أزمة النقد العربي
يُثار من حين لآخر جدل في الأوساط الأدبية العربية حول أزمة النقد العربي وأسبابها. وتعقد الندوات والحلقات الدراسية حول هذا الموضوع وتتابين الآراء وتختلف وتتغاير. ويهيء للمتلقي من كثرة الجدل حول هذا الموضوع أن أزمة النقد العربي هي الأزمة الوحيدة في العالم العربي دون باقي أوجه النشاطات الانسانية العربية الأخرى. فلا أزمة في الفكر، ولا أزمة في النقد السياسي، ولا أزمة في الاقتصاد، ولا أزمة في الحياة الاجتماعية، ولا أزمة في القيم. في حين أن واقع الأمة العربية يعج بالأزمات على مختلف المستويات، ومنها أزمة النقد الأدبي المرتبط ارتباطاً شديداً بالتقدم الأدبي والتقدم الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي.
فمن الممكن أن تخرج كوكبة ممتازة من الشعراء من أمة ليست متقدمة في مختلف المجالات. ومن الممكن أن تخرج كوكبة ممتازة من الروائيين من أمة ليست على مستوى كبير من التقدم الفكري والاقتصادي والسياسي. ولنا من بعض الدول الإفريقية وبعض دول أمريكا اللاتينية التي حاز مبدعوها على جوائز نوبل وغيرها من الجوائز خير دليل على ذلك. ولكن من الصعب أن تخرج كوكبة من النقاد الممتازين من أمة متخلفة فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فالنقد الأدبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بهوامش الحرية ومدى الانجاز الديمقراطي ومدى الانفتاح الاجتماعي والتقدم العلمي والاقتصادي. ولعل هذا ما يفسر لنا عدم وجود نقاد لامعين خرجوا من إفريقيا أو من أمريكا اللاتينية أو من العالم العربي كذلك، ما عدا أولئك النقاد الذين درسوا في الغرب، وأقاموا فيه، واطلعوا على أساليب المعرفة الحديثة بشتى وجوهها، وتمتعوا بالجو الديمقراطي وبهوامش الحرية الفكرية والسياسية الكبيرة المتوفرة.
ولو حاولنا الاقتراب أكثر من أزمة النقد العربي المعاصر، ومعرفة أسبابها معرفة حصرية خاصة، لوجدنا أن هذه الأسباب تتلخص في التالي:
▪ سوء مناهج التعليم العربية التقليدية التي تنصب في الدرجة الأولى على التركيز على التلقين والحفظ وتدريس المناهج الموميائية، لا على الخلق والابتكار. وضعف أو خلو هذه المناهج من المواد الفنية كالرسم والموسيقا والنحت والغناء ونظم الشعر وكتابة القصة والخطابة وخلاف ذلك من المواد الفنية التي تنمّي حس الطالب الفني والجمالي وتثقّف حواسه، وتجعل منه ذائقة قابلة لقراءة الأعمال الابداعية وممارسة النقد الفني والأدبي الأولي، وهو ما زال على مقاعد الدراسة المتوسطة أو الثانوية. ونتيجة لذلك أصبحت المدارس والجامعات تقذف كل عام إلى الشارع العربي بآلاف الطلبة الخريجين الذين لا يجيدون قراءة نص ابداعي قراءة نقدية جمالية متذوقة، كما لا يجيدون انتاج الابداع أو انتاج النقد المبدع.
▪ عدم تمكن معظم النقاد العرب من الاطلاع على مناهج النقد الحديثة والجديدة في الغرب اطلاعاً واسعاً ، مكتفين بالقليل مما يترجم من هذه المناهج، أو مكتفين بقراءات سطحية لهذه المناهج. وسبب هذا الأزمة الخانقة التي تمر بها الثقافة العربية المعاصرة والتقصير في الترجمة الذي أصبح فضيحة في العالم عندما نشرت الأمم المتحدة تقريرها السنوي لعام 2002 عن التنمية الإنسانية في العالم العربي . وقالت في هذا التقرير أن اسبانيا وحدها تترجم في السنة الواحدة مقدار ما يترجمه العالم العربي مجتمعاً منذ عصر الخليفة المأمون إلى الآن (813-2001) أي على مدى ثلاثة عشر قرناً! وأننا نترجم سنوياً خُمس ما تُترجمه اليونان!
