه رِقة – يعني عطفا ورحمة – فقال عامر إليك عني يا امرأة – يعني تنحي عني – والله لو أسلم حمار بن الخطاب لأسلم عمر "
ومع ذلك هدى الله عز وجل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصار إماما في الدين.
( ومن الفوائد )
أن الفاعل وهو الداعي هنا " مجهول "
من هو ؟
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ }
من القائل ؟
اعلموا إنه في اللغة " يحذف الفاعل لأغراض شتى " من بينها :
[ أن يخاف على هذا الفاعل ]
كما لو قيل :
" شُتم الأميرُ "
لم يذكر الشاتم خيفة أن يعرف فيتسلط عليه هذا الأمير ببطشه .
ومن الأغراض : ما ذكر هنا " أن الفاعل يحذف للعلم به "
لو قرأت قول الله عز وجل :
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ }الأنبياء37
أين الفاعل ؟
ليس موجودا ، لكنه معلوم ، من الذي خلق الإنسان ؟ هو الله عز وجل .
هنا كذلك :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا }
فالقائل هنا / ليس مذكورا للعلم به ، لأن كل من وقر في قلبه الإيمان من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة من المهاجرين أو من الأنصار يدعون هؤلاء .
( ومن الفوائد )
" أن على الداعية إلى الله عز وجل أن يعرف حال المدعو وما يناسبه في الدعوة "
هؤلاء منافقون ، وهم أظهروا الإيمان وقالوا آمنا :
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }البقرة8 .
ومراحل الدعوة إلى الله عز وجل ودرجاتها تختلف باختلاف المدعو :
$ إما أن يكون هذا المدعو جاهلا ، فهذا له شأن .
$وإما أن يكون فاعلا لهذا الشيء المنكر اجتهادا منه ، فهذا له حال .
$وإما أن يفعل المنكر أو يترك الواجب عنادا ، وبالتالي فإن الله عز وجل جعل لكل صنف من هؤلاء ما يناسبه .
أين الدليل ؟
قال تعالى :
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }النحل125 .
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ }
هذا في حق الجاهل .
{ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }
لمن يريد الخير ولكنه لم يُوفَّق إليه .
{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
لمن خالف الشرع عنادا .
ومن ثمَّ في مثل هذا الزمن علينا أن نرفق بالناس، لأن المقصود من أن يدعى هذا ، أو يدعى هذا المقصود من ذلك أن يُقرب إلى الخير وأن يُنحى عن الشر ، فيكون بالأسلوب المناسب دون أن تكون هناك ألفاظ فظة أو غليظة :
{ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }آل عمران159.
ولذا هنا قال عز وجل :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ }
( ومن الفوائد )
أن الإيمان الذي نطقوا به فيما مضى إيمان مبني على دعوة مجردة "
لكن الإيمان الحقيقي هو الإيمان الذي آمنه الناس ، ألم يقل المنافقون :
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ }البقرة8 ؟
بلى ، فلماذا يقال لهم :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ } ؟
لأن إيمانهم مجرد أقاويل ودعاوي ، وإنما الإيمان الحقيقي هو الذي يكون معه اعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ }
كما سيأتي معنا – إن شاء الله عز وجل –
{ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ }البقرة137.
( ومن الفوائد )
أن كلمة " الناس " مر معنا اشتقاقها، وأنها تدل على " الظهور – والنسيان – والأنس – والحركة "
( ومن الفوائد )
أليس هؤلاء من الناس ؟
بلى ، لكن في صورة الناس ، لكن الناس الحقيقيين حقيقة هم " من آمن بالله عز وجل " وأما من لم يؤمن بالله عز وجل فإنه في الصورة إنسا ن ، لكنه في الحقيقة مثل البهائم أو أغفل من البهائم :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }محمد12 .
