منتديات احلى حكاية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات احلى حكاية دخول

موقع خاص بالتصاميم وتحويل الاستايلات واكواد حصريه لخدمه مواقع احلى منتدى


|| تفسير الطبرى || > || متجدد ||

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
4 مشترك

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Empty|| تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

مقدمة المؤلف

ص: 1 ] [ ص: 2 ] [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم بركة من الله وأمر

قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة ، قال : الحمد لله الذي حجت الألباب بدائع حكمه ، وخصمت العقول لطائف حججه وقطعت عذر الملحدين عجائب صنعه ، وهتفت في أسماع العالمين ألسن أدلته ، شاهدة أنه الله الذي لا إله إلا هو ، الذي لا عدل له معادل ولا مثل له مماثل ، ولا شريك له مظاهر ، ولا ولد له ولا والد ، ولم يكن له صاحبة ولا كفوا أحد; وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة ، والعزيز الذي ذلت لعزته الملوك الأعزة ، وخشعت لمهابة سطوته ذوو المهابة ، وأذعن له جميع الخلق بالطاعة طوعا وكرها ، كما قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [ سورة الرعد : 15 . فكل موجود إلى وحدانيته داع ، وكل محسوس إلى ربوبيته هاد ، بما وسمهم به من آثار الصنعة ، من نقص وزيادة ، وعجز وحاجة ، وتصرف في عاهات عارضة ، ومقارنة أحداث لازمة ، لتكون له الحجة البالغة .

ثم أردف ما شهدت به من ذلك أدلته ، وأكد ما استنارت في القلوب منه بهجته ، برسل ابتعثهم إلى من يشاء من عباده ، دعاة إلى ما اتضحت لديهم صحته ، وثبتت في العقول حجته ، ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ سورة النساء : 165 ] [ ص: 4 ]

وليذكر أولو النهى والحلم . فأمدهم بعونه ، وأبانهم من سائر خلقه ، بما دل به على صدقهم من الأدلة ، وأيدهم به من الحجج البالغة والآي المعجزة ، لئلا يقول القائل منهم ( ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) [ سورة المؤمنون : 33 - 34 ] فجعلهم سفراء بينه وبين خلقه ، وأمناءه على وحيه ، واختصهم بفضله ، واصطفاهم برسالته ، ثم جعلهم - فيما خصهم به من مواهبه ، ومن به عليهم من كراماته - مراتب مختلفة ، ومنازل مفترقة ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، متفاضلات متباينات . فكرم بعضهم بالتكليم والنجوى ، وأيد بعضهم بروح القدس ، وخصه بإحياء الموتى ، وإبراء أولي العاهة والعمى ، وفضل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، من الدرجات بالعليا ، ومن المراتب بالعظمى . فحباه من أقسام كرامته بالقسم الأفضل وخصه من درجات النبوة بالحظ الأجزل ، ومن الأتباع والأصحاب بالنصيب الأوفر . وابتعثه بالدعوة التامة ، والرسالة العامة ، وحاطه وحيدا ، وعصمه فريدا ، من كل جبار عاند ، وكل شيطان مارد حتى أظهر به الدين ، وأوضح به السبيل ، وأنهج به معالم الحق ، ومحق به منار الشرك . وزهق به الباطل ، واضمحل به الضلال وخدع الشيطان وعبادة الأصنام والأوثان ، مؤيدا بدلالة على الأيام باقية ، وعلى الدهور والأزمان ثابتة ، وعلى مر الشهور والسنين دائمة ، يزداد ضياؤها على كر الدهور إشراقا ، وعلى مر الليالي والأيام [ ص: 5 ] ائتلاقا ، خصيصى من الله له بها دون سائر رسله - الذين قهرتهم الجبابرة ، واستذلتهم الأمم الفاجرة ، فتعفت بعدهم منهم الآثار ، وأخملت ذكرهم الليالي والأيام - ودون من كان منهم مرسلا إلى أمة دون أمة ، وخاصة دون عامة ، وجماعة دون كافة .

فالحمد لله الذي كرمنا بتصديقه ، وشرفنا باتباعه ، وجعلنا من أهل الإقرار والإيمان به وبما دعا إليه وجاء به ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أزكى صلواته ، وأفضل سلامه ، وأتم تحياته .

ثم أما بعد فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة ، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة ، وحباهم به من الكرامة السنية ، حفظه ما حفظ عليهم - جل ذكره وتقدست أسماؤه - من وحيه وتنزيله ، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم دلالة ، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة ، وحجة بالغة ، أبانه به من كل كاذب ومفتر ، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد ، وفرق به بينهم وبين كل كافر ومشرك; الذي لو اجتمع جميع من بين أقطارها ، من جنها وإنسها وصغيرها وكبيرها ، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . فجعله لهم في دجى الظلم نورا ساطعا ، وفي سدف الشبه شهابا لامعا وفي مضلة المسالك دليلا هاديا ، وإلى سبل النجاة والحق حاديا ، ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) [ سورة المائدة : 16 . حرسه بعين [ ص: 6 ] منه لا تنام ، وحاطه بركن منه لا يضام ، لا تهي على الأيام دعائمه ، ولا تبيد على طول الأزمان معالمه ، ولا يجوز عن قصد المحجة تابعه ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه . من اتبعه فاز وهدي ، ومن حاد عنه ضل وغوى ، فهو موئلهم الذي إليه عند الاختلاف يئلون ، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعقلون وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون ، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون ، وفصل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون ، وعن الرضى به يصدرون ، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون .

اللهم فوفقنا لإصابة صواب القول في محكمه ومتشابهه ، وحلاله وحرامه ، وعامه وخاصه ، ومجمله ومفسره ، وناسخه ومنسوخه ، وظاهره وباطنه ، وتأويل آيه وتفسير مشكله . وألهمنا التمسك به والاعتصام بمحكمه ، والثبات على التسليم لمتشابهه . وأوزعنا الشكر على ما أنعمت به علينا من حفظه والعلم بحدوده . إنك سميع الدعاء قريب الإجابة . وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما .

اعلموا عباد الله ، رحمكم الله ، أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية ، وبلغت في معرفته الغاية ، ما كان لله في العلم به رضى ، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى ، وأن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذي لا ريب فيه ، وتنزيله الذي لا مرية فيه ، الفائز بجزيل الذخر وسني الأجر تاليه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .

ونحن - في شرح تأويله ، وبيان ما فيه من معانيه - منشئون إن شاء الله ذلك ، كتابا مستوعبا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعا ، ومن سائر الكتب [ ص: 7 ] غيره في ذلك كافيا . ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه واختلافها فيما اختلفت فيه منه . ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم ، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك ، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك ، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه .

والله نسأل عونه وتوفيقه لما يقرب من محابه ، ويبعد من مساخطه . وصلى الله على صفوته من خلقه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .

وأول ما نبدأ به من القيل في ذلك : الإبانة عن الأسباب التي البداية بها أولى ، وتقديمها قبل ما عداها أحرى . وذلك : البيان عما في آي القرآن من المعاني التي من قبلها يدخل اللبس على من لم يعان رياضة العلوم العربية ، ولم تستحكم معرفته بتصاريف وجوه منطق الألسن السليقية الطبيعية .

