السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
الموت عظةٌ وعبرة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده مواقيت الأعمار ومقادير الأمور وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.أما بعد فاتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا أن الحق تبارك وتعالى قد كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء وكل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون.
أيها المسلمون : كلنا قرأ هذه الآية وسمعها {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }العنكبوت57 نعم كلنا يقرؤها ويسمعها ولكن ؟ أين منا الذي وقف عند مدلولها ومعناها وانتبه إلى الحقيقة الكبيرة التي تنبه إليها ؟ إنها حقيقة الموت الموت الذي نسير إليه بأنفسنا، والذي سيذوقه كل واحد منا فقيرا كان أو غنيا صحيحا أو سقيما وضيعا أو شريفا كل إنسان على الإطلاق، ولن ينجو من الموت أحد إن في هذا الموت لعبرا لمن فتح الله على بصيرته، يقرأ فيه المؤمن آيات الفناء، المكتوب على الخليقة، وفي سفره يبصر أعظم شاهد على عجز المخلوق وضعف الإنسان ولذا تحدى الجبار سبحانه خلقه جميعهم {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }آل عمران168 فللموت موعد مع كل واحد منا ولن ينجو منه أحد ولو هرب إلى أبعد مكان أو صعد إلى أعلى برج أو هبط إلى أسحق واد {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}النساء78 الناس في غفلاتهم ورحا المنية تطحن، أتدرون أيها الأخوة أنه صلى في جوامع الرياض ما بين عيد الفطر وعيد الأضحى هذا أكثر من ألفي جنازة، ألفان ليسوا ألفا واحدا، ولكنهم ألفان من الأموات صلي عليهم في مسجد واحد. أيها الناس وإزاء هذه الحقيقة الهائلة الضخمة الموت ماذا يفعل الإنسان ؟ أيدفن رأسه في التراب ويقول بيني وبين الموت أمد طويل وسنوات وسنوات أن يشيح بوجهه وينأى بجانبه ويقول : يا هذا بالله عليك دعنا من الموت وحديثه ولا تنكر علينا، ثم ينخدع المذكور بطول الأمل عن تصحيح العمل والتأهب للأجل {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ }الأنبياء1 ولبئس ما صنع. فإن الواجب عليك أيها المسلم أن تقف بشجاعة وتنظر بحكمة وتتأمل في واقعك ومصيرك المحتوم وما أعددت له، ولقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم كثير العظة بالموت وكان يأمر أصحابه بالكرام بالإكثار من ذكره فيقول " أكثروا من ذكر هاذم اللذات " قال الحسن البصري رحمه الله : ويحق لمن يعلم أن الموت مورده وأن الساعة موعده وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده أن يطول حزنه.(طبقات الأولياء 2/133)
أيها المسلمون: إن أكبر واعظ هو الموت الذي كتبه الله على خلقه فمهما بعد الأجل وطال العمر فالمصير الموت فلا بد من يوم ينزل فيه الموت بساحتك وحينئذ تغور العينان ويمتقع اللون ويخرس اللسان وتلتف الساق بالساق ولا ينفعك لا زوجة ولا ولد ولا صديق ولا قريب والخلان والأهل، ذهبت القوة والنخوة، والجبروت والحرس، والجند والأعوان، كل ينظر إليك وهو عاجز عن مساعدتك ورفع الكرب والبأساء عنك {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ }الواقعة85 إن الله جلا وعلا ما جعل الخلود لأحد حتى لأنبيائه ورسله، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه وخيرة أوليائه محمد صلى الله عليه وسلم كيف لا وقد نعاه إلى نفسه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }الزمر30 فالموت حتم لازم لا مفر منه ولا محيص عنه يصل إلى كل أحد في رؤوس الجبال وفي بطون الأودية.
وهنَّ المنايا أي واد حللته **** عليها قدومٌ أو عليك ستقدم
لو نجا أحد من الموت لبسطة في جسمه أو وفرة في ماله أو سعة في سلطانه وملكه لنجا من الموت الجبابرة والقياصرة والفراعنة والأكاسرة والتبابعة والأباطرة، الموت لا يخشى أحدا ولا يدع كبيرا ولا صعلوكا.قال مطرف بن عبد الله الشخير : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيما لا موت فيه.وقال الحسن : فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحا.(الحلية 2/ 149)
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته **** يبقى الإله ويودي المال والولد.
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه *** والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له *** والإنس والجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزتها *** من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب *** لا بد من ورده يوما كما وردوا
أيها المسلمون : الموت منظر ترتج له القلوب وتنزعج منه الأبدان، أجلست إلى جوار ميت أم هل شاهد محتضرا، أفدخلت المقبرة في الليل وحدك، جرب ذلك لتتذكر الموت، ووحشته إن الموت ما تذكره أحد صادقا إلا أخذته العبرة وملكته الخشية وشعر بالتقصير، بيد أن نسيان الموت ضلال بين وبلاء عظيم ما نسيه أحد إلا طغى وابتع هواه، قال صلى الله عليه وسلم : "أكثروا من ذكر هاذم اللذات " ولقد استجاب سلف الأمة لهذا الأمر النبوي فلم يدعوا ذكر الموت حتى في أوقات السرور ولحظات الصفاء، فكان ذلك باعثا لهم على الجد في الطاعة البعد عن المعصية ومن ثم فلم تكن الدنيا أكبر همهم بل كانت تحت أقدامهم حين جاءتهم صاغرة قال إبراهيم التيمي رحمه الله : شيئان قطعا عني لذة الدنيا : ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى، وكان راشد الخلفاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يجمع العلماء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.وقال بعض العلماء من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة، وقناعة القلب ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة،وترك الرضى بالكفاف،والتكاسل في العبادة.فتفكر يا هذا في الموت وسكرته وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، كفى بالموت مقرحا للقلوب ومبكيا للعيون، ومفرقا للجماعات، وقاطعا للأمنيات، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك من بين أهلك وزوجك وولدك ونقلك من سعة إلى ضيق وصار فراشك التراب وغطاؤك اللبن، فياذا الجاه والمال ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، أين مالك ؟ أأنقذك من الأهوال ؟ لقد تركته إلى من ينساك ولا يحمدك ثم ها أنت ذا الآن قدمت على من لا يعذرك، ولقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}القصص77 أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في الطين والماء والفخر والبغي، فكأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك من الذي هو الكفن.كما قال :
نصيبك مما تجمع الدهر كله *** رداءان تطوى فيهما وحنوط ( التذكرة 10/ 11 )
أيها المسلم : الموت أول منازل الآخرة والموت القيامة الصغرى لي ولك.وإن أول عتبات الموت سكراته التي لم ينج منها سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فلقد كانت بين يديه ركوة فيها ماء وهو يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات " رواه البخاري، وفي سنن الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : "لا أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه : يا أبتاه إنك لتقول لنا ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل فصف لنا الموت: فقال والله يا بني الموت أجل من أن يوصف أجدني كأن جبال رضوى على عنقي، وكأني أتنفس من سم إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي (التذكرة 22)ولقد روي أن الملائكة تحيط العبد وتحبسه عند ساعة الاحتضار ولولا ذلك لكان يعدو في بطون البراري وشعاب الجبال من شدة سكرات الموت، وفي تلك اللحظة الرهيبة وساعة الصفر تنكسر النفوس ويخر شرفها ويتداعى عزها، ويتواطأ القلب واللسان فلا تسمع إلا أصدق قول وأدق تعبير، روي أن الواثق لما حضرته الوفاة ردد هذين البيتين:
الموت فيه جميع الخلق مشترك *** لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تفرقهم *** وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت وألصق خده بالتراب وجعل يقول : يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه. اللهم يا ذا المن والعطاء، ويا ذا العظمة والكبرياء،نسألك اللهم أن ترحمنا برحمتك، وتشملنا بعفوك، يا قديم الإحسان يا ذا الجلال والإكرام، إنك على كل شيء قدير، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا رحمني الله وإياكم أن أحسن الحديث كلام الله.
أيها المسلمون : وإذا كان أكثرنا وأكثر الناس يرهبون الموت وترتعد منهم الفرائص حال ذكره، ويرجف منهم الفؤاد، فإن في عباد الله من يلقي الله في قلوبهم الأنس والطمأنينة، عند حضور الأجل وحلول الكتاب، وهؤلاء هم عباد الله الفطناء الذين استعدوا بصالح العمل، ولم يخدعهم الأمل، واتخذوا من حياتهم مطية يزدلفون بها إلى ربهم، وليس الذكي في الدنيا من جمع المال وابتنى القصور، وكان واسع الثراء عظيم الجاه، وإنما الذكي البصير من استعد للموت، وما وراءه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقال بعض الصحابة كلنا يكره الموت يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : "ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان متى كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة، فإن كان من أهل الخير بشر بالخير، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر بشر بالشر، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه" ، رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح. لما احتضر معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال لجارية له : انظري هل غربت الشمس: فقالت لم تغرب، ثم مكث ما شاء الله، ثم قال انظري، فقالت: نعم قد غربت الشمس، فقال عند ذلك، مرحبا بالموت، مرحبا بطارش جاء على فاقة، لا أفلح والله من ندم على الدنيا، اللهم إنك تعلم أني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار،ولا لجمع المال، وإنما أحببت البقاء في الدنيا لقيام الليل وصيام النهار، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر آها إلى ذلك، ثم قضى وتوفي رحمه الله ورضي عنه. وروى أبو نعيم بسنده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه حين مرض مرض الموت، قال لزوجته في آخر أيامه: يا فلانة افتحي هذه الأبواب، فإن لي اليوم زوارا لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون علي ثم دعا بمسك، فوضع في ماء ثم أمر به فرش حول فراشه وأمر زوجته بالخروج،وقال امكثي هنا وعودي إلي بعد، ففعلت ثم عادت إليه فإذا روحه قد قبضت، وهو على فراشه كأنه نائم رضي الله عنه. جعلنا الله وإياكم من أهل التقوى واليقين وختم لنا بخير إنه جواد كريم.
منقول
الموت عظةٌ وعبرة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده مواقيت الأعمار ومقادير الأمور وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.أما بعد فاتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا أن الحق تبارك وتعالى قد كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء وكل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون.
أيها المسلمون : كلنا قرأ هذه الآية وسمعها {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }العنكبوت57 نعم كلنا يقرؤها ويسمعها ولكن ؟ أين منا الذي وقف عند مدلولها ومعناها وانتبه إلى الحقيقة الكبيرة التي تنبه إليها ؟ إنها حقيقة الموت الموت الذي نسير إليه بأنفسنا، والذي سيذوقه كل واحد منا فقيرا كان أو غنيا صحيحا أو سقيما وضيعا أو شريفا كل إنسان على الإطلاق، ولن ينجو من الموت أحد إن في هذا الموت لعبرا لمن فتح الله على بصيرته، يقرأ فيه المؤمن آيات الفناء، المكتوب على الخليقة، وفي سفره يبصر أعظم شاهد على عجز المخلوق وضعف الإنسان ولذا تحدى الجبار سبحانه خلقه جميعهم {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }آل عمران168 فللموت موعد مع كل واحد منا ولن ينجو منه أحد ولو هرب إلى أبعد مكان أو صعد إلى أعلى برج أو هبط إلى أسحق واد {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}النساء78 الناس في غفلاتهم ورحا المنية تطحن، أتدرون أيها الأخوة أنه صلى في جوامع الرياض ما بين عيد الفطر وعيد الأضحى هذا أكثر من ألفي جنازة، ألفان ليسوا ألفا واحدا، ولكنهم ألفان من الأموات صلي عليهم في مسجد واحد. أيها الناس وإزاء هذه الحقيقة الهائلة الضخمة الموت ماذا يفعل الإنسان ؟ أيدفن رأسه في التراب ويقول بيني وبين الموت أمد طويل وسنوات وسنوات أن يشيح بوجهه وينأى بجانبه ويقول : يا هذا بالله عليك دعنا من الموت وحديثه ولا تنكر علينا، ثم ينخدع المذكور بطول الأمل عن تصحيح العمل والتأهب للأجل {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ }الأنبياء1 ولبئس ما صنع. فإن الواجب عليك أيها المسلم أن تقف بشجاعة وتنظر بحكمة وتتأمل في واقعك ومصيرك المحتوم وما أعددت له، ولقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم كثير العظة بالموت وكان يأمر أصحابه بالكرام بالإكثار من ذكره فيقول " أكثروا من ذكر هاذم اللذات " قال الحسن البصري رحمه الله : ويحق لمن يعلم أن الموت مورده وأن الساعة موعده وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده أن يطول حزنه.(طبقات الأولياء 2/133)
أيها المسلمون: إن أكبر واعظ هو الموت الذي كتبه الله على خلقه فمهما بعد الأجل وطال العمر فالمصير الموت فلا بد من يوم ينزل فيه الموت بساحتك وحينئذ تغور العينان ويمتقع اللون ويخرس اللسان وتلتف الساق بالساق ولا ينفعك لا زوجة ولا ولد ولا صديق ولا قريب والخلان والأهل، ذهبت القوة والنخوة، والجبروت والحرس، والجند والأعوان، كل ينظر إليك وهو عاجز عن مساعدتك ورفع الكرب والبأساء عنك {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ }الواقعة85 إن الله جلا وعلا ما جعل الخلود لأحد حتى لأنبيائه ورسله، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه وخيرة أوليائه محمد صلى الله عليه وسلم كيف لا وقد نعاه إلى نفسه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }الزمر30 فالموت حتم لازم لا مفر منه ولا محيص عنه يصل إلى كل أحد في رؤوس الجبال وفي بطون الأودية.
وهنَّ المنايا أي واد حللته **** عليها قدومٌ أو عليك ستقدم
لو نجا أحد من الموت لبسطة في جسمه أو وفرة في ماله أو سعة في سلطانه وملكه لنجا من الموت الجبابرة والقياصرة والفراعنة والأكاسرة والتبابعة والأباطرة، الموت لا يخشى أحدا ولا يدع كبيرا ولا صعلوكا.قال مطرف بن عبد الله الشخير : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيما لا موت فيه.وقال الحسن : فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحا.(الحلية 2/ 149)
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته **** يبقى الإله ويودي المال والولد.
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه *** والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له *** والإنس والجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزتها *** من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب *** لا بد من ورده يوما كما وردوا
أيها المسلمون : الموت منظر ترتج له القلوب وتنزعج منه الأبدان، أجلست إلى جوار ميت أم هل شاهد محتضرا، أفدخلت المقبرة في الليل وحدك، جرب ذلك لتتذكر الموت، ووحشته إن الموت ما تذكره أحد صادقا إلا أخذته العبرة وملكته الخشية وشعر بالتقصير، بيد أن نسيان الموت ضلال بين وبلاء عظيم ما نسيه أحد إلا طغى وابتع هواه، قال صلى الله عليه وسلم : "أكثروا من ذكر هاذم اللذات " ولقد استجاب سلف الأمة لهذا الأمر النبوي فلم يدعوا ذكر الموت حتى في أوقات السرور ولحظات الصفاء، فكان ذلك باعثا لهم على الجد في الطاعة البعد عن المعصية ومن ثم فلم تكن الدنيا أكبر همهم بل كانت تحت أقدامهم حين جاءتهم صاغرة قال إبراهيم التيمي رحمه الله : شيئان قطعا عني لذة الدنيا : ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى، وكان راشد الخلفاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يجمع العلماء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.وقال بعض العلماء من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة، وقناعة القلب ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة،وترك الرضى بالكفاف،والتكاسل في العبادة.فتفكر يا هذا في الموت وسكرته وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، كفى بالموت مقرحا للقلوب ومبكيا للعيون، ومفرقا للجماعات، وقاطعا للأمنيات، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك من بين أهلك وزوجك وولدك ونقلك من سعة إلى ضيق وصار فراشك التراب وغطاؤك اللبن، فياذا الجاه والمال ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، أين مالك ؟ أأنقذك من الأهوال ؟ لقد تركته إلى من ينساك ولا يحمدك ثم ها أنت ذا الآن قدمت على من لا يعذرك، ولقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}القصص77 أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في الطين والماء والفخر والبغي، فكأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك من الذي هو الكفن.كما قال :
نصيبك مما تجمع الدهر كله *** رداءان تطوى فيهما وحنوط ( التذكرة 10/ 11 )
أيها المسلم : الموت أول منازل الآخرة والموت القيامة الصغرى لي ولك.وإن أول عتبات الموت سكراته التي لم ينج منها سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فلقد كانت بين يديه ركوة فيها ماء وهو يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات " رواه البخاري، وفي سنن الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : "لا أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه : يا أبتاه إنك لتقول لنا ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل فصف لنا الموت: فقال والله يا بني الموت أجل من أن يوصف أجدني كأن جبال رضوى على عنقي، وكأني أتنفس من سم إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي (التذكرة 22)ولقد روي أن الملائكة تحيط العبد وتحبسه عند ساعة الاحتضار ولولا ذلك لكان يعدو في بطون البراري وشعاب الجبال من شدة سكرات الموت، وفي تلك اللحظة الرهيبة وساعة الصفر تنكسر النفوس ويخر شرفها ويتداعى عزها، ويتواطأ القلب واللسان فلا تسمع إلا أصدق قول وأدق تعبير، روي أن الواثق لما حضرته الوفاة ردد هذين البيتين:
الموت فيه جميع الخلق مشترك *** لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تفرقهم *** وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت وألصق خده بالتراب وجعل يقول : يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه. اللهم يا ذا المن والعطاء، ويا ذا العظمة والكبرياء،نسألك اللهم أن ترحمنا برحمتك، وتشملنا بعفوك، يا قديم الإحسان يا ذا الجلال والإكرام، إنك على كل شيء قدير، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا رحمني الله وإياكم أن أحسن الحديث كلام الله.
أيها المسلمون : وإذا كان أكثرنا وأكثر الناس يرهبون الموت وترتعد منهم الفرائص حال ذكره، ويرجف منهم الفؤاد، فإن في عباد الله من يلقي الله في قلوبهم الأنس والطمأنينة، عند حضور الأجل وحلول الكتاب، وهؤلاء هم عباد الله الفطناء الذين استعدوا بصالح العمل، ولم يخدعهم الأمل، واتخذوا من حياتهم مطية يزدلفون بها إلى ربهم، وليس الذكي في الدنيا من جمع المال وابتنى القصور، وكان واسع الثراء عظيم الجاه، وإنما الذكي البصير من استعد للموت، وما وراءه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقال بعض الصحابة كلنا يكره الموت يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : "ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان متى كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة، فإن كان من أهل الخير بشر بالخير، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر بشر بالشر، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه" ، رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح. لما احتضر معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال لجارية له : انظري هل غربت الشمس: فقالت لم تغرب، ثم مكث ما شاء الله، ثم قال انظري، فقالت: نعم قد غربت الشمس، فقال عند ذلك، مرحبا بالموت، مرحبا بطارش جاء على فاقة، لا أفلح والله من ندم على الدنيا، اللهم إنك تعلم أني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار،ولا لجمع المال، وإنما أحببت البقاء في الدنيا لقيام الليل وصيام النهار، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر آها إلى ذلك، ثم قضى وتوفي رحمه الله ورضي عنه. وروى أبو نعيم بسنده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه حين مرض مرض الموت، قال لزوجته في آخر أيامه: يا فلانة افتحي هذه الأبواب، فإن لي اليوم زوارا لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون علي ثم دعا بمسك، فوضع في ماء ثم أمر به فرش حول فراشه وأمر زوجته بالخروج،وقال امكثي هنا وعودي إلي بعد، ففعلت ثم عادت إليه فإذا روحه قد قبضت، وهو على فراشه كأنه نائم رضي الله عنه. جعلنا الله وإياكم من أهل التقوى واليقين وختم لنا بخير إنه جواد كريم.
منقول