( ومن الفوائد )
" أن المنافقين أنكروا إيمان هؤلاء الناس المذكورين في الآية "
من هم هؤلاء الناس الذين هم إيمانهم إيمان عظيم وكامل ؟
هم الصحابة رضي الله عنهم ، لكنهم أتوا " بهمزة الاستفهام " التي تدل على الإنكار ، قالوا :
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء }
فهذا إنكار منهم لهذه الدعوة ، وبالتالي فإنك أنت أيها الداعي إلى الله عز وجل قد تواجه إنسانا ويغالطك في دعوتك ، ومن ثم فإن الواجب عليك ألا تحزن ، لم ؟ لأنك قمت بالواجب ، قضية أن فلانا يهتدي أو لا يهتدي ، هذا أمر مرده إلى الله عز وجل :
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }
هداية التوفيق والإلهام
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }القصص56
فعليك بالبيان والتوضيح ، وأما قضية أن فلانا يهتدي أو لا ، فهذا مرجعه إلى الله عز وجل ، قد يكون هذا المدعو من أهل بيتك ، قد يكون أحد أولادك ، قد يكون هذا المدعو أباك ، أخاك ، فما عليك إلا أن تدعو إلى الله عز وجل ، وقضية الثمرة مردها إلى الله عز وجل
( ومن الفوائد )
" فيه تشويش أو إذا صح التعبير – فيه إساءة إلى أهل الخير من أهل الشر "
كيف ؟
هؤلاء المنافقون ماذا قالوا ؟
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء }
فلا يتأثر أهل الخير بما يقال فيهم من الأوصاف مما لا يلائمهم ، لأن هذا دَيْدَن من خالف شرع الله عز وجل ، ولذلك أرادوا أن يخرجوا بصورة مشرفة من أنهم هم العقلاء وأن هؤلاء الداعين لهم هم السفهاء .
( ومن الفوائد )
أن " السفه " هو سوء التصرف .
وهؤلاء المنافقون يقولون عن الصحابة رضي الله عنهم " إنهم سفهاء " لم ؟
لأن هذا الإيمان الذي هم عليه سفه ، وإنما الإيمان الذي نحن عليه هو الحكمة والرشد ، كيف ؟
قالوا نحن نقول " آمنا بالله ، لكن كوننا ننفق أموالنا في سبيل الله ، كوننا ندع أوطاننا وأموالنا كما فعل المهاجرون ، هذا هو عين السفه
وبالتالي فإن أهل الشر قد يأتون بالمغالطات التي يغالطون بها الناس حتى يشوشوا على أهل الخير دعوتهم ، ولذلك يحذر المسلم في مثل هذا الزمن ، لم ؟
لأنه قد يكون داعية إلى الله عز وجل عبر وسائل التواصل ثم تأتي تعليقات عليه لا تناسب ، أو قد يُجرح أو يُلْمز ، أو ما شابه ذلك ، فلا يتأثر ، لم ؟
لأن هذه سنة الله عز وجل ، قد تقول وتنطق بالخير ولكن يأتي من يظهر بصورة أنه من أهل الصلاح أو من أهل السنة ويدس السم في السمن بحيث يؤثر على الآخرين الذين تأثروا بدعوة هذا الداعي إلى الله عز وجل ، كما فعل هؤلاء ، هم في الصورة مؤمنون ، فقالوا هذا القول :
{ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء }
( ومن الفوائد )
أن على الداعية إلى الله عز وجل – كما أسلفت – ألا يتأثر ، لم ؟ لأنه منصور ، ألم يتفكل الله عز وجل بنصرتهم كما هنا ؟
فرد الله عز وجل ونافح عن المؤمنين وأكَّد ذلك بثلاثة مؤكدات :
أولا :{ أَلا } " أداة تنبيه للتوكيد "
ثانيا : { إِنَّ } " توكيد "
ثالثا : { هُمْ } " ضمير فصل يفيد التوكيد "
{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء }
فنافح الله عز وجل عنهم ، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة ، قال تعالى :
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا }الحج38.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }غافر51 .
{ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }الأعراف128
وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }طه132.
