أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
تفسير بن كثير
يقول اللّه تعالى: { أليس اللّه بكاف عبده} يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكّل عليه، وفي الحديث: (أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً، وقنع به) "أخرجه ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري مرفوعاً ورواه الترمذي والنسائي بنحوه" { ويخوفونك بالذين من دونه} يعني المشركين يخّوفون الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم، التي يدعونها من دون اللّه جهلاً منهم وضلالاً، عن معمر قال: قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبلنك، فنزلت: { ويخوفونك بالذين من دونه} أخرجه عبد الرزاق كما في اللباب ولهذا قال عزَّ وجلَّ: { ومن يضلل اللّه فما له من هاد ومن يهد اللّه فما له من مضل أليس اللّه بعزيز ذي انتقام} أي منيع الجناب لا يضام من استند إلى جنابه، ولجأ إلى بابه، فإنه العزيز الذي لا أعز منه، ولا أشد انتقاماً منه، فمن كفر به وأشرك، وعاند رسوله صلى اللّه عليه وسلم، وقوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللّه} يعني المشركين كانوا يعترفون بأن اللّه عزَّ وجلَّ هو الخالق للأشياء كلها، ومع هذا يعبدون معه غيره، مما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولهذا قال تعالى: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون اللّه إن أرادني اللّه بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته} أي لا تستطيع شيئاً من الأمر، وفي الحديث: (احفظ اللّه يحفظك، احفظ اللّه تجده تجاهك، تعرف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة) "الحديث رواه ابن أبي حاتم والترمذي" الحديث { قل حسبي اللّه} أي اللّه كافي، { عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون} ، كما قال هود عليه الصلاة والسلام: { إني توكلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: (من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه تعالى، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه عزَّ وجلَّ أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق اللّه عزَّ وجلَّ) "أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس مرفوعاً"، وقوله تعالى: { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم} أي على طريقتكم، وهذا تهديد ووعيد، { إني عامل} أي على طريقتي ومنهجي، { فسوف تعلمون} أي ستعلمون غبّ ذلك ووباله، { من يأتيه عذاب يخزيه} أي في الدنيا، { ويحل عليه عذاب مقيم} أي دائم مستمر، لا محيد له عنه، وذلك يوم القيامة، أعاذنا اللّه منها.
تفسير الجلالين
{ أليس الله بكاف عبده } أي النبي، بلى { ويخوّفونك } الخطاب له { بالذين من دونه } أي الأصنام، أن تقتله أو تخبله { ومن يضلل الله فما له من هاد } .
تفسير الطبري
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } اِخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَلَى عَبْده } فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْض قُرَّاء الْمَدِينَة وَعَامَّة قُرَّاء أَهْل الْكُوفَة : " أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عِبَاده " عَلَى الْجِمَاع , بِمَعْنَى : أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ مُحَمَّدًا وَأَنْبِيَاءَهُ مِنْ قَبْله مَا خَوَّفْتهمْ أُمَمهمْ مِنْ أَنْ تَنَالهُمْ آلِهَتهمْ بِسُوءٍ ; وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّة قُرَّاء الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة , وَبَعْض قُرَّاء لِلْكُوفَةِ : { بِكَافٍ عَبْده } عَلَى التَّوْحِيد , بِمَعْنَى : أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده مُحَمَّدًا . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار . فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئ فَمُصِيب لِصِحَّةِ مَعْنَيَيْهِمَا وَاسْتِفَاضَة الْقِرَاءَة بِهِمَا فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23221 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد , قَالَ : ثنا أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } يَقُول : مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 23222 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } قَالَ : بَلَى , وَاَللَّه لَيَكْفِينَهُ اللَّه وَيُعِزّهُ وَيَنْصُرهُ كَمَا وَعَدَهُ. الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } اِخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَلَى عَبْده } فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْض قُرَّاء الْمَدِينَة وَعَامَّة قُرَّاء أَهْل الْكُوفَة : " أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عِبَاده " عَلَى الْجِمَاع , بِمَعْنَى : أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ مُحَمَّدًا وَأَنْبِيَاءَهُ مِنْ قَبْله مَا خَوَّفْتهمْ أُمَمهمْ مِنْ أَنْ تَنَالهُمْ آلِهَتهمْ بِسُوءٍ ; وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّة قُرَّاء الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة , وَبَعْض قُرَّاء لِلْكُوفَةِ : { بِكَافٍ عَبْده } عَلَى التَّوْحِيد , بِمَعْنَى : أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده مُحَمَّدًا . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار . فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئ فَمُصِيب لِصِحَّةِ مَعْنَيَيْهِمَا وَاسْتِفَاضَة الْقِرَاءَة بِهِمَا فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23221 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد , قَالَ : ثنا أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } يَقُول : مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 23222 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } قَالَ : بَلَى , وَاَللَّه لَيَكْفِينَهُ اللَّه وَيُعِزّهُ وَيَنْصُرهُ كَمَا وَعَدَهُ. ' وَقَوْله : { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَيُخَوِّفك هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّد بِاَلَّذِينَ مِنْ دُون اللَّه مِنْ الْأَوْثَان وَالْآلِهَة أَنْ تُصِيبك بِسُوءٍ , بِبَرَاءَتِك مِنْهَا , وَعَيْبك لَهَا , وَاَللَّه كَافِيك ذَلِكَ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23223 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } الْآلِهَة , قَالَ : بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِد بْن الْوَلِيد إِلَى شِعْب بِسُقَام لِيَكْسِر الْعُزَّى , فَقَالَ سَادِنهَا , وَهُوَ قَيِّمهَا : يَا خَالِد أَنَا أُحَذِّركهَا , إِنَّ لَهَا شِدَّة لَا يَقُوم إِلَيْهَا شَيْء , فَمَشَى إِلَيْهَا خَالِد بِالْفَأْسِ فَهَشَّمَ أَنْفهَا . 23224 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد , قَالَ : ثنا أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } يَقُول : بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ . 23225 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } قَالَ : يُخَوِّفُونَك بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي مِنْ دُونه . وَقَوْله : { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَيُخَوِّفك هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّد بِاَلَّذِينَ مِنْ دُون اللَّه مِنْ الْأَوْثَان وَالْآلِهَة أَنْ تُصِيبك بِسُوءٍ , بِبَرَاءَتِك مِنْهَا , وَعَيْبك لَهَا , وَاَللَّه كَافِيك ذَلِكَ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23223 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } الْآلِهَة , قَالَ : بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِد بْن الْوَلِيد إِلَى شِعْب بِسُقَام لِيَكْسِر الْعُزَّى , فَقَالَ سَادِنهَا , وَهُوَ قَيِّمهَا : يَا خَالِد أَنَا أُحَذِّركهَا , إِنَّ لَهَا شِدَّة لَا يَقُوم إِلَيْهَا شَيْء , فَمَشَى إِلَيْهَا خَالِد بِالْفَأْسِ فَهَشَّمَ أَنْفهَا . 23224 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد , قَالَ : ثنا أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } يَقُول : بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ . 23225 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } قَالَ : يُخَوِّفُونَك بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي مِنْ دُونه . ' وَقَوْله : { وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَمَنْ يَخْذُلهُ اللَّه فَيُضِلّهُ عَنْ طَرِيق الْحَقّ وَسَبِيل الرُّشْد , فَمَا لَهُ سِوَاهُ مِنْ مُرْشِد وَمُسَدِّد إِلَى طَرِيق الْحَقّ , وَمُوَفِّق لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ , وَتَصْدِيق رَسُوله , وَالْعَمَل بِطَاعَتِهِ { وَمَنْ يَهْدِ اللَّه فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ } يَقُول : وَمَنْ يُوَفِّقهُ اللَّه لِلْإِيمَانِ بِهِ , وَالْعَمَل بِكِتَابِهِ , فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ , يَقُول : فَمَا لَهُ مِنْ مَزِيغ يُزِيغهُ عَنْ الْحَقّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إِلَى الِارْتِدَاد إِلَى الْكُفْر { أَلَيْسَ اللَّه بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقَام } يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ : أَلَيْسَ اللَّه يَا مُحَمَّد بِعَزِيزٍ فِي اِنْتِقَامه مِنْ كَفَرَة خَلْقه , ذِي اِنْتِقَام مِنْ أَعْدَائِهِ الْجَاحِدِينَ وَحْدَانِيّته .وَقَوْله : { وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَمَنْ يَخْذُلهُ اللَّه فَيُضِلّهُ عَنْ طَرِيق الْحَقّ وَسَبِيل الرُّشْد , فَمَا لَهُ سِوَاهُ مِنْ مُرْشِد وَمُسَدِّد إِلَى طَرِيق الْحَقّ , وَمُوَفِّق لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ , وَتَصْدِيق رَسُوله , وَالْعَمَل بِطَاعَتِهِ { وَمَنْ يَهْدِ اللَّه فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ } يَقُول : وَمَنْ يُوَفِّقهُ اللَّه لِلْإِيمَانِ بِهِ , وَالْعَمَل بِكِتَابِهِ , فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ , يَقُول : فَمَا لَهُ مِنْ مَزِيغ يُزِيغهُ عَنْ الْحَقّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إِلَى الِارْتِدَاد إِلَى الْكُفْر { أَلَيْسَ اللَّه بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقَام } يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ : أَلَيْسَ اللَّه يَا مُحَمَّد بِعَزِيزٍ فِي اِنْتِقَامه مِنْ كَفَرَة خَلْقه , ذِي اِنْتِقَام مِنْ أَعْدَائِهِ الْجَاحِدِينَ وَحْدَانِيّته .'
تفسير القرطبي
قوله تعالى: { أليس الله بكاف عبده} حذفت الياء من { كاف} لسكونها وسكون التنوين بعدها؛ وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين، إلا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل. ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول : كافي. وقراءة العامة { عبده} بالتوحيد يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم. وقرأ حمزة والكسائي { عباده} وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم. واختار أبو عبيدة قراءة الجماعة لقوله عقيبه { ويخوفونك بالذين من دونه} . ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس؛ كقوله عز من قائل: { إن الإنسان لفي خسر} [العصر : 2] وعلى هذا تكون القراءة الأولى راجعة إلى الثانية. والكفاية شر الأصنام، فإنهم كانوا يخوفون المؤمنين بالأصنام، حتى قال إبراهيم عليه السلام. { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله} [الأنعام : 81]. وقال الجرجاني : إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر، هذا بالثواب وهذا بالعقاب. قوله تعالى: { ويخوفونك بالذين من دونه} وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان، فقالوا : أتسب آلهتنا؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أوتصيبنك بسوء. وقال قتادة : مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس. فقال له سادنها : أحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس. وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي وجه خالدا. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم؛ كما قال: { أم يقولون نحن جميع منتصر} [القمر : 44] { ومن يضلل الله فما له من هاد} تقدم. { ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام} أي ممن عاداه أوعادى رسله.
تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي
يعني: يا محمد، لا تهتم بهذا الهراء فالله حَسْبك وكافيك، والذي يدل على ذلك أن رسول الله كان يحرسه القوم من المؤمنين مخافة أن يناله المشركون بسوء، ففوجئوا في يوم أن رسول الله يسرحهم ويُنهي هذه الحراسة ويصرفها.
ولو لم يكُنْ رسول الله واثقاً أن الذي أمره بصرف الحراس كفيلٌ بحفظه وحمايته لما فعل ذلك في نفسه؛ لذلك رأينا المرأة الدنماركية وهي تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم، أنه أعظم العظماء الذين تركوا بصمة واضحة في التاريخ، وقلبوا ميزان الدنيا، فلما جاءت عند هذه الحادثة وقرأت { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] وقرأت:
{ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ }
[المائدة: 67] قالت: والله ما فعل محمد ذلك إلا وهو واثقٌ من حماية ربه له، ولو خدع الناسَ جميعاً ما خدع نفسه، وآمنْ بسبب هذه المسألة.
قوله سبحانه: { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] يحلو للبعض أن يقول المعنى: أليس الله كافياً عبده، ويعتبرون الباء زائدة، وهذا غير صحيح، فليس في كلام الله تعالى حرف زائد, فالهمزة هنا استفهام إنكاري، والإنكار يفيد النفي، بعدها ليس للنفي ونفي النفي إثبات.
يعني: ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، وما دُمْنا ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، فالنتيجة أن الله تعالى كافٍ عبده.
والحق سبحانه وتعالى: له اسم هو الله، وله صفات هي التي عرفناها بالأسماء الحسنى، ومن أسمائه الحسنى الكافي، فالمعنى إذن: أليس الله موصوفاً بكاف عبده، فكيف إذن نقول: إن الباء زائدة؟
إن القول بزيادة الباء هنا يناقضُ بلاغةَ القرآن، ولا يصح أن نقول: إن في القرآن حرفاً زائداً، البعض يتأدّبون مع كلام الله ويقولون: بل هو حرف صلة، وآخرون يقولون: حرف لربط الوجود، ولسنا في حاجة إلى كل هذه التأويلات.
وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة، فلو قلنا مثلاً: ما عندي مال، (ما) هنا تنفي وجود المال الذي يُعتد به، ولا تمنع أنْ يكون معي جنيه أو جنيهان مثلاً، لكن لو قلتَ: ما عندي من مال أي: من بداية ما يُقال له مال ولا حتى مليم واحد إذن: حرف الجر هنا ليس زائداً في الكلام، إنما تأسيسي في المعنى.
أما الذين قالوا بزيادة الباء في { بِكَافٍ } [الزمر: 36] فقد اعتبروا (ليس) من أخوات كان التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، فلفظ الجلالة اسمها مرفوع وكاف خبرها، فالتقدير: أليس الله كافياً عبده، وهذا ينافي جلال القرآن وبلاغته.
وقوله: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر: 36] أي: بالأصنام { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } [الزمر: 36] يعني: دعهم يقولون ما يقولون فقد أَضلهم الله فمَنْ يهديهم؟ { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } [الزمر: 37] هذا هو المقابل إذا هدانا الله الطريق، فلن يُضِلنا أحد { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] يعني: أليس اللهُ موصوفاً بالعزّة، فالباء هنا كسابقتها.والعزيز هو الذي يغلب ولا يُغلب، وما دام هو سبحانه غالباً لا يغلب فاحذروا انتقامه لأنه { ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] فمهما صنعتم بالفكر الفاسد والتبييت والائتمار فلن تغلبوه.
وعجيبٌ من الكفار أنْ يُخوِّفوا رسول الله بالأصنام، وهم يعلمون حقيقتها وقولهم فيها:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ }
[الزمر: 3] كلام باطل لغة، لأن العبادة طاعة العابد للمعبود في أمره ونهيه، وأي أمر أو نَهْي للأصنام؟ إذن: هذا الكلام منهم هراء وباطل. لذلك سيدنا خالد بن الوليد لما ألانَ الله قلبه للإسلام أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يبعثه ليهدم العُزَّى، فلما ذهب إليها خالد وأمسك بفأسه ليكسرها قال لها:
يا عُزّى كُفْرانَكِ لاَ سُبْحَانَكِ إنِّي رأيْتُ اللهَ قَدْ أهَانَكْ
ولو كانتْ هذه آلهة لخوَّفته ومنعتْ نفسها.
وقف بعضُ المستشرقين عند هذه الآية { وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر: 36] أي: بالأصنام، وقالوا الأصنام: اللات والعُزَّى ومناة كلها أسماء مؤنثة، فكيف يقول القرآن (بالذين) وهي للمذكر ولم يَقُلْ باللاتي؟ ونقول: هناك فَرْقٌ بين اسم للصنم ومُسمَّاه، يعني: اسم صنم. وهذا الصنم سُمِّيَ باللاَّت أو العُزَّى، فمن حيث هو صنم يكون الجمع مذكراً، ومن حيث المسمَّى مؤنثاً، فالذين للاسم أي: للأصنام، واللاتي للمسمَّى.
ونقف هنا عند هذه المقابلة في قوله تعالى: { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ * وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 36-37] الضَّالُّ هو الذي لا يهتدي لغايته، كالذي ضَلَّ الطريق لا يدري أين يتجه، هذا ضَالٌّ عن غير قصد للضلال لأنه لا يعرف.
وجاء ضَالّ بمعنى متردد حائر، في قوله تعالى مُخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم:
{ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ }
[الضحى: 7] لأن النبي رأى أمته تفعل أشياء لا تعجبه، وهو ما يزال لا يعرف الصواب الذي ينبغي فِعْله، أي: لا يعرف الحقيقة، لا أنه يعرف ومنصرف عنها، وفَرْقٌ بين الحالتين. إذن: الضلال هنا غير مقصود.
ويأتي الضلال بمعنى النسيان، كما في قوله تعالى: { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282].
ومن الضلال أنْ ننسى العهد الفطري القديم الذي أخذه الله علينا في قوله سبحانه:
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }
[الأعراف: 172].
ومقابل الضلال الهداية، وهي أيضاً تأتي بمعانٍ متعددة، لكن الذين يتوركون على كلام الله، ويريدون أنْ يعترضوا عليه يأخذونها على معنى واحد، يديرونه على كل موضوعاتها، لكن هذا لا يصح.
فالهداية تُطلَق على الدلالة المطلقة، يعني يدلك وأنت حُرٌّ تطيعه أو تعرض عنه.وضربنا مثلاً لذلك برجل المرور الذي يُرشدك ويدلّك على الطريق، بعدها أنت حر تسلك أو لا تسلك، فإنْ سلكتَ الطريق الذي دلّك عليه وشكرته على معروفه، وقلت له: كثر الله خيرك لولاك لَضللتُ الطريق، فإنه ينظر إليك نظرة أخرى، ويراك أهلاً للمزيد من الخير. فيقول لك: والله أنت رجل طيب، وسوف أسير معك حتى تمرّ من هذه المنطقة لأن فيها أخطاراً، وهذه تُسمَّى المعونة، فالذي يؤمن بمَنْ هدى ودلَّ أهلٌ لأنْ يُعان، وأنْ يُوفق للمزيد من الهداية.
وهذا معنى قول الله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }
[محمد: 17] يعني: زادهم بمعونتهم وتخفيف مشاقّ الطاعة عليهم، وصَرْف أسباب الشر عنهم. إذن: فالأُولَى: هداية دلالة مطلقة. والثانية: هداية إعانة وتوفيق.
وهاتان الهدايتان أوضحهما الحق سبحانه في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال في الأولى:
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
[الشورى: 52] وقال في الأخرى:
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }
[القصص: 56] فكيف يثبت الهدايةَ لرسول الله في آية وينفيها في آية أخرى، والحديث واحد، والفاعل واحد؟
قالوا: لأن الجهة مُنفكة فالهداية المنفية غير الهداية المثبتة، فالحق يقول لنبيه محمد: أنت مُبلِّغ ومُرشد ودَالٌّ فحسب، لستَ واضعَ مناهجَ وليست لك قدرة على أنْ ترغم الناس أنْ يؤمنوا، إنما عليك أن تبلغ لأن بلاغك هو هداية الله للناس، لكن ليستْ مهمتك أن تُدْخِل الإيمان في القلوب.
ومثلها قوله تعالى في آية واحدة:
{ ..وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا.. }
[الروم: 6-7].
هكذا أثبت لهم العلم ونفاه عنهم في نفس الآية، لماذا؟ لأن الجهة منفكَّة، فالعلم المنفيّ غير العلم المثبت.
وقوله تعالى: { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } [الزمر: 36] يضلل الله يعني: ينسبه للضلال يقول: هذا ضال. يعني: خارج عن الطريق الذي رسمته له، هذا الذي حكم الله بأنه ضَالٌّ لا يمكن أنْ يصفه صاحب عقل بأنه مُهتدٍ. لأنه حين يعرض مطلوب الله منه وما يفعله يصل بالعقل الفطري إليّ أنه ضال، ليس بمهتدٍ.
فالحق سبحانه مثلاً قال لنا: اصدقوا في حديثكم. ونهانا عن الكذب، فماذا يقول حين يقارن بين الصدق والكذب؟ لا بد أنْ يقول: الصدق هداية، والكذب ضلال لا يستطيع أنْ يقول غير ذلك، خاصة إذا جعل الأمر في نفسه هو: أتحب أنْ يصدُقَ الناسُ معك، أم أنْ يكذبوا عليك؟
إذن: فمَنْ يُضلل الله ويحكم بأنه ضَالٌّ بعد أنْ بيَّن له الطريق لا يقدر أحد أنْ يصفه بالهدى، لأن هداية الله أمرٌ تتفق فيه كل العقول الفطرية، خصوصاً إذا مسَّك أنت عاقبة هذا الضلال واكتويتَ بناره.
لذلك تجد الكذاب يحب الصادق، والشرير يحب الخيِّر الشريف وضربنا مثلاً لذلك بثلاثة من الشباب بالمراهقين الذي يسيرون في الحياة على (حَلٍّ شعرهم)، ويسلكون الطريق البطال، واحد منهم تاب الله عليه واعتزلهم، فراحوا يسخرون منه ويصفونه بالجردل والقفل.. الخ. ثم أراد واحد منهما أنْ يزوج أخته، لمن يُزوجها لزميله الذي يوافقه على الشر والفساد، أم للآخر الذي تاب واعتزل شرهم؟ إذن: قد يُغريك الباطلِ، لكن لا بُدَّ في النهاية أنْ يغلب الحق، وأنْ يظهر ويعلو، { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] فاصبر على طريقه.
منقوول
تفسير بن كثير
يقول اللّه تعالى: { أليس اللّه بكاف عبده} يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكّل عليه، وفي الحديث: (أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً، وقنع به) "أخرجه ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري مرفوعاً ورواه الترمذي والنسائي بنحوه" { ويخوفونك بالذين من دونه} يعني المشركين يخّوفون الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم، التي يدعونها من دون اللّه جهلاً منهم وضلالاً، عن معمر قال: قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبلنك، فنزلت: { ويخوفونك بالذين من دونه} أخرجه عبد الرزاق كما في اللباب ولهذا قال عزَّ وجلَّ: { ومن يضلل اللّه فما له من هاد ومن يهد اللّه فما له من مضل أليس اللّه بعزيز ذي انتقام} أي منيع الجناب لا يضام من استند إلى جنابه، ولجأ إلى بابه، فإنه العزيز الذي لا أعز منه، ولا أشد انتقاماً منه، فمن كفر به وأشرك، وعاند رسوله صلى اللّه عليه وسلم، وقوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللّه} يعني المشركين كانوا يعترفون بأن اللّه عزَّ وجلَّ هو الخالق للأشياء كلها، ومع هذا يعبدون معه غيره، مما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولهذا قال تعالى: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون اللّه إن أرادني اللّه بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته} أي لا تستطيع شيئاً من الأمر، وفي الحديث: (احفظ اللّه يحفظك، احفظ اللّه تجده تجاهك، تعرف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة) "الحديث رواه ابن أبي حاتم والترمذي" الحديث { قل حسبي اللّه} أي اللّه كافي، { عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون} ، كما قال هود عليه الصلاة والسلام: { إني توكلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: (من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه تعالى، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه عزَّ وجلَّ أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق اللّه عزَّ وجلَّ) "أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس مرفوعاً"، وقوله تعالى: { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم} أي على طريقتكم، وهذا تهديد ووعيد، { إني عامل} أي على طريقتي ومنهجي، { فسوف تعلمون} أي ستعلمون غبّ ذلك ووباله، { من يأتيه عذاب يخزيه} أي في الدنيا، { ويحل عليه عذاب مقيم} أي دائم مستمر، لا محيد له عنه، وذلك يوم القيامة، أعاذنا اللّه منها.
تفسير الجلالين
{ أليس الله بكاف عبده } أي النبي، بلى { ويخوّفونك } الخطاب له { بالذين من دونه } أي الأصنام، أن تقتله أو تخبله { ومن يضلل الله فما له من هاد } .
تفسير الطبري
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } اِخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَلَى عَبْده } فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْض قُرَّاء الْمَدِينَة وَعَامَّة قُرَّاء أَهْل الْكُوفَة : " أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عِبَاده " عَلَى الْجِمَاع , بِمَعْنَى : أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ مُحَمَّدًا وَأَنْبِيَاءَهُ مِنْ قَبْله مَا خَوَّفْتهمْ أُمَمهمْ مِنْ أَنْ تَنَالهُمْ آلِهَتهمْ بِسُوءٍ ; وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّة قُرَّاء الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة , وَبَعْض قُرَّاء لِلْكُوفَةِ : { بِكَافٍ عَبْده } عَلَى التَّوْحِيد , بِمَعْنَى : أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده مُحَمَّدًا . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار . فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئ فَمُصِيب لِصِحَّةِ مَعْنَيَيْهِمَا وَاسْتِفَاضَة الْقِرَاءَة بِهِمَا فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23221 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد , قَالَ : ثنا أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } يَقُول : مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 23222 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } قَالَ : بَلَى , وَاَللَّه لَيَكْفِينَهُ اللَّه وَيُعِزّهُ وَيَنْصُرهُ كَمَا وَعَدَهُ. الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } اِخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَلَى عَبْده } فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْض قُرَّاء الْمَدِينَة وَعَامَّة قُرَّاء أَهْل الْكُوفَة : " أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عِبَاده " عَلَى الْجِمَاع , بِمَعْنَى : أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ مُحَمَّدًا وَأَنْبِيَاءَهُ مِنْ قَبْله مَا خَوَّفْتهمْ أُمَمهمْ مِنْ أَنْ تَنَالهُمْ آلِهَتهمْ بِسُوءٍ ; وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّة قُرَّاء الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة , وَبَعْض قُرَّاء لِلْكُوفَةِ : { بِكَافٍ عَبْده } عَلَى التَّوْحِيد , بِمَعْنَى : أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده مُحَمَّدًا . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار . فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئ فَمُصِيب لِصِحَّةِ مَعْنَيَيْهِمَا وَاسْتِفَاضَة الْقِرَاءَة بِهِمَا فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23221 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد , قَالَ : ثنا أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } يَقُول : مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 23222 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده } قَالَ : بَلَى , وَاَللَّه لَيَكْفِينَهُ اللَّه وَيُعِزّهُ وَيَنْصُرهُ كَمَا وَعَدَهُ. ' وَقَوْله : { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَيُخَوِّفك هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّد بِاَلَّذِينَ مِنْ دُون اللَّه مِنْ الْأَوْثَان وَالْآلِهَة أَنْ تُصِيبك بِسُوءٍ , بِبَرَاءَتِك مِنْهَا , وَعَيْبك لَهَا , وَاَللَّه كَافِيك ذَلِكَ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23223 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } الْآلِهَة , قَالَ : بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِد بْن الْوَلِيد إِلَى شِعْب بِسُقَام لِيَكْسِر الْعُزَّى , فَقَالَ سَادِنهَا , وَهُوَ قَيِّمهَا : يَا خَالِد أَنَا أُحَذِّركهَا , إِنَّ لَهَا شِدَّة لَا يَقُوم إِلَيْهَا شَيْء , فَمَشَى إِلَيْهَا خَالِد بِالْفَأْسِ فَهَشَّمَ أَنْفهَا . 