عدل سابقا من قبل ABDO ELBASS في الخميس مارس 15, 2012 8:00 pm عدل 1 مرات

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وعلى أبصارهم غشاوة )

قال أبو جعفر : وقوله ( وعلى أبصارهم غشاوة ) خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عليه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم . وذلك أن "غشاوة " مرفوعة بقوله " وعلى أبصارهم " ، فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ ، وأن قوله " ختم الله على قلوبهم " ، قد تناهى عند قوله " وعلى سمعهم " .

وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين :

أحدهما : اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها ، وانفراد المخالف لهم في ذلك ، وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون . وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدا على خطئها .

والثاني : أن الختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله ، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا موجود في لغة أحد من العرب . وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى : ( وختم على سمعه وقلبه ) ، ثم قال : ( وجعل على بصره غشاوة ) [ ص: 263 ] سورة الجاثية : 23 ، فلم يدخل البصر في معنى الختم . وذلك هو المعروف في كلام العرب ، فلم يجز لنا ، ولا لأحد من الناس ، القراءة بنصب الغشاوة ، لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت ، وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية .

وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل ، روي الخبر عن ابن عباس :

305 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي الحسين بن الحسن ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ، والغشاوة على أبصارهم . [ ص: 264 ]

فإن قال قائل : وما وجه مخرج النصب فيها ؟

قيل له : أن تنصبها بإضمار "جعل " ، كأنه قال : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ثم أسقط "جعل " ، إذ كان في أول الكلام ما يدل عليه . وقد يحتمل نصبها على إتباعها موضع السمع ، إذ كان موضعه نصبا ، وإن لم يكن حسنا إعادة العامل فيه على "غشاوة " ، ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضا ، كما قال تعالى ذكره : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق ) ، ثم قال : ( وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين ) ، سورة الواقعة : 17 - 22 ، فخفض اللحم والحور على العطف به على الفاكهة ، إتباعا لآخر الكلام أوله . ومعلوم أن اللحم لا يطاف به ولا بالحور العين ، ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه :



علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همالة عيناها
[ ص: 265 ]

ومعلوم أن الماء يشرب ولا يعلف به ، ولكنه نصب ذلك على ما وصفت قبل ، وكما قال الآخر :



ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا


وكان ابن جريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله " وعلى سمعهم " ، وابتداء الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه ، ويتأول فيه من كتاب الله ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) سورة الشورى : 24 .

306 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى ذكره : ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) ، وقال : ( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) [ سورة الجاثية : 23 ] .

والغشاوة في كلام العرب : الغطاء ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص :



تبعتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها


ومنه يقال : تغشاه الهم : إذا تجلله وركبه ، ومنه قول نابغة بني ذبيان : [ ص: 266 ]



هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البرما


يعني بذلك : تجلله وخالطه .

وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود ، أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها ، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه ، وفيما حدد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم ، فلا يسمعون من محمد صلى الله عليه وسلم نبي الله تحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها عليهم بنبوته ، فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه ، مع علمهم بصدقه وصحة أمره . وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى ، فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردى .

وبنحو ما قلنا في ذلك ، روي الخبر عن جماعة من أهل التأويل :

307 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) ، أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك ، حتى يؤمنوا به ، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك .

308 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول [ ص: 267 ] الله صلى الله عليه وسلم : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " يقول : فلا يعقلون ولا يسمعون . ويقول : "وجعل على أبصارهم غشاوة " يقول : على أعينهم فلا يبصرون .

وأما آخرون ، فإنهم كانوا يتأولون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفار أنه فعل ذلك بهم ، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر .

309 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : هاتان الآيتان إلى ( ولهم عذاب عظيم ) هم ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) سورة إبراهيم : 28 ، وهم الذين قتلوا يوم بدر ، فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان بن حرب ، والحكم بن أبي العاص .

310 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، قال : أما القادة فليس فيهم مجيب ولا ناج ولا مهتد .

وقد دللنا فيما مضى على أولى هذين التأويلين بالصواب ، فكرهنا إعادته .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولهم عذاب عظيم ( 7 ) )

وتأويل ذلك عندي ، كما قاله ابن عباس وتأوله : [ ص: 268 ]

311 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم . قال : فهذا في الأحبار من يهود ، فيما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
" القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( 8 ) )

قال أبو جعفر : أما قوله : " ومن الناس " ، فإن في "الناس " وجهين :

أحدهما : أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه ، وإنما واحدهم "إنسان " ، وواحدتهم "إنسانة " .

والوجه الآخر : أن يكون أصله "أناس " أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها ، ثم دخلتها الألف واللام المعرفتان ، فأدغمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون ، كما قيل في ( لكنا هو الله ربي ) سورة الكهف : 38 ، على ما قد بينا في "اسم الله " الذي هو الله . وقد زعم بعضهم أن "الناس " لغة غير "أناس " ، وأنه سمع العرب تصغره "نويس " من الناس ، وأن الأصل لو كان "أناس" لقيل في التصغير : "أنيس" ، فرد إلى أصله .

وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق ، وأن هذه الصفة صفتهم . [ ص: 269 ]

ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم :

312 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم .

وقد سمي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبي بن كعب ، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .

313 - حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، حتى بلغ : ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) قال : هذه في المنافقين .

314 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هذه الآية إلى ثلاث عشرة ، في نعت المنافقين .

315 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

316 حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 270 ]

317 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) هم المنافقون .

318 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) إلى ( فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم ) ، قال : هؤلاء أهل النفاق .

319 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) قال : هذا المنافق ، يخالف قوله فعله ، وسره علانيته ومدخله مخرجه ، ومشهده مغيبه .

وتأويل ذلك : أن الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته ، واستقر بها قراره ، وأظهر الله بها كلمته ، وفشا في دور أهلها الإسلام ، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان ، وذل بها من فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن ، وأبدوا له العداوة والشنآن ، حسدا وبغيا ، إلا نفرا منهم هداهم الله للإسلام فأسلموا ، كما قال جل ثناؤه : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) سورة البقرة : 109 ، وطابقهم سرا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ ص: 271 ] وبغيهم الغوائل ، قوم - من أراهط الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه - وكانوا قد عسوا في شركهم وجاهليتهم قد سموا لنا بأسمائهم ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم ، وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار ، حذار القتل على أنفسهم ، والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وركونا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام . فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم - حذارا على أنفسهم - : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث ، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ، ليدرءوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك ، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم . وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، فخلوا بهم قالوا : ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) . فإياهم عنى جل ذكره بقوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، يعني بقوله تعالى خبرا عنهم : آمنا بالله - : وصدقنا بالله .

وقد دللنا على أن معنى الإيمان : التصديق ، فيما مضى قبل من كتابنا هذا .

وقوله : ( وباليوم الآخر ) ، يعني : بالبعث يوم القيامة ، وإنما سمي يوم القيامة " اليوم الآخر " ، لأنه آخر يوم ، لا يوم بعده سواه .

