وداع رمضان و أحكام زكاة الفطر
خالد بن علي المشيقح |
رمضان خير الشهور، ينبغي للعبد أن يغتنمه بالطاعات، ومن قصر في صيامه وأتى بما يتناقض مع حكمته جبر ذلك بزكاة الفطر التي يجب على العبد أن يخرجها عن نفسه، وعن كل من يعول، ومقدارها صاع من غالب قوت البلد، ويجب إخراجها قبل صلاة العيد. وصلاة العيد واجبة عند الحنف إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك. اللهم إنا نسألك القبول في الصيام والقيام، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقياك. عباد الله! لقد عزم شهر رمضان على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن كان محسناً فعليه بالتمام؛ فإن الأعمال بالخواتيم، ومن كان فرط فيه فليختمه بالحسنى والتوبة؛ فالعمل بالختام، فتزودوا منه ما بقي من الليالي، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلام. سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر مضى وزمان سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن أي أمان فإن فنيت أيامك الغر بغتةً فما الحزن من قلبي عليك بفان بالأسى والدموع نودعه، وكنا بالأمس نترقبه بكل فرح، وتلك سنة الله في خلقه؛ أيام تنقضي وأعوام تنتهي، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، مضى هذا الشهر الكريم وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا، شاهد للمشمر بصيامه وقيامه، وعلى المقصر بغفلته وإعراضه، ولا ندري هل سندركه مرةً أخرى، أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات، فسلام الله على شهر الصيام والقيام. لقد مر كلمحة برق أو كغمضة عين، كان مضماراً يتنافس فيه المتنافسون، وميداناً يتسابق فيه المتسابقون، فكم من أكف ضارعة رفعت، ودموع ساخنة ذرفت، وعبرات حراء قد سكبت، وحق لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله، موسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار، لقد مر بنا هذا الشهر المبارك كطيف خيال مر بخيراته وبركاته، مضى من أعمارنا وهو شاهد لنا أو علينا لما أودعناه فيه، فليفتح كل واحد منا صفحة المحاسبة لنفسه ماذا عمل فيه؟ وماذا استفاد منه؟ وما أثره في النفوس؟ وما ثمراته في الواقع؟ وما مدى تأثيره على العمل والسلوك والأخلاق؟ إن السؤال المطروح بإلحاح: هل أخذنا بأسباب القبول بعد رمضان، وعزمنا على مواصلة الأعمال الصالحة كما هو هدي السلف الصالح، وكما هي حكمة شرعية هذه المواسم؟ عباد الله! لقد شرع الله لنا في ختام شهرنا عبادات وآداب منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، فامتثلوا أمر ربكم، واقتدوا بسنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم....... فرضية زكاة الفطر على الصائمين ومن الأعمال التي شرعت، والعبادات التي فرضت في آخر هذا الشهر زكاة الفطر، وزكاة الفطر فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على العبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين ). ولا تجب عن الحمل، ويجب إخراجها عن نفسه، وكذلك أيضاً عمن تلزمه مئونته من زوجة أو قريب، إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها عن أنفسهم؛ لأنهم المخاطبون بها أصلاً. والحكمة من هذه الزكاة: الإحسان إلى الفقراء، والكف لهم عن السؤال في أيام العيد ليشاركوا الأغنياء فرحتهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات)، رواه أبو داود وابن ماجه ، وصححه الحاكم . وأما جنس الواجب في الفطرة فهو طعام الآدميين من بر أو رز أو غير ذلك، لما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير)، وكان الشعير يوم ذاك من طعامهم. ولا يجزئ إخراج طعام البهائم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها طعمةً للمساكين لا للبهائم. ولا يجزئ إخراجها من الثياب والفرش والأواني والأمتعة، كذلك أيضاً لا يجزئ إخراج القيمة؛ لأن ذلك خلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها صاعاً من طعام؛ ولأن إخراج القيمة يخرج الفطرة عن كونها شعيرةً ظاهرة إلى كونها صدقة خفية، فإن إخراجها صاعاً من طعام يجعلها ظاهرةً بين المسلمين، معلومةً للصغير والكبير، يشاهدون كيلها وتوزيعها، ولا بأس أن يعطي الجمعية دراهم لكي تشتري طعاماً للمساكين، وإن تولى هو ذلك فهو أحسن. وأما مقدار الفطرة فهو صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وزنته بالجرامات ألفي غرام من البر الجيد، فإذا أردت أن تعرف الصاع النبوي فالتزم كيلوين وأربعين غراماً من البر الجيد، وتضعها في إناء بحيث تملؤه، ثم بعد ذلك تكيل في هذا الإناء....... وروي عن الحسن البصري قوله: ”لا بأس أن تُعطى الدراهم في صدقة الفطر”. والأمر واسع في الشريعة الإسلامية السّمحة، خاصّة إذا رأينا أنّ مصلحة الفقير أن نُعطيه القيمة، أمّا شيوخ الفتوى المعاصرين فأغلبهم وجمهورهم يُفتي بجواز إخراجها قيمة، بل حتّى من شيوخنا الشافعية والمالكية وقت إخراج زكاة الفطر ويستحب أن تخرج صباح العيد؛ لما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (كنا نخرج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعاً من طعام). وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه مسلم وغيره. ويجوز تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين؛ لما في صحيح البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى وإن كان يعطي عن بنيّ، وكان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرها عن الصلاة بلا عذر لم تقبل؛ لأنه خلاف ما أمر الله به، ولما