▪ عدم تقدم العلوم الحديثة عند العرب كعلم الفيللوجيا (اللغة) وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد وغيرها من العلوم المرتبطة ارتباطاً شديداً بعلم النقد الأدبي.
▪ عدم تواصل النقد العربي المعاصر مع حركة النقد في الغرب. وظلت حركة النقد العربي منكفئة على نفسها ، دون حوار أو مثاقفة أو التحام مع الآخر. مما جعل النقد العربي يدور حول نفسه باستمرار. وكان هذا الموقف جزءاً من الموقف الثقافي العربي العام من الآخر.
▪ تغلب النقد الأيديولوجي على باقي مدارس النقد الأخرى وخاصة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، عندما علت موجة القومية العربية، والأدب والفكر الاشتراكيين. وأضحت بعض دور النشر العربية لاتقبل نشر أية دراسة نقدية إلا إذا وافقت الأيديولوجيا التي تنتهجها سواء كانت قومية أو ماركسية أو اسلامية أو غيرها. وأصبحت الحركة النقدية أحزاباً وشيعاً منغلقة، مثلها مثل الأحزاب السياسية والدينية.
▪ توجيه الدراسات النقدية الأكاديمية (رسالات الماجستير والدكتوارة) وجهة الأساتذة الأكاديميين المشرفين على كتابة هذه الرسائل. فإذا كان هؤلاء الأساتذة من مدرسة النقد البنيوي مثلاً ( والتي طغت في الثمانينات والتسعينات بعد انحسار موجة النقد الإيديولوجي) تعمّد الطلبة أن ينهجوا هذا المنهاج ضماناً للحصول على الدرجة الجامعة. وقد لاحظتُ في السنوات الماضية على سبيل المثال أن معظم رسائل الماجستير والدكتوارة في النقد الأدبي كانت في الجامعة الأردنية في عمان تنهج منهاج النقد البنيوي لوجود عدد كبير من أساتذة الأدب العربي على هذا المنهاج في كلية الآداب. وبذا تحول الأساتذة إلى "سلطة نقدية" قامعة. وأصبح الطلبة على "دين" أساتذتهم النقدي، عملاً بالقول (الناس على دين آبائهم) ضماناً للدرجة العلمية والنجاح. ومن هنا تتردد الجامعة في نشر بعض هذه الرسائل أو حتى تصويرها لكي يتم الاطلاع عليها من قبل المهتمين. وهذا كله نابع من المناخ اللاديمقراطي الذي يعيشه العالم العربي. فإذا كانت الحرية لا تتوفر في مناحي الحياة المختلفة، فكيف لها أن تتوفر داخل أسوار الجامعة؟
▪ أصبح المبدعون العرب من شعراء وروائيين وقصاصين مثلهم مثل معظم الحكام العرب. فهم شديدو الحساسية تجاه أية دراسة نقدية. وكما أن بعض الحكام العرب يعتبرون أن أي نقد يوجه لسياستهم هو موجه لهم شخصياً، فكذلك يتصرف المبدعون العرب. فلو كان في النقد الأدبي لبعض الأعمال الابداعية بعض الجوانب السلبية لاعتبرت من قبل المبدع صاحب العمل الإبداعي هجوماً شخصياً عليه. فالمبدع في العالم العربي ما زال كالحاكم العربي لا يُفرّق بين عمله وشخصه. وكثيراً ما تحوّل الجدل النقدي إلى سباب ومهاترات بين المبدعين وبين النقاد نتيجة لذلك. ولنا من معارك العقاد وطه حسين ومصطفى المنفلوطي ومحمود أمين العالم وغيرهم خير مثال على ذلك. ولا تمر فترة إلا ونشهد على صفحات الصحف أمثلة متكررة مثل هذه. وهي إن دلّت على شيء فإنما تدل على مدى ضيق الأفق النقدي العربي بصورة عامة وهو ناتج بالضرورة من ضيق هامش الحرية في المجتمع العربي عموماً، وبعدم مراسنا وتمرسنا بالأساليب الديمقراطية في الجدل والحوار العام.
