السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
المسافر : وهو من فارق البنيان بنية السفر ويجوز له الفطر إذا عزم عزما أكيدا على سفره قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} والعلة في الفطر السفر وليست المشقة فكل سفر يجوز فيه الفطر ولو كان سفرا مريحا بالطائرة أو بغيرها .
ومسألة متي يفطر الصائم فيها خلاف والراجح هو ما ذكرنا وهو أنه يبدأ من حيث عزم على السفر للأحاديث والآثار التالية :
أولا: ما أخرجه الترمذي وغيره عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا وَقَدْ رُحِلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ فَقُلْتُ لَهُ سُنَّةٌ قَالَ سُنَّةٌ [قول الصحابي من السنة كذا دليل على الرفع مثل أمرنا أو كنا نفعل على عهد رسول الله] . ثُمَّ رَكِبَ ) ، قال ابن العربي في العارضة : هذا الحديث صحيح ولم يقل به إلا أحمد , أما علماؤنا فمنعوا منه, وأما حديث أنس فحديث صحيح يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر لكن بقي الكلام في قوله إنها سنة هل يقتضي أن ذلك مقتضى الشرع والدليل أنه حكم رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ لاحتماله، والصحيح أنه يقتضى به لأن قول أنس هي سنة يبعد أن يراد به اجتهادي وما اقتضاه نظري فلم يكن بدا من أن يرجع إلى التوقف .
ثانيا : ما رواه أبو داود وغيره عن جَعْفَرٌ ابْنُ جَبْرٍ قَالَ : ( كُنْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ فَرُفِعَ ثُمَّ قُرِّبَ غَدَاهُ قَالَ جَعْفَرٌ فِي حَدِيثِهِ فَلَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ قَالَ اقْتَرِبْ قُلْتُ أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ قَالَ أَبُو بَصْرَةَ أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَعْفَرٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَكَلَ). وقال الشوكاني في النيل : وهذان الحديثان يعني حديث أنس وحديث عبيد بن جبر يدلان على أنه يجوز للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع الذي أراد السفر منه والحق أن قول الصحابي من السنة ينصرف إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم , وقد صرح هذان الصحابيان بأن الإفطار للمسافر قبل مجاوزة البيوت من السنة
ثالثا : ما أخرجه أبو داود وغيره عَنْ مَنْصُورٍ الْكَلْبِيِّ) أَنَّ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ ـ رضي الله عنه ـ خَرَجَ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ دِمَشْقَ مَرَّةً إِلَى قَدْرِ قَرْيَةِ عُقْبَةَ مِنْ الْفُسْطَاطِ وَذَلِكَ ثَلاثَةُ أَمْيَالٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ إِنَّهُ أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ مَعَهُ نَاسٌ وَكَرِهَ آخَرُونَ أَنْ يُفْطِرُوا فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَرْيَتِهِ قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَرَاهُ إِنَّ قَوْمًا رَغِبُوا عَنْ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ يَقُولُ ذَلِكَ لِلَّذِينَ صَامُوا ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ اللَّهُمَّ اقْبِضْنِي إِلَيْكَ) قال العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين وهو قول ابن عبد البر والقرطبي ـ رحمهم الله ـ ومن خلال هذه الآثار الثلاث يظهر جليا لكل منصف أن الفطر في السفر يكون قبل الخروج من البلد وذلك لمن أراد الفطر ، حيث إن الصحابة الثلاث ذكروا أنه سنة وحكمه الرفع يقينا .
وأيهما الأفضل الفطر أم الصيام ؟
فيه خلاف قال بعض العلماء الأرفق به هو الأفضل فأيهما شاء فعل ؛ ولكن القول بأن الفطر أفضل قول قوي جدا ـ وهو الأقرب ـ لما رواه الإمام أحمد في مسنده ـ رحمه الله ـ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ) وهذه رخصة من رخص الله ، وهو اختيار الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وسماحة العلامة عبدالعزيز ابن باز ـ رحمهم الله ـ ، وذهب الظاهرية إلى بطلان صيام من صام لظاهر الآية)فعدة من أيام أخر) وظاهر الآية يوافق مذهبهم ؛ ولكن لا معول عليه لما ثبت أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ صام في السفر وفعله حجة قاطعة ؛ وليس خاصا به فقد صام معه ابن رواحة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ كما سيأتي .
وقلنا بجواز الأمرين لما ثبت في الصحيين أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ صام في السفر فقد أخرج البخاري عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ : ( خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ رَوَاحَةَ ).
ويحرم الصيام على من خشي عليه الهلاك أو من شق عليه الصيام وفي مثل هذا ورد النص الصريح فقد أخرج مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ : أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ ـ وفي رواية أخرى ـ وَزَادَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ ). ولحديث الترمذي) لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) وهذا فيمن شق عليه .
قَالَ أَبُو عِيسَى : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ حَتَّى رَأَى بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ إِذَا صَامَ فِي السَّفَرِ وَاخْتَارَ أَحْمَدُ وَإِسْحَقُ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ إِنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَحَسَنٌ وَهُوَ أَفْضَلُ وَإِنْ أَفْطَرَ فَحَسَنٌ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ .
وقَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ وَقَوْلِهِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ فَوَجْهُ هَذَا إِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ قَلْبُهُ قَبُولَ رُخْصَةِ اللَّهِ فَأَمَّا مَنْ رَأَى الْفِطْرَ مُبَاحًا وَصَامَ وَقَوِيَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَعْجَبُ إِلَيَّ .
وقَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ وَقَوْلِهِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ فَوَجْهُ هَذَا إِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ قَلْبُهُ قَبُولَ رُخْصَةِ اللَّهِ فَأَمَّا مَنْ رَأَى الْفِطْرَ مُبَاحًا وَصَامَ وَقَوِيَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَعْجَبُ إِلَيَّ .