منتديات احلى حكاية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات احلى حكاية دخول

موقع خاص بالتصاميم وتحويل الاستايلات واكواد حصريه لخدمه مواقع احلى منتدى


|| تفسير الطبرى || > || متجدد ||

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
4 مشترك

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Empty|| تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

مقدمة المؤلف

ص: 1 ] [ ص: 2 ] [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم بركة من الله وأمر

قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة ، قال : الحمد لله الذي حجت الألباب بدائع حكمه ، وخصمت العقول لطائف حججه وقطعت عذر الملحدين عجائب صنعه ، وهتفت في أسماع العالمين ألسن أدلته ، شاهدة أنه الله الذي لا إله إلا هو ، الذي لا عدل له معادل ولا مثل له مماثل ، ولا شريك له مظاهر ، ولا ولد له ولا والد ، ولم يكن له صاحبة ولا كفوا أحد; وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة ، والعزيز الذي ذلت لعزته الملوك الأعزة ، وخشعت لمهابة سطوته ذوو المهابة ، وأذعن له جميع الخلق بالطاعة طوعا وكرها ، كما قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [ سورة الرعد : 15 . فكل موجود إلى وحدانيته داع ، وكل محسوس إلى ربوبيته هاد ، بما وسمهم به من آثار الصنعة ، من نقص وزيادة ، وعجز وحاجة ، وتصرف في عاهات عارضة ، ومقارنة أحداث لازمة ، لتكون له الحجة البالغة .

ثم أردف ما شهدت به من ذلك أدلته ، وأكد ما استنارت في القلوب منه بهجته ، برسل ابتعثهم إلى من يشاء من عباده ، دعاة إلى ما اتضحت لديهم صحته ، وثبتت في العقول حجته ، ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ سورة النساء : 165 ] [ ص: 4 ]

وليذكر أولو النهى والحلم . فأمدهم بعونه ، وأبانهم من سائر خلقه ، بما دل به على صدقهم من الأدلة ، وأيدهم به من الحجج البالغة والآي المعجزة ، لئلا يقول القائل منهم ( ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) [ سورة المؤمنون : 33 - 34 ] فجعلهم سفراء بينه وبين خلقه ، وأمناءه على وحيه ، واختصهم بفضله ، واصطفاهم برسالته ، ثم جعلهم - فيما خصهم به من مواهبه ، ومن به عليهم من كراماته - مراتب مختلفة ، ومنازل مفترقة ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، متفاضلات متباينات . فكرم بعضهم بالتكليم والنجوى ، وأيد بعضهم بروح القدس ، وخصه بإحياء الموتى ، وإبراء أولي العاهة والعمى ، وفضل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، من الدرجات بالعليا ، ومن المراتب بالعظمى . فحباه من أقسام كرامته بالقسم الأفضل وخصه من درجات النبوة بالحظ الأجزل ، ومن الأتباع والأصحاب بالنصيب الأوفر . وابتعثه بالدعوة التامة ، والرسالة العامة ، وحاطه وحيدا ، وعصمه فريدا ، من كل جبار عاند ، وكل شيطان مارد حتى أظهر به الدين ، وأوضح به السبيل ، وأنهج به معالم الحق ، ومحق به منار الشرك . وزهق به الباطل ، واضمحل به الضلال وخدع الشيطان وعبادة الأصنام والأوثان ، مؤيدا بدلالة على الأيام باقية ، وعلى الدهور والأزمان ثابتة ، وعلى مر الشهور والسنين دائمة ، يزداد ضياؤها على كر الدهور إشراقا ، وعلى مر الليالي والأيام [ ص: 5 ] ائتلاقا ، خصيصى من الله له بها دون سائر رسله - الذين قهرتهم الجبابرة ، واستذلتهم الأمم الفاجرة ، فتعفت بعدهم منهم الآثار ، وأخملت ذكرهم الليالي والأيام - ودون من كان منهم مرسلا إلى أمة دون أمة ، وخاصة دون عامة ، وجماعة دون كافة .

فالحمد لله الذي كرمنا بتصديقه ، وشرفنا باتباعه ، وجعلنا من أهل الإقرار والإيمان به وبما دعا إليه وجاء به ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أزكى صلواته ، وأفضل سلامه ، وأتم تحياته .

ثم أما بعد فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة ، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة ، وحباهم به من الكرامة السنية ، حفظه ما حفظ عليهم - جل ذكره وتقدست أسماؤه - من وحيه وتنزيله ، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم دلالة ، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة ، وحجة بالغة ، أبانه به من كل كاذب ومفتر ، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد ، وفرق به بينهم وبين كل كافر ومشرك; الذي لو اجتمع جميع من بين أقطارها ، من جنها وإنسها وصغيرها وكبيرها ، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . فجعله لهم في دجى الظلم نورا ساطعا ، وفي سدف الشبه شهابا لامعا وفي مضلة المسالك دليلا هاديا ، وإلى سبل النجاة والحق حاديا ، ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) [ سورة المائدة : 16 . حرسه بعين [ ص: 6 ] منه لا تنام ، وحاطه بركن منه لا يضام ، لا تهي على الأيام دعائمه ، ولا تبيد على طول الأزمان معالمه ، ولا يجوز عن قصد المحجة تابعه ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه . من اتبعه فاز وهدي ، ومن حاد عنه ضل وغوى ، فهو موئلهم الذي إليه عند الاختلاف يئلون ، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعقلون وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون ، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون ، وفصل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون ، وعن الرضى به يصدرون ، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون .

اللهم فوفقنا لإصابة صواب القول في محكمه ومتشابهه ، وحلاله وحرامه ، وعامه وخاصه ، ومجمله ومفسره ، وناسخه ومنسوخه ، وظاهره وباطنه ، وتأويل آيه وتفسير مشكله . وألهمنا التمسك به والاعتصام بمحكمه ، والثبات على التسليم لمتشابهه . وأوزعنا الشكر على ما أنعمت به علينا من حفظه والعلم بحدوده . إنك سميع الدعاء قريب الإجابة . وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما .

اعلموا عباد الله ، رحمكم الله ، أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية ، وبلغت في معرفته الغاية ، ما كان لله في العلم به رضى ، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى ، وأن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذي لا ريب فيه ، وتنزيله الذي لا مرية فيه ، الفائز بجزيل الذخر وسني الأجر تاليه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .

ونحن - في شرح تأويله ، وبيان ما فيه من معانيه - منشئون إن شاء الله ذلك ، كتابا مستوعبا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعا ، ومن سائر الكتب [ ص: 7 ] غيره في ذلك كافيا . ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه واختلافها فيما اختلفت فيه منه . ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم ، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك ، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك ، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه .

والله نسأل عونه وتوفيقه لما يقرب من محابه ، ويبعد من مساخطه . وصلى الله على صفوته من خلقه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .

وأول ما نبدأ به من القيل في ذلك : الإبانة عن الأسباب التي البداية بها أولى ، وتقديمها قبل ما عداها أحرى . وذلك : البيان عما في آي القرآن من المعاني التي من قبلها يدخل اللبس على من لم يعان رياضة العلوم العربية ، ولم تستحكم معرفته بتصاريف وجوه منطق الألسن السليقية الطبيعية .

عدل سابقا من قبل ABDO ELBASS في الخميس مارس 15, 2012 8:00 pm عدل 1 مرات

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله : ( وإياك نستعين ) .

قال أبو جعفر : ومعنى قوله : ( وإياك نستعين ) : وإياك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها - لا أحدا سواك ، إذ كان من يكفر بك يستعين في أموره معبوده الذي يعبده من الأوثان دونك ، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة .

172 - كالذي حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، [ ص: 162 ] قال : حدثني بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس : ( وإياك نستعين ) ، قال : إياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها .

فإن قال قائل : وما معنى أمر الله عباده بأن يسألوه المعونة على طاعته ؟ أوجائز ، وقد أمرهم بطاعته ، أن لا يعينهم عليها ؟ أم هل يقول قائل لربه : إياك نستعين على طاعتك ، إلا وهو على قوله ذلك معان ، وذلك هو الطاعة . فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه ؟

قيل : إن تأويل ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما الداعي ربه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه ، داع أن يعينه فيما بقي من عمره على ما كلفه من طاعته ، دون ما قد تقضى ومضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره . وجازت مسألة العبد ربه ذلك ، لأن إعطاء الله عبده ذلك - مع تمكينه جوارحه لأداء ما كلفه من طاعته ، وافترض عليه من فرائضه ، فضل منه جل ثناؤه تفضل به عليه ، ولطف منه لطف له فيه . وليس في تركه التفضل على بعض عبيده بالتوفيق - مع اشتغال عبده بمعصيته ، وانصرافه عن محبته ، ولا في بسطه فضله على بعضهم ، مع إجهاد العبد نفسه في محبته ، ومسارعته إلى طاعته - فساد في تدبير ، ولا جور في حكم ، فيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله في أمره عبده بمسألته عونه على طاعته .

وفي أمر الله جل ثناؤه عباده أن يقولوا : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، بمعنى مسألتهم إياه المعونة على العبادة ، أدل الدليل على فساد قول القائلين بالتفويض من أهل القدر ، الذين أحالوا أن يأمر الله أحدا من عبيده بأمر ، أو يكلفه [ ص: 163 ] فرض عمل ، إلا بعد إعطائه المعونة على فعله وعلى تركه . ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا ، لبطلت الرغبة إلى الله في المعونة على طاعته . إذ كان - على قولهم ، مع وجود الأمر والنهي والتكليف - حقا واجبا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه ، سأله عبده أو ترك مسألة ذلك . بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور . ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا ، لكان القائل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، إنما يسأل ربه أن لا يجور .

وفي إجماع أهل الإسلام جميعا - على تصويب قول القائل : "اللهم إنا نستعينك " ، وتخطئتهم قول القائل : "اللهم لا تجر علينا " - دليل واضح على خطأ ما قال الذين وصفت قولهم . إذ كان تأويل قول القائل عندهم : "اللهم إنا نستعينك - اللهم لا تترك معونتنا التي ترككها جور منك .

فإن قال قائل : وكيف قيل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، فقدم الخبر عن العبادة ، وأخرت مسألة المعونة عليها بعدها ؟ وإنما تكون العبادة بالمعونة ، فمسألة المعونة كانت أحق بالتقديم قبل المعان عليه من العمل ، والعبادة بها .

قيل : لما كان معلوما أن العبادة لا سبيل للعبد إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه ، وكان محالا أن يكون العبد عابدا إلا وهو على العبادة معان ، وأن يكون معانا عليها إلا وهو لها فاعل - كان سواء تقديم ما قدم منهما على صاحبه . كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إليك في قضائها : "قضيت حاجتي فأحسنت إلي " ، فقدمت ذكر قضائه حاجتك ، أو قلت : أحسنت إلي فقضيت حاجتي " ، فقدمت ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة . لأنه لا يكون قاضيا حاجتك إلا وهو إليك محسن ، ولا محسنا إليك إلا وهو لحاجتك قاض . فكذلك سواء قول القائل : اللهم إنا إياك نعبد فأعنا على عبادتك ، وقوله : اللهم أعنا على عبادتك فإنا إياك نعبد . [ ص: 164 ]

قال أبو جعفر : وقد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير ، كما قال امرؤ القيس :



ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال


يريد بذلك : كفاني قليل من المال ولم أطلب كثيرا . وذلك - من معنى التقديم والتأخير ، ومن مشابهة بيت امرئ القيس - بمعزل . من أجل أنه قد يكفيه القليل من المال ويطلب الكثير ، فليس وجود ما يكفيه منه بموجب له ترك طلب الكثير ، فيكون نظير العبادة التي بوجودها وجود المعونة عليها ، وبوجود المعونة عليها وجودها ، فيكون ذكر أحدهما دالا على الآخر ، فيعتدل في صحة الكلام تقديم ما قدم منهما قبل صاحبه ، أن يكون موضوعا في درجته ومرتبا في مرتبته .

فإن قال : فما وجه تكراره : "إياك " مع قوله : "نستعين " ، وقد تقدم ذلك قبل "نعبد " ؟ وهلا قيل : "إياك نعبد ونستعين " ، إذ كان المخبر عنه أنه المعبود ، هو المخبر عنه أنه المستعان ؟

قيل له : إن الكاف التي مع " إيا " ، هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل - أعني بقوله : "نعبد " - لو كانت مؤخرة بعد الفعل . وهي كناية اسم المخاطب المنصوب بالفعل ، فكثرت ب "إيا " متقدمة ، إذ كانت الأسماء إذا انفردت بأنفسها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد .

فلما كانت الكاف من " إياك " هي كناية اسم المخاطب التي كانت تكون كافا وحدها متصلة بالفعل إذا كانت بعد الفعل ، ثم كان حظها أن تعاد مع كل فعل اتصلت به ، فيقال : "اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونحمدك ونشكرك " ، وكان ذلك أفصح في كلام العرب من أن يقال : "اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد " - كان كذلك ، إذا قدمت كناية اسم المخاطب قبل الفعل موصولة ب "إيا " ، كان الأفصح إعادتها مع كل فعل . كما كان الفصيح من الكلام إعادتها مع [ ص: 165 ] كل فعل ، إذا كانت بعد الفعل متصلة به ، وإن كان ترك إعادتها جائزا .

وقد ظن بعض من لم ينعم النظر أن إعادة " إياك " مع " نستعين " ، بعد تقدمها في قوله : "إياك نعبد " ، بمعنى قول عدي بن زيد العبادي :



وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا


وكقول أعشى همدان :



بين الأشج وبين قيس باذخ بخ بخ لوالده وللمولود


وذلك من قائله جهل ، من أجل أن حظ "إياك " أن تكون مكررة مع كل فعل ، لما وصفنا آنفا من العلة ، وليس ذلك حكم " بين " لأنها لا تكون - إذ اقتضت اثنين - إلا تكريرا إذا أعيدت ، إذ كانت لا تنفرد بالواحد . وأنها لو أفردت بأحد الاسمين ، في حال اقتضائها اثنين ، كان الكلام كالمستحيل . وذلك أن قائلا لو قال : "الشمس قد فصلت بين النهار " ، لكان من الكلام خلفا لنقصان الكلام عما به الحاجة إليه ، من تمامه الذي يقتضيه " بين " .

ولو قال قائل : " اللهم إياك نعبد " ، لكان ذلك كلاما تاما . فكان معلوما بذلك أن حاجة كل كلمة - كانت نظيرة " إياك نعبد " - إلى " إياك " كحاجة [ ص: 166 ] " نعبد " إليها وأن الصواب أن تكون معها " إياك " ، إذ كانت كل كلمة منها جملة خبر مبتدأ ، وبينا حكم مخالفة ذلك حكم " بين " فيما وفق بينهما الذي وصفنا قوله .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله ( اهدنا ) .

قال أبو جعفر : ومعنى قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، في هذا الموضع عندنا : وفقنا للثبات عليه ، كما روي ذلك عن ابن عباس : -

173 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد صلى الله عليه : " قل ، يا محمد ، اهدنا الصراط المستقيم " . يقول : ألهمنا الطريق الهادي .

وإلهامه إياه ذلك ، هو توفيقه له ، كالذي قلنا في تأويله . ومعناه نظير معنى قوله : " إياك نستعين " ، في أنه مسألة العبد ربه التوفيق للثبات على العمل بطاعته ، وإصابة الحق والصواب فيما أمره به ونهاه عنه ، فيما يستقبل من عمره ، دون ما قد مضى من أعماله ، وتقضى فيما سلف من عمره . كما في قوله : "إياك نستعين " ، مسألة منه ربه المعونة على أداء ما قد كلفه من طاعته ، فيما بقي من عمره .

فكان معنى الكلام : اللهم إياك نعبد وحدك لا شريك لك ، مخلصين لك العبادة دون ما سواك من الآلهة والأوثان ، فأعنا على عبادتك ، ووفقنا لما [ ص: 167 ] وفقت له من أنعمت عليه من أنبيائك وأهل طاعتك ، من السبيل والمنهاج .

فإن قال قائل : وأنى وجدت الهداية في كلام العرب بمعنى التوفيق ؟

قيل له : ذلك في كلامها أكثر وأظهر من أن يحصى عدد ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد . فمن ذلك قول الشاعر :



لا تحرمني ، هداك الله ، مسألتي ولا أكونن كمن أودى به السفر


يعني به : وفقك الله لقضاء حاجتي . ومنه قول الآخر :



ولا تعجلني هداك المليك فإن لكل مقام مقالا


فمعلوم أنه إنما أراد : وفقك الله لإصابة الحق في أمري .

ومنه قول الله جل ثناؤه : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) في غير آية من تنزيله . وقد علم بذلك ، أنه لم يعن أنه لا يبين للظالمين الواجب عليهم من فرائضه . وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه ، وقد عم بالبيان جميع المكلفين من خلقه ؟ ولكنه عنى جل وعز أنه لا يوفقهم ، ولا يشرح للحق والإيمان صدورهم .

وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله : ( اهدنا ) : زدنا هداية .

وليس يخلو هذا القول من أحد أمرين : إما أن يكون ظن قائله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمسألة الزيادة في البيان ، أو الزيادة في المعونة والتوفيق .

فإن كان ظن أنه أمر بمسألة ربه الزيادة في البيان ، فذلك ما لا وجه له; لأن الله جل ثناؤه لا يكلف عبدا فرضا من فرائضه ، إلا بعد تبيينه له وإقامة الحجة عليه به . ولو كان معنى ذلك معنى مسألته البيان ، لكان قد أمر أن يدعو ربه أن يبين له ما فرض عليه ، وذلك من الدعاء خلف ، لأنه لا يفرض فرضا إلا مبينا [ ص: 168 ] لمن فرضه عليه . أو يكون أمر أن يدعو ربه أن يفرض عليه الفرائض التي لم يفرضها .

وفي فساد وجه مسألة العبد ربه ذلك ، ما يوضح عن أن معنى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، غير معنى : بين لنا فرائضك وحدودك .

أو يكون ظن أنه أمر بمسألة ربه الزيادة في المعونة والتوفيق . فإن كان ذلك كذلك ، فلن تخلو مسألته تلك الزيادة من أن تكون مسألة للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله ، أو على ما يحدث .

وفي ارتفاع حاجة العبد إلى المعونة على ما قد تقضى من عمله ، ما يعلم أن معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألته الزيادة لما يحدث من عمله . وإذ كان ذلك كذلك ، صار الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك : من أنه مسألة العبد ربه التوفيق لأداء ما كلف من فرائضه ، فيما يستقبل من عمره .

وفي صحة ذلك ، فساد قول أهل القدر الزاعمين أن كل مأمور بأمر أو مكلف فرضا ، فقد أعطي من المعونة عليه ، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجته إلى ربه . لأنه لو كان الأمر على ما قالوا في ذلك ، لبطل معنى قول الله جل ثناؤه : ( إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم ) . وفي صحة معنى ذلك ، على ما بينا ، فساد قولهم .

وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) : أسلكنا طريق الجنة في المعاد ، أي قدمنا له وامض بنا إليه ، كما قال جل ثناؤه : ( فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) سورة الصافات : 23 ، أي أدخلوهم النار ، كما تهدى المرأة إلى زوجها ، يعني بذلك أنها تدخل إليه ، وكما تهدى الهدية إلى الرجل ، وكما تهدي الساق القدم ، نظير قول طرفة بن العبد : [ ص: 169 ]



لعبت بعدي السيول به وجرى في رونق رهمه




للفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه


أي ترد به الموارد .

وفي قول الله جل ثناؤه ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل ، مع شهادة الحجة من المفسرين على تخطئته . وذلك أن جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمعون على أن معنى " الصراط " في هذا الموضع ، غير المعنى الذي تأوله قائل هذا القول ، وأن قوله : " إياك نستعين " مسألة العبد ربه المعونة على عبادته . فكذلك قوله " اهدنا " إنما هو مسألة الثبات على الهدى فيما بقي من عمره .

والعرب تقول : هديت فلانا الطريق ، وهديته للطريق ، وهديته إلى الطريق ، إذا أرشدته إليه وسددته له . وبكل ذلك جاء القرآن ، قال الله جل ثناؤه : ( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ) سورة الأعراف : 43 ، وقال في موضع آخر : ( اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ) سورة النحل : 121 ، وقال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) .

وكل ذلك فاش في منطقها ، موجود في كلامها ، من ذلك قول الشاعر :



أستغفر الله ذنبا لست محصيه ، رب العباد ، إليه الوجه والعمل
[ ص: 170 ]

يريد : أستغفر الله لذنب ، كما قال جل ثناؤه : ( واستغفر لذنبك ) سورة غافر : 55 .

ومنه قول نابغة بني ذبيان :



فيصيدنا العير المدل بحضره قبل الونى والأشعب النباحا


يريد : فيصيد لنا . وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم ، وفيما ذكرنا منه كفاية .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله ( الصراط المستقيم ) .

قال أبو جعفر : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن "الصراط المستقيم " ، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه . وكذلك ذلك في لغة جميع العرب ، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي :



أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم


يريد على طريق الحق . ومنه قول الهذلي أبي ذؤيب :



صبحنا أرضهم بالخيل حتى تركناها أدق من الصراط
[ ص: 171 ]

ومنه قول الراجز :



فصد عن نهج الصراط القاصد


والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى ، وفيما ذكرنا غنى عما تركنا .

ثم تستعير العرب "الصراط " فتستعمله في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج ، فتصف المستقيم باستقامته ، والمعوج باعوجاجه .

والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي ، أعني : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، أن يكون معنيا به : وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك ، من قول وعمل ، وذلك هو الصراط المستقيم . لأن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء ، فقد وفق للإسلام ، وتصديق الرسل ، والتمسك بالكتاب ، والعمل بما أمر الله به ، والانزجار عما زجره عنه ، واتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . وكل عبد لله صالح ، وكل ذلك من الصراط المستقيم .

وقد اختلفت تراجمة القرآن في المعني بالصراط المستقيم . يشمل معاني جميعهم في ذلك ، ما اخترنا من التأويل فيه .

ومما قالته في ذلك ، ما روي عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال ، وذكر القرآن ، فقال : هو الصراط المستقيم .

174 - حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا حسين الجعفي ، عن حمزة الزيات ، عن أبي المختار الطائي ، عن ابن أخي الحارث ، عن الحارث ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 172 ]

175 - وحدثت عن إسماعيل بن أبي كريمة ، قال : حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن الحارث ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله . [ ص: 173 ]

176 - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا حمزة الزيات ، عن أبي المختار الطائي ، عن ابن أخي الحارث الأعور ، عن الحارث ، عن علي ، قال : " الصراط المستقيم : كتاب الله تعالى ذكره " .

177 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان - ح - وحدثنا محمد بن حميد الرازي ، قال . حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور عن أبي وائل ، قال : قال عبد الله : " الصراط المستقيم " كتاب الله " .

178 - حدثني محمود بن خداش الطالقاني ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ، قال : حدثنا علي والحسن ابنا صالح ، جميعا ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) قال : الإسلام ، قال : هو أوسع مما بين السماء والأرض . [ ص: 174 ]

179 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد : قل يا محمد : [ ص: 175 ] ( اهدنا الصراط المستقيم ) يقول : ألهمنا الطريق الهادي ، وهو دين الله الذي لا عوج له .

180 - حدثنا موسى بن سهل الرازي ، قال : حدثنا يحيى بن عوف ، عن الفرات بن السائب ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، في قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) قال : ذلك الإسلام .

181 - حدثني محمود بن خداش ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي ، عن إسماعيل الأزرق ، عن أبي عمر البزار ، عن ابن الحنفية ، في قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) قال : هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره .

182 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن طلحة القناد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( اهدنا الصراط المستقيم ) قال : هو الإسلام

183 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) قال : الطريق .

184 - حدثنا عبد الله بن كثير أبو صديف الآملي ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، قال : حدثنا حمزة بن المغيرة ، عن عاصم ، عن أبي العالية ، في قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، قال : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر . قال : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : صدق أبو العالية ونصح [ ص: 176 ]

185 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : " اهدنا الصراط المستقيم " ، قال : الإسلام .

186 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، أن عبد الرحمن بن جبير ، حدثه عن أبيه ، عن نواس بن سمعان الأنصاري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ضرب الله مثلا صراطا مستقيما " . والصراط : الإسلام .

187 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا الليث ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن نواس بن سمعان الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله . [ ص: 177 ]

قال أبو جعفر : وإنما وصفه الله بالاستقامة ، لأنه صواب لا خطأ فيه . وقد زعم بعض أهل الغباء ، أنه سماه مستقيما ، لاستقامته بأهله إلى الجنة . وذلك تأويل لتأويل جميع أهل التفسير خلاف ، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله : : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) .

وقوله ( صراط الذين أنعمت عليهم ) ، إبانة عن الصراط المستقيم ، أي الصراط هو ؟ إذ كان كل طريق من طرق الحق صراطا مستقيما . فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، بطاعتك وعبادتك ، من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين .

وذلك نظير ما قال ربنا جل ثناؤه في تنزيله : [ ص: 178 ] ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) سورة النساء : 66 - 69 .

قال أبو جعفر : فالذي أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أن يسألوا ربهم من الهداية للطريق المستقيم ، هي الهداية للطريق الذي وصف الله جل ثناؤه صفته . وذلك الطريق ، هو طريق الذين وصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله ، ووعد من سلكه فاستقام فيه طائعا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يورده مواردهم ، والله لا يخلف الميعاد .

وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس وغيره .

188 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " صراط الذين أنعمت عليهم " يقول : طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، الذين أطاعوك وعبدوك .

189 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر عن ربيع : " صراط الذين أنعمت عليهم " ، قال : النبيون .

190 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " أنعمت عليهم " قال : المؤمنين .

191 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : قال وكيع : " أنعمت عليهم " ، المسلمين . [ ص: 179 ]

192 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله " صراط الذين أنعمت عليهم " ، قال : النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه .

قال أبو جعفر : وفي هذه الآية دليل واضح على أن طاعة الله جل ثناؤه لا ينالها المطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم ، وتوفيقه إياهم لها . أو لا يسمعونه يقول : " صراط الذين أنعمت عليهم " ، فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم ؟

فإن قال قائل : وأين تمام هذا الخبر ؟ وقد علمت أن قول القائل لآخر : "أنعمت عليك " ، مقتض الخبر عما أنعم به عليه ، فأين ذلك الخبر في قوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " ؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم ؟

قيل له : قد قدمنا البيان - فيما مضى من كتابنا هذا - عن إجراء العرب في منطقها ببعض من بعض ، إذا كان البعض الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيا منه . فقوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " من ذلك . لأن أمر الله جل ثناؤه عباده بمسألته المعونة ، وطلبهم منه الهداية للصراط المستقيم ، لما كان متقدما قوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " ، الذي هو إبانة عن الصراط المستقيم وإبدال منه - كان معلوما أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمرنا بمسألته الهداية لطريقهم ، هو المنهاج القويم والصراط المستقيم ، الذي قد قدمنا البيان عن تأويله آنفا ، فكان ظاهر ما ظهر من ذلك - مع قرب تجاور الكلمتين - مغنيا عن تكراره .