فإن قال قائل : وكيف لا يكون بعده يوم ، ولا انقطاع للآخرة ولا فناء ، ولا زوال ؟ [ ص: 272 ]

قيل : إن اليوم عند العرب إنما سمي يوما بليلته التي قبله ، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم يوما . فيوم القيامة يوم لا ليل بعده ، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة ، فذلك اليوم هو آخر الأيام . ولذلك سماه الله جل ثناؤه "اليوم الآخر " ، ونعته بالعقيم . ووصفه بأنه يوم عقيم ، لأنه لا ليل بعده .

وأما تأويل قوله : " وما هم بمؤمنين " ، ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان ، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث ، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم ، وضد ما في عزائم نفوسهم .

وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية : من أن الإيمان هو التصديق بالقول ، دون سائر المعاني غيره . وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق ، أنهم قالوا بألسنتهم : " آمنا بالله وباليوم الآخر " ، ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك .

وقوله " وما هم بمؤمنين " ، يعني بمصدقين " فيما يزعمون أنهم به مصدقون .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( يخادعون الله والذين آمنوا )

قال أبو جعفر : وخداع المنافق ربه والمؤمنين ، إظهاره [ ص: 273 ] بلسانه من القول والتصديق ، خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ، ليدرأ عن نفسه ، بما أظهر بلسانه ، حكم الله عز وجل - اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب ، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار - من القتل والسباء . فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله .

فإن قال قائل : وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا ، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟

قيل : لا تمتنع العرب من أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف ، فنجا بذلك مما خافه - مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية . فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر مستبطن . وذلك من فعله - وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها ، أنه يعطيها أمنيتها ، ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها به حياض عطبها ، ومجرعها به كأس عذابها ، ومزيرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعته نفسه ، ظنا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال جل ثناؤه : " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " ، إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم - غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، كان ابن زيد يقول .

320 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد عن قول الله جل ذكره : ( يخادعون الله والذين آمنوا ) إلى [ ص: 274 ] آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون ، يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا ، أنهم مؤمنون بما أظهروا .

وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه الزاعمين : أن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا ، بعد علمه بوحدانيته ، وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده ، والإقرار بكتبه ورسله - عنده . لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق ، وخداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون ، وأنهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به - مخدوعون . ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبون من نبوة نبيه ، واعتقاد الكفر به ، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون ، وهم على الكفر مصرون .

فإن قال لنا قائل : قد علمت أن "المفاعلة " لا تكون إلا من فاعلين ، كقولك : ضاربت أخاك ، وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه . فأما إذا كان الفعل من أحدهما ، فإنما يقال : ضربت أخاك ، وجلست إلى أبيك ، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه : خادع الله والمؤمنين ؟

قيل : قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة أعني "يخادع " بصورة "يفاعل " ، وهو بمعنى "يفعل " ، في حروف أمثالها شاذة من منطق العرب ، نظير قولهم : قاتلك الله ، بمعنى قتلك الله .

وليس القول في ذلك عندي كالذي قال ، بل ذلك من "التفاعل " الذي لا يكون إلا من اثنين ، كسائر ما يعرف من معنى "يفاعل ومفاعل " في كل كلام العرب . وذلك : أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه - على ما قد تقدم [ ص: 275 ] وصفه - والله تبارك اسمه خادعه ، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده ، كالذي أخبر في قوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) سورة آل عمران : 178 ، وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الآخرة بقوله : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) سورة الحديد : 13 ، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام ب "يفاعل ومفاعل " . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول : لا تكون المفاعلة إلا من شيئين ، ولكنه إنما قيل : " يخادعون الله " عند أنفسهم ، بظنهم أن لا يعاقبوا ، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم ، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته ، وما يخدعون إلا أنفسهم . قال : وقد قال بعضهم : " وما يخدعون " يقول : يخدعون أنفسهم بالتخلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وما يخدعون إلا أنفسهم )

إن قال قائل : أو ليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين - بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم ، وإن [ ص: 276 ] كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ؟

قيل : خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين . لأنا إذا قلنا ذلك ، أوجبنا لهم حقيقة خدعة جازت لهم على المؤمنين . كما أنا لو قلنا : قتل فلان فلانا ، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان . ولكنا نقول : خادع المنافقون ربهم والمؤمنين ، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم ، كما قال جل ثناؤه ، دون غيرها ، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر ، فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه : قاتل فلان فلانا فلم يقتل إلا نفسه ، فتوجب له مقاتلة صاحبه ، وتنفي عنه قتله صاحبه ، وتوجب له قتل نفسه . فكذلك تقول : "خادع المنافق ربه والمؤمنين فلم يخدع إلا نفسه " ، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين ، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه ، لأن الخادع هو الذي قد صحت الخديعة له ، ووقع منه فعلها . فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم ، لأن ما كان لهم من مال وأهل ، فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم - في حال خداعهم إياهم عنه بنفاقهم ولا قبلها - فيستنقذوه بخداعهم منهم ، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم ، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة ، والله بما يخفون من أمورهم عالم . وإنما الخادع من ختل غيره عن شيئه ، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه . فأما والمخادع عارف بخداع صاحبه إياه غير لاحقه من خداعه إياه مكروه ، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ، ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها ، والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه ، ولا عارف باطلاعه على ضميره ، وأن إمهال مستدرجه إياه ، تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع - من استحقاقه عقوبة مستدرجه ، [ ص: 277 ] بكثرة إساءته ، وطول عصيانه إياه ، وكثرة صفح المستدرج ، وطول عفوه عنه أقصى غاية فإنما هو خادع نفسه لا شك ، دون من حدثته نفسه أنه له مخادع . ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه ، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته .

وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الإيمان به ، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها ، لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) دون ( وما يخادعون ) لأن لفظ "المخادع " غير موجب تثبيت خديعة على صحة ، ولفظ "خادع " موجب تثبيت خديعة على صحة . ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين - بنفاقه ، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) .

ومن الدلالة أيضا على أن قراءة من قرأ : ( وما يخدعون ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ : ( وما يخادعون ) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضاد في المعنى ، وذلك غير جائز من الله جل وعز .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وما يشعرون ( 9 ) )

يعني بقوله جل ثناؤه " وما يشعرون " ، وما يدرون . يقال : ما شعر فلان بهذا الأمر ، وهو لا يشعر به - إذا لم يدر ولم يعلم - شعرا وشعورا . وقال الشاعر : [ ص: 278 ]



عقوا بسهم ولم يشعر به أحد ثم استفاءوا وقالوا : حبذا الوضح


يعني بقوله : لم يشعر به ، لم يدر به أحد ولم يعلم . فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين : أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم ، بإملائه لهم واستدراجه إياهم ، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إليهم في الحجة والمعذرة ، ومنهم لأنفسهم خديعة ، ولها في الآجل مضرة . كالذي - :

321 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قوله : ( وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) ، قال : ما يشعرون أنهم ضروا أنفسهم ، بما أسروا من الكفر والنفاق . وقرأ قول الله تعالى ذكره : ( يوم يبعثهم الله جميعا ) ، قال : هم المنافقون حتى بلغ ( ويحسبون أنهم على شيء ) سورة المجادلة : 18 ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( في قلوبهم مرض )

قال أبو جعفر : وأصل المرض : السقم ، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان . فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا ، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره [ ص: 279 ] عن مرض قلوبهم ، الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب ، أنه معني به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد - استغنى بالخبر عن القلب بذلك والكفاية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لجأ :



وسبحت المدينة ، لا تلمها ، رأت قمرا بسوقهم نهارا


يريد : وسبح أهل المدينة ، فاستغنى بمعرفة السامعين خبره بالخبر عن المدينة ، عن الخبر عن أهلها . ومثله قول عنترة العبسي :



هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ؟ إن كنت جاهلة بما لم تعلمي


يريد : هلا سألت أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم : "يا خيل الله اركبي " ، يراد : يا أصحاب خيل الله اركبوا . والشواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .

فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : ( في قلوبهم مرض ) إنما يعني : في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين ، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله - مرض وسقم . فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه ، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم .

والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه : هو شكهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله ، وتحيرهم فيه ، فلا هم به موقنون إيقان إيمان ، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ، ولكنهم ، كما وصفهم الله عز وجل ، مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما يقال : فلان يمرض في هذا الأمر [ ص: 280 ] أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فيه .

وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك ، تظاهر القول في تفسيره من المفسرين .

ذكر من قال ذلك :

322 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " في قلوبهم مرض " أي شك .

323 - وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : المرض : النفاق .

324 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في قلوبهم مرض " يقول : في قلوبهم شك .

325 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " في قلوبهم مرض " قال : هذا مرض في الدين ، وليس مرضا في الأجساد ، قال : وهم المنافقون .

326 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله " في قلوبهم مرض " قال : في قلوبهم ريبة وشك في أمر الله جل ثناؤه .

327 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " في قلوبهم مرض " قال : هؤلاء أهل النفاق ، والمرض الذي في قلوبهم : الشك في أمر الله تعالى ذكره .

328 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) حتى بلغ ( في قلوبهم مرض ) [ ص: 281 ] قال : المرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( فزادهم الله مرضا )

قد دللنا آنفا على أن تأويل المرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين ، هو الشك في اعتقادات قلوبهم وأديانهم ، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون .

فالمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم على مرضهم ، نظير ما كان في قلوبهم من الشك والحيرة قبل الزيادة ، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه - التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة ، إذ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك - إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف ، من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك . كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك ، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به ، إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه - إيمانا . كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) [ ص: 282 ] [ سورة التوبة : 124 ، 125 ] . فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم ، هو ما وصفنا . والتي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم ، هو ما بينا . وذلك هو التأويل المجمع عليه .

ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل :

329 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فزادهم الله مرضا " قال : شكا .

330 - حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فزادهم الله مرضا " يقول : فزادهم الله ريبة وشكا .

331 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة : " فزادهم الله مرضا " يقول : فزادهم الله ريبة وشكا في أمر الله .

332 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " قال : زادهم رجسا ، وقرأ قول الله عز وجل : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) قال : شرا إلى شرهم ، وضلالة إلى ضلالتهم .

333 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فزادهم الله مرضا " قال : زادهم الله شكا .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 283 ]

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولهم عذاب أليم )

قال أبو جعفر : والأليم : هو الموجع . ومعناه : ولهم عذاب مؤلم . بصرف " مؤلم " إلى " أليم " كما يقال : ضرب وجيع بمعنى موجع ، والله بديع السماوات والأرض ، بمعنى مبدع . ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :



أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع


بمعنى المسمع . ومنه قول ذي الرمة :



وترفع من صدور شمردلات يصد وجوهها وهج أليم


ويروى " يصك " وإنما الأليم صفة للعذاب ، كأنه قال : ولهم عذاب مؤلم . وهو مأخوذ من الألم ، والألم : الوجع . كما :

334 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الأليم ، الموجع .

335 - حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الأليم ، الموجع . [ ص: 284 ]

336 - وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله " أليم " قال : هو العذاب الموجع . وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( بما كانوا يكذبون ( 10 ) )

اختلفت القرأة في قراءة ذلك فقرأه بعضهم : ( بما كانوا يكذبون ) مخففة الذال مفتوحة الياء ، وهي قراءة عظم قرأة أهل الكوفة . وقرأه آخرون : " يكذبون " بضم الياء وتشديد الذال ، وهي قراءة عظم أهل المدينة والحجاز والبصرة .

وكأن الذين قرءوا ذلك ، بتشديد الذال وضم الياء ، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذاب الأليم بتكذيبهم نبيه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد اليسير من العذاب ، فكيف بالأليم منه ؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا . وذلك : أن الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة ، بأنهم يكذبون بدعواهم الإيمان ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم ، خداعا لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين ، فقال : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا ) [ ص: 285 ] بذلك من قيلهم ، مع استسرارهم الشك والريبة ، ( وما يخدعون ) بصنيعهم ذلك ( إلا أنفسهم ) دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ( وما يشعرون ) بموضع خديعتهم أنفسهم ، واستدراج الله عز وجل إياهم بإملائه لهم ، ( في قلوبهم ) شك النفاق وريبته والله زائدهم شكا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم في قيلهم ذلك كذبة ، لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم . فأولى في حكمة الله جل جلاله ، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم ، دون ما لم يجر له ذكر من أفعالهم . إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل ، وهو : أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم ، ويفتتح ذكر مساوئ أفعال آخرين ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم .

فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوئ أفعال المنافقين - أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم . فهذا هذا ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا ، وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا ، وأن الصواب من التأويل ما تأولنا ، من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ) [ سورة المنافقون : 1 ، 2 ] . والآية [ ص: 286 ] الأخرى في المجادلة : ( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ) [ سورة المجادلة : 16 ] . فأخبر جل ثناؤه أن المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون . ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم ، على ذلك من كذبهم . ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة : " ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " لكانت القراءة في السورة الأخرى : " والله يشهد إن المنافقين " لمكذبون ، ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب لا على الكذب . وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله : " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم - أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة : " بما كانوا يكذبون " بمعنى الكذب ، وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب - حق - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذكر - نظير الذي في سورة المنافقين سواء .