23224 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد , قَالَ : ثنا أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } يَقُول : بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ . 23225 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } قَالَ : يُخَوِّفُونَك بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي مِنْ دُونه . وَقَوْله : { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَيُخَوِّفك هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّد بِاَلَّذِينَ مِنْ دُون اللَّه مِنْ الْأَوْثَان وَالْآلِهَة أَنْ تُصِيبك بِسُوءٍ , بِبَرَاءَتِك مِنْهَا , وَعَيْبك لَهَا , وَاَللَّه كَافِيك ذَلِكَ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23223 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } الْآلِهَة , قَالَ : بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِد بْن الْوَلِيد إِلَى شِعْب بِسُقَام لِيَكْسِر الْعُزَّى , فَقَالَ سَادِنهَا , وَهُوَ قَيِّمهَا : يَا خَالِد أَنَا أُحَذِّركهَا , إِنَّ لَهَا شِدَّة لَا يَقُوم إِلَيْهَا شَيْء , فَمَشَى إِلَيْهَا خَالِد بِالْفَأْسِ فَهَشَّمَ أَنْفهَا . 23224 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد , قَالَ : ثنا أَحْمَد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } يَقُول : بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ . 23225 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { وَيُخَوِّفُونَك بِاَلَّذِينَ مِنْ دُونه } قَالَ : يُخَوِّفُونَك بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي مِنْ دُونه . ' وَقَوْله : { وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَمَنْ يَخْذُلهُ اللَّه فَيُضِلّهُ عَنْ طَرِيق الْحَقّ وَسَبِيل الرُّشْد , فَمَا لَهُ سِوَاهُ مِنْ مُرْشِد وَمُسَدِّد إِلَى طَرِيق الْحَقّ , وَمُوَفِّق لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ , وَتَصْدِيق رَسُوله , وَالْعَمَل بِطَاعَتِهِ { وَمَنْ يَهْدِ اللَّه فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ } يَقُول : وَمَنْ يُوَفِّقهُ اللَّه لِلْإِيمَانِ بِهِ , وَالْعَمَل بِكِتَابِهِ , فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ , يَقُول : فَمَا لَهُ مِنْ مَزِيغ يُزِيغهُ عَنْ الْحَقّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إِلَى الِارْتِدَاد إِلَى الْكُفْر { أَلَيْسَ اللَّه بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقَام } يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ : أَلَيْسَ اللَّه يَا مُحَمَّد بِعَزِيزٍ فِي اِنْتِقَامه مِنْ كَفَرَة خَلْقه , ذِي اِنْتِقَام مِنْ أَعْدَائِهِ الْجَاحِدِينَ وَحْدَانِيّته .وَقَوْله : { وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَمَنْ يَخْذُلهُ اللَّه فَيُضِلّهُ عَنْ طَرِيق الْحَقّ وَسَبِيل الرُّشْد , فَمَا لَهُ سِوَاهُ مِنْ مُرْشِد وَمُسَدِّد إِلَى طَرِيق الْحَقّ , وَمُوَفِّق لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ , وَتَصْدِيق رَسُوله , وَالْعَمَل بِطَاعَتِهِ { وَمَنْ يَهْدِ اللَّه فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ } يَقُول : وَمَنْ يُوَفِّقهُ اللَّه لِلْإِيمَانِ بِهِ , وَالْعَمَل بِكِتَابِهِ , فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ , يَقُول : فَمَا لَهُ مِنْ مَزِيغ يُزِيغهُ عَنْ الْحَقّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إِلَى الِارْتِدَاد إِلَى الْكُفْر { أَلَيْسَ اللَّه بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقَام } يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ : أَلَيْسَ اللَّه يَا مُحَمَّد بِعَزِيزٍ فِي اِنْتِقَامه مِنْ كَفَرَة خَلْقه , ذِي اِنْتِقَام مِنْ أَعْدَائِهِ الْجَاحِدِينَ وَحْدَانِيّته .'
تفسير القرطبي
قوله تعالى: { أليس الله بكاف عبده} حذفت الياء من { كاف} لسكونها وسكون التنوين بعدها؛ وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين، إلا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل. ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول : كافي. وقراءة العامة { عبده} بالتوحيد يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم. وقرأ حمزة والكسائي { عباده} وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم. واختار أبو عبيدة قراءة الجماعة لقوله عقيبه { ويخوفونك بالذين من دونه} . ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس؛ كقوله عز من قائل: { إن الإنسان لفي خسر} [العصر : 2] وعلى هذا تكون القراءة الأولى راجعة إلى الثانية. والكفاية شر الأصنام، فإنهم كانوا يخوفون المؤمنين بالأصنام، حتى قال إبراهيم عليه السلام. { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله} [الأنعام : 81]. وقال الجرجاني : إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر، هذا بالثواب وهذا بالعقاب. قوله تعالى: { ويخوفونك بالذين من دونه} وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان، فقالوا : أتسب آلهتنا؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أوتصيبنك بسوء. وقال قتادة : مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس. فقال له سادنها : أحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس. وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي وجه خالدا. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم؛ كما قال: { أم يقولون نحن جميع منتصر} [القمر : 44] { ومن يضلل الله فما له من هاد} تقدم. { ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام} أي ممن عاداه أوعادى رسله.
تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي
يعني: يا محمد، لا تهتم بهذا الهراء فالله حَسْبك وكافيك، والذي يدل على ذلك أن رسول الله كان يحرسه القوم من المؤمنين مخافة أن يناله المشركون بسوء، ففوجئوا في يوم أن رسول الله يسرحهم ويُنهي هذه الحراسة ويصرفها.
ولو لم يكُنْ رسول الله واثقاً أن الذي أمره بصرف الحراس كفيلٌ بحفظه وحمايته لما فعل ذلك في نفسه؛ لذلك رأينا المرأة الدنماركية وهي تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم، أنه أعظم العظماء الذين تركوا بصمة واضحة في التاريخ، وقلبوا ميزان الدنيا، فلما جاءت عند هذه الحادثة وقرأت { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] وقرأت:
{ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ }
[المائدة: 67] قالت: والله ما فعل محمد ذلك إلا وهو واثقٌ من حماية ربه له، ولو خدع الناسَ جميعاً ما خدع نفسه، وآمنْ بسبب هذه المسألة.
قوله سبحانه: { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] يحلو للبعض أن يقول المعنى: أليس الله كافياً عبده، ويعتبرون الباء زائدة، وهذا غير صحيح، فليس في كلام الله تعالى حرف زائد, فالهمزة هنا استفهام إنكاري، والإنكار يفيد النفي، بعدها ليس للنفي ونفي النفي إثبات.
يعني: ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، وما دُمْنا ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، فالنتيجة أن الله تعالى كافٍ عبده.
والحق سبحانه وتعالى: له اسم هو الله، وله صفات هي التي عرفناها بالأسماء الحسنى، ومن أسمائه الحسنى الكافي، فالمعنى إذن: أليس الله موصوفاً بكاف عبده، فكيف إذن نقول: إن الباء زائدة؟
إن القول بزيادة الباء هنا يناقضُ بلاغةَ القرآن، ولا يصح أن نقول: إن في القرآن حرفاً زائداً، البعض يتأدّبون مع كلام الله ويقولون: بل هو حرف صلة، وآخرون يقولون: حرف لربط الوجود، ولسنا في حاجة إلى كل هذه التأويلات.
وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة، فلو قلنا مثلاً: ما عندي مال، (ما) هنا تنفي وجود المال الذي يُعتد به، ولا تمنع أنْ يكون معي جنيه أو جنيهان مثلاً، لكن لو قلتَ: ما عندي من مال أي: من بداية ما يُقال له مال ولا حتى مليم واحد إذن: حرف الجر هنا ليس زائداً في الكلام، إنما تأسيسي في المعنى.
أما الذين قالوا بزيادة الباء في { بِكَافٍ } [الزمر: 36] فقد اعتبروا (ليس) من أخوات كان التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، فلفظ الجلالة اسمها مرفوع وكاف خبرها، فالتقدير: أليس الله كافياً عبده، وهذا ينافي جلال القرآن وبلاغته.
وقوله: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر: 36] أي: بالأصنام { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } [الزمر: 36] يعني: دعهم يقولون ما يقولون فقد أَضلهم الله فمَنْ يهديهم؟ { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } [الزمر: 37] هذا هو المقابل إذا هدانا الله الطريق، فلن يُضِلنا أحد { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] يعني: أليس اللهُ موصوفاً بالعزّة، فالباء هنا كسابقتها.والعزيز هو الذي يغلب ولا يُغلب، وما دام هو سبحانه غالباً لا يغلب فاحذروا انتقامه لأنه { ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] فمهما صنعتم بالفكر الفاسد والتبييت والائتمار فلن تغلبوه.
وعجيبٌ من الكفار أنْ يُخوِّفوا رسول الله بالأصنام، وهم يعلمون حقيقتها وقولهم فيها:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ }
[الزمر: 3] كلام باطل لغة، لأن العبادة طاعة العابد للمعبود في أمره ونهيه، وأي أمر أو نَهْي للأصنام؟ إذن: هذا الكلام منهم هراء وباطل. لذلك سيدنا خالد بن الوليد لما ألانَ الله قلبه للإسلام أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يبعثه ليهدم العُزَّى، فلما ذهب إليها خالد وأمسك بفأسه ليكسرها قال لها:
يا عُزّى كُفْرانَكِ لاَ سُبْحَانَكِ إنِّي رأيْتُ اللهَ قَدْ أهَانَكْ
ولو كانتْ هذه آلهة لخوَّفته ومنعتْ نفسها.
وقف بعضُ المستشرقين عند هذه الآية { وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر: 36] أي: بالأصنام، وقالوا الأصنام: اللات والعُزَّى ومناة كلها أسماء مؤنثة، فكيف يقول القرآن (بالذين) وهي للمذكر ولم يَقُلْ باللاتي؟ ونقول: هناك فَرْقٌ بين اسم للصنم ومُسمَّاه، يعني: اسم صنم. وهذا الصنم سُمِّيَ باللاَّت أو العُزَّى، فمن حيث هو صنم يكون الجمع مذكراً، ومن حيث المسمَّى مؤنثاً، فالذين للاسم أي: للأصنام، واللاتي للمسمَّى.
ونقف هنا عند هذه المقابلة في قوله تعالى: { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ * وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 36-37] الضَّالُّ هو الذي لا يهتدي لغايته، كالذي ضَلَّ الطريق لا يدري أين يتجه، هذا ضَالٌّ عن غير قصد للضلال لأنه لا يعرف.
وجاء ضَالّ بمعنى متردد حائر، في قوله تعالى مُخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم:
{ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ }
[الضحى: 7] لأن النبي رأى أمته تفعل أشياء لا تعجبه، وهو ما يزال لا يعرف الصواب الذي ينبغي فِعْله، أي: لا يعرف الحقيقة، لا أنه يعرف ومنصرف عنها، وفَرْقٌ بين الحالتين. إذن: الضلال هنا غير مقصود.
ويأتي الضلال بمعنى النسيان، كما في قوله تعالى: { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282].
ومن الضلال أنْ ننسى العهد الفطري القديم الذي أخذه الله علينا في قوله سبحانه:
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }
[الأعراف: 172].
ومقابل الضلال الهداية، وهي أيضاً تأتي بمعانٍ متعددة، لكن الذين يتوركون على كلام الله، ويريدون أنْ يعترضوا عليه يأخذونها على معنى واحد، يديرونه على كل موضوعاتها، لكن هذا لا يصح.
فالهداية تُطلَق على الدلالة المطلقة، يعني يدلك وأنت حُرٌّ تطيعه أو تعرض عنه.وضربنا مثلاً لذلك برجل المرور الذي يُرشدك ويدلّك على الطريق، بعدها أنت حر تسلك أو لا تسلك، فإنْ سلكتَ الطريق الذي دلّك عليه وشكرته على معروفه، وقلت له: كثر الله خيرك لولاك لَضللتُ الطريق، فإنه ينظر إليك نظرة أخرى، ويراك أهلاً للمزيد من الخير. فيقول لك: والله أنت رجل طيب، وسوف أسير معك حتى تمرّ من هذه المنطقة لأن فيها أخطاراً، وهذه تُسمَّى المعونة، فالذي يؤمن بمَنْ هدى ودلَّ أهلٌ لأنْ يُعان، وأنْ يُوفق للمزيد من الهداية.
وهذا معنى قول الله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }
[محمد: 17] يعني: زادهم بمعونتهم وتخفيف مشاقّ الطاعة عليهم، وصَرْف أسباب الشر عنهم. إذن: فالأُولَى: هداية دلالة مطلقة. والثانية: هداية إعانة وتوفيق.
وهاتان الهدايتان أوضحهما الحق سبحانه في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال في الأولى:
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
[الشورى: 52] وقال في الأخرى:
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }
[القصص: 56] فكيف يثبت الهدايةَ لرسول الله في آية وينفيها في آية أخرى، والحديث واحد، والفاعل واحد؟
قالوا: لأن الجهة مُنفكة فالهداية المنفية غير الهداية المثبتة، فالحق يقول لنبيه محمد: أنت مُبلِّغ ومُرشد ودَالٌّ فحسب، لستَ واضعَ مناهجَ وليست لك قدرة على أنْ ترغم الناس أنْ يؤمنوا، إنما عليك أن تبلغ لأن بلاغك هو هداية الله للناس، لكن ليستْ مهمتك أن تُدْخِل الإيمان في القلوب.
ومثلها قوله تعالى في آية واحدة:
{ ..وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا.. }
[الروم: 6-7].
هكذا أثبت لهم العلم ونفاه عنهم في نفس الآية، لماذا؟ لأن الجهة منفكَّة، فالعلم المنفيّ غير العلم المثبت.
وقوله تعالى: { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } [الزمر: 36] يضلل الله يعني: ينسبه للضلال يقول: هذا ضال. يعني: خارج عن الطريق الذي رسمته له، هذا الذي حكم الله بأنه ضَالٌّ لا يمكن أنْ يصفه صاحب عقل بأنه مُهتدٍ. لأنه حين يعرض مطلوب الله منه وما يفعله يصل بالعقل الفطري إليّ أنه ضال، ليس بمهتدٍ.
فالحق سبحانه مثلاً قال لنا: اصدقوا في حديثكم. ونهانا عن الكذب، فماذا يقول حين يقارن بين الصدق والكذب؟ لا بد أنْ يقول: الصدق هداية، والكذب ضلال لا يستطيع أنْ يقول غير ذلك، خاصة إذا جعل الأمر في نفسه هو: أتحب أنْ يصدُقَ الناسُ معك، أم أنْ يكذبوا عليك؟
إذن: فمَنْ يُضلل الله ويحكم بأنه ضَالٌّ بعد أنْ بيَّن له الطريق لا يقدر أحد أنْ يصفه بالهدى، لأن هداية الله أمرٌ تتفق فيه كل العقول الفطرية، خصوصاً إذا مسَّك أنت عاقبة هذا الضلال واكتويتَ بناره.
لذلك تجد الكذاب يحب الصادق، والشرير يحب الخيِّر الشريف وضربنا مثلاً لذلك بثلاثة من الشباب بالمراهقين الذي يسيرون في الحياة على (حَلٍّ شعرهم)، ويسلكون الطريق البطال، واحد منهم تاب الله عليه واعتزلهم، فراحوا يسخرون منه ويصفونه بالجردل والقفل.. الخ. ثم أراد واحد منهما أنْ يزوج أخته، لمن يُزوجها لزميله الذي يوافقه على الشر والفساد، أم للآخر الذي تاب واعتزل شرهم؟ إذن: قد يُغريك الباطلِ، لكن لا بُدَّ في النهاية أنْ يغلب الحق، وأنْ يظهر ويعلو، { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] فاصبر على طريقه.
منقوول