وهذا شرف لأهل الخير ، وشرف لأهل الإيمان أن يكون الله عز وجل ناصرا ومعينا لهم ، فلا ييأسوا ولو طال الزمن ، النبي صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة يدعو قومه إلى أن يقولوا " لا إله إلا الله " فقط ، قبل الهجرة بثلاث سنوات فرضت الصلاة ، وإلا فكل تلك السنين هي دعوة إلى التوحيد ، لكن ما الذي جرى في نهاية الأمر بعدما هاجر إلى المدينة ، وكانوا إذ ذاك في مكة يدخلون في دين الله عز وجل وحدانا فرادى ، في آخر حياته – صلى الله عليه وسلم –
{ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ{1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً{2}
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه ، عاصر أناسا – نسأل الله العافية – قد خرجت عقولهم من أجسادهم ، يقولون " إن الله حلَّ في كل مكان ، فكل ما تراه هو الله ، نسأل الله السلامة والعافية – خلل ، لم ؟
لأن الإنسان كلما بعد عن شرع الله عز وجل خرج من دائرة العقلاء ، وكلما زاد خروجا كلما كان أكثر جنونا ، ومع ذلك عودي أكثر من مرة ، ونافح لأنه على طريق الحق ، فرسم الله عز وجل اسمه في قلوب المؤمنين إلى زماننا هذا ، والحقبة الزمنية التي بيننا وبينه أكثر من سبعمائة سنة ، ومع ذلك يذكر رحمه الله ، لم ؟
لأنه نصر الدين .
فهؤلاء المنافقون قالوا عن الصحابة إنهم سفهاء ، ماذا قال عز وجل في هذه السورة ؟
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }البقرة130.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا }البقرة142 .
إذاً / السفه الحقيقي هو أن يكون الإنسان بعيدا عن طاعة الله عز وجل .
كيف يكون سفها ؟
لأنه لا يحسن التصرف ، لأنه رغب عن الآخرة وعن النعيم الدائم السرمدي الباقي ، بهذا النعيم الزائل ، فقدَّم ما يفنى على ما يبقى ، وهذا في الحقيقة عين السفه .
( ومن الفوائد )
أنه عز وجل قال :
{ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }البقرة13
لا يعلمون أنهم هم السفهاء حقيقة .
في الآية التي قبلها :
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }البقرة12.
لماذا اختلف التعبيران هنا ؟
{ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } { وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }
لأن الفساد شيء محسوس يشعر به ، بينما " السفه " شيء غير محسوس ، وإنما يتعلم .
( ومن الفوائد )
" أنه عز وجل بدأ بنهيهم عن الفساد في الأرض قبل أمرهم بالإيمان "
لماذا قدم قوله تعالى :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ }
على قوله
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ }؟
لأن :
[ درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ]
ولأن :
الإيمان ينحصر فيهم فيستفيدون منه ، لكن الإفساد يكون عليهم وعلى غيرهم ، وأعظم الذنب أن تذنب ذنبا يؤثر عليك ويؤثر على غيرك ، كون البلاء يحل بك وحدك أهون من أن يحل بك ويحل بالجميع ، ولذلك لما كان الإفساد في الأرض سبيلا لإيذاء خلق الله عز وجل قُدِّم في الذكر قبل أمرهم بالإيمان .
( ومن الفوائد )
" أن الأمور لا ينظر إليها بالدعاوي "
هم قالوا فيما مضى :
{ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ }البقرة8 .
هنا أمروا بالإيمان ، وبالتالي فإنه لا ينظر إلى الإنسان حينما يوصف بأوصاف إلا إذا رئي فعله .
مثال / لو أتى إنسان وقال " أنا كهربائي " نقول هذه دعوى ، أرنا عملك ، فإن فعل استحق هذا الوصف ، إن لم يفعل ولم يحسن لا يستحق هذا الوصف .
فكذلك هنا من يقول أنا مؤمن ، أنا مستقيم ، أنا خيِّر ، هذا لا يلتفت إليه ، من يقول أنا عالم ، أنا مفتي ، أين أنت ؟
قد يكون صاحب بلاغة ويتحدث ، لكن العلم – ولاسيما العلم الشرعي – ليس بالكلام ، وإنما بما يذكره من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويزاد على ذلك أمر " أن يفهم القرآن والسنة على مقتضى ما فهمه السلف "
لم ؟
لأن الطوائف الضالة تقول نحن نستشهد بالقرآن ، ونستشهد بالأحاديث ، ولكن على منهج من ؟
يجب أن يكون على منهج السلف رحمهم الله .
نسأل الله عز وجل أن يبارك لنا في قرآننا وفي سنة نبينا ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
منقول