قريش وبواكير النقد..
لقد عجزت قريش وخلفها العرب قاطبة أن تجد ثغرة تغمز بها قناة الدين، رغم أن الدين الخاتم وكتابه الملهم في دياجير الأخطاء، نظمت حروفه وألفاظه من تلك تلك اللغة التي استقامت لهم، وجرت على ألسنتهم، ولكن في تراكيب لم يألفوها، وأساليب لم يعهدوها، رغم أن العرب هم من شيدوا دعائم هذه اللغة، وبنوا قصرها المنيف، الذي سطع نوره وضياؤه، وأشرق حسنه وبهاؤه، ذلك القصر الذي كان لقريش القدح المعلي في بنائه، فقد تغلبت لهجة قريش على سائر لهجات العرب الأخرى، وأضحت تلك اللهجة هي لغة الشعر التي يتحدث بها فحول الشعراء من جميع القبائل، لأن العرب كانت تشد الرحال إلى مكة وتضرب إليها أكباد الإبل، مكة معقل القريشين التي تنتشر بين طيات جبالها الشامخة، وأراضيها الجرداء، مضارب القوم الذين انحدر من إثلتهم خير من وطئت أقدامه الثرى، يفد إليها الأعراب من كل صقع وواد، لممارسة شعائرهم الدينية الباطلة، أو لتحكيم بهاليل قريش وسادتها في النزاعات أو لإبرام المعاهدات، أو لدفع الأتاوات لسدنة البيت، وفي ذلك يقول حماد الراوية: «إن العرب كانت تعرض شعرها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاً، وما ردوه منها كان مردوداً؛ فقدم عليهم علقمة بن عبده فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟
فقالوا هذه سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم
طحا بك قلب فى الحسان طروب *** بُعيد الشباب عصر حان مشيب
فقالوا: هاتان سمطا الدهر»
الشئ الآخر أن هناك يقيناً راسخاً لا يشوبه شك، ولا تخالطه ريبة، أن المعالم الأولى للنقد تكاد تكون مجهولة لأن النقد مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشعر، فإذا كنا لا نلم بميلاد الشعر ترتب على ذلك جهلنا بانطلاقة النقد الأدبي، و«إذا كنا لا نعرف الشعر العربي إلا متقناً محكماً قبيل الإسلام، فإننا لا نعرف النقد إلا في ذلك العهد». إن الشعر الذي أتت بدايته على شاكلة أبيات من السجع يشنف بها الساجع آذان قومه، ثم تطور إلى الرجز الذي مرّ بضروب عديدة من التشذيب والتهذيب، حتى أضحى في أواخر العصر الجاهلي لوحة موشاة تضج ألقاً وضياء، حتماً صاحبته ملاحظات ساذجة في كنهها، يلتقطها المستمع فى يسر، ويقولها دون تعقيد، ويبديها لصاحب الشعر عساه أن يزيل الواغش من شعره، ويبتغي به جانب الكمال، هذه الملاحظات كانت بمثابة النواة الأولى للنقد، ثم نمت وترعرعت فى كنف الشعر حتى بلغت الغاية القصوى من المتانة والإحكام في أواخر العصر الجاهلي، الذي عاش فيه رجال من ذوي البصائر النافذة، والأحلام الجزلة، كالنابغة الذبياني، والنعمان بن المنذر الذي أبدى اعتراضه على بيت مدحه به النابغة، فقد روي أن النابغة الذبياني قال للنعمان بن المنذر:
تراك الأرضُ إما مِتُ خِفّاً *** وتحيا إنْ حييت بها ثقيلا.