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن " ما " من قول الله تبارك اسمه " بما كانوا يكذبون " اسم للمصدر ، كما أن " أن " و " الفعل " اسمان للمصدر في قولك : أحب أن تأتيني ، وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم . قال : وأدخل " كان " ليخبر أنه كان فيما مضى ، كما يقال : ما أحسن ما كان عبد الله ، فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه ، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه . وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ، ويقول : إنما ألغيت " كان " في التعجب ، لأن الفعل قد تقدمها ، فكأنه قال : " حسنا كان زيد " و " حسن كان زيد " يبطل " كان " ويعمل مع الأسماء والصفات التي بألفاظ الأسماء ، إذا جاءت قبل " كان " ووقعت " كان " بينها وبين الأسماء . وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال ، فلشبه الصفات والأسماء ب " فعل " و " يفعل " اللتين لا يظهر عمل [ ص: 287 ] " كان " فيهما . ألا ترى أنك تقول : " يقوم كان زيد " ولا يظهر عمل " كان " في " يقوم " وكذلك " قام كان زيد " فلذلك أبطل عملها مع " فاعل " تمثيلا ب " فعل " و " يفعل " وأعملت مع " فاعل " أحيانا لأنه اسم ، كما تعمل في الأسماء . فأما إذا تقدمت " كان " الأسماء والأفعال ، وكان الاسم والفعل بعدها ، فخطأ عنده أن تكون " كان " مبطلة . فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه ، وتأول قول الله عز وجل بما كانوا يكذبون أنه بمعنى : الذي يكذبونه .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض )

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية :

فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول : لم يجئ هؤلاء بعد .

337 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن علي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت المنهال بن عمرو يحدث ، عن عباد بن عبد الله ، عن سلمان ، قال : ما جاء هؤلاء بعد ، الذين ( إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) . [ ص: 288 ]

338 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان ، أنه قال في هذه الآية : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : ما جاء هؤلاء بعد .

وقال آخرون بما :

339 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، هم المنافقون . أما " لا تفسدوا في الأرض " فإن الفساد ، هو الكفر والعمل بالمعصية .

340 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) يقول : لا تعصوا في الأرض ( قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : فكان فسادهم ذلك معصية الله جل ثناؤه ، لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته ، فقد أفسد في الأرض ، لأن إصلاح الأرض والسماء بالطاعة . [ ص: 289 ]

وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : إن قول الله تبارك اسمه : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان معنيا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة .

وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية : " ما جاء هؤلاء بعد " أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خبرا منه عمن هو جاء منهم بعدهم ولما يجئ بعد ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد .

وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين ، وأن هذه الآيات فيهم نزلت . والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن ، من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير .

والإفساد في الأرض ، العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه ، وتضييع ما أمر الله بحفظه ، فذلك جملة الإفساد ، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرا عن قيل ملائكته : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [ سورة البقرة : 30 ] ، يعنون بذلك : أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك ؟ فكذلك صفة أهل النفاق : مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملا إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله ، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا . فذلك إفساد المنافقين في أرض الله ، وهم [ ص: 290 ] يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها . فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته ، ولا خفف عنهم أليم ما أعد من عقابه لأهل معصيته - بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون - بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره ، والأليم من عذابه ، والعار العاجل بسب الله إياهم وشتمه لهم ، فقال تعالى : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم ، أدل الدليل على تكذيبه تعالى قول القائلين : إن عقوبات الله لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه ، بعد علمه وثبوت الحجة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إياه .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( قالوا إنما نحن مصلحون ( 11 ) )

وتأويل ذلك كالذي قاله ابن عباس ، الذي :

341 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : ( إنما نحن مصلحون ) ، أي قالوا : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب .

وخالفه في ذلك غيره .

342 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) ، قال : إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى مصلحون . [ ص: 291 ]

قال أبو جعفر : وأي الأمرين كان منهم في ذلك ، أعني في دعواهم أنهم مصلحون ، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون . فسواء بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاح ، أو في أديانهم ، وفيما ركبوا من معصية الله ، وكذبهم المؤمنين فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون ، لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين ، وهم عند الله مسيئون ، ولأمر الله مخالفون . لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوة اليهود وحربهم مع المسلمين ، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله ، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين . فكان لقاؤهم اليهود - على وجه الولاية منهم لهم - ، وشكهم في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظم الفساد ، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحا وهدى : في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود ، فقال جل ثناؤه فيهم : ( ألا إنهم هم المفسدون ) دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض ، ( ولكن لا يشعرون )

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ( 12 ) )

وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم . إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به ، ونهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه ، قالوا : إنما نحن مصلحون لا مفسدون ، ونحن على رشد وهدى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالون . فكذبهم الله عز وجل في ذلك من قيلهم فقال : ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمر الله عز وجل ، المتعدون حدوده ، الراكبون معصيته ، التاركون فروضه ، وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين ، [ ص: 292 ] وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس )

قال أبو جعفر : وتأويل قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) يعني : وإذا قيل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون : ( آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) : صدقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله ، كما صدق به الناس . ويعني ب " الناس " المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله . كما :

343 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) ، يقول : وإذا قيل لهم صدقوا كما صدق أصحاب محمد ، قولوا : إنه نبي ورسول ، وإن ما أنزل عليه حق ، وصدقوا بالآخرة ، وأنكم مبعوثون من بعد الموت .

وإنما أدخلت الألف واللام في " الناس " وهم بعض الناس لا جميعهم ، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم ، وإنما معناه : آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر . فلذلك أدخلت الألف واللام فيه ، كما أدخلتا في قوله : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) [ ص: 293 ] [ سورة آل عمران : 173 ] ، لأنه أشير بدخولها إلى ناس معروفين عند من خوطب بذلك .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء )

قال أبو جعفر : والسفهاء جمع سفيه ، كما العلماء جمع عليم ، والحكماء جمع حكيم . والسفيه : الجاهل ، الضعيف الرأي ، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار . ولذلك سمى الله عز وجل النساء والصبيان سفهاء ، فقال تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) [ سورة النساء : 5 ] ، فقال عامة أهل التأويل : هم النساء والصبيان ، لضعف آرائهم ، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضار التي تصرف إليها الأموال .

وإنما عنى المنافقون بقيلهم : أنؤمن كما آمن السفهاء - إذ دعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله ، والإقرار بالبعث فقيل لهم : آمنوا كما آمن [ الناس ] - أصحاب محمد وأتباعه من المؤمنين المصدقين به ، من أهل الإيمان واليقين ، والتصديق بالله ، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه ، وباليوم الآخر . فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم : أنؤمن كما آمن أهل الجهل ، ونصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام ؟ كالذي :

344 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن [ ص: 294 ] عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) ، يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

345 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

346 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : " قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء " قال : هذا قول المنافقين ، يريدون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

347 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) يقولون : أنقول كما تقول السفهاء ؟ يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، لخلافهم لدينهم .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ( 13 ) )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعته لهم ، ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنهم هم الجهال في أديانهم ، [ ص: 295 ] الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم ، من الشك والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته ، وفيما جاء به من عند الله ، وأمر البعث ، لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك وهم يحسبون أنهم إليها يحسنون . وذلك هو عين السفه ، لأن السفيه إنما يفسد من حيث يرى أنه يصلح ، ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ ، فكذلك المنافق : يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه ، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به ، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها ، كما وصفهم به ربنا جل ذكره ، فقال : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) ، وقال : ( ألا إنهم هم السفهاء ) - دون المؤمنين المصدقين بالله وبكتابه ، وبرسوله وثوابه وعقابه - ( ولكن لا يعلمون ) . وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية .

348 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم السفهاء ) ، يقول : الجهال ، ( ولكن لا يعلمون ) ، يقول : ولكن لا يعقلون .

وأما وجه دخول الألف واللام في " السفهاء " فشبيه بوجه دخولهما في " الناس " في قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) ، وقد بينا العلة في دخولهما هنالك ، والعلة في دخولهما في " السفهاء " نظيرتها في دخولهما في " الناس " هنالك ، سواء .

والدلالة التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبة من الله لا يستحقها إلا المعاند ربه ، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظير دلالة الآيات الأخر التي قد تقدم ذكرنا تأويلها في قوله " ولكن لا يشعرون " ونظائر ذلك .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 296 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم )

قال أبو جعفر : وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جل ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسوله والمؤمنين ، فقال تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) . ثم أكذبهم تعالى ذكره بقوله : ( وما هم بمؤمنين ) ، وأنهم بقيلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا . وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون - للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسوله - بألسنتهم : آمنا وصدقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله ، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ودرءا لهم عنها ، وأنهم إذا خلوا إلى مردتهم وأهل العتو والشر والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم ، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطين كل شيء مردته - قالوا لهم : " إنا معكم " أي إنا معكم على دينكم ، وظهراؤكم على من خالفكم فيه ، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، " إنما نحن مستهزئون " بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه ، كالذي :

349 - حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم ، قالوا : إنا على دينكم . وإذا خلوا إلى أصحابهم ، وهم شياطينهم ، قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون . [ ص: 397 ]

350 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم ) قال : إذا خلوا إلى شياطينهم من يهود ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول ( قالوا إنا معكم ) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه ( إنما نحن مستهزئون ) .

351 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، أما شياطينهم ، فهم رءوسهم في الكفر .

352 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) أي رؤسائهم في الشر ( قالوا إنما نحن مستهزئون ) .

353 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر عن قتادة في قوله : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : المشركون .

354 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار .

355 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن شبل بن عباد ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : أصحابهم من المنافقين والمشركين .

356 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي [ ص: 198 ] جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إخوانهم من المشركين ، ( قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) .

357 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : إذا أصاب المؤمنين رخاء قالوا : إنا نحن معكم ، إنما نحن إخوانكم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين .

358 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وقال مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين .

فإن قال لنا قائل : أرأيت قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ؟ فكيف قيل : ( خلوا إلى شياطينهم ) ، ولم يقل خلوا بشياطينهم ؟ فقد علمت أن الجاري بين الناس في كلامهم : " خلوت بفلان " أكثر وأفشى من : " خلوت إلى فلان " ومن قولك : إن القرآن أفصح البيان!

قيل : قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب . فكان بعض نحويي البصرة يقول : يقال " خلوت إلى فلان " إذا أريد به : خلوت إليه في حاجة خاصة . لا يحتمل - إذا قيل كذلك - إلا الخلاء إليه في قضاء الحاجة . فأما إذا قيل : " خلوت به " احتمل معنيين : أحدهما الخلاء به في الحاجة ، والآخر في السخرية به . فعلى هذا القول ، ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، لا شك أفصح منه لو قيل " وإذا خلوا بشياطينهم " لما في قول القائل : " إذا خلوا بشياطينهم " من التباس المعنى على سامعيه ، الذي هو منتف عن قوله : " وإذا خلوا إلى شياطينهم " فهذا أحد الأقوال .

والقول الآخر : فأن توجه معنى قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، " وإذا [ ص: 299 ] خلوا مع شياطينهم " إذ كانت حروف الصفات يعاقب بعضها بعضا ، كما قال الله مخبرا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين : ( من أنصاري إلى الله ) [ سورة الصف : 14 ] ، يريد : مع الله . وكما توضع " على " في موضع " من " و " في " و " عن " و " الباء " كما قال الشاعر :



إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها


بمعنى عني .

وأما بعض نحويي أهل الكوفة ، فإنه كان يتأول أن ذلك بمعنى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب ل " إلى " المعنى الذي دل عليه الكلام : من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم ، لا قوله " خلوا " وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع " إلى " غيرها ، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها .

وهذا القول عندي أولى بالصواب ، لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها . ول " إلى " في كل موضع دخلت من الكلام حكم ، وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 300 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( إنما نحن مستهزئون ( 14 ) )

أجمع أهل التأويل جميعا - لا خلاف بينهم - على أن معنى قوله : ( إنما نحن مستهزئون ) : إنما نحن ساخرون . فمعنى الكلام إذا : وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مردتهم من المنافقين والمشركين قالوا : إنا معكم على ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، ومعاداته ومعاداة أتباعه ، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، بقيلنا لهم إذا لقيناهم : آمنا بالله وباليوم الآخر كما :

359 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا : ( إنما نحن مستهزئون ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

360 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي : إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم .

361 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : ( إنما نحن مستهزئون ) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونسخر بهم .

362 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 301 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الله يستهزئ بهم )

قال أبو جعفر : اختلف في صفة استهزاء الله جل جلاله ، الذي ذكر أنه فاعله بالمنافقين ، الذين وصف صفتهم . فقال بعضهم : استهزاؤه بهم ، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعل بهم يوم القيامة في قوله تعالى : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ) [ سورة الحديد : 13 ، 14 ] . الآية . وكالذي أخبرنا أنه فعل بالكفار بقوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) [ سورة آل عمران : 178 ] . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول ، ومتأولي هذا التأويل .

وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم ، توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصي الله والكفر به ، كما يقال : " إن فلانا ليهزأ منه منذ اليوم ، ويسخر منه " يراد به توبيخ الناس إياه ولومهم له ، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، كما قال عبيد بن الأبرص :



سائل بنا حجر ابن أم قطام ، إذ ظلت به السمر النواهل تلعب
[ ص: 302 ]

فزعموا أن السمر - وهي القنا - لا لعب منها ، ولكنها لما قتلتهم وشردتهم ، جعل ذلك من فعلها لعبا بمن فعلت ذلك به . قالوا : فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بمن استهزأ به من أهل النفاق والكفر به : إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، وإما إملاؤه لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة ، أو توبيخه لهم ولائمته إياهم . قالوا : وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسخرية .

وقال آخرون قوله : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ سورة النساء : 142 ] على الجواب ، كقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به : " أنا الذي خدعتك " ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه . قالوا : وكذلك قوله : ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) [ سورة آل عمران : 54 ] ، و " الله يستهزئ بهم " على الجواب . والله لا يكون منه المكر ولا الهزء ، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم .

وقال آخرون : قوله : ( إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ) ، وقوله : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ سورة النساء : 142 ] ، وقوله : ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) [ سورة التوبة : 79 ] ، ( نسوا الله فنسيهم ) [ سورة التوبة : 67 ] ، وما أشبه ذلك ، إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ، ومعاقبهم عقوبة الخداع . فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم ، مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان . كما قال جل ثناؤه : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ سورة الشورى : 40 ] ، ومعلوم أن الأولى من صاحبها سيئة ، إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية ، وأن الأخرى عدل ، لأنها من الله جزاء [ ص: 303 ] للعاصي على المعصية ، فهما - وإن اتفق لفظاهما - مختلفا المعنى . وكذلك قوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) [ سورة البقرة : 194 ] ، فالعدوان الأول ظلم ، والثاني جزاء لا ظلم ، بل هو عدل ، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه ، وإن وافق لفظه لفظ الأول .

وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك ، مما هو خبر عن مكر الله جل وعز بقوم ، وما أشبه ذلك .

وقال آخرون : إن معنى ذلك : أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا : إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما نظهر لهم - من قولنا لهم : صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون . يعنون : إنا نظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حق ولا هدى . قالوا : وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء ، فأخبر الله أنه " يستهزئ بهم " فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الآخرة ، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم .

والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا : أن معنى الاستهزاء في كلام العرب : إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهرا ، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنا . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر .

فإذا كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم ، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله ، المدخلهم في عداد من يشمله اسم الإسلام ، وإن كانوا لغير ذلك [ ص: 304 ] مستبطنين - أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك ، بضمائر قلوبهم ، وصحائح عزائمهم ، وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - مع علم الله عز وجل بكذبهم ، واطلاعه على خبث اعتقادهم ، وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم به مصدقون ، حتى ظنوا في الآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا ، أنهم واردون موردهم . وداخلون مدخلهم . والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقتهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه ، وتفريقه بينهم وبينهم - معد لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ، ما أعد منه لأعدى أعدائه وشر عباده ، حتى ميز بينهم وبين أوليائه ، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم - وإن كان جزاء لهم على أفعالهم ، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له - كان بهم - بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم : من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء ، وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين - إلى أن ميز بينهم وبينهم - مستهزئا ، وبهم ساخرا ، ولهم خادعا ، وبهم ماكرا . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل ، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم ، أو عليه فيها غير عادل ، بل ذلك معناه في كل أحواله ، إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره . [ ص: 305 ]

وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس :

363 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " الله يستهزئ بهم " قال : يسخر بهم للنقمة منهم .

وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره : الله يستهزئ بهم " إنما هو على وجه الجواب ، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة ، فنافون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه ، وأوجبه لها . وسواء قال قائل : لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به ، أو قال : لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم .

ويقال لقائل ذلك : إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم ، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم ، وعن آخرين أنه أغرقهم ، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك ، ولم نفرق بين شيء منه . فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه ، بزعمك : أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به ، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به ؟

ثم نعكس القول عليه في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .

فإن لجأ إلى أن يقول : إن الاستهزاء عبث ولعب ، وذلك عن الله عز وجل منفي .

قيل له : إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء ، أفلست [ ص: 306 ] تقول : " الله يستهزئ بهم " و " سخر الله منهم " و " مكر الله بهم " وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية ؟

فإن قال : " لا " كذب بالقرآن ، وخرج عن ملة الإسلام .

وإن قال : " بلى " قيل له : أفنقول من الوجه الذي قلت : " الله يستهزئ بهم " و " سخر الله منهم " - " يلعب الله بهم " و " يعبث " - ولا لعب من الله ولا عبث ؟

فإن قال : " نعم " ! وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه ، وعلى تخطئة واصفه به ، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه .

وإن قال : لا أقول : " يلعب الله بهم " ولا " يعبث " وقد أقول " يستهزئ بهم " و " يسخر منهم "

قيل : فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث ، والهزء والسخرية ، والمكر والخديعة . ومن الوجه الذي جاز قيل هذا ، ولم يجز قيل هذا ، افترق معنياهما . فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر .

وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا ، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه . وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ويمدهم )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ويمدهم ) ، فقال بعضهم بما :

364 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - [ ص: 307 ] وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يمدهم " يملي لهم .

وقال آخرون بما :

365 - حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة عن مجاهد : " يمدهم " قال : يزيدهم .

وكان بعض نحويي البصرة يتأول ذلك أنه بمعنى : يمد لهم ، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب : الغلام يلعب الكعاب ، يراد به يلعب بالكعاب . قال : وذلك أنهم قد يقولون : " قد مددت له وأمددت له " في غير هذا المعنى ، وهو قول الله تعالى ذكره : ( وأمددناهم ) [ سورة الطور : 22 ] ، وهذا من : " مددناهم " قال : ويقال : قد " مد البحر فهو ماد " و " أمد الجرح فهو ممد " وحكي عن يونس الجرمي أنه كان يقول : ما كان من الشر فهو " مددت " وما كان من الخير فهو " أمددت " ثم قال : وهو كما فسرت لك ، إذا أردت أنك تركته فهو " مددت له " وإذا أردت أنك أعطيته قلت : " أمددت "

وأما بعض نحويي الكوفة فإنه كان يقول : كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو " مددت " بغير ألف ، كما تقول : " مد النهر ، ومده نهر آخر غيره " إذا اتصل به فصار منه ، وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو بألف ، كقولك : " أمد الجرح " لأن المدة من غير الجرح ، وأمددت الجيش بمدد .

وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله : " ويمدهم " : أن يكون بمعنى يزيدهم ، على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم ، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم في قوله [ ص: 308 ] ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ سورة الأنعام : 110 ] ، يعني نذرهم ونتركهم فيه ، ونملي لهم ليزدادوا إثما إلى إثمهم .

ولا وجه لقول من قال : ذلك بمعنى " يمد لهم " لأنه لا تدافع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل : " مد النهر نهر آخر " بمعنى : اتصل به فصار زائدا ماء المتصل به بماء المتصل - من غير تأول منهم . ذلك أن معناه : مد النهر نهر آخر . فكذلك ذلك في قول الله : ( ويمدهم في طغيانهم يعمهون )

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله : ( في طغيانهم )

قال أبو جعفر : و " الطغيان " " الفعلان " من قولك : " طغى فلان يطغى طغيانا " إذا تجاوز في الأمر حده فبغى . ومنه قول الله : ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ سورة العلق : 6 ، 7 ] ، أي يتجاوز حده . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :



ودعا الله دعوة لات هنا بعد طغيانه ، فظل مشيرا


وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله ( ويمدهم في طغيانهم ) ، [ ص: 309 ] أنه يملي لهم ، ويذرهم يبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون . كما :

366 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( في طغيانهم يعمهون ) ، قال : في كفرهم يترددون .

367 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في طغيانهم " في كفرهم .

368 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( في طغيانهم يعمهون ) ، أي في ضلالتهم يعمهون .

369 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " في طغيانهم " في ضلالتهم .

370 - وحدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " في طغيانهم " قال : طغيانهم كفرهم وضلالتهم .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله : ( يعمهون ( 15 ) )

قال أبو جعفر : والعمه نفسه : الضلال . يقال منه : عمه فلان يعمه عمهانا وعموها ، إذا ضل . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مضلة من المهامه :



ومخفق من لهله ولهله من مهمه يجتبنه في مهمه
[ ص: 310 ]

أعمى الهدى بالجاهلين العمه


و " العمه " جمع عامه ، وهم الذين يضلون فيه فيتحيرون . فمعنى قوله إذا : ( في طغيانهم يعمهون ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه ، وعلاهم رجسه ، يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا .

وبنحو ما قلنا في " العمه " جاء تأويل المتأولين .

371 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يعمهون " يتمادون في كفرهم .

372 - وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يعمهون " قال : يتمادون .

373 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " يعمهون " قال : يترددون .

374 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " يعمهون " : المتلدد . [ ص: 311 ]

375 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( في طغيانهم يعمهون ) ، قال : يترددون .

376 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

377 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .

378 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، عن مجاهد ، مثله .

379 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، " يعمهون " قال : يترددون .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى )

قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى ، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم : باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه ؟ وقد علمت أن معنى الشراء المفهوم : اعتياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه ، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة ، لم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفاقا ؟ [ ص: 312 ]

قيل : قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فنذكر ما قالوا فيه ، ثم نبين الصحيح من التأويل في ذلك إن شاء الله :

380 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، أي الكفر بالإيمان .

381 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، يقول : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .

382 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، استحبوا الضلالة على الهدى .

383 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، آمنوا ثم كفروا .

384 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

قال أبو جعفر : فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك : " أخذوا الضلالة وتركوا الهدى " - وجهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترى مكان الثمن المشترى به ، فقالوا : كذلك المنافق والكافر ، قد أخذا مكان الإيمان الكفر ، فكان ذلك منهما شراء [ ص: 313 ] للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى ، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التي أخذاها .

وأما الذين تأولوا أن معنى قوله " اشتروا " : " استحبوا " فإنهم لما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفار في موضع آخر ، فنسبهم إلى استحبابهم الكفر على الهدى ، فقال : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ سورة فصلت : 17 ] ، صرفوا قوله : ( اشتروا الضلالة بالهدى ) إلى ذلك . وقالوا : قد تدخل " الباء " مكان " على " و " على " مكان " الباء " كما يقال : مررت بفلان ، ومررت على فلان ، بمعنى واحد ، وكقول الله جل ثناؤه : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) [ سورة آل عمران : 75 ] ، أي على قنطار . فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء : أولئك الذين اختاروا الضلالة على الهدى . وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه " اشتروا " إلى معنى اختاروا ، لأن العرب تقول : اشتريت كذا على كذا ، واستريته - يعنون اخترته عليه .

ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة



فقد أخرج الكاعب المسترا ة من خدرها وأشيع القمار


يعني بالمستراة : المختارة .

وقال ذو الرمة ، في الاشتراء بمعنى الاختيار :



يذب القصايا عن شراة كأنها جماهير تحت المدجنات الهواضب


.

يعني بالشراة : المختارة . [ ص: 314 ]

وقال آخر في مثل ذلك :



إن الشراة روقة الأموال وحزرة القلب خيار المال


قال أبو جعفر : وهذا ، وإن كان وجها من التأويل ، فلست له بمختار . لأن الله جل ثناؤه قال : ( فما ربحت تجارتهم ) ، فدل بذلك على أن معنى قوله ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) معنى الشراء الذي يتعارفه الناس ، من استبدال شيء مكان شيء ، وأخذ عوض على عوض .

وأما الذين قالوا : إن القوم كانوا مؤمنين وكفروا ، فإنه لا مئونة عليهم ، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم . لأن الأمر إذا كان كذلك ، فقد تركوا الإيمان ، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى . وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع ، ولكن دلائل أول الآيات في نعوتهم إلى آخرها ، دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان ، ولا دخلوا في ملة الإسلام ، أوما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ في نعتهم ، إلى أن أتى على صفتهم ، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم : بدعواهم التصديق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، خداعا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم ، واستهزاء في نفوسهم بالمؤمنين ، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون . يقول الله جل جلاله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، ثم اقتص قصصهم إلى قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ؟ [ ص: 315 ] فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا ؟

فإن كان قائل هذه المقالة ظن أن قوله : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " هو الدليل على أن القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر ، فلذلك قيل لهم " اشتروا " - فإن ذلك تأويل غير مسلم له ، إذ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره ، وقد يكون بمعنى الاختيار ، وبغير ذلك من المعاني . والكلمة إذا احتملت وجوها ، لم يكن لأحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها .

قال أبو جعفر : والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله : ( اشتروا الضلالة بالهدى ) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرا ، باكتسابه الكفر الذي وجد منه ، بدلا من الإيمان الذي أمر به . أوما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) [ سورة البقرة : 108 ] وذلك هو معنى الشراء ، لأن كل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بديلا منه . فكذلك المنافق والكافر ، استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق ، فأضلهما الله ، وسلبهما نور الهدى ، فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله : ( فما ربحت تجارتهم )

قال أبو جعفر : وتأويل ذلك أن المنافقين - بشرائهم الضلالة بالهدى - خسروا ولم يربحوا ، لأن الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه [ ص: 316 ] بدلا هو أنفس من سلعته المملوكة أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به . فأما المستبدل من سلعته بدلا دونها ودون الثمن الذي ابتاعها به ، فهو الخاسر في تجارته لا شك . فكذلك الكافر والمنافق ، لأنهما اختارا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى ، والخوف والرعب على الحفظ والأمن ، واستبدلا في العاجل : بالرشاد الحيرة ، وبالهدى الضلالة ، وبالحفظ الخوف ، وبالأمن الرعب - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب ، فخابا وخسرا ، ذلك هو الخسران المبين .

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول .

385 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) [ ص: 317 ] : قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله : ( فما ربحت تجارتهم ) ؟ وهل التجارة مما تربح أو توكس ، فيقال : ربحت أو وضعت ؟

قيل : إن وجه ذلك على غير ما ظننت . وإنما معنى ذلك : فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشتروا ، ولا فيما شروا . ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا ، وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحا لديهم قول القائل لآخر : خاب سعيك ، ونام ليلك ، وخسر بيعك ، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام ، فقال : ( فما ربحت تجارتهم ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة ، كما النوم في الليل . فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك ، عن أن يقال : فما ربحوا في تجارتهم ، وإن كان ذلك معناه ، كما قال الشاعر :



وشر المنايا ميت وسط أهله كهلك الفتاة أسلم الحي حاضره


يعني بذلك : وشر المنايا منية ميت وسط أهله ، فاكتفى بفهم سامع قيله مراده من ذلك ، عن إظهار ما ترك إظهاره ، وكما قال رؤبة بن العجاج :



حارث! قد فرجت عني همي فنام ليلي وتجلى غمي


فوصف بالنوم الليل ، ومعناه أنه هو الذي نام ، وكما قال جرير بن الخطفى :



وأعور من نبهان أما نهاره فأعمى ، وأما ليله فبصير


فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار ، ومراده وصف النبهاني بذلك .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 3 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله : ( وما كانوا مهتدين ( 16 ) )

يعني بقوله جل ثناؤه ( وما كانوا مهتدين ) : ما كانوا رشداء في اختيارهم الضلالة على الهدى ، واستبدالهم الكفر بالإيمان ، واشترائهم النفاق بالتصديق والإقرار .
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد