الروابط بين الناس كثيرة، والصلات التي
تصل بعضهم ببعض متعددة، فهناك رابطة القرابة، ورابطة النسب والمصاهرة،
ورابطة الصداقة، ورابطة الجوار، وغيرها من الروابط التي يقوى بها المجتمع
..
وللجار في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرمة مصونة وحقوق وآداب كثيرة، لم تعرفها قوانين وشرائع البشر ..
وقد
أوصانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل ما فيه خيرنا وصلاح أمرنا في
ديننا ودنيانا وآخرتنا .. ومما وصانا به : أن نحسن إلى الجيران سواء أكانوا
من الأقارب أو من عامة المسلمين، أو من غير المسلمين، وقد استمرت الوصية
بالجار من جبريل عليه السلام لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى ظن أنه
سيورثه، وما ذاك إلا لعظم حق الجار ..
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)... رواه البخاري.
وكثير من الناس لا يعرف جاره ولا يسأل عنه أو يتفقد أحواله، والبعض لا يهتم
بحق جاره عليه، مع أن الإحسان إلى الجار وإكرامه والقيام بحقوقه أمر أوصى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكد عليه في كثير من أحاديثه ووصاياه، ومن ذلك :
الحقوق العامة :
للجار على جاره الحقوق العامة للمسلم على المسلم، والتي ذكرها النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ بقوله: (حق المسلم على المسلم ست، قيل : ما هي يا رسول
الله؟، قال : إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح
له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)... رواه
أحمد.
وقد حذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عدم القيام بنفع
الجار ومساعدته، وذك في ما رواه البخاري في الأدب المفرد عن نافع عن ابن
عمر قال : لقد أتى علينا زمان ـ أو قال : حين ـ وما أحد أحق بديناره ودرهمه
من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم،
سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (كم من جار متعلق بجاره يوم
القيامة يقول : يا رب هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه).
الإحسان إلى الجار :
أوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإكرام الجار والإحسان إليه في أحاديث كثيرة، ومن ذلك :
عن أبي شريح الخزاعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ قال : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ..)... رواه مسلم.
وعن
أبي شريح العدوي قال: سَمِعَتْ أذناي وأبصرَتْ عيناي حين تكلم النبي ـ صلى
الله عليه وسلم - فقال (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ..
)... رواه البخاري.
ومن صور الإحسان بين الجيران : التهادي بينهم، وينبغي أن لا يحقر الجار هديةً جاءته من جاره مهما كانت ..
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه
ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة
لجارتها ولو فرسن شاة)... رواه البخاري. فِرْسِنَ شاة: عظم قليل اللحم وهو
خف البعير.
قال النووي: "معناه لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية
لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها، بل تجود بما تيسر وإن كان
قليلا كفرسن شاة، وهو خير من العدم ".
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قلتُ يا رسول الله: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا)... البخاري.
وعن
عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أنه ذبحت له شاة، فجعل يقول لغلامه:
أهديتم لجارنا اليهودي؟، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (ما
زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)... رواه البخاري.
ومن
الإحسان للجيران: تفقدهم بالطعام، فعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: أوصاني
خليلي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت
من جيرانك فأصبهم منها بمعروف)... رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)... رواه الحاكم.
قال
الشيخ الألباني: ".. في الحديث دليل واضح على أنه يحرم على الجار الغني أن
يدع جيرانه جائعين، فيجب عليه أن يقدم إليهم ما يدفعون به الجوع، وكذلك ما
يكتسون به إن كانوا عراة، ونحو ذلك من الضرورات ".
وعن أنس ـ رضي
الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما آمن بي من بات
شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)... رواه الطبراني.
صنع الطعام للجيران لوفاةٍ عندهم:
قال الشيخ الألباني في كتابه أحكام الجنائز: ".. وإنما السُنَّة أن يصنع
أقرباء الميت وجيرانه لأهل الميت طعاما يشبعهم، لحديث عبد الله بن جعفر ـ
رضي الله عنه ـ حين قُتِل، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (اصنعوا لآل
جعفر طعاما فإنه قد أتاهم أمر شغلهم).... رواه أبو داود.
وقال الإمام الشافعي:
"وأحب لجيران الميت أو ذي القرابة أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت
وليلته طعاما يشبعهم، فإن ذلك سُنَّة، وذِكْرٌ كريم، وهو من فعل أهل الخير
قبلنا وبعدنا ".
إياك وإيذاء الجار :
عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذى جاره)... رواه مسلم.
وعن
أبى شريح الكعبي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (والله لا يؤمن،
والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟، قال : الجار
لا يأمن جاره بوائقه، قالوا يا رسول الله: وما بوائقه؟ قال: شره)... رواه
أحمد.
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رجل: يا رسول الله إن
فلانة يُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها
بلسانها ؟، قال : (هي في النار)... رواه أحمد.
وحذر النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ تحذيرا شديدا من يؤذي جاره، والأذى بغير حق محرم، وأذية الجار
أشد تحريما .. وقد جاء الوعيد الشديد من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
محذراً كل متطلع على عورات جيرانه ونسائهم ..
عن عبد الله بن مسعود ـ
رضي الله عنه ـ قال: سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (أي الذنب أعظم
عند الله؟، قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلتُ: إن ذلك لعظيم، قلت : ثم
أي؟، قال: وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟، قال: أن تزاني
حليلة جارك)... رواه البخاري.
وعن المقداد بن الأسود ـ رضي الله عنه ـ
أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال لأصحابه : (ما تقولون في الزنا؟،
قالوا: حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، قال : فقال رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه: لأِن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من
أن يزني بامرأة جاره، قال: فقال : ما تقولون في السرقة ؟، قالوا : حرمها
الله ورسوله فهي حرام، قال: لأِن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن
يسرق من جاره).... رواه أحمد.
وليس من أدب الجوار أن يردَّ الجار
الأذى بمثله، بل عليه بالصبر واحتمال الأذى من جاره، لقول الرسول ـ صلى
الله عليه وسلم ـ : (ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يشنؤهم الله : الرجل يلقى
العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يُقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون
فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى
يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه جاره فيصبر على أذاه حتى يفرق
بينهما موت أو ظعن، والذين يشنؤهم الله : التاجر الحلَّاف، والفقير
المختال، والبخيل المنان .. )... رواه أحمد.
يشنؤهم : يبغضهم، ظعن :
السفر والارتحال، الحلاف : كثير الحلف، المختال : المتكبر المُعْجَب بنفسه،
المنان : الفخور على من أعطى حتى يُفسِدَ عطاءَهُ ..
لقد كان حال
الناس في الجوار قبل بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما وصف جعفر بن
أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بقوله : " إنّا كنا أهل جاهلية وشر، نقطع
الأرحام، ونسيء الجوار .." .. فجاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرفع قيمة
حسن الجوار، وأعطى للجار حقوقا كثيرة ساعدت في قوة وسلامة المجتمع، وإرساء
قواعد المحبة والأمن والتعاون بين أفراده ..
فما أحوجنا إلى
الاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والاقتباس من هديه وسنته في حياتنا
كلها، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}... (الأحزاب : 21).
منقول