فقال النعمان: «هذا بيت إن أنت لم تتبعه بما يوضح معناه كان إلى الهجاء أقرب منه إلى المديح، فأراد ذلك النابغة فاستعصى عليه، وأسقط النابغة في يده حينما رأى أن شيطان الشعر أشاح بوجهه عنه، فطلب من النعمان أن يمهله فأمهله النعمان ليال ثلاث... ، فأتى النابغة زهير بن أبي سلمى فأخبره بما يقض مضجعه، فقال له زهير بعد أن أدخل عليه قبساً من نور التشجيع: دعنا نخرج إلى البرية فإن الشعر بري، فأتبعهم ابن لزهير يقال له كعب، فقال مخاطباً النابغة: يا عم اردفني، فصاح به أبوه متوعداً إياه، فألحّ كعب في الطلب وألحّ زهير بدوره في الرفض، فقال النابغة متضجراً: دع ابن أخي يكون معنا فأردفه، وطفقا يهيمان في البرية وكعب قابعاً خلف والده باسم الثغر، سعيداً لتلك الرحلة التي لم تكن تلوح في خاطره، والشاعران الجليلان يجهدان قريحتيهما ببيت يجلي عنهما غمرة من غمرات الكرب دون جدوى، حتى قال كعب الصغير: فما يمنعك يا عم أن تقول:
وذاك بأن حلْلت العزّ منها *** فتمنع جانبيها أن يزولا
فقال النابغة وقد تنفس الصعداء: جاء بها ورب الكعبة، لسنا والله في شيء. قد جعلت لك يا ابن أخي ما جعل النعمان لي... مائة من العصافير النجائب. فقال كعب: ما كنت لآخذ على شعري صفداً أي مقابلاً و عطاءً.
وطرفة بن العبد الذي عاب على المسيب بن علس نعته البعير بنعوت النياق، وذلك عندما سمع وهو حدث لم يبلغ بعد مبالغ الرجال المسيب يقول في وصف جمله:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره *** بناج عليه الصّيْعرية مُكْدم
فضحك منه وقال: استنوق الجمل. أي أصبح كالناقة يوصف بأوصافها، لأن الصّيْعرية صفة للنوق لا للفحول.
وأم جندب التي تنازع زوجها امرئ القيس وعلقمة الفحل الشاعرية وحكّماها فقالت لهما:«قولا شعراً على روي واحد وقافية واحدة تصفان فيه الخيل، فأنشد امرؤ الخيل قصيدته التي مطلعها:«خليلي مرا بي على أم جندب» حتى قال في الخيل:
فللسوط ألهوب، وللساق درة *** وللزجر منه وقع أخرج مهذب
وأنشد علقمة قصيدته «ذهبت من الهجران في كل مذهب» حتى قال في الخيل:
فأدركهن ثانياً من عنانه *** يمرُّ كمر الرائح المتحلب
ولما فرغا قالت أم جندب: «علقمة أشعر لأن فرسه كريم لا يحوج إلى الضرب، أما امرؤ القيس فقد أجهد فرسه وضربها بالسوط». وهناك بعض القصائد جيدة الحبك، مليحة الديباجة يركن إليها العرب، ولا تنفك ألسنتهم ترددها بنغم، وتجترها في سعادة، مثل تلك القصيدة التي نظمها سويد بن أبي كاهل اليشكري التي مطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا** فوصلنا الحبل منها ما اتسع
فسموها اليتيمة، لأن ليس لها أخت تنازعها الجمال وتضاهيها في حسن السبك، وطلاوة الألفاظ، وعذوبة الموسيقى.
وكذلك قصيدة حسان بن ثابت رضي الله عنه التي سموها البتارة التي مطلعها:
لله درعصابة نادمتهم *** يوماً بخلق في الزمان الأول
ودعوها البتارة التي بترت المدائح.
ومن ذلك النوع القصائد التي اضطرب ذكرها في الأرجاء، والتي سميت بالمعلقات والسموط لأن العرب كانوا يجلونها ويحتفون بها أيما احتفاء و«كثيراً ما كانت العرب تلقب الشعراء، وتلقب المدائح تنويهاً بها وإعظاماً لها، وإيماناً بأنها جيدة فريدة؛ لقبوا النمر بن تولب بالكيّس لحسن شعره، وسموا طفيل الغنوي طفيل الخيل لشدة وصفه إياها».
ونستطيع على ضوء ما تقدم أن نحدد ثلاثة أنواع للنقد تبرز واضحة في هذه الإتجاهات:
«الأول عام يقسم الشعراء إلى مدارس رئيسة كمدرستي الصنعة والطبع، والثاني خاص يفاضل بين الشعراء بالموازنة بين محاسن شعرهم وعيوبه، والثالث جزئي يتناول ألفاظاً أو معاني بعينها ويبين نصيبها من الصحة والخطأ على حسب العرف اللغوي أو المألوف الاجتماعي».
ولعل هذه الأمثلة والشواهد هي التي جعلت الناقد المصري الراحل الأستاذ طه أحمد إبراهيم يقر بأنها تدل على وجود صور من صور النقد الأدبي في العصر الجاهلي، رغم أنه نسب بعضها إلى القرن الثالث بعد أن دونت العلوم، ودرس المنطق، وعُرِفْ شيء من رسوم البلاغة، وهو القول الذي لم ينضجه بحث، أو تصاحبه روية، فنجده يقول في سفره القيم: «على أن هناك ما لعله أعمق فى تلك الشواهد، وأبلغ في الدلالة على وجود هذا النقد، فقد نستطيع أن نقول إن الشعر في أواخر العصر الجاهلي كاد يكون فناً يدرس ويتلقى، وتوجد فيه مذاهب أدبية مختلفة».
ونجد أن النقاد المعاصرين ينظرون بكل حيف وشطط إلى تلك اللوحات البديعة التي لا مساغ للشك بأنها لم تكن مجرد أحكام عامة غير معللة، أو لمحات خاطفة، أو خواطر بديهية ساذجة تنبع من ذوق بدائي، ولكنها كانت أحكاماً تصدر عن علم راسخ بالقريض، ومعرفة تامة بالروي، ولن ندرك حقيقة ذلك إلا إذا تخلينا عن انطباعنا المسبق، وأوغلنا في البحث، وأمعنا في التنقيب بهمة لا تلتفت إلى صخب النقاد الذين يجردون الجاهليين من كل مكرمة، وينزعون عنهم كل فضل
لقد عجزت قريش وخلفها العرب قاطبة أن تجد ثغرة تغمز بها قناة الدين، رغم أن الدين الخاتم وكتابه الملهم في دياجير الأخطاء، نظمت حروفه وألفاظه من تلك تلك اللغة التي استقامت لهم، وجرت على ألسنتهم، ولكن في تراكيب لم يألفوها، وأساليب لم يعهدوها، رغم أن العرب هم من شيدوا دعائم هذه اللغة، وبنوا قصرها المنيف، الذي سطع نوره وضياؤه، وأشرق حسنه وبهاؤه، ذلك القصر الذي كان لقريش القدح المعلي في بنائه، فقد تغلبت لهجة قريش على سائر لهجات العرب الأخرى، وأضحت تلك اللهجة هي لغة الشعر التي يتحدث بها فحول الشعراء من جميع القبائل، لأن العرب كانت تشد الرحال إلى مكة وتضرب إليها أكباد الإبل، مكة معقل القريشين التي تنتشر بين طيات جبالها الشامخة، وأراضيها الجرداء، مضارب القوم الذين انحدر من إثلتهم خير من وطئت أقدامه الثرى، يفد إليها الأعراب من كل صقع وواد، لممارسة شعائرهم الدينية الباطلة، أو لتحكيم بهاليل قريش وسادتها في النزاعات أو لإبرام المعاهدات، أو لدفع الأتاوات لسدنة البيت، وفي ذلك يقول حماد الراوية: «إن العرب كانت تعرض شعرها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاً، وما ردوه منها كان مردوداً؛ فقدم عليهم علقمة بن عبده فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟
فقالوا هذه سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم
طحا بك قلب فى الحسان طروب *** بُعيد الشباب عصر حان مشيب
فقالوا: هاتان سمطا الدهر»
الشئ الآخر أن هناك يقيناً راسخاً لا يشوبه شك، ولا تخالطه ريبة، أن المعالم الأولى للنقد تكاد تكون مجهولة لأن النقد مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشعر، فإذا كنا لا نلم بميلاد الشعر ترتب على ذلك جهلنا بانطلاقة النقد الأدبي، و«إذا كنا لا نعرف الشعر العربي إلا متقناً محكماً قبيل الإسلام، فإننا لا نعرف النقد إلا في ذلك العهد». إن الشعر الذي أتت بدايته على شاكلة أبيات من السجع يشنف بها الساجع آذان قومه، ثم تطور إلى الرجز الذي مرّ بضروب عديدة من التشذيب والتهذيب، حتى أضحى في أواخر العصر الجاهلي لوحة موشاة تضج ألقاً وضياء، حتماً صاحبته ملاحظات ساذجة في كنهها، يلتقطها المستمع فى يسر، ويقولها دون تعقيد، ويبديها لصاحب الشعر عساه أن يزيل الواغش من شعره، ويبتغي به جانب الكمال، هذه الملاحظات كانت بمثابة النواة الأولى للنقد، ثم نمت وترعرعت فى كنف الشعر حتى بلغت الغاية القصوى من المتانة والإحكام في أواخر العصر الجاهلي، الذي عاش فيه رجال من ذوي البصائر النافذة، والأحلام الجزلة، كالنابغة الذبياني، والنعمان بن المنذر الذي أبدى اعتراضه على بيت مدحه به النابغة، فقد روي أن النابغة الذبياني قال للنعمان بن المنذر:
تراك الأرضُ إما مِتُ خِفّاً *** وتحيا إنْ حييت بها ثقيلا.
فقال النعمان: «هذا بيت إن أنت لم تتبعه بما يوضح معناه كان إلى الهجاء أقرب منه إلى المديح، فأراد ذلك النابغة فاستعصى عليه، وأسقط النابغة في يده حينما رأى أن شيطان الشعر أشاح بوجهه عنه، فطلب من النعمان أن يمهله فأمهله النعمان ليال ثلاث... ، فأتى النابغة زهير بن أبي سلمى فأخبره بما يقض مضجعه، فقال له زهير بعد أن أدخل عليه قبساً من نور التشجيع: دعنا نخرج إلى البرية فإن الشعر بري، فأتبعهم ابن لزهير يقال له كعب، فقال مخاطباً النابغة: يا عم اردفني، فصاح به أبوه متوعداً إياه، فألحّ كعب في الطلب وألحّ زهير بدوره في الرفض، فقال النابغة متضجراً: دع ابن أخي يكون معنا فأردفه، وطفقا يهيمان في البرية وكعب قابعاً خلف والده باسم الثغر، سعيداً لتلك الرحلة التي لم تكن تلوح في خاطره، والشاعران الجليلان يجهدان قريحتيهما ببيت يجلي عنهما غمرة من غمرات الكرب دون جدوى، حتى قال كعب الصغير: فما يمنعك يا عم أن تقول:
وذاك بأن حلْلت العزّ منها *** فتمنع جانبيها أن يزولا
فقال النابغة وقد تنفس الصعداء: جاء بها ورب الكعبة، لسنا والله في شيء. قد جعلت لك يا ابن أخي ما جعل النعمان لي... مائة من العصافير النجائب. فقال كعب: ما كنت لآخذ على شعري صفداً أي مقابلاً و عطاءً.
وطرفة بن العبد الذي عاب على المسيب بن علس نعته البعير بنعوت النياق، وذلك عندما سمع وهو حدث لم يبلغ بعد مبالغ الرجال المسيب يقول في وصف جمله:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره *** بناج عليه الصّيْعرية مُكْدم
فضحك منه وقال: استنوق الجمل. أي أصبح كالناقة يوصف بأوصافها، لأن الصّيْعرية صفة للنوق لا للفحول.