كما قال نابغة بني ذبيان :



كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن
[ ص: 180 ]

يريد : كأنك من جمال بني أقيش ، جمل يقعقع خلف رجليه بشن ، فاكتفى بما ظهر من ذكر "الجمال " الدال على المحذوف ، من إظهار ما حذف . وكما قال الفرزدق بن غالب :



ترى أرباقهم متقلديها إذا صدئ الحديد على الكماة


يريد : متقلديها هم ، فحذف "هم " ، إذ كان الظاهر من قوله أرباقهم ، دالا عليها .

والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى . فكذلك ذلك في قوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
جزاك الله خير
وارجوا منك التأكد من الاحاديث قبل نشرها

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله : ( غير المغضوب عليهم ) .

قال أبو جعفر : والقرأة مجمعة على قراءة " غير " بجر الراء منها . والخفض يأتيها من وجهين :

أحدهما : أن يكون "غير " صفة ل "الذين " ونعتا لهم فتخفضها . إذ كان " الذين " خفضا ، وهي لهم نعت وصفة . وإنما جاز أن يكون " غير " نعتا ل " الذين " ، و " الذين " معرفة و "غير " نكرة ، لأن " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء [ ص: 181 ] التي هي أمارات بين الناس ، مثل : زيد وعمرو ، وما أشبه ذلك ; وإنما هي كالنكرات المجهولات ، مثل : الرجل والبعير ، وما أشبه ذلك . فلما كان " الذين " كذلك صفتها ، وكانت "غير " مضافة إلى مجهول من الأسماء ، نظير " الذين " ، في أنه معرفة غير موقتة ، كما " الذين " معرفة غير مؤقتة - جاز من أجل ذلك أن يكون "غير المغضوب عليهم " نعتا ل " الذين أنعمت عليهم " كما يقال : " لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل " ، يراد : لا أجلس إلا إلى من يعلم ، لا إلى من يجهل .

ولو كان " الذين أنعمت عليهم " معرفة موقتة . كان غير جائز أن يكون " غير المغضوب عليهم " لها نعتا . وذلك أنه خطأ في كلام العرب - إذا وصفت معرفة مؤقتة بنكرة - أن تلزم نعتها النكرة إعراب المعرفة المنعوت بها ، إلا على نية تكرير ما أعرب المنعوت بها . خطأ في كلامهم أن يقال : "مررت بعبد الله غير العالم " ، فتخفض " غير " ، إلا على نية تكرير الباء التي أعربت عبد الله . فكان معنى ذلك لو قيل كذلك : مررت بعبد الله ، مررت بغير العالم . فهذا أحد وجهي الخفض في : "غير المغضوب عليهم " .

والوجه الآخر من وجهي الخفض فيها : أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة المؤقتة . وإذا وجه إلى ذلك ، كانت "غير " مخفوضة بنية تكرير "الصراط " الذي خفض "الذين " عليها ، فكأنك قلت : صراط الذين أنعمت عليهم ، صراط غير المغضوب عليهم .

وهذان التأويلان في " غير المغضوب عليهم " ، وإن اختلفا باختلاف معربيهما ، فإنهما يتقارب معناهما . من أجل أن من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق ، فقد سلم من غضب ربه ونجا من الضلال في دينه .

فسواء - إذا كان سبب قوله : " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم " [ ص: 182 ] غير جائز أن يرتاب ، مع سماعه ذلك من تاليه ، في أن الذين أنعم الله عليهم بالهداية للصراط غير غاضب ربهم عليهم ، مع النعمة التي قد عظمت منته بها عليهم في دينهم; ولا أن يكونوا ضلالا وقد هداهم الحق ربهم . إذ كان مستحيلا في فطرهم اجتماع الرضى من الله جل ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة ، واجتماع الهدى والضلال له في وقت واحد - أوصف القوم; مع وصف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم ، وإنعامه عليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم ، بأنهم غير مغضوب عليهم ولا هم ضالون; أم لم يوصفوا بذلك . لأن الصفة الظاهرة التي وصفوا بها ، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك ، وإن لم يصرح وصفهم به .

هذا ، إذا وجهنا " غير " إلى أنها مخفوضة على نية تكرير "الصراط " الخافض "الذين " ، ولم نجعل " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " من صفة " الذين أنعمت عليهم " ، بل إذا حملناهم غيرهم . وإن كان الفريقان لا شك منعما عليهما في أديانهم .

فأما إذا وجهنا " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " إلى أنها من نعت ، " الذين أنعمت عليهم " . فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال ، إذ كان الصريح من معناه قد أغنى عن الدليل .

وقد يجوز نصب " غير " في " غير المغضوب عليهم " ، وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء . وإن ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرا مستفيضا ، فرأي للحق مخالف . وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المسلمين متجانف . وإن كان له - لو كان جائزا القراءة به - في الصواب مخرج . [ ص: 183 ]

وتأويل وجه صوابه إذا نصبت : أن يوجه إلى أن يكون صفة للهاء والميم اللتين في " عليهم " العائدة على " الذين " . لأنها وإن كانت مخفوضة ب " على " ، فهي في محل نصب بقوله : " أنعمت " . فكأن تأويل الكلام - إذا نصبت " غير " التي مع " المغضوب عليهم " - : صراط الذين هديتهم إنعاما منك عليهم ، غير مغضوب عليهم ، أي لا مغضوبا عليهم ولا ضالين . فيكون النصب في ذلك حينئذ ، كالنصب في " غير " في قولك : مررت بعبد الله غير الكريم ولا الرشيد ، فتقطع "غير الكريم " من "عبد الله " ، إذ كان "عبد الله " معرفة مؤقتة ، و "غير الكريم " نكرة مجهولة .

وقد كان بعض نحويي البصريين يزعم أن قراءة من نصب " غير " في "غير المغضوب عليهم " ، على وجه استثناء "غير المغضوب عليهم " من معاني صفة " الذين أنعمت عليهم " ، كأنه كان يرى أن معنى الذين قرأوا ذلك نصبا : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، إلا المغضوب عليهم - الذين لم تنعم عليهم في أديانهم ولم تهدهم للحق - فلا تجعلنا منهم . كما قال نابغة بني ذبيان :



وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا ، وما بالربع من أحد إلا أواري لأيا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
[ ص: 184 ]

والأواري معلوم أنها ليست من عداد "أحد " في شيء . فكذلك عنده ، استثنى " غير المغضوب عليهم " من " الذين أنعمت عليهم " ، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء .

وأما نحويو الكوفيين ، فأنكروا هذا التأويل واستخفوه ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة ، لكان خطأ أن يقال : " ولا الضالين " .

لأن " لا " نفي وجحد ، ولا يعطف بجحد إلا على جحد . وقالوا : لم نجد في شيء من كلام العرب استثناء يعطف عليه بجحد ، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء ، وبالجحد على الجحد ، فيقولون في الاستثناء : قام القوم إلا أخاك وإلا أباك .

وفي الجحد : ما قام أخوك ولا أبوك . وأما : قام القوم إلا أباك ولا أخاك . فلم نجده في كلام العرب . قالوا : فلما كان ذلك معدوما في كلام العرب ، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزوله ، علمنا - إذ كان قوله " ولا الضالين " معطوفا على قوله " غير المغضوب عليهم " - أن " غير " بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء ، وأن تأويل من وجهها إلى الاستثناء خطأ .

فهذه أوجه تأويل " غير المغضوب عليهم " ، باختلاف أوجه إعراب ذلك .

وإنما اعترضنا بما اعترضنا في ذلك من بيان وجوه إعرابه - وإن كان قصدنا في هذا الكتاب الكشف عن تأويل آي القرآن - لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله . فاضطرتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه ، لتنكشف لطالب تأويله وجوه تأويله ، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته .

والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا ، القول الأول ، وهو قراءة ( غير المغضوب عليهم ) بخفض الراء من " غير " . بتأويل أنها صفة ل "الذين أنعمت عليهم " ونعت لهم - لما قد قدمنا من البيان - إن شئت ، وإن شئت فبتأويل تكرار " صراط " . كل ذلك صواب حسن . [ ص: 185 ]

فإن قال لنا قائل : فمن هؤلاء المغضوب عليهم ، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم ؟

قيل : هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في تنزيله فقال : ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ) سورة المائدة : 60 . فأعلمنا جل ذكره ثمة ، ما أحل بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه . ثم علمنا ، منه منه علينا ، وجه السبيل إلى النجاة من أن يحل بنا مثل الذي حل بهم من المثلات ، ورأفة منه بنا .

فإن قيل : وما الدليل على أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت ؟ قيل :

193 - حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : المغضوب عليهم ، اليهود .

194 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، قال : سمعت عباد بن حبيش يحدث ، عن عدي بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المغضوب عليهم اليهود . [ ص: 186 ]

195 - حدثني علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مري بن قطري ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جل وعز "غير المغضوب عليهم " قال : هم اليهود .

196 - حدثنا حميد بن مسعدة السامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر وادي القرى ، فقال : من هؤلاء الذين تحاصر يا رسول الله ؟ قال : هؤلاء المغضوب عليهم ، اليهود

. [ ص: 187 ] 197 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن عروة ، عن عبد الله بن شقيق : أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .

198 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن بديل العقيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شقيق : أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي القرى ، وهو على فرسه ، وسأله رجل من بني القين فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ - قال : المغضوب عليهم . وأشار إلىاليهود .

199 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه

200 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " غير المغضوب عليهم " ، يعني اليهود الذين غضب الله عليهم . [ ص: 188 ]

201 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن طلحة ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " غير المغضوب عليهم " ، هم اليهود .

202 - حدثنا ابن حميد الرازي ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد ، قال : " غير المغضوب عليهم " ، قال : هم اليهود .

203 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : " غير المغضوب عليهم " ، قال : اليهود .

204 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " غير المغضوب عليهم " قال : اليهود .

205 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " غير المغضوب عليهم " ، اليهود .

206 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني ابن زيد ، عن أبيه ، قال : " المغضوب عليهم " ، اليهود .

قال أبو جعفر : واختلف في صفة الغضب من الله جل ذكره :

فقال بعضهم : غضب الله على من غضب عليه من خلقه ، إحلال عقوبته بمن غضب عليه ، إما في دنياه ، وإما في آخرته ، كما وصف به نفسه جل ذكره في كتابه فقال : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ) سورة الزخرف : 55 .

وكما قال : ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير ) [ ص: 189 ] سورة المائدة : 60 .

وقال بعضهم : غضب الله على من غضب عليه من عباده ، ذم منه لهم ولأفعالهم ، وشتم لهم منه بالقول .

وقال بعضهم : الغضب منه معنى مفهوم ، كالذي يعرف من معاني الغضب ، غير أنه - وإن كان كذلك من جهة الإثبات - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم .

لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات ، ولكنه له صفة ، كما العلم له صفة ، والقدرة له صفة ، على ما يعقل من جهة الإثبات ، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد ، التي هي معارف القلوب ، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولا الضالين ) .

قال أبو جعفر : كان بعض أهل البصرة يزعم أن " لا " مع " الضالين " أدخلت تتميما للكلام ، والمعنى إلغاؤها ، يستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج : [ ص: 190 ]



في بئر حور سرى وما شعر


ويتأوله بمعنى : في بئر حور سرى ، أي في بئر هلكة ، وأن " لا " بمعنى الإلغاء والصلة . ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم :



فما ألوم البيض أن لا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا


وهو يريد : فما ألوم البيض أن تسخر وبقول الأحوص :



ويلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل


يريد : ويلحينني في اللهو أن أحبه ، وبقوله تعالى : ( ما منعك ألا تسجد ) سورة الأعراف : 12 ، يريد أن تسجد . وحكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول " غير " التي " مع " المغضوب عليهم " ، أنها بمعنى " سوى . فكأن معنى الكلام كان عنده : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، الذين هم سوى المغضوب والضالين .

وكان بعض نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله ، ويزعم أن " غير " [ ص: 191 ] التي " مع المغضوب عليهم " ، لو كانت بمعنى سوى ، لكان خطأ أن يعطف عليها ب " لا " ، إذ كانت " لا " لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها . كما كان خطأ قول القائل : "عندي سوى أخيك ولا أبيك " ، لأن سوى ليست من حروف النفي والجحود . ويقول : لما كان ذلك خطأ في كلام العرب ، وكان القرآن بأفصح اللغات من لغات العرب ، كان معلوما أن الذي زعمه القائل : أن "غير " مع " المغضوب عليهم " بمعنى : سوى المغضوب عليهم ، خطأ . إذ كان قد كر عليه الكلام ب " لا " . وكان يزعم أن " غير " هنالك إنما هي بمعنى الجحد . إذ كان صحيحا في كلام العرب ، وفاشيا ظاهرا في منطقها توجيه " غير " إلى معنى النفي ومستعملا فيهم : "أخوك غير محسن ولا مجمل " ، يراد بذلك أخوك لا محسن ، ولا مجمل ، ويستنكر أن تأتي " لا " بمعنى الحذف في الكلام مبتدأ ، ولما يتقدمها جحد . ويقول : لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مبتدأ ، قبل دلالة تدل ذلك من جحد سابق ، لصح قول قائل قال : "أردت أن لا أكرم أخاك " ، بمعنى : أردت أن أكرم أخاك . وكان يقول : ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك ، دلالة واضحة على أن " لا " لا تأتي مبتدأة بمعنى الحذف ، ولما يتقدمها جحد . وكان يتأول في " لا " التي في بيت العجاج ، الذي ذكرنا أن البصري استشهد به ، بقوله : إنها جحد صحيح ، وأن معنى البيت : سرى في بئر لا تحير عليه خيرا ، ولا يتبين له فيها أثر عمل ، وهو لا يشعر بذلك ولا يدري به . من قولهم : "طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا " ، أي لم يتبين لها أثر عمل . ويقول في سائر الأبيات الأخر ، أعني مثل بيت أبي النجم : :



فما ألوم البيض أن لا تسخرا


إنما جاز أن تكون " لا " بمعنى الحذف ، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام ، فكان الكلام الآخر مواصلا للأول ، كما قال الشاعر : [ ص: 192 ]



ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر


فجاز ذلك ، إذ كان قد تقدم الجحد في أول الكلام .

