كل عام وأنت بخير…نحن الآن في شهر رمضان، ورمضان شهر خاص انفرد بين الشهور بالصوم الذي يعني ترتيبًا مختلفًا للحياة اليومية، والعلاقات الإنسانية. اعتاد الناس على القول بأن رمضان (شهر الروح) ونحن نقول بل هو شهر الإنسان كله جسدًا وروحًا.
الأبحاث العلمية تؤكد أن الصوم يضبط وظائف الجسم، فيه راحة إجبارية للمعدة، وضبط للشهوة، وهما المدخل لكثير من متاعب الجسم في غير رمضان.
وهناك ارتباط كبير بين الغذاء والجنس وربط الله بينهما حين تحدث في القرآن عن الكافرين ووصفهم بأنهم: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}... {محمد:12}.. والجنس من أعلى المتع الجسدية.
وفي الحديث إن مجاري الشهوة تضيق بالصوم، ومن الخبرة العملية فإن الجو الذي يشيع في رمضان يحصر الشهوة والسبل إليها طوال النهار- على الأقل.
طرق وجسور:
إذا كان الله سبحانه قد شرع الصوم، وفيه الامتناع عن الطعام من الفجر إلى المغرب، والغذاء يدعم الشهوة ويفتح الطريق أمامها فإننا ينبغي أن نفهم أن المداخل لتقوية الشهوة ليست هي الفم والغذاء فقط، بل السمع والبصر والكلام وحتى الخيال كلها مداخل.
وإذا كانت شياطين الجن مصفدة في رمضان؛ وبالتالي فإن الطرق إلى الشهوة تصبح أضيق، إلا أن الكباري والسكك الخلفية تزدهر وتتسع على من يسير فيها.
التنافس الشديد بين القنوات المحلية والفضائية على تقديم برامج تسلية الصيام، ثم برامج الليل حتى الصباح حوَّلت رمضان وصومه إلى أفعال فلكلورية طقوسية مظهرية، أكثر منها شعائر عبادية.
والأجواء الاجتماعية الحديثة خلّفت محدثات خرجت به عن معانيه وحكمه!! ويعنينا هنا فصل النهار عن الليل، وشغل الاثنين بما لا يعين على الاتساق مع روح الشهر.
صوم الليل والنهار:
رمضان تدريب عملي مكثف على الضبط والانضباط كان رسول الله صلى لله عليه وسلم يُقبِّل زوجاته في رمضان، ولكن كان يملك شهوته فلا يذهب إلى ما وراء ذلك، فمن استطاع ذلك فليفعل وإلا فإن السلامة لا يعدلها شيء.
وينفرد الجماع في نهار رمضان- دون بقية المفطرات- في أن كفارته الجمع بين القضاء والفدية، والأخطر أنه إفساد لبرنامج التدريب المتوازن الذي تدور حوله فلسفة رمضان ونظامه.
وكذلك فإن الامتناع المقصود عن المعاشرة الزوجية تماماً في ليالي رمضان ليس مستهدفاً ولا مطلوباً بل أحلَّه الله ليكتمل الدرس، ويكون التدريب بالكف أو الإقدام ليس رهين الفعل المكفوف عنه أو المقدم عليه في ذاته قبولاً أو رفضاً ( بل بالعكس..فالغذاء عماد الحياة، والجنس أعلى الشهوات المباحة) ولكن لأن الله الذي أباح الغذاء، وزين الشهوات الحلال هو نفسه الذي أمر بالكف عنها على نحو محدد بشكل محدد، فبالتالي نتعلم أن الأفعال لا تكتسب الحسن والقبح أو الإمكانية من عدمها بذاتها أو بنفعها أو حسب تقدير أو هوى الإنسان، وإنما امتثالاً وطاعة وتسليمًا لأمر الله سبحانه.
هذه الطاعة يجب أن تحكم الإنسان فلا يقدم أو يمتنع إلا بما يوافقها، لا زعمًا لورع كاذب ومخالفة لفطرة الله وسننه في الجسم والخلق، فبعض النساء يمنعن نزول دم الطمث بتناول حبوب منع الحمل ليمتنع الدم ويصمن، والفقه المعاصر غالبًا لا يرى في هذا بأسًا شرعيًا ما دام ليس على المرأة ضرر صحي من تناول الحبوب؛ ولكننا نرى أن الأمثل نفسيًا وجسديًا ترك الأمور على طبيعتها.. فالعبرة في رمضان والأجر يكون على الامتثال لأمر الله وليس على فعل الصوم، بدليل أنه يحرم على المريض الذي يضره الصوم أن يصوم، كما يستحسن للمسافر أن يفطر.
كما تدل الأبحاث الحديثة على أن تعاطي الهرمونات الموجودة في حبوب منع الحمل ينطوي على أضرار محتملة، ولو بعيدة المدى. ونرى أن حياة المرأة الجنسية في رمضان ينبغي أن تسير على طبيعتها، وبالنظام الذي حدده الله سبحانه دون تدخل إلا للضرورة القصوى.
مراجعة الموازين:
على غير ما تقول به ديانات مثل: المسيحية أو البوذية فإن الإسلام لا يفهم العلاقة بين الروح والجسد أو المعنوي والمادي في الإنسان من زاوية أن هناك صراعًا بين هذا وذاك.
الإسلام يقول بأن الجانبين من الله، والتكامل والتوازن هو سمت العلاقة المطلوبة بينهما. والمعيار (إن لبدنك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، وإن لربك عليك حقًا.. فأعط كل ذي حق حقه) ورمضان مناسبة لمراجعة ميزان الحقوق وإعادته إلى النصاب الصحيح.
الصوم يقول: إن لك جسدًا، وهذا الجسد له حقوق ومطالب، كما أن عليه واجبات ومسئوليات، ويحدد برنامجًا مقترحًا للتعامل مع هذا الجسد ورغباته بغية تلبية هذه الرغبات دون قمع أو إفراط، دون إلغاء يستقذرها أو استسلام يعطيها دفة القيادة. إنه الترويض لكي يملك الإنسان شهوته، ولا تملكه.
فرمضان يضبط لك جسدك، وروحك، وعلاقتك بأهلك، والفقراء والمساكين؛ لتراجع حساباتك، وتعطي كل ذي حق حقه.
تستطيع…ولكن:
وفي الصوم انتصار لإرادة الإنسان وإعلاء لقدرته على ضبط أموره، وهو موسم يعيد الثقة بالنفس لمن فقدوها أو يكادون.
بالإضافة إلى شيوع النميمة، والصخب، ومجالس تبديد الأعمار فيما لا ينفع يأتي إلينا من يقول: لا أستطيع التوقف عن التدخين، ويقول آخر: شهوتي ورغباتي الجنسية تشغل ذهني، وتبدد جهدي ووقتي ولا أستطيع التوقف عن التفكير، أو عن الرغبة وأتورط في مواقف محرجة بسبب هذا.
وقد تشتكي حواء من مثل هذا أيضا، والشكوى محورها (لا أستطيع..لا أستطيع).
والصوم يحاول أن يقول لك: بل تستطيع ولكنك ربما لا تريد وربما لا تحاول بجدية وربما لا تثق بقدراتك الحقيقية، أو أنك حتى لا تعرفها ولا تعرف نفسك.
لابد من الرغبة والقدرة والإرادة، وكلها مترابطة، والصوم يتعامل معها جميعًا، فيتدخل في نشأة الرغبات ويضبطها ويدعم الإرادة ويقويها، ويضاعف القدرة ويعيد الثقة فيها. وإذا كان هذا في الصوم كافة، فإن رمضان يوفر لك مناخاً عاماً تسري فيه هذه الروح في المجتمع حولك لنتساند ونتعاضد سوياً لتحقيق ذلك، فلا تشعر أنك تجاهد نفسك وحدك.
ومن هنا نقول: إن العامل النفسي العام يتأثر بالصوم على نحو إيجابي يدعم وينظم العامل الجسماني (والعلاقة الزوجية) على طريق التوازن والتكامل والاعتدال.
والإنترنت يساعدك:
الصائمون خارج العالم الإسلامي في جو مختلف عن المقيمين فيه، والإنترنت يخلق مناخًا يمكن أن تشعر معه، وكأنه في أرض المسلمين وبينهم: هناك برامج ترفع لك الأذان في موعده والمواقع العربية والإسلامية تتنافس في تقديم ما تشعر معه بروح ومذاق رمضان.
وكما أن الإنترنت يمكن أن يكون مدخلاً لكثير من الهذر واللغو في الـ Chat، وفتن و سقطات أكبر في المواقع الإباحية، فإنه يمكن أن يكون عنصرًا فعالاً في إحاطتك بجو رمضان عبر الأثير، وفي كل بقاع الدنيا.
وبالتالي لا تغلق الشبكة في رمضان ولكن اذهب إلى من يعينك على الاستفادة منه وعلى الانتظام في برنامجه التدريبي.
أتمنى لكم جسدًا مستريحًا وروحًا طيبة، ونفسًا مطمئنة بصوم مقبول، ودعوة مستجابة عند الإفطار.. أرجو أن يكون لي منها نصيب
اقراء المزيد: رمضان بين الروح والجسد
منتديات انفاس
العب حتى تشبع العاب جديده