علاقة اللغة بالفكر



كان ( إبن خلدون ) نتيجة للإعتقادات الخاطئة ، قد عرف اللغة تعريفاً قاصراً ، لا يليق بالإنسان وبعقله المفكر المدبر ، حيث وصف اللغة بكلمتين ، وقال بأنها : " قرع للشفتين " لا غير .
ولعله من نافلة القول ، أن نذكر بأن اللغة أكبر من أن تكون تحريكا للشفاه ، وإحداثا للأصوات ، ولو جاز أن تكون اللغة كذلك ، لجاز لنا أن نفهم وندرك على الأقل أن لبعض الحيوانات لغة أكبر من لغة الإنسان نفسه .
إن اللغة أكبر من أن تكون كذلك .. ذلك أن وراء هذه الأصوات والألفاظ ما هو أرهف منها .. إن المرء يحتال على أصواته وألفاظه بالفكر الحقيقى الحى .. بالعقل وحده .
نحن إذاً أمام ظاهرة إنسانية تميز بها الإنسان ، ظاهرة إنسانية تغاير تمام المغايرة طبيعة الحيوان .
ذلك أن اللغة من أخص خصائص الإنسان .. اللغة كما يقولون : " ظاهرة إنسانية عامة " نشأت مع الإنسان منذ النشأة الأولى ، شرع يعبر بها عن حاجاته ومشاعره وأحاسيسه منذ الوهلة الأولى ، تماما مثلما شرع فى المشى ومزاولة مهام حياته اليومية :
" لم يفكر ( الإنسان ) فى كلامه .. فقد إنطلق فى مزاولة هذه الحاجة ، كما إنطلق فى المشى والحركة ، والبحث عن الطعام "
إن الكلمات لا تحيا برغم كل ما يقال ، بل إن العقل هو الذى يحيا ويغير معناها ودلالتها ، وتبعا لهذا العقل تتغير أسماء الأشياء وتتجدد وتتوالد اللغات ، لتلبس لكل عصر ما يليق له ، ولقد أحسن من قال :
" إنه يوجد من اللغات قدر ما يوجد من الأفراد " ***

الرأى الشائع هو أننا : " نفكر أولا ، ثم نكسو فكرنا ثوب الكلمات " . بمعنى ان.هناك دائما أثوابا جاهزة من الألفاظ ، على قدر المعانى والأفكار التى تدور فى رؤسنا .. وكل ما فى الأمر أن الثوب قد يكون ضيقاحينا وقد
يكون واسعا حينا آخر .. وقد سبق ( الجاحظ ) غيره فى إدراك هذه الحقيقة .
لكن ( أوسكار وايلد ) يعارض هذا بقوله : " إن الأفكار تولد دائما مكسوة لا عارية " .
والواقع أن أحــدنا ، عندما يبحث عن كلمات لأفكاره ، يبحث عنها بكلمات أخرى ، وهذا تماما ما ذهب إليه ( فندرس ) بقوله : " إننا نفكر بجمل " .
ومن هذا المنطلق يرى ( الفارابى ) أن : " ناطقية الإنسان هى القوة النفسانية ، المفطورة فى الإنسان ، والتى بها يكون التمييز الخاص به دون سواه من الحيوان ، وبها تكون الروية ، وبها يميز بين الجميل والقبيح من الأفعال " .
ورغم أن اللغة والكلام يكونان وحدة متكاملة لا إنفصام بينهما ، و يلعبان دورا رئيسيا وبارزا باتحادهما وتأثير كل منهما فى الآخر ، إلا أن كل واحد منهما ، يعتبر منفصلا عن الآخر ومستقلا فى الأساس .
ونحن نعلم أنه ليس ثمة لغة بلا فكر ، كما أنه ليس ثمة تفكير يبلغ ذروة الإفهام إن لم تصاحبه اللغة ، لذا فقد قيل : " إن اللغة والتفكير نشآ فى وقت واحد " .*
هذا وقد أشار ( الإمام عبد القاهر الجرجانى ) - فىكتابه دلائل الإعجاز - الى هذه القضية .. وذلك من خلال نظريته التى يتحدث فيها عن ( اللغة وارتباطها بالفكر ) والتى نوجزها فى النقاط التالية :
1 - إن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو تمتعه بالعقل والقدرة على الإدراك والفهم .. وبالكلام أبان الله الإنسان عن سائر الحيوان ، فالإنسان إذن كائن عاقل متكلم ناطق .
2 - معنى الكلمات لا يعرف إلا من ضمها الى بعضهما ، سواء أكان أصل اللغة إلهام أم مواضعة .
3 - اللغة نظام لربط الكلمات ببعضها وفقاً لمقتضيات ولادتها العقلية .
4 - وظيفة اللغة الأساسية أن تستخدم وسيلة للإتصال بين الناس : " مما يعقل ببدائه العقول ، أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده ".
وبهذا يكون " الإمام الجرجانى " قد جاء فى كتابه ( دلائل الإعجاز ) فى علم المعانى .. بنظرية متكاملة فى اللغة ووظائفها وارتباط نشوئها بالتفكير . ( 1 )
اللغة ليست إلا أداة للذهن ، فلا نزاع فى أن اللغة تؤثر من جهة على الذهن ، ومن العسير أن نفصل الذهن الإنسانى عن اللغة التى توضحه وتبين عنه .
ذلك أن اللغة وكما أشار الإمام ( محمد عبده ) : " ترجمــان العقــل " .
وفى السياق ذاته ، ولكن بعبارة أدق وأوضح يشير الفيلسوف الشهير ( برجسون ) الى ذلك بقوله :" ليس هنالك من فكرة فلسفية مهما يكن حظها من العمق والدقة ، إلا ويستطاع بل يحسن التعبير عنها بلغة الناس المتداولة البسيطة " .
وإذا كانت اللغة حالة خاصة ناتجة عن إتحاد النفس بالبدن - كما يقولون - فإن هذا التأثير النتبادل وهذا التكامل الذى أشرنا إليها ، يماثل تماما علاقة النفس بالبدن ، فكما أن البدن ليس شيئا خارجيا غريبا عن النفس كذلك وبالمقابل ليس لأفكارنا لغة خارجية غريبة عنها : " إن أفكارنا هى لغتنا " . ( 2 ) .
اللغة والفكر جانبان مشتركان ملتحمان ومتكاملان ، وإن كانا متميزين فى عملية واحدة ، أو كيان متماسك موحد .. وقد لوحظ أن التفكير لا يدرس إلا من خلال اللغة ، ولا يمكن أن تكون عمليات التفكير المجردة التى تتم فى رؤوس الناس ، لا يمكن أن تكون مجالا للدراسة والتحليل الموضوعى الذى يؤدى الى فائدة ، إلا من خلال استخدامه فى الكلام .
ومن هنا كان اشتراك لفظ العقل واللغة ، أو النطق والقول ، فى اللغة اليونانية ..إن كلمة ( لوجوس ) اليونانية تعنى ( الفكــر واللغــة معــا ) ومعنى هذا أن اليونانيين لم يكونوا يفصلون بين الفكر والتعبير ..كمــا أشار الى ذلك الفرابى .
والفلاسفة الرواقيون - أيضا - يرون كبعض الفلاسفة المعاصرين ، أن اللغة والفكر متطابقان ، وأن اللغة ليست مقصورة على الأصوات المتعاقبة التى تحدثها القوة الصوتية بواسطة الحلقوم ، والتى يستطيع الفم أن ينطق بها ، كما تستطيع الكتابة أن تمثلها .
و تنقسم الإتجاهات الفلسفية والإجتماعية المتعلقة بطبيعة ( الصلة بين اللغة والفكر ) الى ثلاث نظريات :


النظرية الأولى :
نظرية العزل المطلق بين اللغة والفكر ، ونكران وجود أى أثر لأحدهما فى الآخر .
ويرى أصحاب هذه النظرية ، أن الأفكار تنشأ فى رأس الإنسان قبل أن يتم النعبير عنها بالكلام ، أى أنها تنشأ دون مادة لغوية ، ودون غلاف لغوى .
وهى من أقدم النظريات ويمثلها فى عصرنا الحاظر الفيلسوف الفرنسى الشهير"
برجسون " ( 1857 -1941 ) .
والقائلون بهذه النظرية ينفون وجود أية رابطة أو علاقة أو صلة بين اللغة والفكر .. مستندين فى زعمهم هذا الى إختلافهما عن وجهة النظر الطبيعية والوظيفية .. أى أنهم يرون : " أن اللغة لا تؤثر فى الفكر ولا تتأثر به لأنها وعاؤه أو أداته المادية ، أو الوسيلة التى يعبر بها الإنسان عن نفسه " .
وملخص القول هو أن نظريتهم هذه تقول بوجود فكر محض من ناحية ، ولغة محضة من ناحية أخرى ، تجسده وتشكله ، وإن كانت تختلف عنه جذريا .

النظرية الثانية :
نظرية التطابق بين ( اللغة والفكر ) ، ويعتبر رائدها فى هذا العصر عالم النفس الأمريكى ( وطسن ) .. عاش فى الفترة من ( 1878 - 1908 ) وهو أول من صاغها فى علم النفس بشكلها الحديث .
وتقول هذه النظرية بانتفاء فكرة وجود ( فكر ) مستقل قائم بذاته ، بمعزل عن اللغة .. كذلك وبالمقابل استحالة وجود ( لغة ) مجردة عن الفكر فاللغة ، حتى وإن كانت صامة يتحدث بها المرء مع نفسه ، أو خالية من الأصوات .
ولا يرث المولود عند ولادته ، شيئا آخر سوى إمكانات لغوية تتعلق بجهاز الصوت ، تعينه على التحدث باللغة مع الآخرين بصوت جهورى وعن طريق الهمس .
كذلك إذا المرء التحدث مع نفسه بلغة خفية أو همساً دعونا ذلك التحدث فكراً .
وقد حاول كثير من النحويين والمناطقة ، إيجاد موازنة بين المفاهيم والكلمات وموازنة بين المحاكاة والجمل .. غير أن الكلمات - كما نعرف - لا تعبر دائما عن مفاهيم :
" كأدوات التعبير عن الشعور والتمنى أو أسماء الإشارة مثلا "
كما أن الجمل لا تعبر جميعهاعن محاكاة منطقية ( كالجمل الإستفاهمية والطلبية مثلا ) .
صحيح أن الأفكار تتولد على أساس اللغة وتتثبت بواسطتها ، إلا أن ذلك لا يعنى على الإطلاق أن اللغة والتفكير هما شئ واحد ، متطابقان تمام الإنطباق .
إن قوانين المنطق قوانيين عامة للبشر حيث أن " الناس جميعا يفكرون بشكل واحد " ولكن التعبير عن الأفكار يتم بأشكال مختلفة فى شتى اللغات : " تبعا للخصائص البنيوية لكل لغة " .

النظرية الثالثة :
تقول هذه النظرية بوحدة ( اللغة والتفكير ) وحدة لا إنفصام لها .. ويمثلها عالم النفس الروسى " فايكو تيزكى " ( 1896 - 1934 م ) .. والفيلسوف الأمريكى " جون ديوى " ( 1859 - 1952 م ) .
وملخصها ..
أن اللغة وان كانت غير الفكر من حيث طبيعتها ووظيفتها .. ومن ناحية نشوئها التاريخى الا أنها مع ذلك ملتحمة به التحاما عضويا غير قابل للعزل .. فى مجرى تطور النوع الإنسانى وضمن حدود تطور الفرد من المهد الى اللحد .. ومع أن هذا الإندماج والإلتحام ليس بذورا فطرية فى الأصل ، ال أن جذوره التاريخية نشؤئية على الصعيدين الفردى و النوعى على حد سواء .

الهوامش والمراجع :

**- اللغة ( فندرس ) ص 6 .*- نقلت بتصرف- التطور اللغوى التاريخى
1 - : عن مجلة العرفة السورية ، العدد ( 237 ) مقالة : تحديد أصل الكلام الإنسانى ، د. جعفر الباب .
2 - أنظر كتاب ( اللغة والفكر ) . الدكتور " عثمان أمين "