▪ وقد نتج عن هذه الحساسية عدم استجابة المبدعين العرب لاستفسارات النقاد وتساؤلاتهم. فكما أن الحكام (يطنشون) المتسائلين في مختلف الميادين فكذلك يفعل المبدعون الذين تحول بعض النجوم منهم إلى سلطات ثقافية قامعة. واتُهم بعض المبدعين العرب بأنهم "آلهات" لا تُسأل عما تفعل، والنقاد هم الذين يُسألون فقط. وقد شكا اليّ عدد من النقاد الأصدقاء بأنهم كتبوا إلى شعراء وروائيين عرب مختلفين يستوضحون منهم عن بعض الجوانب المتعلقة بأعمالهم الأدبية لكي تُدرج هذه الإجابات وتكون من ضمن دراساتهم النقدية التي ينوون القيام بها، فلم يلقوا من هؤلاء المبدعين غير الصدِّ وعدم الرد والإهمال والتعالي. وشكا إلي بعض الأصدقاء من النقاد من أنهم عندما يلتقون بالمبدعين العرب، فإنهم في واقع الأمر يلتقون مع طواويس متعالية مُكابرة، لا تسمح بالحوار والجدل والنقد العلمي وخاصة إن كان هذا النقد لا يوافق هوى المبدع. وبذلك انقطعت الصلة الحميمة إلى حد كبير بين المبدع وبين الناقد الذي يُنظر اليه دائماً بعين الشك والريبة والحذر والتربص من قبل المبدع. وهي نفس النظرة التي تنظر بها بعض الأنظمة العربية السياسية إلى المعارضة والمعارضين.
▪ أزمة النشر العربي الراهنية وانصراف الناشرين عن نشر الأعمال النقدية. وكذلك قلة المجلات العربية المتخصصة في مجال النقد. فالناقد العربي اليوم يفكر ألف مرة قبل أن يكتب دراسة نقدية عميقة وموثقة عن أي عمل إبداعي عربي. فإزمة نشر النقد الأدبي خانقة في العالم العربي كما أنها خانقة عموماً. وقد ذكر لي بعض الناشرين العرب بأنهم يطبعون خمسمائة نسخة فقط من أفضل الدراسات النقدية وهي غالباً ما تكون أكاديمية وتُشترى من قبـل الطلبة كمادة تعليميـة مقـررة (Text Book). وأن ما ينشره الناشرون لا يزيد على عشرة بالمائة من عروض النشر التي يتلقونها من النقاد. وما نقرأه في الصحافة اليومية أو الأسبوعية من نقود للأعمال الإبداعية في بعض الأحيان ما هي في معظمها إلا تغطيات صحافية سطحية مأخوذ معظمها من مقدمة العمل المنقود أو منسوخة بالكامل من كلمة الناشر أو المؤلف على الغلاف الأخير. فيما تحولت بعض المجلات النقدية في الماضي (مجلة الناقد) إلى مجلات "فضائح نقدية" أكثر منها مجلة "دراسات نقدية". أو تحولت إلى مجلات قاصرة على مدرسة نقدية واحدة كمجلة (فصول) التي تبنت تبنياً كاملاً مدرسة النقد البنيوي. وأصبح الناقد العربي لا يجد الواسطة التي ينشر فيها انتاجه خاصة إذا كان لا ينتمي إلى منبر من منابر النقد الايديولوجي أو المدرسي. وكان ذلك كله ينبع من منطق الحياة العربية السائد والمتمثل بالحزب الواحد والزعيم الأوحد والقائد الأفرد.
▪ عزوف القارئ عن قراءة الدراسات النقدية التي اصبحت قاصرة على النخبة المنتخبة. لقد كان أمام النقد العربي فرصة كبيرة لتربية أجيال من الشباب على علم وفن النقد الأدبي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما كان سيثري الحياة الثقافية العربية بشكل كبير. ولكن إغراق النقد الأدبي بالايديولوجيا، وانتهاج لغة ملتوية عسيرة، أو كما قال طه حسين (يوناني لا يُقرأ) جعل القراء عازفين عن قراءة النقد الذي أصبح جزء كبير منه طلاسم أشبه بمعادلات الكيمياء والفيزياء والرياضيات.
▪ وأخيراً، فقد افتقد النقد العربي الناقد الفنان. وأصبح الناقد الأديب الذي ظهر لنا في النصف الأول من القرن العشرين نادر الوجود. ولو حاولنا أن نقدم لائحة بجرد أبرز النقاد العرب في العصر الحاضر (في النصف الثاني من القرن العشرين) لوجدنا أن القلة القليلة منهم هي التي تتمتع بروح فنية عالية.
منقول للفائدة
يُثار من حين لآخر جدل في الأوساط الأدبية العربية حول أزمة النقد العربي وأسبابها. وتعقد الندوات والحلقات الدراسية حول هذا الموضوع وتتابين الآراء وتختلف وتتغاير. ويهيء للمتلقي من كثرة الجدل حول هذا الموضوع أن أزمة النقد العربي هي الأزمة الوحيدة في العالم العربي دون باقي أوجه النشاطات الانسانية العربية الأخرى. فلا أزمة في الفكر، ولا أزمة في النقد السياسي، ولا أزمة في الاقتصاد، ولا أزمة في الحياة الاجتماعية، ولا أزمة في القيم. في حين أن واقع الأمة العربية يعج بالأزمات على مختلف المستويات، ومنها أزمة النقد الأدبي المرتبط ارتباطاً شديداً بالتقدم الأدبي والتقدم الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي.
فمن الممكن أن تخرج كوكبة ممتازة من الشعراء من أمة ليست متقدمة في مختلف المجالات. ومن الممكن أن تخرج كوكبة ممتازة من الروائيين من أمة ليست على مستوى كبير من التقدم الفكري والاقتصادي والسياسي. ولنا من بعض الدول الإفريقية وبعض دول أمريكا اللاتينية التي حاز مبدعوها على جوائز نوبل وغيرها من الجوائز خير دليل على ذلك. ولكن من الصعب أن تخرج كوكبة من النقاد الممتازين من أمة متخلفة فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فالنقد الأدبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بهوامش الحرية ومدى الانجاز الديمقراطي ومدى الانفتاح الاجتماعي والتقدم العلمي والاقتصادي. ولعل هذا ما يفسر لنا عدم وجود نقاد لامعين خرجوا من إفريقيا أو من أمريكا اللاتينية أو من العالم العربي كذلك، ما عدا أولئك النقاد الذين درسوا في الغرب، وأقاموا فيه، واطلعوا على أساليب المعرفة الحديثة بشتى وجوهها، وتمتعوا بالجو الديمقراطي وبهوامش الحرية الفكرية والسياسية الكبيرة المتوفرة.
ولو حاولنا الاقتراب أكثر من أزمة النقد العربي المعاصر، ومعرفة أسبابها معرفة حصرية خاصة، لوجدنا أن هذه الأسباب تتلخص في التالي:
▪ سوء مناهج التعليم العربية التقليدية التي تنصب في الدرجة الأولى على التركيز على التلقين والحفظ وتدريس المناهج الموميائية، لا على الخلق والابتكار. وضعف أو خلو هذه المناهج من المواد الفنية كالرسم والموسيقا والنحت والغناء ونظم الشعر وكتابة القصة والخطابة وخلاف ذلك من المواد الفنية التي تنمّي حس الطالب الفني والجمالي وتثقّف حواسه، وتجعل منه ذائقة قابلة لقراءة الأعمال الابداعية وممارسة النقد الفني والأدبي الأولي، وهو ما زال على مقاعد الدراسة المتوسطة أو الثانوية. ونتيجة لذلك أصبحت المدارس والجامعات تقذف كل عام إلى الشارع العربي بآلاف الطلبة الخريجين الذين لا يجيدون قراءة نص ابداعي قراءة نقدية جمالية متذوقة، كما لا يجيدون انتاج الابداع أو انتاج النقد المبدع.
▪ عدم تمكن معظم النقاد العرب من الاطلاع على مناهج النقد الحديثة والجديدة في الغرب اطلاعاً واسعاً ، مكتفين بالقليل مما يترجم من هذه المناهج، أو مكتفين بقراءات سطحية لهذه المناهج. وسبب هذا الأزمة الخانقة التي تمر بها الثقافة العربية المعاصرة والتقصير في الترجمة الذي أصبح فضيحة في العالم عندما نشرت الأمم المتحدة تقريرها السنوي لعام 2002 عن التنمية الإنسانية في العالم العربي . وقالت في هذا التقرير أن اسبانيا وحدها تترجم في السنة الواحدة مقدار ما يترجمه العالم العربي مجتمعاً منذ عصر الخليفة المأمون إلى الآن (813-2001) أي على مدى ثلاثة عشر قرناً! وأننا نترجم سنوياً خُمس ما تُترجمه اليونان!