تقدم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات أما إن أخرها لعذر فلا بأس مثل أن يصادفه العيد وليس عنده ما يدفع منه، أو يأتي خبر ثبوت العيد مفاجأة بحيث لا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة فإنه يخرجها ولو بعد الصلاة. وأما مكان دفعها فتدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج سواء كان محل إقامته، أو غيره من بلاد المسلمين، لا سيما إن كان مكاناً فاضلاً كمكة والمدينة، أو كان فقراؤه أشد حاجة، فإن كان في بلد ليس فيه من يدفع إليه، أو كان لا يعرف المستحقين وكَّل من يدفعها عنه في مكان فيه مستحق. والمستحقون لزكاة الفطر هم الفقراء، ومن عليهم ديون لا يستطيعون وفاءها فيعطون منها بقدر حاجتهم. عباد الله! يجوز توزيع الفطرة على أكثر من فقير، ويجوز دفع عدد من الفطر إلى مسكين واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر الواجب ولم يقدر من يدفع إليه. اللهم وفقنا للقيام بطاعتك على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم زك نفوسنا وأقوالنا وأفعالنا، وطهرنا من سوء العقيدة والقول والعمل، إنك جواد كريم، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد....... التكبير ختام رمضان ليلة العيد الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد. عباد الله! ومما يشرع من العبادات في نهاية هذا الشهر: التكبير عند إكمال العدة بعد غروب شمس آخر يوم من أيام رمضان، ويستمر هذا التكبير إلى دخول الإمام، يكبر الرجال والنساء تكبيراً مطلقاً في المساجد والأسواق والأماكن العامة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]. وهذا التكبير ليس مقيداً بأدبار الصلاة، بل هو تكبير مطلق، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يكبر حين خروجه إلى صلاة العيد إلى مجيء الإمام، فيسن للرجال أن يجهروا به في المساجد والأسواق والبيوت إعلاناً بتعظيم الله، وإظهاراً لعبادته وشكره، ويسر به النساء؛ لأنهن مأمورات بالتستر. ما أجمل الناس حال تكبيرهم تعظيماً لله وإجلالاً في نهاية شهر صومهم! يملئون الآفاق تكبيراً وتحميداً وتهليلاً، يرجون رحمة الله ويخافون عذابه....... وجوب صلاة العيد ومن العبادات المشروعة: صلاة العيد، وقد ذهب أبو حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله إلى أنها واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها أمراً عاماً للرجال والنساء، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج النساء إلى صلاة العيد مع أن البيوت خير لهن، بل حتى الحيض يخرجن إلى صلاة العيد، وهذا دليل على تأكيدها، قالت أم عطية رضي الله عنها: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين). ولا تشرع إلا على هذه الصفة، أي: مع الإمام؛ ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إلى أن صلاة العيد إذا فاتت المسلم فإنه لا يتمكن من قضائها، وعلى هذا فعلى المسلم أن يحرص عليها، وأن يبادر بالتبكير إليها....... من آداب يوم العيد ومن السنة: أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك، يقطعها على وتر، لقول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً) رواه أحمد والبخاري . ومن السنة: أن يخرج ماشياً لا راكباً إلا من عذر كعجز وبعد. ومن السنة والأدب: أن يتجمل الرجل، وأن يلبس أحسن ثيابه، لما في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ عمر جبةً من استبرق -أي: حرير- تباع في السوق، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ابتع هذه -يعني: اشترها- تجمل بها للعيد والوفد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذه لباس من لا خلاق له، وإنما قال ذلك لكونها حريراً، والرجل لا يجوز له أن يلبس الحرير. وأما المرأة فتخرج إلى العيد غير متجملة، ولا متطيبة، ولا متبرجة، ولا سافرة؛ لأنها مأمورة بالتستر، منهية عن التبرج بالزينة، وعن التطيب حال الخروج. ويؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلب، ويكثر من ذكر الله ودعائه، ويرجو رحمته، ويكون مستمراً على التكبير إلى أن يدخل الإمام. ومن السنن أيضاً: أن يغدو من طريق، وأن يرجع من طريق آخر؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وما يحصل بين الناس من تهان ونحوها فهذا كله من المشروع، وقد جاء ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وليكن المسلم فرحاً بنعمة الله عليه بإدراك رمضان، وعمل ما تيسر فيه من الصلاة والصيام والقراءة والصدقة وغير ذلك من الطاعات، فإن ذلك خير من الدنيا وما فيها، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]. (ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، فالمؤمن يفرح بإكماله الصوم لتخلصه به من الآثام، وضعيف الإيمان يفرح بإكماله لتخلصه من الصيام الذي كان ثقيلاً عليه، ضائقاً به صدره، والفرق بين الفرحين عظيم. اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعلنا ممن قام هذا الشهر الفضيل إيماناً واحتساباً، وممن صامه إيماناً واحتساباً برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المحيا، ومن فتنة الممات، ومن عذاب جهنم، ومن عذاب القبر. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم احفظ المسلمين والمسلمات في كل مكان، اللهم احفظهم بحفظك التام، واحرسهم بعينك التي لا تنام، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وفرج كربهم، وأطلق أسيرهم، يا أرحم الراحمين ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |