قال الله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [1].
وقال عز من قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ [2].
وقال سبحانه: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ [3].
فرقان[/center] يَعْمَى
السائرون في تخمينات الفكر عن هداية القرآن إذ يحسبون القرآن كلاما من
الكلام. والمومن يتلقى توجيه كلام الله إذعانا ورضى كما تلقاه العبد النبي
الرسول صلى الله عليه وسلم وحيا وخطابا ورسالة. كلام الله صفة من صفاته.
فهو من عند الله الذي أنزل على عبده الكتاب، "نورا لا تطفأ مصابيحه،
وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يَضِل نهجه، وشعاعا
لا يُظلم نوره، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا لا تهدم أركانه، وشفاء
لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل أعوانه"[1].
فريق في الجنة وفريق في السعير، فريق هداهم الله بالقرآن، وفريق حقت عليهم
الضلالة. فريق اتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله، وفريق اعتصموا بحبل
الله جميعا وما تفرقوا. فريق تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم العلم بغيا
بينهم، وفريق أقاموا الدين وما تفرقوا فيه.
الفيصل بين الإيمان والكفر موقف الناس من القرآن. و"ما جالس هذا القرآن
أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان في عمى" . كذلك
نزله الله تبارك وتعالى على عبده فرقانا. تحت دولة القرآن سيبقى من يتخذون
القرآن مهجورا، لكن أهل القرآن حاملي الرسالة المبلغين عن رسول الله،
المترجمين عن كتابه، يجب أن يخدموا الغايات التي رسمها القرآن، ويسخروا
لذلك ما في أيديهم من سلطان. في دولة القرآن يجب أن يسود القرآن سيادة
مطلقة. من لا يدخل تحت لوائه فذلك فرقان ما بيننا وبينه.
برهان
في
هذه العهود سادت العقلانية الكافرة الغازية، وتسلل إلى فكر المسلمين نغمة
جديدة ما عرفها من سبقونا بإيمان. فمنذ نحو قرن مضى تقرأ وتسمع تمجيدا
للعقل، وتقرأ وتسمع هولا مهولا: أن القرآن قرين العقل. ومن وراء الكلمة ما
لا يجسرون على إظهاره. من ورائها أن العقل هو الإمام. واقفز سطورا ثم اقرأ
أمجاد العقل الذي بنى حضارة أوربا.
معنى كون القرآن برهانا كما قال الله تعالى، ومعنى كونه نورا مبينا، أن
كلام الله هو المرجع، به يبرهن على الهدى والضلالة، على الصلاح والفساد،
على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته. أما أجيال الإلحاد فباتت
عميّة عن القرآن البرهان حين تدعو إلى "قراءة" القرآن قراءة جديدة. أي
معالجته النقدية بأدوات العقلانية والتاريخانية، وربطه بمحمد البطل البليغ،
وقطعه من ثمة عن الجناب الإلهي. ربطه بظروف الجزيرة العربية على عهد
البعثة، ومن ثمة الحكم عليه بالتخلف في مضمار الفكر عن العقل البشري
المتأله الذي صنع الصواريخ، وابتكر الحاسوبات الإلكترونية، وحلل التاريخ،
وضبط -في زعمه- سير الحضارة، وهيمن على الكرة الأرضية، وغزا الفضاء، وركب
أعضاء صناعية للمرضى، وفتح للبشرية أبواب مستقبل العالم. القرآن في حسبان
هؤلاء الخَلْف يدخل في حيز ضيق من العقل البشري المتطور، في ركن مغبر بصفته
جزءا من التراث المصون في متاحفه.
معنى كون القرآن برهانا أن نحكم بكلام الله الأزلي على عقل البشر المخلوق
العبد الخاضع لتطورات الزمان والمكان. معناه أن يجلس العقل مجلس التلميذ
يستهدي الوحي ويستنير به. فمن جالس القرآن هكذا أبصر النور. ومن عمي فلا
مخرج له من شبكة العقلانية بجانبيها الفلسفي المُخرِّص والعلومي المخترع.
شبكة صنعتها من حولها هذه الخفاشة العمياء لتمسكها عن مراتع هلاكها في عالم
النور. الإيمان بالله وكتبه ورسله هلاك العقل المتأله المعبود.
قد يكون من التلاميذ الذكي الألمعي مثل الجيل، بل الأجيال، الذين ثوروا
القرآن بعد أن اتخذوه إماما. وقد يكون التلاميذ البلداء لا يحسنون مجالسة
القرآن، ولا الفهم عنه، ولا تحويل أوامره لصيغ تطبيقية. وقد كان ولا يزال
من المسلمين الصادقي العقيدة من كانوا أقصر من أن يترجموا عن القرآن. لا عن
خيانة بل عن وفاء حرفي بليد. وسيطرح السؤال في دولة القرآن عن وظيفة العقل
وحدوده، عن علاقته بالوحي المنزل ومكانه منه. وهنا أيضا يجب أن يكون
البرهان في الجواب هو القرآن لا من تحدث باسمه فأخطأ، ولا من اجتهد فقصر،
ولا من حرف وخان. لماذا اختنق العقل فكان اختناقه سببا لانحطاط المسلمين؟
لماذا انحطوا والقرآن فيهم يتلى؟ لماذا هزموا والقرآن قوة؟ وجهلوا والقرآن
علم؟ وتظالموا والقرآن عدل؟ وتعادوا وتقاتلوا والقرآن أخوة؟
تاريخنا بشري، والقرآن شاهد على أخطائنا وبرهان علينا. ما اختنق العقل تحت
دول العض والجبر، بل خُنق. القرآن كلمة الله. ومن فهم هذه الإضافة العظيمة،
وهي نسبة الكلمة لله جلت عظمته، ثم علم أن هذه الكلمة موجهة إليه، وأنه
مسؤول عن طاعة أمر الله المنزل فيها لا يكون عبدا لغير الله. لا يطيع
الحاكم في معصية الله.
تآمَرَ حكام العض والجبر على سد باب الاجتهاد وصادروا العقل المستنير
بالقرآن وخنقوه. وبذلك أغلقوا منافذ الحرية والمسؤولية عن الناس. ثم إن
تاريخنا عرف الحروب الداخلية والغزو الخارجي وفتنة العقل حين سُخِّرَ العقل
لتأويل القرآن تأويلا يبرر به كل فريق مذهبه الذي يحارب مذاهب أخرى على
الزعامة والملك. في هذا الجو لا قرار للناس يسمح بتأثيل ثمرات العقل. حارب
العقلُ العقلَ -والقرآن تَبَعٌ مبرر- في حروب الفتنة الأولى، ثم في قتال
السنة والشيعة، ثم في مناظرات العلماء الجدلية. علماء إلى جانب الحكم
يستنطقون القرآن بما يُطْرِبُ أهواء الحكام، يترجمون عن الهوى الساكن فيهم.
وآخرون يقاتلونهم، فتصطدم الأسلحة العقلية، وتنعكف، وتنثني، وتعوج بآثار
الاصطدام ونار الحمية. والعقل آلة لا تنفصل عن حياة الناس اليومية وهمومهم
ومصالحهم وخصوماتهم.
العقل ليس مَلَكاً محلقا في فضاء البراءة والإخلاص. بل هو قسمة سماوية
موحولة في أسباب الأرض، لاصقة بها. سيما إن لم يُجالس العقلُ القرآن
المجالسة المطولة، أو لم تكن له الأهلية لتلك المجالسة.
أشَعَّ العقلُ إشعاعا متألقا في حياة الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن لهم
ركام فكري يحجب عنهم نور الوحي. فاحتل العقل في خدمة القرآن مكانته،
وانطلقت قوى الجماعة، وربحوا خيري الدنيا والآخرة. وتألق العقل في خدمة
القرآن على يد علمائنا عبر كل الأجيال إلى يومنا، خاصة في الفقه والحديث
وعلوم النقل باستثناء مجالات السلطان ومشروعيته، وسياسة الأمة وفروضها،
وقسمة الأموال. كان علماؤنا يسمون الحكام ظلمة ثم يُسْكِتُون العقل مخافة
أن تزيد الفتنة اضطراما.
واتصل المسلمون بالفلسفة اليونانية فتلقفتها أجيال دخلوا في صراع مع العقل
الأصيل الذي بقي على فطرته تلميذا للوحي أصيلا قويا. انبرى المعتزلة لدحض
أفكار الفلاسفة الملحدين، فما لبثت الخلطة أن أصابت الفكر المعتزلي بعدوى
التخريص فأخذ في الطعن على الوحي ابتداء من القول بخلق القرآن، وذاك مذهب
يهواه بعض معاصرينا الفلاسفة المؤخرين الذين يعتبرون القرآن تراثا عتيقا
يستحق كل تمجيد كما تستحق المخلفات الموروثة، شريطة أن يبقى على رفوفه، ولا
بأس أن يكون ترنيمة يتلهى بترديده الغيبيون السذج.
ظهرت عبقرية العقل المسلم في ميدان العلوم فأثَّثَ حضارة رائعة، وتقدم في
منهاج البحث والاختراع، حتى أصابته النكبة التي خنقت العقل في كل مظاهره.
وفي غد دولة القرآن نواجه عالما يؤله العقل وينكر الوحي. بلغ العقل أوْجَهُ
اليوم. وشقيت الإنسانية بقيادته ومخترعاته: إنتاج واستهلاك، نمو اقتصادي
لا حدود له، إنسان دابة على الأرض لا غاية له، ألف مليار دولار سنويا
لإنتاج الأسلحة، خمسمائة مليون نسمة في العالم تتضور وتموت جوعا، خمسون
مليون طفل في العالم يموتون مرضا وفاقة كل سنة. على رأس كل نسمة بشرية في
الأرض ما يعادل خمسة أطنان من المتفجرات على شكل قنابل وصواريخ نووية.
مجتمعات متخمة وأخرى منهوبة. تلك متعلمة آمنة، وهذه مجهلة تخوض حروبا
يدبرها ويمولها ويسلحها الأسياد. والعالم غارق تحت سيل من الدعاية
للعقلانية وحضارة العقلانية. العقلاء من القوم يولون وجوههم شطر الإسلام
عسى نفحة من الوحي تعيد الأمل للإنسانية المعذبة بعقلانية العقل الزائغ عن
وظيفته.
القرآن يجب أن يكون البرهان على مكان العقل بين المخلوقات. للعقل وظيفة
مرسومة يجب أن ينشط فيها كل النشاط. له حدود معلومة لا يتعداها إلا حصد
الإنسان الوبال.
فكيف تتصرف دولة القرآن مع العقل، وأية مجالات تفتح له، وبأية وسائل تراقبه؟
وقال عز من قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ [2].
وقال سبحانه: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ [3].
فرقان[/center] يَعْمَى
السائرون في تخمينات الفكر عن هداية القرآن إذ يحسبون القرآن كلاما من
الكلام. والمومن يتلقى توجيه كلام الله إذعانا ورضى كما تلقاه العبد النبي
الرسول صلى الله عليه وسلم وحيا وخطابا ورسالة. كلام الله صفة من صفاته.
فهو من عند الله الذي أنزل على عبده الكتاب، "نورا لا تطفأ مصابيحه،
وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يَضِل نهجه، وشعاعا
لا يُظلم نوره، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا لا تهدم أركانه، وشفاء
لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل أعوانه"[1].
فريق في الجنة وفريق في السعير، فريق هداهم الله بالقرآن، وفريق حقت عليهم
الضلالة. فريق اتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله، وفريق اعتصموا بحبل
الله جميعا وما تفرقوا. فريق تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم العلم بغيا
بينهم، وفريق أقاموا الدين وما تفرقوا فيه.
الفيصل بين الإيمان والكفر موقف الناس من القرآن. و"ما جالس هذا القرآن
أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان في عمى" . كذلك
نزله الله تبارك وتعالى على عبده فرقانا. تحت دولة القرآن سيبقى من يتخذون
القرآن مهجورا، لكن أهل القرآن حاملي الرسالة المبلغين عن رسول الله،
المترجمين عن كتابه، يجب أن يخدموا الغايات التي رسمها القرآن، ويسخروا
لذلك ما في أيديهم من سلطان. في دولة القرآن يجب أن يسود القرآن سيادة
مطلقة. من لا يدخل تحت لوائه فذلك فرقان ما بيننا وبينه.
برهان
في
هذه العهود سادت العقلانية الكافرة الغازية، وتسلل إلى فكر المسلمين نغمة
جديدة ما عرفها من سبقونا بإيمان. فمنذ نحو قرن مضى تقرأ وتسمع تمجيدا
للعقل، وتقرأ وتسمع هولا مهولا: أن القرآن قرين العقل. ومن وراء الكلمة ما
لا يجسرون على إظهاره. من ورائها أن العقل هو الإمام. واقفز سطورا ثم اقرأ
أمجاد العقل الذي بنى حضارة أوربا.
معنى كون القرآن برهانا كما قال الله تعالى، ومعنى كونه نورا مبينا، أن
كلام الله هو المرجع، به يبرهن على الهدى والضلالة، على الصلاح والفساد،
على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته. أما أجيال الإلحاد فباتت
عميّة عن القرآن البرهان حين تدعو إلى "قراءة" القرآن قراءة جديدة. أي
معالجته النقدية بأدوات العقلانية والتاريخانية، وربطه بمحمد البطل البليغ،
وقطعه من ثمة عن الجناب الإلهي. ربطه بظروف الجزيرة العربية على عهد
البعثة، ومن ثمة الحكم عليه بالتخلف في مضمار الفكر عن العقل البشري
المتأله الذي صنع الصواريخ، وابتكر الحاسوبات الإلكترونية، وحلل التاريخ،
وضبط -في زعمه- سير الحضارة، وهيمن على الكرة الأرضية، وغزا الفضاء، وركب
أعضاء صناعية للمرضى، وفتح للبشرية أبواب مستقبل العالم. القرآن في حسبان
هؤلاء الخَلْف يدخل في حيز ضيق من العقل البشري المتطور، في ركن مغبر بصفته
جزءا من التراث المصون في متاحفه.
معنى كون القرآن برهانا أن نحكم بكلام الله الأزلي على عقل البشر المخلوق
العبد الخاضع لتطورات الزمان والمكان. معناه أن يجلس العقل مجلس التلميذ
يستهدي الوحي ويستنير به. فمن جالس القرآن هكذا أبصر النور. ومن عمي فلا
مخرج له من شبكة العقلانية بجانبيها الفلسفي المُخرِّص والعلومي المخترع.
شبكة صنعتها من حولها هذه الخفاشة العمياء لتمسكها عن مراتع هلاكها في عالم
النور. الإيمان بالله وكتبه ورسله هلاك العقل المتأله المعبود.
قد يكون من التلاميذ الذكي الألمعي مثل الجيل، بل الأجيال، الذين ثوروا
القرآن بعد أن اتخذوه إماما. وقد يكون التلاميذ البلداء لا يحسنون مجالسة
القرآن، ولا الفهم عنه، ولا تحويل أوامره لصيغ تطبيقية. وقد كان ولا يزال
من المسلمين الصادقي العقيدة من كانوا أقصر من أن يترجموا عن القرآن. لا عن
خيانة بل عن وفاء حرفي بليد. وسيطرح السؤال في دولة القرآن عن وظيفة العقل
وحدوده، عن علاقته بالوحي المنزل ومكانه منه. وهنا أيضا يجب أن يكون
البرهان في الجواب هو القرآن لا من تحدث باسمه فأخطأ، ولا من اجتهد فقصر،
ولا من حرف وخان. لماذا اختنق العقل فكان اختناقه سببا لانحطاط المسلمين؟
لماذا انحطوا والقرآن فيهم يتلى؟ لماذا هزموا والقرآن قوة؟ وجهلوا والقرآن
علم؟ وتظالموا والقرآن عدل؟ وتعادوا وتقاتلوا والقرآن أخوة؟
تاريخنا بشري، والقرآن شاهد على أخطائنا وبرهان علينا. ما اختنق العقل تحت
دول العض والجبر، بل خُنق. القرآن كلمة الله. ومن فهم هذه الإضافة العظيمة،
وهي نسبة الكلمة لله جلت عظمته، ثم علم أن هذه الكلمة موجهة إليه، وأنه
مسؤول عن طاعة أمر الله المنزل فيها لا يكون عبدا لغير الله. لا يطيع
الحاكم في معصية الله.
تآمَرَ حكام العض والجبر على سد باب الاجتهاد وصادروا العقل المستنير
بالقرآن وخنقوه. وبذلك أغلقوا منافذ الحرية والمسؤولية عن الناس. ثم إن
تاريخنا عرف الحروب الداخلية والغزو الخارجي وفتنة العقل حين سُخِّرَ العقل
لتأويل القرآن تأويلا يبرر به كل فريق مذهبه الذي يحارب مذاهب أخرى على
الزعامة والملك. في هذا الجو لا قرار للناس يسمح بتأثيل ثمرات العقل. حارب
العقلُ العقلَ -والقرآن تَبَعٌ مبرر- في حروب الفتنة الأولى، ثم في قتال
السنة والشيعة، ثم في مناظرات العلماء الجدلية. علماء إلى جانب الحكم
يستنطقون القرآن بما يُطْرِبُ أهواء الحكام، يترجمون عن الهوى الساكن فيهم.
وآخرون يقاتلونهم، فتصطدم الأسلحة العقلية، وتنعكف، وتنثني، وتعوج بآثار
الاصطدام ونار الحمية. والعقل آلة لا تنفصل عن حياة الناس اليومية وهمومهم
ومصالحهم وخصوماتهم.
العقل ليس مَلَكاً محلقا في فضاء البراءة والإخلاص. بل هو قسمة سماوية
موحولة في أسباب الأرض، لاصقة بها. سيما إن لم يُجالس العقلُ القرآن
المجالسة المطولة، أو لم تكن له الأهلية لتلك المجالسة.
أشَعَّ العقلُ إشعاعا متألقا في حياة الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن لهم
ركام فكري يحجب عنهم نور الوحي. فاحتل العقل في خدمة القرآن مكانته،
وانطلقت قوى الجماعة، وربحوا خيري الدنيا والآخرة. وتألق العقل في خدمة
القرآن على يد علمائنا عبر كل الأجيال إلى يومنا، خاصة في الفقه والحديث
وعلوم النقل باستثناء مجالات السلطان ومشروعيته، وسياسة الأمة وفروضها،
وقسمة الأموال. كان علماؤنا يسمون الحكام ظلمة ثم يُسْكِتُون العقل مخافة
أن تزيد الفتنة اضطراما.
واتصل المسلمون بالفلسفة اليونانية فتلقفتها أجيال دخلوا في صراع مع العقل
الأصيل الذي بقي على فطرته تلميذا للوحي أصيلا قويا. انبرى المعتزلة لدحض
أفكار الفلاسفة الملحدين، فما لبثت الخلطة أن أصابت الفكر المعتزلي بعدوى
التخريص فأخذ في الطعن على الوحي ابتداء من القول بخلق القرآن، وذاك مذهب
يهواه بعض معاصرينا الفلاسفة المؤخرين الذين يعتبرون القرآن تراثا عتيقا
يستحق كل تمجيد كما تستحق المخلفات الموروثة، شريطة أن يبقى على رفوفه، ولا
بأس أن يكون ترنيمة يتلهى بترديده الغيبيون السذج.
ظهرت عبقرية العقل المسلم في ميدان العلوم فأثَّثَ حضارة رائعة، وتقدم في
منهاج البحث والاختراع، حتى أصابته النكبة التي خنقت العقل في كل مظاهره.
وفي غد دولة القرآن نواجه عالما يؤله العقل وينكر الوحي. بلغ العقل أوْجَهُ
اليوم. وشقيت الإنسانية بقيادته ومخترعاته: إنتاج واستهلاك، نمو اقتصادي
لا حدود له، إنسان دابة على الأرض لا غاية له، ألف مليار دولار سنويا
لإنتاج الأسلحة، خمسمائة مليون نسمة في العالم تتضور وتموت جوعا، خمسون
مليون طفل في العالم يموتون مرضا وفاقة كل سنة. على رأس كل نسمة بشرية في
الأرض ما يعادل خمسة أطنان من المتفجرات على شكل قنابل وصواريخ نووية.
مجتمعات متخمة وأخرى منهوبة. تلك متعلمة آمنة، وهذه مجهلة تخوض حروبا
يدبرها ويمولها ويسلحها الأسياد. والعالم غارق تحت سيل من الدعاية
للعقلانية وحضارة العقلانية. العقلاء من القوم يولون وجوههم شطر الإسلام
عسى نفحة من الوحي تعيد الأمل للإنسانية المعذبة بعقلانية العقل الزائغ عن
وظيفته.
القرآن يجب أن يكون البرهان على مكان العقل بين المخلوقات. للعقل وظيفة
مرسومة يجب أن ينشط فيها كل النشاط. له حدود معلومة لا يتعداها إلا حصد
الإنسان الوبال.
فكيف تتصرف دولة القرآن مع العقل، وأية مجالات تفتح له، وبأية وسائل تراقبه؟