قال أبو جعفر : وهذا القول الآخر أولى بالصواب من الأول ، إذ كان غير موجود في كلام العرب ابتداء الكلام من غير جحد تقدمه ب " لا " التي معناها الحذف ، ولا جائز العطف بها على " سوى " ، ولا على حرف الاستثناء . وإنما ل " غير " في كلام العرب معان ثلاثة : أحدها الاستثناء ، والآخر الجحد ، والثالث سوى . فإذا ثبت خطأ " لا " أن يكون بمعنى الإلغاء مبتدأ ، وفسد أن يكون عطفا على " غير " التي مع " المغضوب عليهم " ، لو كانت بمعنى " إلا " التي هي استثناء ، ولم يجز أيضا أن يكون عطفا عليها لو كانت بمعنى " سوى " ، وكانت " لا " موجودة عطفا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قبلها - صح وثبت أن لا وجه ل " غير " ، التي مع " المغضوب عليهم " ، يجوز توجيهها إليه على صحة إلا بمعنى الجحد والنفي ، وأن لا وجه لقوله : " ولا الضالين " ، إلا العطف على " غير المغضوب عليهم " .

فتأويل الكلام إذا - إذ كان صحيحا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا - اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، لا المغضوب عليهم ولا الضالين .

فإن قال لنا قائل : ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا الله بالاستعاذة بالله أن يسلك بنا سبيلهم ، أو نضل ضلالهم ؟

قيل : هم الذين وصفهم الله في تنزيله فقال : ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) [ ص: 193 ] سورة المائدة : 77 .

فإن قال : وما برهانك على أنهم أولاء ؟

قيل :

207 - حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن أبي حاتم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولا الضالين " قال : النصارى .

208 - حدثنا محمد بن المثنى ، أنبأنا محمد بن جعفر ، أنبأنا شعبة ، عن سماك ، قال : سمعت عباد بن حبيش يحدث ، عن عدي بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الضالين : النصارى " .

209 - حدثني علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مري بن قطري ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : " ولا الضالين " ، قال : النصارى هم الضالون .

210 - حدثنا حميد بن مسعدة السامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر وادي القرى قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الضالون : النصارى .

211 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن عروة ، يعني ابن عبد الله بن قيس ، عن عبد الله بن شقيق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه . [ ص: 194 ]

212 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن بديل العقيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شقيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ - قال : هؤلاء الضالون " ، يعني النصارى .

213 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو محاصر وادي القرى وهو على فرس : من هؤلاء ؟ قال : الضالون . يعني النصارى .

214 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد : " ولا الضالين " قال : النصارى .

215 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " ولا الضالين " قال : وغير طريق النصارى الذين أضلهم الله بفريتهم عليه . قال : يقول : فألهمنا دينك الحق ، وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود ، ولا تضلنا كما أضللت النصارى فتعذبنا بما تعذبهم به . يقول امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك .

216 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الضالين النصارى . [ ص: 195 ]

217 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " ولا الضالين " ، هم النصارى .

218 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : "ولا الضالين " ، النصارى .

219 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : "ولا الضالين " ، النصارى .

220 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه . قال : الضالين ، النصارى .

قال أبو جعفر : فكل حائد عن قصد السبيل ، وسالك غير المنهج القويم ، فضال عند العرب ، لإضلاله وجه الطريق . فلذلك سمى الله جل ذكره النصارى ضلالا لخطئهم في الحق منهج السبيل ، وأخذهم من الدين في غير الطريق المستقيم .

فإن قال قائل : أوليس ذلك أيضا من صفة اليهود ؟

قيل : بلى!

فإن قال : كيف خص النصارى بهذه الصفة ، وخص اليهود بما وصفهم به من أنهم مغضوب عليهم ؟

قيل : كلا الفريقين ضلال مغضوب عليهم ، غير أن الله جل ثناؤه وسم كل فريق منهم من صفته لعباده بما يعرفونه به ، إذا ذكره لهم أو أخبرهم عنه . ولم يسم واحدا من الفريقين إلا بما هو له صفة على حقيقته ، وإن كان له من صفات الذم زيادات عليه .

فيظن بعض أهل الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى [ ص: 196 ] بالضلال ، بقوله : " ولا الضالين " ، وإضافته الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه ، وتركه وصفهم بأنهم المضللون ، كالذي وصف به اليهود أنهم المغضوب عليهم - دلالة على صحة ما قاله إخوانه من جهلة القدرية ، جهلا منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه .

ولو كان الأمر على ما ظنه الغبي الذي وصفنا شأنه ، لوجب أن يكون شأن كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل ، لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره ، وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك لغيره سبب ، فالحق فيه أن يكون مضافا إلى مسببه ، ولو وجب ذلك ، لوجب أن يكون خطأ قول القائل : " تحركت الشجرة " ، إذ حركتها الرياح; و " اضطربت الأرض " ، إذ حركتها الزلزلة ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب .

وفي قول الله جل ثناؤه : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) سورة يونس : 22 - بإضافته الجري إلى الفلك ، وإن كان جريها بإجراء غيرها إياها - ما دل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله : " ولا الضالين " ، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالة إلى من نسبها إليه من النصارى ، تصحيحا لما ادعى المنكرون : أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سبب من أجله وجدت أفعالهم ، مع إبانة الله عز ذكره نصا في آي كثيرة من تنزيله ، أنه المضل الهادي ، فمن ذلك قوله جل ثناؤه : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) سورة الجاثية : 23 . فأنبأ جل ذكره أنه المضل الهادي دون غيره .

ولكن القرآن نزل بلسان العرب ، على ما قدمنا البيان عنه في أول الكتاب ، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وجد منه - وإن كان مسببه غير الذي وجد [ ص: 197 ] منه - أحيانا ، وأحيانا إلى مسببه ، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيره . فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبا ، ويوجده الله جل ثناؤه عينا منشأة ؟ بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسبه; كسبا له ، بالقوة منه عليه ، والاختيار منه له - وإلى الله جل ثناؤه ، بإيجاد عينه وإنشائها تدبيرا .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 198 ] ( مسألة يسأل عنها أهل الإلحاد الطاعنون في القرآن )

إن سألنا منهم سائل فقال : إنك قد قدمت في أول كتابك هذا في وصف البيان : بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة ، أبلغه في الإبانة عن حاجة المبين به عن نفسه ، وأبينه عن مراد قائله ، وأقربه من فهم سامعه . وقلت ، مع ذلك : إن أولى البيان بأن يكون كذلك ، كلام الله جل ثناؤه ، لفضله على سائر الكلام وبارتفاع درجته على أعلى درجات البيان ، فما الوجه - إذ كان الأمر على ما وصفت - في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات ؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان ، وذلك قوله : ( مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ) ، إذ كان لا شك أن من عرف : ملك يوم الدين ، فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى . وأن من كان لله مطيعا ، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه متبع ، وعن سبيل من غضب عليه وضل منعدل . فما في زيادة الآيات الخمس الباقية ، من الحكمة التي لم تحوها الآيتان اللتان ذكرنا ؟

قيل له : إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته - بما أنزل إليه من كتابه - معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله ، ولا لأمة من الأمم قبلهم . وذلك أن كل كتاب أنزله جل ذكره على نبي من أنبيائه قبله ، فإنما أنزل ببعض المعاني التي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . كالتوراة التي هي مواعظ وتفصيل ، والزبور الذي هو تحميد وتمجيد ، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير - لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق . والكتاب الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، يحوي معاني ذلك كله ، ويزيد عليه كثيرا من المعاني التي سائر الكتب غيره منها خال . [ ص: 199 ] وقد قدمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب .

ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله ، نظمه العجيب ورصفه الغريب وتأليفه البديع; الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء ، وكلت عن وصف شكل بعضه البلغاء ، وتحيرت في تأليفه الشعراء ، وتبلدت - قصورا عن أن تأتي بمثله - لديه أفهام الفهماء ، فلم يجدوا له إلا التسليم والإقرار بأنه من عند الواحد القهار . مع ما يحوي ، مع ذلك ، من المعاني التي هي ترغيب وترهيب ، وأمر وزجر ، وقصص وجدل ومثل ، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء .

فمهما يكن فيه من إطالة ، على نحو ما في أم القرآن ، فلما وصفت قبل من أن الله جل ذكره أراد أن يجمع - برصفه العجيب ونظمه الغريب ، المنعدل عن أوزان الأشعار ، وسجع الكهان وخطب الخطباء ورسائل البلغاء ، العاجز عن رصف مثله جميع الأنام ، وعن نظم نظيره كل العباد - الدلالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم; وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه ، تنبيه العباد على عظمته وسلطانه وقدرته وعظم مملكته ، ليذكروه بآلائه ، ويحمدوه على نعمائه ، فيستحقوا به منه المزيد ، ويستوجبوا عليه الثواب الجزيل; وبما فيه من نعت من أنعم عليه بمعرفته ، وتفضل عليه بتوفيقه لطاعته ، تعريف عباده أن كل ما بهم من نعمة ، في دينهم ودنياهم ، فمنه ، ليصرفوا رغبتهم إليه ، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دون ما سواه من الآلهة والأنداد ، وبما فيه من ذكره ما أحل بمن عصاه من مثلاته ، وأنزل بمن خالف أمره من عقوباته - ترهيب عباده عن ركوب [ ص: 200 ] معاصيه ، والتعرض لما لا قبل لهم به من سخطه ، فيسلك بهم في النكال والنقمات سبيل من ركب ذلك من الهلاك .

فذلك وجه إطالة البيان في سورة أم القرآن ، وفيما كان نظيرا لها من سائر سور الفرقان . وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة .

221 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبي السائب مولى زهرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قال العبد : "الحمد لله رب العالمين " ، قال الله : "حمدني عبدي " . وإذا قال : "الرحمن الرحيم " ، قال : "أثنى علي عبدي " . وإذا قال : "مالك يوم الدين " ، قال : "مجدني عبدي . فهذا لي " . وإذا قال : "إياك نعبد وإياك نستعين " إلى أن يختم السورة ، قال : "فذاك له .

222 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبدة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبي السائب ، عن أبي هريرة ، قال : إذا قال العبد : "الحمد لله " ، فذكر نحوه ، ولم يرفعه .

223 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا الوليد بن كثير ، قال : حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة ، عن أبي السائب ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .

224 - حدثني صالح بن مسمار المروزي ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، [ ص: 201 ] قال : حدثنا عنبسة بن سعيد ، عن مطرف بن طريف ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، وله ما سأل " . فإذا قال العبد : "الحمد لله رب العالمين " قال الله : "حمدني عبدي " ، وإذا قال : "الرحمن الرحيم " ، قال : "أثنى علي عبدي " ، وإذا قال : "مالك يوم الدين " قال : "مجدني عبدي " قال : "هذا لي ، وما بقي " . "آخر تفسير سورة فاتحة الكتاب " .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
تفسير سورة البقرة

[ ص: 202 ] [ ص: 203 ] [ ص: 204 ] [ ص: 205 ] بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن ( القول في تفسير السورة التي يذكر فيها البقرة )

القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( الم ) .

قال أبو جعفر : اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره "الم " فقال بعضهم : هو اسم من أسماء القرآن .

ذكر من قال ذلك :

225 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "الم " ، قال : اسم من أسماء القرآن .

226 - حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي ، قال : حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : "الم " ، اسم من أسماء القرآن .

227 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : "الم " ، اسم من أسماء القرآن .

وقال بعضهم : هو فواتح يفتح الله بها القرآن .

ذكر من قال ذلك :

228 - حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : "الم " ، فواتح يفتح الله بها القرآن . [ ص: 206 ]

229 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، قال : "الم " ، فواتح .

230 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : "الم " ، و "حم " ، و "المص " ، و "ص " ، فواتح افتتح الله بها .

231 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث هارون بن إدريس .

وقال آخرون : هو اسم للسورة .

ذكر من قال ذلك :

232 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا عبد الله بن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن قول الله : "الم ذلك الكتاب " و "الم تنزيل " ، و "المر تلك " ، فقال : قال أبي : إنما هي أسماء السور .

وقال بعضهم : هو اسم الله الأعظم .

ذكر من قال ذلك :

233 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سألت السدي عن "حم " و "طسم " و "الم " ، فقال : قال ابن عباس : هو اسم الله الأعظم .

234 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثني أبو النعمان ، قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل السدي ، عن مرة الهمداني ، قال : قال عبد الله فذكر نحوه .

235 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : فواتح السور من أسماء الله .

وقال بعضهم : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسمائه .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 207 ]

236 - حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله .

237 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : "الم " ، قسم . [ ص: 208 ]

وقال بعضهم : هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال ، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر .

ذكر من قال ذلك :

238 - حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع - وحدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي عن شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس : "الم " قال : أنا الله أعلم .

239 - حدثت عن أبي عبيد ، قال : حدثنا أبو اليقظان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : قوله : "الم " ، قال : أنا الله أعلم .

240 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد القناد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : "الم " قال : أما "الم " فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه .

241 - حدثنا محمد بن معمر ، قال : حدثنا عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : "الم " و "حم " و "ن " ، قال : اسم مقطع .

وقال بعضهم هي حروف هجاء موضوع .