وأم جندب التي تنازع زوجها امرئ القيس وعلقمة الفحل الشاعرية وحكّماها فقالت لهما:«قولا شعراً على روي واحد وقافية واحدة تصفان فيه الخيل، فأنشد امرؤ الخيل قصيدته التي مطلعها:«خليلي مرا بي على أم جندب» حتى قال في الخيل:
فللسوط ألهوب، وللساق درة *** وللزجر منه وقع أخرج مهذب
وأنشد علقمة قصيدته «ذهبت من الهجران في كل مذهب» حتى قال في الخيل:
فأدركهن ثانياً من عنانه *** يمرُّ كمر الرائح المتحلب
ولما فرغا قالت أم جندب: «علقمة أشعر لأن فرسه كريم لا يحوج إلى الضرب، أما امرؤ القيس فقد أجهد فرسه وضربها بالسوط». وهناك بعض القصائد جيدة الحبك، مليحة الديباجة يركن إليها العرب، ولا تنفك ألسنتهم ترددها بنغم، وتجترها في سعادة، مثل تلك القصيدة التي نظمها سويد بن أبي كاهل اليشكري التي مطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا** فوصلنا الحبل منها ما اتسع
فسموها اليتيمة، لأن ليس لها أخت تنازعها الجمال وتضاهيها في حسن السبك، وطلاوة الألفاظ، وعذوبة الموسيقى.
وكذلك قصيدة حسان بن ثابت رضي الله عنه التي سموها البتارة التي مطلعها:
لله درعصابة نادمتهم *** يوماً بخلق في الزمان الأول
ودعوها البتارة التي بترت المدائح.
ومن ذلك النوع القصائد التي اضطرب ذكرها في الأرجاء، والتي سميت بالمعلقات والسموط لأن العرب كانوا يجلونها ويحتفون بها أيما احتفاء و«كثيراً ما كانت العرب تلقب الشعراء، وتلقب المدائح تنويهاً بها وإعظاماً لها، وإيماناً بأنها جيدة فريدة؛ لقبوا النمر بن تولب بالكيّس لحسن شعره، وسموا طفيل الغنوي طفيل الخيل لشدة وصفه إياها».
ونستطيع على ضوء ما تقدم أن نحدد ثلاثة أنواع للنقد تبرز واضحة في هذه الإتجاهات:
«الأول عام يقسم الشعراء إلى مدارس رئيسة كمدرستي الصنعة والطبع، والثاني خاص يفاضل بين الشعراء بالموازنة بين محاسن شعرهم وعيوبه، والثالث جزئي يتناول ألفاظاً أو معاني بعينها ويبين نصيبها من الصحة والخطأ على حسب العرف اللغوي أو المألوف الاجتماعي».
ولعل هذه الأمثلة والشواهد هي التي جعلت الناقد المصري الراحل الأستاذ طه أحمد إبراهيم يقر بأنها تدل على وجود صور من صور النقد الأدبي في العصر الجاهلي، رغم أنه نسب بعضها إلى القرن الثالث بعد أن دونت العلوم، ودرس المنطق، وعُرِفْ شيء من رسوم البلاغة، وهو القول الذي لم ينضجه بحث، أو تصاحبه روية، فنجده يقول في سفره القيم: «على أن هناك ما لعله أعمق فى تلك الشواهد، وأبلغ في الدلالة على وجود هذا النقد، فقد نستطيع أن نقول إن الشعر في أواخر العصر الجاهلي كاد يكون فناً يدرس ويتلقى، وتوجد فيه مذاهب أدبية مختلفة».
ونجد أن النقاد المعاصرين ينظرون بكل حيف وشطط إلى تلك اللوحات البديعة التي لا مساغ للشك بأنها لم تكن مجرد أحكام عامة غير معللة، أو لمحات خاطفة، أو خواطر بديهية ساذجة تنبع من ذوق بدائي، ولكنها كانت أحكاماً تصدر عن علم راسخ بالقريض، ومعرفة تامة بالروي، ولن ندرك حقيقة ذلك إلا إذا تخلينا عن انطباعنا المسبق، وأوغلنا في البحث، وأمعنا في التنقيب بهمة لا تلتفت إلى صخب النقاد الذين يجردون الجاهليين من كل مكرمة، وينزعون عنهم كل فضل