▪ عدم تقدم العلوم الحديثة عند العرب كعلم الفيللوجيا (اللغة) وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد وغيرها من العلوم المرتبطة ارتباطاً شديداً بعلم النقد الأدبي.
▪ عدم تواصل النقد العربي المعاصر مع حركة النقد في الغرب. وظلت حركة النقد العربي منكفئة على نفسها ، دون حوار أو مثاقفة أو التحام مع الآخر. مما جعل النقد العربي يدور حول نفسه باستمرار. وكان هذا الموقف جزءاً من الموقف الثقافي العربي العام من الآخر.
▪ تغلب النقد الأيديولوجي على باقي مدارس النقد الأخرى وخاصة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، عندما علت موجة القومية العربية، والأدب والفكر الاشتراكيين. وأضحت بعض دور النشر العربية لاتقبل نشر أية دراسة نقدية إلا إذا وافقت الأيديولوجيا التي تنتهجها سواء كانت قومية أو ماركسية أو اسلامية أو غيرها. وأصبحت الحركة النقدية أحزاباً وشيعاً منغلقة، مثلها مثل الأحزاب السياسية والدينية.
▪ توجيه الدراسات النقدية الأكاديمية (رسالات الماجستير والدكتوارة) وجهة الأساتذة الأكاديميين المشرفين على كتابة هذه الرسائل. فإذا كان هؤلاء الأساتذة من مدرسة النقد البنيوي مثلاً ( والتي طغت في الثمانينات والتسعينات بعد انحسار موجة النقد الإيديولوجي) تعمّد الطلبة أن ينهجوا هذا المنهاج ضماناً للحصول على الدرجة الجامعة. وقد لاحظتُ في السنوات الماضية على سبيل المثال أن معظم رسائل الماجستير والدكتوارة في النقد الأدبي كانت في الجامعة الأردنية في عمان تنهج منهاج النقد البنيوي لوجود عدد كبير من أساتذة الأدب العربي على هذا المنهاج في كلية الآداب. وبذا تحول الأساتذة إلى "سلطة نقدية" قامعة. وأصبح الطلبة على "دين" أساتذتهم النقدي، عملاً بالقول (الناس على دين آبائهم) ضماناً للدرجة العلمية والنجاح. ومن هنا تتردد الجامعة في نشر بعض هذه الرسائل أو حتى تصويرها لكي يتم الاطلاع عليها من قبل المهتمين. وهذا كله نابع من المناخ اللاديمقراطي الذي يعيشه العالم العربي. فإذا كانت الحرية لا تتوفر في مناحي الحياة المختلفة، فكيف لها أن تتوفر داخل أسوار الجامعة؟
▪ أصبح المبدعون العرب من شعراء وروائيين وقصاصين مثلهم مثل معظم الحكام العرب. فهم شديدو الحساسية تجاه أية دراسة نقدية. وكما أن بعض الحكام العرب يعتبرون أن أي نقد يوجه لسياستهم هو موجه لهم شخصياً، فكذلك يتصرف المبدعون العرب. فلو كان في النقد الأدبي لبعض الأعمال الابداعية بعض الجوانب السلبية لاعتبرت من قبل المبدع صاحب العمل الإبداعي هجوماً شخصياً عليه. فالمبدع في العالم العربي ما زال كالحاكم العربي لا يُفرّق بين عمله وشخصه. وكثيراً ما تحوّل الجدل النقدي إلى سباب ومهاترات بين المبدعين وبين النقاد نتيجة لذلك. ولنا من معارك العقاد وطه حسين ومصطفى المنفلوطي ومحمود أمين العالم وغيرهم خير مثال على ذلك. ولا تمر فترة إلا ونشهد على صفحات الصحف أمثلة متكررة مثل هذه. وهي إن دلّت على شيء فإنما تدل على مدى ضيق الأفق النقدي العربي بصورة عامة وهو ناتج بالضرورة من ضيق هامش الحرية في المجتمع العربي عموماً، وبعدم مراسنا وتمرسنا بالأساليب الديمقراطية في الجدل والحوار العام.
▪ وقد نتج عن هذه الحساسية عدم استجابة المبدعين العرب لاستفسارات النقاد وتساؤلاتهم. فكما أن الحكام (يطنشون) المتسائلين في مختلف الميادين فكذلك يفعل المبدعون الذين تحول بعض النجوم منهم إلى سلطات ثقافية قامعة. واتُهم بعض المبدعين العرب بأنهم "آلهات" لا تُسأل عما تفعل، والنقاد هم الذين يُسألون فقط. وقد شكا اليّ عدد من النقاد الأصدقاء بأنهم كتبوا إلى شعراء وروائيين عرب مختلفين يستوضحون منهم عن بعض الجوانب المتعلقة بأعمالهم الأدبية لكي تُدرج هذه الإجابات وتكون من ضمن دراساتهم النقدية التي ينوون القيام بها، فلم يلقوا من هؤلاء المبدعين غير الصدِّ وعدم الرد والإهمال والتعالي. وشكا إلي بعض الأصدقاء من النقاد من أنهم عندما يلتقون بالمبدعين العرب، فإنهم في واقع الأمر يلتقون مع طواويس متعالية مُكابرة، لا تسمح بالحوار والجدل والنقد العلمي وخاصة إن كان هذا النقد لا يوافق هوى المبدع. وبذلك انقطعت الصلة الحميمة إلى حد كبير بين المبدع وبين الناقد الذي يُنظر اليه دائماً بعين الشك والريبة والحذر والتربص من قبل المبدع. وهي نفس النظرة التي تنظر بها بعض الأنظمة العربية السياسية إلى المعارضة والمعارضين.
▪ أزمة النشر العربي الراهنية وانصراف الناشرين عن نشر الأعمال النقدية. وكذلك قلة المجلات العربية المتخصصة في مجال النقد. فالناقد العربي اليوم يفكر ألف مرة قبل أن يكتب دراسة نقدية عميقة وموثقة عن أي عمل إبداعي عربي. فإزمة نشر النقد الأدبي خانقة في العالم العربي كما أنها خانقة عموماً. وقد ذكر لي بعض الناشرين العرب بأنهم يطبعون خمسمائة نسخة فقط من أفضل الدراسات النقدية وهي غالباً ما تكون أكاديمية وتُشترى من قبـل الطلبة كمادة تعليميـة مقـررة (Text Book). وأن ما ينشره الناشرون لا يزيد على عشرة بالمائة من عروض النشر التي يتلقونها من النقاد. وما نقرأه في الصحافة اليومية أو الأسبوعية من نقود للأعمال الإبداعية في بعض الأحيان ما هي في معظمها إلا تغطيات صحافية سطحية مأخوذ معظمها من مقدمة العمل المنقود أو منسوخة بالكامل من كلمة الناشر أو المؤلف على الغلاف الأخير. فيما تحولت بعض المجلات النقدية في الماضي (مجلة الناقد) إلى مجلات "فضائح نقدية" أكثر منها مجلة "دراسات نقدية". أو تحولت إلى مجلات قاصرة على مدرسة نقدية واحدة كمجلة (فصول) التي تبنت تبنياً كاملاً مدرسة النقد البنيوي. وأصبح الناقد العربي لا يجد الواسطة التي ينشر فيها انتاجه خاصة إذا كان لا ينتمي إلى منبر من منابر النقد الايديولوجي أو المدرسي. وكان ذلك كله ينبع من منطق الحياة العربية السائد والمتمثل بالحزب الواحد والزعيم الأوحد والقائد الأفرد.
▪ عزوف القارئ عن قراءة الدراسات النقدية التي اصبحت قاصرة على النخبة المنتخبة. لقد كان أمام النقد العربي فرصة كبيرة لتربية أجيال من الشباب على علم وفن النقد الأدبي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما كان سيثري الحياة الثقافية العربية بشكل كبير. ولكن إغراق النقد الأدبي بالايديولوجيا، وانتهاج لغة ملتوية عسيرة، أو كما قال طه حسين (يوناني لا يُقرأ) جعل القراء عازفين عن قراءة النقد الذي أصبح جزء كبير منه طلاسم أشبه بمعادلات الكيمياء والفيزياء والرياضيات.
▪ وأخيراً، فقد افتقد النقد العربي الناقد الفنان. وأصبح الناقد الأديب الذي ظهر لنا في النصف الأول من القرن العشرين نادر الوجود. ولو حاولنا أن نقدم لائحة بجرد أبرز النقاد العرب في العصر الحاضر (في النصف الثاني من القرن العشرين) لوجدنا أن القلة القليلة منهم هي التي تتمتع بروح فنية عالية.
منقول للفائدة