ذكر من قال ذلك :

242 - حدثت عن منصور بن أبي نويرة ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدب ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : فواتح السور كلها "ق " و "ص " و "حم " و "طسم " و "الر " وغير ذلك ، هجاء موضوع .

وقال بعضهم : هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة .

ذكر من قال ذلك :

243 - حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، قال : حدثني أبي ، عن الربيع بن أنس ، في قول الله تعالى ذكره : "الم " ، قال : هذه الأحرف ، من التسعة والعشرين حرفا ، دارت فيها الألسن كلها . ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم . وقال عيسى ابن مريم : "وعجيب ينطقون في أسمائه ، ويعيشون في رزقه ، فكيف يكفرون ؟ " . قال : الألف : مفتاح اسمه : "الله " ، واللام : مفتاح اسمه : "لطيف " ، والميم : مفتاح اسمه : "مجيد " . والألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم : مجده . الألف سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون سنة .

244 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بنحوه .

وقال بعضهم : هي حروف من حساب الجمل - كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه ، إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله . وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس . [ ص: 209 ]

وقال بعضهم : لكل كتاب سر ، وسر القرآن فواتحه .

وأما أهل العربية ، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك . فقال بعضهم : هي حروف من حروف المعجم ، استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها ، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا; كما استغنى المخبر - عمن أخبر عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفا - بذكر "أ ب ت ث " ، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين : قال . ولذلك رفع ( ذلك الكتاب ) ، لأن معنى الكلام : الألف واللام والميم من الحروف المقطعة ، ذلك الكتاب الذي أنزلته إليك مجموعا لا ريب فيه .

فإن قال قائل : فإن "أ ب ت ث " ، قد صارت كالاسم في حروف الهجاء ، كما كان "الحمد " اسما لفاتحة الكتاب .

قيل له : لما كان جائزا أن يقول القائل : ابني في "ط ظ " ، وكان معلوما بقيله ذلك لو قاله أنه يريد الخبر عن ابنه أنه في الحروف المقطعة - علم بذلك أن "أ ب ت ث " ليس لها باسم ، وإن كان ذلك آثر في الذكر من سائرها . قال : وإنما خولف بين ذكر حروف المعجم في فواتح السور ، فذكرت في أوائلها مختلفة ، وذكرها إذا ذكرت بأوائلها التي هي "أ ب ت ث " ، مؤتلفة ، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد - بذكر ما ذكر منها مختلفا - الدلالة على الكلام المتصل; وإذا أريد - بذكر ما ذكر منها مؤتلفا - الدلالة على الحروف المقطعة بأعيانها . واستشهدوا - لإجازة قول القائل : ابني في "ط ظ " وما أشبه ذلك ، من الخبر عنه أنه في حروف المعجم ، وأن ذلك من قيله في البيان يقوم مقام قوله : ابني في "أ ب ت ث " - برجز بعض الرجاز من بني أسد :



لما رأيت أمرها في حطي وفنكت في كذب ولط أخذت منها بقرون [ ص: 210 ] شمط
فلم يزل صوبي بها ومعطي


حتى علا الرأس دم يغطي


فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في "أبي جاد " ، فأقام قوله : "لما رأيت أمرها في حطي " مقام خبره عنها أنها في "أبي جاد " ، إذ كان ذاك من قوله ، يدل سامعه على ما يدله عليه قوله : لما رأيت أمرها في "أبي جاد " .

وقال آخرون : بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين - إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن - حتى إذا استمعوا له ، تلي عليهم المؤلف منه .

وقال بعضهم : الحروف التي هي فواتح السور حروف يستفتح الله بها كلامه .

فإن قيل : هل يكون من القرآن ما ليس له معنى ؟

قيل : معنى هذا أنه افتتح بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت ، وأنه قد أخذ في أخرى ، فجعل هذا علامة انقطاع ما بينهما ، وذلك في كلام العرب ، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول :



بل وبلدة ما الإنس من آهالها


ويقول :



لا بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا


و "بل " ليست من البيت ولا تعد في وزنه ، ولكن يقطع بها كلاما ويستأنف الآخر . [ ص: 211 ]

قال أبو جعفر : ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك ، وجه معروف .

فأما الذين قالوا : "الم " ، اسم من أسماء القرآن ، فلقولهم ذلك وجهان :

أحدهما : أن يكونوا أرادوا أن "الم " اسم للقرآن ، كما الفرقان اسم له . وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك ، كان تأويل قوله ( الم ذلك الكتاب ) ، على معنى القسم . كأنه قال : والقرآن ، هذا الكتاب لا ريب فيه .

والآخر منهما : أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التي تعرف به ، كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها ، فيفهم السامع من القائل يقول : - قرأت اليوم "المص " و "ن " - ، أي السور التي قرأها من سور القرآن ، كما يفهم عنه - إذا قال : لقيت اليوم عمرا وزيدا ، وهما بزيد وعمرو عارفان - من الذي لقي من الناس .

وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ، ونظائر "الم " "الر " في القرآن جماعة من السور ؟ وإنما تكون الأسماء أمارات إذا كانت مميزة بين الأشخاص ، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات .

قيل : إن الأسماء - وإن كانت قد صارت ، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها ، غير مميزة إلا بمعان أخر معها من ضم نسبة المسمى بها إليها أو نعته أو صفته ، بما يفرق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وضعت ابتداء للتمييز لا شك . ثم احتيج ، عند الاشتراك ، إلى المعاني المفرقة بين المسميين بها . فكذلك ذلك في أسماء السور . جعل كل اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارة للمسمى به من السور . فلما شارك المسمى به فيه غيره من سور القرآن ، احتاج المخبر عن [ ص: 212 ] سورة منها أن يضم إلى اسمها المسمى به من ذلك ، ما يفرق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها ، من نعت وصفة أو غير ذلك . فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة ، إذا سماها باسمها الذي هو "الم " : قرأت "الم البقرة " ، وفي آل عمران : قرأت "الم آل عمران " ، و "الم ذلك الكتاب " ، و "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " . كما لو أراد الخبر عن رجلين ، اسم كل واحد منهما "عمرو " ، غير أن أحدهما تميمي والآخر أزدي ، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما : لقيت عمرا التميمي وعمرا الأزدي ، إذ كان لا يفرق بينهما وبين غيرهما ممن يشاركهما في أسمائهما ، إلا بنسبتهما كذلك . فكذلك ذلك في قول من تأول في الحروف المقطعة أنها أسماء للسور .

وأما الذين قالوا : ذلك فواتح يفتتح الله عز وجل بها كلامه ، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمن حكينا عنه من أهل العربية ، أنه قال : ذلك أدلة على انقضاء سورة وابتداء في أخرى ، وعلامة لانقطاع ما بينهما ، كما جعلت "بل " في ابتداء قصيدة دلالة على ابتداء فيها ، وانقضاء أخرى قبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء في إنشاد قصيدة ، قالوا :



بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا


و "بل " ليست من البيت ولا داخلة في وزنه ، ولكن ليدل به على قطع كلام وابتداء آخر .

وأما الذين قالوا : ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء الله عز وجل ، وبعضها من صفاته ، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الحرف الآخر ، فإنهم نحوا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر :



قلنا لها قفي لنا قالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
[ ص: 213 ]

يعني بقوله : "قالت قاف " ، قالت : قد وقفت . فدلت بإظهار القاف من "وقفت " ، على مرادها من تمام الكلمة التي هي "وقفت" . فصرفوا قوله : "الم " وما أشبه ذلك ، إلى نحو هذا المعنى . فقال بعضهم : الألف ألف "أنا " ، واللام لام "الله " ، والميم ميم "أعلم " ، وكل حرف منها دال على كلمة تامة . قالوا : فجملة هذه الحروف المقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تمام حروف الكلمة ، "أنا " الله أعلم " . قالوا : وكذلك سائر جميع ما في أوائل سور القرآن من ذلك ، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل . قالوا : ومستفيض ظاهر في كلام العرب أن ينقص المتكلم منهم من الكلمة الأحرف ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيد فيها ما ليس منها ، إذا لم تكن الزيادة ملبسة معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من "حارث " الثاء ، فيقولون : يا حار ، ومن "مالك " الكاف ، فيقولون : يا مال ، وأما أشبه ذلك ، وكقول راجزهم :



ما للظليم عال ؟ كيف لا يا ينقد عنه جلده إذا يا


كأنه أراد أن يقول : إذا يفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من "يفعل " ، وكما قال آخر منهم :



بالخير خيرات وإن شرا فا


يريد : فشرا .



ولا أريد الشر إلا أن تا


.

يريد : إلا أن تشاء ، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جميعا ، من سائر حروفهما ، وما أشبه ذلك من الشواهد التي يطول الكتاب باستيعابه . [ ص: 214 ]

245 - وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، وابن عون ، عن محمد ، قال : لما مات يزيد بن معاوية قال لي عبدة : إني لا أراها إلا كائنة فتنة ، فافزع من ضيعتك والحق بأهلك . قلت : فما تأمرني ؟ قال : أحب إلي لك أن تا - قال أيوب وابن عون بيده تحت خده الأيمن ، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تعرفه .

قال أبو جعفر : يعني ب "تا " تضطجع ، فاجتزأ بالتاء من تضطجع . وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت :



أقول إذ خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجال


يريد : الكلكل ، وكما قال الآخر :



إن شكلي وإن شكلك شتى فالزمي الخص واخفضي تبيضضي


.

فزاد ضادا ، وليست في الكلمة .

قالوا : فكذلك ما نقص من تمام حروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذكرنا أنها تتمة حروف "الم " ونظائرها - نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب في أشعارها وكلامها .

وأما الذين قالوا : كل حرف من "الم " ونظائرها ، دال على معان شتى - [ ص: 215 ] نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وجهوا ذلك إلى مثل الذي وجهه إليه من قال : هو بتأويل "أنا الله أعلم " ، في أن كل حرف منه بعض حروف كلمة تامة ، استغني بدلالته على تمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مخالفين في كل حرف من ذلك : أهو من الكلمة التي ادعى أنه منها قائلو القول الأول ، أم من غيرها ؟ فقالوا : بل الألف من "الم " من كلمات شتى ، هي دالة على معاني جميع ذلك وعلى تمامه . قالوا : وإنما أفرد كل حرف من ذلك ، وقصر به عن تمام حروف الكلمة ، أن جميع حروف الكلمة لو أظهرت ، لم تدل الكلمة التي تظهر - التي بعض هذه الحروف المقطعة بعض لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما . قالوا : وإذ كان لا دلالة في ذلك ، لو أظهر جميعها ، إلا على معناها الذي هو معنى واحد ، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يجز إلا أن يفرد الحرف الدال على تلك المعاني ، ليعلم المخاطبون به أن الله عز وجل لم يقصد قصد معنى واحد ودلالة على شيء واحد بما خاطبهم به ، وأنه إنما قصد الدلالة به على أشياء كثيرة . قالوا : فالألف من "الم " مقتضية معاني كثيرة ، منها تمام اسم الرب الذي هو "الله " ، وتمام اسم نعماء الله التي هي آلاء الله ، والدلالة على أجل قوم أنه سنة ، إذا كانت الألف في حساب الجمل واحدا . واللام مقتضية تمام اسم الله الذي هو لطيف ، وتمام اسم فضله الذي هو لطف ، والدلالة على أجل قوم أنه ثلاثون سنة . والميم مقتضية تمام اسم الله الذي هو مجيد ، وتمام اسم عظمته التي هي مجد ، والدلالة على أجل قوم أنه أربعون سنة . فكان معنى الكلام - في تأويل قائل القول الأول - أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوصف نفسه بأنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء ، وجعل ذلك لعباده منهجا يسلكونه في مفتتح خطبهم ورسائلهم ومهم أمورهم ، وابتلاء منه لهم ليستوجبوا به عظيم الثواب في دار الجزاء ، .

كما افتتح ب ( الحمد لله رب العالمين ) ، و ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) ، سورة الأنعام : 1 [ ص: 216 ] وما أشبه ذلك من السور التي جعل مفاتحها الحمد لنفسه ، وكما جعل مفاتح بعضها تعظيم نفسه وإجلالها بالتسبيح ، كما قال جل ثناؤه : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) سورة الإسراء : 1 ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن ، التي جعل مفاتح بعضها تحميد نفسه ، ومفاتح بعضها تمجيدها ، ومفاتح بعضها تعظيمها وتنزيهها . فكذلك جعل مفاتح السور الأخر التي أوائلها بعض حروف المعجم ، مدائح نفسه ، أحيانا بالعلم ، وأحيانا بالعدل والإنصاف ، وأحيانا بالإفضال والإحسان ، بإيجاز واختصار ، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك .

وعلى هذا التأويل يجب أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع ، مرفوعا بعضها ببعض ، دون قوله ( ذلك الكتاب ) ، ويكون "ذلك الكتاب " خبرا مبتدأ منقطعا عن معنى "الم " . وكذلك "ذلك " في تأويل قول قائل هذا القول الثاني ، مرفوع بعضه ببعض ، وإن كان مخالفا معناه معنى قول قائل القول الأول .

وأما الذين قالوا : هن حروف من حروف حساب الجمل دون ما خالف ذلك من المعاني ، فإنهم قالوا : لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل ، وسوى تهجي قول القائل : "الم " . وقالوا : غير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عباده إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه . فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله "الم " لا يعقل لها وجه توجه إليه ، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا ، فبطل أحد وجهيه ، وهو أن يكون مرادا بها تهجي "الم " - صح وثبت أنه مراد به الوجه الثاني ، وهو حساب الجمل; لأن قول القائل : "الم " لا يجوز أن يليه من الكلام "ذلك الكتاب " ، لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول ، إن ولي "الم " "ذلك الكتاب " .

واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما : -

246 - حدثنا به محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، قال : مر [ ص: 217 ] أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) ، فأتى أخاه حيي بن أخطب من يهود فقال : تعلمون والله ، لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه ( الم ذلك الكتاب ) فقالوا : أنت سمعته ؟ قال : نعم! قال : فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك "الم ذلك الكتاب " ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى! فقالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ قال : نعم! قالوا : لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء ، ما نعلمه بين لنبي منهم ، ما مدة ملكه وما أكل أمته غيرك! فقال : حيي بن أخطب ، وأقبل على من كان معه فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة . أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ قال : ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيره ؟ قال : نعم ! قال : ماذا ؟ قال : ( المص ) . قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة وإحدى وستون سنة . هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : نعم ! قال : ماذا ؟ قال : ( الر ) . قال : هذه [ ص: 218 ] [ ص: 219 ] والله أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة ، فقال : هل مع هذا غيره يا محمد ؟ قال : نعم ، ( المر ) ، قال : فهذه والله أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة . ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ؟ ثم قاموا عنه . فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ، ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد ، إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، ومائتان وإحدى وثلاثون ، ومائتان وإحدى وسبعون ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا : لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) . [ ص: 220 ]

قالوا : فقد صرح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل ، وفساد ما قاله مخالفونا فيه .

والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور ، التي هي حروف المعجم : أن الله جل ثناؤه جعلها حروفا مقطعة ولم يصل بعضها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة ، لا على معنى واحد ، كما قال الربيع بن أنس . وإن كان الربيع قد اقتصر به على معان ثلاثة ، دون ما زاد عليها .

والصواب في تأويل ذلك عندي : أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع ، وما قاله سائر المفسرين غيره فيه - سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربية : أنه كان يوجه تأويل ذلك إلى أنه حروف هجاء ، استغني [ ص: 221 ] بذكر ما ذكر منه في مفاتيح السور ، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفا من حروف المعجم ، بتأويل : أن هذه الحروف ، ذلك الكتاب ، مجموعة ، لا ريب فيه - فإنه قول خطأ فاسد ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين من أهل التفسير والتأويل . فكفى دلالة على خطئه ، شهادة الحجة عليه بالخطأ ، مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع " ذلك الكتاب " - بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ، ومرة أخرى أنه مرفوع بالراجع من ذكره في قوله " لا ريب فيه " ومرة بقوله " هدى للمتقين " . وذلك ترك منه لقوله : إن "الم " رافعة " ذلك الكتاب " ، وخروج من القول الذي ادعاه في تأويل " الم ذلك الكتاب " ، وأن تأويل ذلك : هذه الحروف ذلك الكتاب .

فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملا الدلالة على معان كثيرة مختلفة ؟

قيل : كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معان كثيرة مختلفة ، كقولهم للجماعة من الناس : أمة ، وللحين من الزمان : أمة ، وللرجل المتعبد المطيع لله : أمة ، وللدين والملة : أمة . وكقولهم للجزاء والقصاص : دين ، وللسلطان والطاعة : دين ، وللتذلل : دين ، وللحساب : دين ، في أشباه لذلك كثيرة يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد ، وهو مشتمل على معان كثيرة . وكذلك قول الله جل ثناؤه : "الم " و "الر " ، و "المص " وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور ، كل حرف منها دال على معان شتى ، شامل جميعها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسرون من الأقوال التي ذكرناها عنهم . وهن ، مع ذلك ، فواتح السور ، كما قاله من قال ذلك . [ ص: 222 ] وليس كون ذلك من حروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته ، بمانعها أن تكون للسور فواتح . لأن الله جل ثناؤه قد افتتح كثيرا من سور القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها ، وكثيرا منها بتمجيدها وتعظيمها ، فغير مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها .

فالتي ابتدئ أوائلها بحروف المعجم ، أحد معاني أوائلها : أنهن فواتح ما افتتح بهن من سور القرآن . وهن مما أقسم بهن ، لأن أحد معانيهن أنهن من حروف أسماء الله تعالى ذكره وصفاته ، على ما قدمنا البيان عنها ، ولا شك في صحة معنى القسم بالله وأسمائه وصفاته . وهن من حروف حساب الجمل . وهن للسور التي افتتحت بهن شعار وأسماء . فذلك يحوى معاني جميع ما وصفنا ، مما بينا ، من وجوهه . لأن الله جل ثناؤه لو أراد بذلك ، أو بشيء منه ، الدلالة على معنى واحد مما يحتمله ذلك ، دون سائر المعاني غيره ، لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبانة غير مشكلة . إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما اختلفوا فيه . وفي تركه صلى الله عليه وسلم إبانة ذلك - أنه مراد به من وجوه تأويله البعض دون البعض - أوضح الدليل على أنه مراد به جميع وجوهه التي هو لها محتمل . إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجه منها أن يكون من تأويله ومعناه ، كما كان غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة ، باللفظ الواحد ، في كلام واحد .

ومن أبى ما قلناه في ذلك ، سئل الفرق بين ذلك ، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد ، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة ، كالأمة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال . فلن يقول في أحد من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

وكذلك يسأل كل من تأول شيئا من ذلك - على وجه دون الأوجه الأخر [ ص: 223 ] التي وصفنا - عن البرهان على دعواه ، من الوجه الذي يجب التسليم له . ثم يعارض بقول مخالفه في ذلك ، ويسأل الفرق بينه وبينه : من أصل ، أو مما يدل عليه أصل . فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

وأما الذي زعم من النحويين : أن ذلك نظير "بل " في قول المنشد شعرا :



بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا


وأنه لا معنى له ، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطرح - فإنه أخطأ من وجوه شتى

أحدها : أنه وصف الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها ، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين . إذ كانت العرب - وإن كانت قد كانت تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر ب "بل " - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئ شيئا من الكلام ب "الم " و "الر " و "المص " ، بمعنى ابتدائها ذلك ب "بل " . وإذ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن ، بما يعرفون من لغاتهم ، ويستعملون بينهم من منطقهم ، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم ، التي افتتحت بها أوائل السور ، التي هن لها فواتح ، سبيل سائر القرآن ، في أنه لم يعدل بها عن لغاتهم التي كانوا بها عارفين ، ولها بينهم في منطقهم مستعملين . لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتهم ومنطقهم ، كان خارجا عن معنى الإبانة التي وصف الله عز وجل بها القرآن ، فقال تعالى ذكره : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) . وأنى يكون مبينا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين ، في قول قائل هذه المقالة ، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين ، في قوله ؟ وفي إخبار الله جل ثناؤه عنه أنه عربي مبين ، ما يكذب هذه المقالة ، وينبئ عنه أن العرب كانوا به [ ص: 224 ] عالمين ، وهو لها مستبين . فذلك أحد أوجه خطئه .

والوجه الثاني من خطئه في ذلك : إضافته إلى الله جل ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له ، من الكلام الذي سواء الخطاب فيه به وترك الخطاب به . وذلك إضافة العبث الذي هو منفي في قول جميع الموحدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره .

والوجه الثالث من خطئه : أن "بل " في كلام العرب مفهوم تأويلها ومعناها ، وأنها تدخلها في كلامها رجوعا عن كلام لها قد تقضى كقولهم : ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيت عمرا بل عبد الله ، وما أشبه ذلك من الكلام ، كما قال أعشى بني ثعلبة :



ولأشربن ثمانيا وثمانيا وثلاث عشرة واثنتين وأربعا


ومضى في كلمته حتى بلغ قوله :



بالجلسان ، وطيب أردانه بالون يضرب لي يكر الإصبعا


ثم قال :



بل عد هذا في قريض غيره واذكر فتى سمح الخليقة أروعا


فكأنه قال : دع هذا وخذ في قريض غيره . ف "بل " إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام ، فأما افتتاحا لكلامها مبتدأ بمعنى التطول والحذف ، من غير أن يدل على معنى ، فذلك مما لا نعلم أحدا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها ، سوى الذي ذكرت قوله ، فيكون ذلك أصلا يشبه به حروف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها - لو كانت له مشبهة - فكيف وهي من الشبه به بعيدة ؟

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 225 ]

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ذلك الكتاب ) .

قال عامة المفسرين : تأويل قول الله تعالى ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب .

ذكر من قال ذلك :

247 - حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : "ذلك الكتاب " قال : هو هذا الكتاب .

248 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : "ذلك الكتاب " : هذا الكتاب .

249 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، في قوله "ذلك الكتاب " قال : هذا الكتاب .

250 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود . قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : "ذلك الكتاب " : هذا الكتاب . قال : قال ابن عباس : "ذلك الكتاب " : هذا الكتاب .

فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون "ذلك " بمعنى "هذا " ؟ و "هذا " لا شك إشارة إلى حاضر معاين ، و "ذلك " إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين ؟ [ ص: 226 ]

قيل : جاز ذلك ، لأن كل ما تقضى ، بقرب تقضيه من الإخبار ، فهو - وإن صار بمعنى غير الحاضر - فكالحاضر عند المخاطب . وذلك كالرجل يحدث الرجل الحديث فيقول السامع : "إن ذلك والله لكما قلت " ، و "هذا والله كما قلت " ، و "هو والله كما ذكرت " ، فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب ، إذ كان قد تقضى ومضى ، ومرة بمعنى الحاضر ، لقرب جوابه من كلام مخبره ، كأنه غير منقض . فكذلك "ذلك " في قوله ( ذلك الكتاب ) لأنه جل ذكره لما قدم قبل " ذلك الكتاب " "الم" ، التي ذكرنا تصرفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا ، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، هذا الذي ذكرته وبينته لك ، الكتاب . ولذلك حسن وضع "ذلك " في مكان "هذا " ، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله "الم" من المعاني ، بعد تقضي الخبر عنه ب "الم" ، فصار لقرب الخبر عنه من تقضيه ، كالحاضر المشار إليه ، فأخبر به ب "ذلك " لانقضائه ، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب ، وترجمه المفسرون : أنه بمعنى "هذا " ، لقرب الخبر عنه من انقضائه ، فكان كالمشاهد المشار إليه ب "هذا " ، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم ، وكما قال جل ذكره : ( واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر ) سورة ص : 48 ، 49 فهذا ما في "ذلك " إذا عنى بها "هذا " .

وقد يحتمل قوله جل ذكره ( ذلك الكتاب ) أن يكون معنيا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة ، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك ، هو الكتاب الذي لا ريب فيه . ثم ترجمه المفسرون بأن معنى "ذلك " "هذا الكتاب " ، [ ص: 227 ] إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة ، من جملة جميع كتابنا هذا ، الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون ، لأن ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في "ذلك " .

وقد وجه معنى "ذلك " بعضهم ، إلى نظير معنى بيت خفاف بن ندبة السلمي :



فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عين تيممت مالكا


أقول له ، والرمح يأطر متنه : تأمل خفافا ، إنني أنا ذلكا


كأنه أراد : تأملني أنا ذلك . فزعم أن "ذلك الكتاب " بمعنى "هذا " ، نظيره . أظهر خفاف من اسمه على وجه الخبر عن الغائب ، وهو مخبر عن نفسه . فكذلك أظهر "ذلك " بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهد .

والقول الأول أولى بتأويل الكتاب ، لما ذكرنا من العلل .

وقد قال بعضهم : ( ذلك الكتاب ) ، يعني به التوراة والإنجيل ، وإذا وجه [ ص: 228 ] تأويل "ذلك " إلى هذا الوجه ، فلا مؤونة فيه على متأوله كذلك ، لأن "ذلك " يكون حينئذ إخبارا عن غائب على صحة .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله : ( لا ريب فيه ) .

وتأويل قوله : " لا ريب فيه " " لا شك فيه " . كما : -

251 - حدثني هارون بن إدريس الأصم ، قال : حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جريج ، عن مجاهد : لا ريب فيه ، قال : لا شك فيه .

252 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا خلف بن ياسين الكوفي ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن عطاء ، " لا ريب فيه " : قال : لا شك فيه .

253 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، قال : " لا ريب فيه " ، لا شك فيه .

254 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ريب فيه " ، لا شك فيه .

255 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، [ ص: 229 ] عن ابن عباس : " لا ريب فيه " ، قال : لا شك فيه .

256 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " لا ريب فيه " ، يقول : لا شك فيه .

257 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " لا ريب فيه " ، يقول : لا شك فيه .

258 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : قوله " لا ريب فيه " ، يقول : لا شك فيه .

وهو مصدر من قول القائل : رابني الشيء يريبني ريبا . ومن ذلك قول ساعدة بن جؤية الهذلي :



فقالوا : تركنا الحي قد حصروا به ، فلا ريب أن قد كان ثم لحيم


ويروى : "حصروا " و "حصروا " والفتح أكثر ، والكسر جائز . يعني بقوله "حصروا به " : أطافوا به . ويعني بقوله " لا ريب " . لا شك فيه . وبقوله "أن قد كان ثم لحيم " ، يعني قتيلا يقال : قد لحم ، إذا قتل .

والهاء التي في "فيه " عائدة على الكتاب ، كأنه قال : لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هدى للمتقين .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( هدى )

259 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا [ ص: 230 ] سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي ، "هدى " قال : هدى من الضلالة .

260 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، "هدى للمتقين " ، يقول : نور للمتقين .

والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك : هديت فلانا الطريق - إذا أرشدته إليه ، ودللته عليه ، وبينته له - أهديه هدى وهداية .

فإن قال لنا قائل : أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين ، ولا رشادا إلا للمؤمنين ؟ قيل : ذلك كما وصفه ربنا عز وجل . ولو كان نورا لغير المتقين ، ورشادا لغير المؤمنين ، لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى ، بل كان يعم به جميع المنذرين . ولكنه هدى للمتقين ، وشفاء لما في صدور المؤمنين ، ووقر في آذان المكذبين ، وعمى لأبصار الجاحدين ، وحجة لله بالغة على الكافرين . فالمؤمن به مهتد ، والكافر به محجوج .

وقوله "هدى " يحتمل أوجها من المعاني :

أحدها : أن يكون نصبا ، لمعنى القطع من الكتاب ، لأنه نكرة والكتاب معرفة . فيكون التأويل حينئذ : الم ذلك الكتاب هاديا للمتقين . و"ذلك " مرفوع ب "الم " ، و " الم " به ، والكتاب نعت ل "ذلك " .

وقد يحتمل أن يكون نصبا ، على القطع من راجع ذكر الكتاب الذي في [ ص: 231 ] "فيه " ، فيكون معنى ذلك حينئذ : الم الذي لا ريب فيه هاديا .

وقد يحتمل أن يكون أيضا نصبا على هذين الوجهين ، أعني على وجه القطع من الهاء التي في "فيه " ، ومن "الكتاب " ، على أن "الم " كلام تام ، كما قال ابن عباس إن معناه : أنا الله أعلم . ثم يكون " ذلك الكتاب " خبرا مستأنفا ، فيرفع حينئذ "الكتاب " ب "ذلك " ، و "ذلك " ب "الكتاب " ، ويكون "هدى " قطعا من "الكتاب " ، وعلى أن يرفع "ذلك " بالهاء العائدة عليه التي في "فيه " ، و "الكتاب " نعت له; والهدى قطع من الهاء التي في " فيه " . وإن جعل الهدى في موضع رفع ، لم يجز أن يكون "ذلك الكتاب " إلا خبرا مستأنفا ، و "الم " كلاما تاما مكتفيا بنفسه ، إلا من وجه واحد ، وهو أن يرفع حينئذ "هدى " بمعنى المدح ، كما قال الله جل وعز : ( الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ) سورة لقمان : 1 - 3 في قراءة من قرأ "رحمة " . بالرفع ، على المدح للآيات .

والرفع في "هدى " حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه : أحدها ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف . والآخر : على أن يجعل مرافع " ذلك " ، و "الكتاب " نعت "لذلك " . والثالث : أن يجعل تابعا لموضع " لا ريب فيه " ، ويكون " ذلك الكتاب " مرفوعا بالعائد في "فيه " . فيكون كما قال تعالى ذكره : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) سورة الأنعام : 92 .

وقد زعم بعض المتقدمين في العلم بالعربية من الكوفيين ، أن "الم " مرافع " ذلك الكتاب " بمعنى : هذه الحروف من حروف المعجم ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضه ، وهدم ما بنى فأسرع هدمه ، فزعم أن الرفع في "هدى " من وجهين ، والنصب من وجهين . وأن أحد وجهي الرفع : أن يكون "الكتاب " نعتا ل "ذلك " و "الهدى " في موضع رفع خبر ل "ذلك " . [ ص: 232 ] كأنك قلت : ذلك هدى لا شك فيه . قال : وإن جعلت " لا ريب فيه " خبره ، رفعت أيضا "هدى " ، بجعله تابعا لموضع " لا ريب فيه " ، كما قال الله جل ثناؤه : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) ، كأنه قال : وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا . قال : وأما أحد وجهي النصب فأن تجعل الكتاب خبرا ل "ذلك " ، وتنصب "هدى " على القطع ، لأن "هدى " نكرة اتصلت بمعرفة ، وقد تم خبرها فنصبتها لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة . وإن شئت نصبت "هدى " على القطع من الهاء التي في "فيه " كأنك قلت : لا شك فيه هاديا .

قال أبو جعفر : فترك الأصل الذي أصله في "الم " وأنها مرفوعة ب " ذلك الكتاب " ، ونبذه وراء ظهره . واللازم كان له على الأصل الذي أصله ، أن لا يجيز الرفع في "هدى " بحال إلا من وجه واحد ، وذلك من قبل الاستئناف ، إذ كان مدحا . فأما على وجه الخبر "لذلك " ، أو على وجه الإتباع لموضع "لا ريب فيه " ، فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ . وذلك أن "الم " إذا رافعت " ذلك الكتاب " ، فلا شك أن "هدى " غير جائز حينئذ أن يكون خبرا "لذلك " ، بمعنى المرافع له ، أو تابعا لموضع "لا ريب فيه " ، لأن موضعه حينئذ نصب ، لتمام الخبر قبله ، وانقطاعه - بمخالفته إياه - عنه .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( للمتقين ( 2 ) )

261 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن ، قوله : "للمتقين " قال : اتقوا ما حرم عليهم ، وأدوا ما افترض عليهم . [ ص: 233 ]

262 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : "للمتقين " ، أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به .

263 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : "هدى للمتقين " ، قال : هم المؤمنون .

264 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : سألني الأعمش عن "المتقين " ، قال : فأجبته ، فقال لي : سئل عنها الكلبي . فسألته ، فقال : الذين يجتنبون كبائر الإثم . قال : فرجعت إلى الأعمش ، فقال : نرى أنه كذلك . ولم ينكره .

265 - حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، قال حدثنا عمر أبو حفص ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : "هدى للمتقين " ، هم من نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم ، فقال : ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) .

266 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : "للمتقين " قال : المؤمنين الذين يتقون الشرك بي ، ويعملون بطاعتي .

وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه ( هدى للمتقين ) ، تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه ، فتجنبوا [ ص: 234 ] معاصيه ، واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه ، فأطاعوه بأدائها . وذلك أن الله عز وجل وصفهم بالتقوى ، فلم يحصر تقواهم إياه على بعض ما هو أهل له منهم دون بعض . فليس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك ، على وصفهم بشيء من تقوى الله عز وجل دون شيء ، إلا بحجة يجب التسليم لها . لأن ذلك من صفة القوم - لو كان محصورا على خاص من معاني التقوى دون العام منها - لم يدع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده : إما في كتابه ، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى .

فقد تبين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو : الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق . لأنه قد يكون كذلك ، وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين ، إلا أن يكون - عند قائل هذا القول - معنى النفاق : ركوب الفواحش التي حرمها الله جل ثناؤه ، وتضييع فرائضه التي فرضها عليه . فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقا . فيكون - وإن كان مخالفا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم - مصيبا تأويل قول الله عز وجل "للمتقين " .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الذين يؤمنون )

267 - حدثنا محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : "الذين يؤمنون " ، قال : يصدقون .

268 - حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : حدثنا أبو صالح ، [ ص: 235 ] قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "يؤمنون " : يصدقون .

269 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "يؤمنون " : يخشون .

270 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الزهري : الإيمان العمل .

271 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن العلاء بن المسيب بن رافع ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : الإيمان : التصديق .

ومعنى الإيمان عند العرب : التصديق ، فيدعى المصدق بالشيء قولا مؤمنا به ، ويدعى المصدق قوله بفعله ، مؤمنا . ومن ذلك قول الله جل ثناؤه : ( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) سورة يوسف : 17 ، يعني : وما أنت بمصدق لنا في قولنا . وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان ، الذي هو تصديق القول بالعمل . والإيمان كلمة جامعة الإقرار بالله وكتبه ورسله ، وتصديق الإقرار بالفعل . وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل الآية ، وأشبه بصفة القوم : أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب قولا واعتقادا وعملا إذ كان جل ثناؤه لم يحصرهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى ، بل أجمل وصفهم به ، من غير خصوص شيء من معانيه أخرجه من صفتهم بخبر ولا عقل .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 236 ] القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( بالغيب )

272 - حدثنا محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : "بالغيب " ، قال : بما جاء منه ، يعني : من الله جل ثناؤه .

273 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، "بالغيب " : أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار ، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن . لم يكن تصديقهم بذلك - يعني المؤمنين من العرب - من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم .

274 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، قال : الغيب القرآن .

275 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله " الذين يؤمنون بالغيب " ، قال : آمنوا بالجنة والنار ، والبعث بعد الموت ، وبيوم القيامة ، وكل هذا غيب .

276 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، [ ص: 237 ] عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، " الذين يؤمنون بالغيب " : آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ، وجنته وناره ولقائه ، وآمنوا بالحياة بعد الموت . فهذا كله غيب .

وأصل الغيب : كل ما غاب عنك من شيء . وهو من قولك : غاب فلان يغيب غيبا .

وقد اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم ، وفي نعتهم وصفتهم التي وصفهم بها ، من إيمانهم بالغيب ، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيره .

فقال بعضهم : هم مؤمنو العرب خاصة ، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب .

واستدلوا على صحة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم ، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين ، وهو قول الله عز وجل : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) . قالوا : فلم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم ، تدين بتصديقه والإقرار والعمل به . وإنما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها . قالوا : فلما قص الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله - بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب - علمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الآخر ، وأن المؤمنين بالغيب نوع غير النوع المصدق بالكتابين اللذين أحدهما منزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، والآخر منهما على من قبل رسول الله . [ ص: 238 ]

قالوا : وإذ كان ذلك كذلك ، صح ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى : ( الذين يؤمنون بالغيب ) ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار ، والثواب والعقاب والبعث ، والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليتها ، مما أوجب الله جل ثناؤه على عباده الدينونة به - دون غيرهم .

ذكر من قال ذلك :

277 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما ( الذين يؤمنون بالغيب ) ، فهم المؤمنون من العرب ، ( ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) . أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار ، وما ذكر الله في القرآن . لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم . ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .

وقال بعضهم : بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة ، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها ، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك منهم في تنزيله ، أنه من عند الله جل وعز ، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها ، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه ، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله . [ ص: 239 ]

وقال بعضهم : بل الآيات الأربع من أول هذه السورة ، أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم ، وأهل الكتابين وسواهم . وإنما هذه صفة صنف من الناس ، والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل من قبله ، هو المؤمن بالغيب .

قالوا : وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله ، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب ، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب ، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها ، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت ، دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب .

قالوا : فلما كان معنى قوله تعالى ذكره : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) غير موجود في قوله ( الذين يؤمنون بالغيب ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم ، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم ، فيكونوا به - إن وفقهم له ربهم - مؤمنين .

ذكر من قال ذلك :

278 - حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون المكي ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين ، [ ص: 240 ] وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين .

279 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، بمثله .

280 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا موسى بن مسعود ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

281 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : أربع آيات من فاتحة هذه السورة - يعني سورة البقرة - في الذين آمنوا ، وآيتان في قادة الأحزاب .

وأولى القولين عندي بالصواب ، وأشبههما بتأويل الكتاب ، القول الأول ، وهو : أن الذين وصفهم الله تعالى ذكره بالإيمان بالغيب ، وبما وصفهم به جل ثناؤه في الآيتين الأولتين ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزل على محمد والذي أنزل على من قبله من الرسل ، لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك .

ومما يدل أيضا مع ذلك على صحة هذا القول ، أنه جنس - بعد وصف المؤمنين بالصفتين اللتين وصف ، وبعد تصنيفه كل صنف منهما على ما صنف الكفار - [ ص: 241 ] جنسين فجعل أحدهما مطبوعا على قلبه ، مختوما عليه ، مأيوسا من إيابه ، والآخر منافقا ، يرائي بإظهار الإيمان في الظاهر ، ويستسر النفاق في الباطن . فصير الكفار جنسين ، كما صير المؤمنين في أول السورة جنسين . ثم عرف عباده نعت كل صنف منهم وصفتهم ، وما أعد لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب ، وذم أهل الذم منهم ، وشكر سعي أهل الطاعة منهم .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ويقيمون )

وإقامتها : أداؤها - بحدودها وفروضها والواجب فيها - على ما فرضت عليه . كما يقال : أقام القوم سوقهم ، إذا لم يعطلوها من البيع والشراء فيها ، وكما قال الشاعر :



أقمنا لأهل العراقين سوق ال ضراب فخاموا وولوا جميعا


282 - وكما حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، " ويقيمون الصلاة " ، قال : الذين يقيمون الصلاة بفروضها .

283 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، " ويقيمون الصلاة " قال : إقامة [ ص: 242 ] الصلاة تمام الركوع والسجود ، والتلاوة والخشوع ، والإقبال عليها فيها .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الصلاة )

284 - حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " الذين يقيمون الصلاة " : يعني الصلاة المفروضة .

وأما الصلاة فإنها في كلام العرب الدعاء ، كما قال الأعشى :



لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما


يعني بذلك : دعا لها ، وكقول الأعشى أيضا .



وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم [ ص: 243 ]


وأرى أن الصلاة المفروضة سميت "صلاة " ، لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله ، مع ما يسأل ربه من حاجاته ، تعرض الداعي بدعائه ربه استنجاح حاجاته وسؤله .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ومما رزقناهم ينفقون ( 3 ) )

اختلف المفسرون في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بما : -

285 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، " ومما رزقناهم ينفقون " ، قال : يؤتون الزكاة احتسابا بها .

286 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، " ومما رزقناهم ينفقون " ، قال : زكاة أموالهم .

287 - حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، " ومما رزقناهم ينفقون " ، قال : كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم ، حتى نزلت فرائض الصدقات : سبع آيات في سورة براءة ، مما يذكر فيهن الصدقات ، هن المثبتات الناسخات .

وقال بعضهم بما : -

288 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب [ ص: 244 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، " ومما رزقناهم ينفقون " : هي نفقة الرجل على أهله . وهذا قبل أن تنزل الزكاة .

وأولى التأويلات بالآية وأحقها بصفة القوم : أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم ، مؤدين ، زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته ، من أهل وعيال وغيرهم ، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك . لأن الله جل ثناؤه عم وصفهم إذ وصفهم بالإنفاق مما رزقهم ، فمدحهم بذلك من صفتهم . فكان معلوما أنه إذ لم يخصص مدحهم ووصفهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبها دون نوع بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمود عليها صاحبها من طيب ما رزقهم ربهم من أموالهم وأملاكهم ، وذلك الحلال منه الذي لم يشبه حرام .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك )

قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت ، وأي أجناس الناس هم . غير أنا نذكر ما روي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قول :

289 - فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، " والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " : أي يصدقونك [ ص: 245 ] بما جئت به من الله جل وعز وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاءوهم به من عند ربهم .

290 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " : هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وبالآخرة هم يوقنون ( 4 ) )

قال أبو جعفر : أما الآخرة فإنها صفة للدار ، كما قال جل ثناؤه ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) سورة العنكبوت : 64 . وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخرة لأولى كانت قبلها ، كما تقول للرجل : "أنعمت عليك مرة بعد أخرى ، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة " ، وإنما صارت آخرة للأولى ، لتقدم الأولى أمامها . فكذلك الدار الآخرة ، سميت آخرة لتقدم الدار الأولى أمامها ، فصارت التالية لها آخرة . وقد يجوز أن تكون سميت آخرة لتأخرها عن الخلق ، كما سميت الدنيا "دنيا " لدنوها من الخلق . [ ص: 246 ]

وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة ، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين : من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان ، وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة . كما : -

291 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، ( وبالآخرة هم يوقنون ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، أي ، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ، ويكفرون بما جاءك من ربك .

وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب ، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون ، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون ، ولما جاء به من التنزيل جاحدون ، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون ، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ) . وأخبر جل ثناؤه عباده : أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة ، دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل [ ص: 247 ] وبما جاء به من الكتب . ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله : ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم ، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك على هدى من ربهم )

اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله : " أولئك على هدى من ربهم " : فقال بعضهم : عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين ، أعني : المؤمنين بالغيب من العرب ، والمؤمنين بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل . وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه ، وأنهم هم المفلحون .

ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :

292 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أما " الذين يؤمنون بالغيب " ، فهم المؤمنون من العرب ، " والذين يؤمنون بما أنزل إليك " ، المؤمنون من أهل الكتاب . ثم جمع الفريقين فقال : " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " .

وقال بعضهم : بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، وهم الذين يؤمنون [ ص: 248 ] بما أنزل إلى محمد ، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل .

وقال آخرون : بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل إلى من قبله ، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب .

وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك ) في محل خفض ، ومحل رفع .

فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين : أحدهما : من قبل العطف على ما في " يؤمنون بالغيب " من ذكر "الذين " ، والثاني : أن يكون خبر مبتدأ ، أو يكون " أولئك على هدى من ربهم " ، مرافعها .

وأما الخفض فعلى العطف على "المتقين " ، وإذا كانت معطوفة على "الذين " اتجه لها وجهان من المعنى : أحدهما : أن تكون هي و "الذين " الأولى ، من صفة المتقين . وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد "الم " ، نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين . والوجه الثاني : أن تكون "الذين " الثانية معطوفة في الإعراب على "المتقين " بمعنى الخفض ، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول . وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله "الم " ، غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين .

وقد يحتمل أن تكون "الذين " الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة . وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف ، إذ كانت في مبتدأ آية ، وإن كانت من صفة المتقين .

فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه ، والخفض من وجهين .

وأولى التأويلات عندي بقوله ( أولئك على هدى من ربهم ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس ، وأن تكون "أولئك " إشارة إلى الفريقين ، أعني : [ ص: 249 ] المتقين ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وتكون "أولئك " مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله " على هدى من ربهم "; وأن تكون "الذين " الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام ، على ما قد بيناه .

وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ، ثم أثنى عليهم . فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء ، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات . كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال ، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر ، ويحرم الآخر جزاء عمله . فكذلك سبيل الثناء بالأعمال ، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء .

وأما معنى قوله ( أولئك على هدى من ربهم ) فإن معنى ذلك : أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد ، بتسديد الله إياهم ، وتوفيقه لهم . كما : -

293 - حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، [ ص: 250 ] عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، " أولئك على هدى من ربهم " : أي على نور من ربهم ، واستقامة على ما جاءهم .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وأولئك هم المفلحون ( 5 ) )

وتأويل قوله : " وأولئك هم المفلحون " أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنان ، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب . كما : -

294 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وأولئك هم المفلحون ) أي الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا .

ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح ، إدراك الطلبة والظفر بالحاجة ، قول لبيد بن ربيعة :



اعقلي ، إن كنت لما تعقلي ، ولقد أفلح من كان عقل


يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرا ، ومنه قول الراجز :



عدمت أما ولدت رياحا جاءت به مفركحا فركاحا
تحسب أن قد ولدت نجاحا! أشهد لا يزيدها فلاحا


يعني : خيرا وقربا من حاجتها . والفلاح مصدر من قولك : أفلح فلان يفلح إفلاحا وفلاحا وفلحا . والفلاح أيضا : البقاء ، ومنه قول لبيد :



نحل بلادا ، كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير


يريد البقاء ، ومنه أيضا قول عبيد :



أفلح بما شئت ، فقد يدرك بالض عف ، وقد يخدع الأريب


يريد : عش وابق بما شئت ، وكذلك قول نابغة بني ذبيان :



وكل فتى ستشعبه شعوب وإن أثرى ، وإن لاقى فلاحا


أي نجاحا بحاجته وبقاء .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 251 ] القول في تأويل قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )

اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، وفيمن نزلت . فكان ابن عباس يقول ، كما : -

295 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " إن الذين كفروا " ، أي بما أنزل إليك من ربك ، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك .

وكان ابن عباس يرى أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توبيخا لهم في جحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به ، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله إليهم وإلى الناس كافة .

296 - وقد حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها ، نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ، من المنافقين من الأوس والخزرج . كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم . [ ص: 252 ]

وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر ، وهو ما : -

297 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول .

وقال آخرون بما : -

298 - حدثت به عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : آيتان في قادة الأحزاب : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) ، قال : وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) سورة إبراهيم : 28 ، 29 ، قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر .

وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير عنه . وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب . [ ص: 253 ]

فأما مذهب من تأول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس ، فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون ، وأن الإنذار غير نافعهم ، ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة - لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادة الأحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدر - علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية .

وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك ، فهي أن قول الله جل ثناؤه ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب ، وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله . فأولى الأمور بحكمة الله ، أن يتلي ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم ، وذم أسبابهم وأحوالهم ، وإظهار شتمهم والبراءة منهم . لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم - فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل .

وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل ، الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته - بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه ، فيجهله عظم اليهود وتعلمه الأحبار منهم - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك ، هو الذي أنزل الكتاب على موسى . إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد [ ص: 254 ] صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي ، وأن ما جاء به فمن عند الله . وأنى يمكن ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ، ولا يحسب ، فيقال قرأ الكتب فعلم ، أو حسب فنجم ؟ وانبعث على أحبار قراء كتبة - قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم - يخبرهم عن مستور عيوبهم ، ومصون علومهم ، ومكتوم أخبارهم ، وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم . إن أمر من كان كذلك لغير مشكل ، وإن صدقه لبين .

ومما ينبئ عن صحة ما قلنا - من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه - اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم ، وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه السلام ، بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين ، واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم - في قوله : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) سورة البقرة : 40 وما بعدها ، واحتجاجه لنبيه عليهم ، بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته . فإذ كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب ، وآخرا عن مشركيهم ، فأولى أن يكون وسطا : - عنهم . إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع ، إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدأ به من معانيه ، فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه . [ ص: 255 ]

وأما معنى الكفر في قوله " إن الذين كفروا " فإنه الجحود . وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس وكتموا أمره ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .

وأصل الكفر عند العرب : تغطية الشيء ، ولذلك سموا الليل "كافرا " ، لتغطية ظلمته ما لبسته ، كما قال الشاعر :



فتذكرا ثقلا رثيدا ، بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر


وقال لبيد بن ربيعة :



في ليلة كفر النجوم غمامها


يعني غطاها . فكذلك الأحبار من اليهود غطوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه الناس - مع علمهم بنبوته ، ووجودهم صفته في كتبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) سورة البقرة : 159 ، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 256 ]

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )

وتأويل "سواء " : معتدل . مأخوذ من التساوي ، كقولك : "متساو هذان الأمران عندي " ، و "هما عندي سواء " ، أي هما متعادلان عندي ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( فانبذ إليهم على سواء ) سورة الأنفال : 58 ، يعني : أعلمهم وآذنهم بالحرب ، حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر . فكذلك قوله " سواء عليهم " : معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم ، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون ، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم . ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات :



تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها


يعني بذلك : معتدل عندها في السير الليل والنهار ، لأنه لا فتور فيه . ومنه قول الآخر



وليل يقول المرء من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها


لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته .

وأما قوله : ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر ; لأنه وقع موقع "أي " كما تقول : "لا نبالي أقمت أم [ ص: 257 ] قعدت " ، وأنت مخبر لا مستفهم ، لوقوع ذلك موقع "أي " . وذلك أن معناه إذا قلت ذلك : ما نبالي أي هذين كان منك . فكذلك ذلك في قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ، لما كان معنى الكلام : سواء عليهم أي هذين كان منك إليهم - حسن في موضعه مع سواء : "أفعلت أم لم تفعل " .

وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع "سواء " ، وليس باستفهام ، لأن المستفهم إذا استفهم غيره فقال : "أزيد عندك أم عمرو ؟ " مستثبت صاحبه أيهما عنده . فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الآخر . فلما كان قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " بمعنى التسوية ، أشبه ذلك الاستفهام ، إذ أشبهه في التسوية . وقد بينا الصواب في ذلك .

فتأويل الكلام إذا : معتدل يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها ، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي ، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك ، وأن يبينوه للناس ، ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، فإنهم لا يؤمنون ، ولا يرجعون إلى الحق ، ولا يصدقون بك وبما جئتهم به . كما : -

299 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك ، فقد كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ .

description|| تفسير الطبرى || > || متجدد || - صفحة 2 Emptyرد: || تفسير الطبرى || > || متجدد ||

more_horiz
[ ص: 258 ]

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم )

قال أبو جعفر : وأصل الختم : الطبع . والخاتم هو الطابع . يقال منه : ختمت الكتاب ، إذا طبعته .

فإن قال لنا قائل : وكيف يختم على القلوب ، وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف ؟

قيل : فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم ، وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تدرك المسموعات ، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات - نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظروف .

فإن قال : فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها ؟ أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار ، أم هي بخلاف ذلك ؟

قيل : قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك ، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم :

300 - فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أن القلب في مثل هذا - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه - وقال بإصبعه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى هكذا ، حتى ضم أصابعه كلها ، قال : ثم يطبع عليه بطابع . قال [ ص: 259 ] مجاهد : وكانوا يرون أن ذلك : الرين .

301 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : القلب مثل الكف ، فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يرون أنه الران .

302 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال مجاهد : نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه ، فالتقاؤها عليه الطبع ، والطبع : الختم . قال ابن جريج : الختم ، الختم على القلب والسمع .

303 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : الران أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الأقفال ، والأقفال أشد ذلك كله . [ ص: 260 ]

وقال بعضهم : إنما معنى قوله " ختم الله على قلوبهم " إخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم ، وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق ، كما يقال : "إن فلانا لأصم عن هذا الكلام " ، إذا امتنع من سماعه ، ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا .

قال أبو جعفر : والحق في ذلك عندي ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما : -

304 - حدثنا به محمد بن بشار قال : حدثنا صفوان بن عيسى ، قال : حدثنا ابن عجلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر ، صقلت قلبه ، فإن زاد زادت حتى تغلق قلبه ، فذلك "الران " الذي قال الله جل ثناؤه : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) سورة المطففين : 14 . [ ص: 261 ]

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر منها مخلص ، فذلك هو الطبع . والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) ، نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف ، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها . فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم ، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها .

ويقال لقائلي القول الثاني ، الزاعمين أن معنى قوله جل ثناؤه " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ، هو وصفهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دعوا إليه من الإقرار بالحق تكبرا : أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة ، وإعراضهم عن الإقرار بما دعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللواحق به - أفعل منهم ، أم فعل من الله تعالى ذكره بهم ؟

فإن زعموا أن ذلك فعل منهم - وذلك قولهم - قيل لهم : فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم . وكيف يجوز أن يكون إعراض الكافر عن الإيمان ، وتكبره عن الإقرار به - وهو فعله عندكم - ختما من الله على قلبه وسمعه ، وختمه على قلبه وسمعه ، فعل الله عز وجل دون الكافر ؟

فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبره وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه ، فلما كان الختم سببا لذلك ، جاز أن يسمى مسببه به - تركوا قولهم ، وأوجبوا أن الختم من الله على قلوب الكفار وأسماعهم ، معنى غير كفر الكافر ، وغير تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به . وذلك دخول فيما أنكروه . [ ص: 262 ]

وهذه الآية من أوضح الدليل على فساد قول المنكرين تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله ، لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفار عباده وأسماعهم ، ثم لم يسقط التكليف عنهم ، ولم يضع عن أحد منهم فرائضه ، ولم يعذره في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بل أخبر أن لجميعهم منه عذابا عظيما على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه ، مع حتمه القضاء عليهم مع ذلك ، بأنهم لا يؤمنون .
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد