فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ
تفسير بن كثير
يقول عزَّ وجلَّ مخاطباً للمشركين الذين افتروا على اللّه، وجعلوا معه آلهة أُخرى، وادعوا أن الملائكة بنات اللّه، وجعلوا للّه ولداً - تعالى اللّه عن قولهم علواً كبيراً - ومع هذا فقد كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل اللّه صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، ولهذا قال اللّه عزَّ وجلَّ: { فمن أظلم ممن كذب على اللّه وكذّب بالصدق إذ جاءه} أي لا أحد أظلم من هذا، لأنه جمع بين طرفي الباطل: كذب على اللّه، وكذّب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال الباطل، ورد الحق، ولهذا قال جلت عظمته متوعداً لهم: { أليس في جهنم مثوى للكافرين} وهم الجاحدون المكذبون، ثم قال جلَّ وعلا { والذي جاء بالصدق وصدّق به} ، قال مجاهد وقتادة: { الذي جاء بالصدق} هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وقال السدي: هو جبريل عليه السلام، { وصدّق به} يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم، وقال ابن عباس: من جاء بلا إله إلا اللّه { وصدّق به} يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقيل: أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون: هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا، وهذا القول (وهو رواية ليث عن مجاهد وهو اختيار ابن كثير) يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به، والرسول صلى اللّه عليه وسلم أول الناس بالدخول في هذه الآية، فإنه جاء بالصدق وصدّق المرسلين، وآمن بما أنزل إليه من ربه، وقال ابن زيد: { والذي جاء بالصدق} هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { وصدّق به} قال المسلمون { أولئك هم المتقون} قال ابن عباس: اتقوا الشرك { لهم ما يشاؤون عند ربهم} يعني في الجنة، مهما طلبوا وجدوا { ذلك جزاء المحسنين ليكفر اللّه عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} كما قال عزَّ وجلَّ في الآية الأخرى: { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} .
تفسير الجلالين
{ فمن } أي لا أحد { أظلم ممن كذب على الله } بنسبة الشريك والولد إليه { وكذَّب بالصدق } بالقرآن { إذ جاءه أليس في جهنم مثوىً } مأوى { للكافرين } بلى .
تفسير الطبري
وَقَوْله : { فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : فَمِمَّنْ خَلَقَ اللَّه أَعْظَم فِرْيَة مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه , فَادَّعَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَصَاحِبَة , أَوْ أَنَّهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمهُ مِنْ الْمَطَاعِم { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } يَقُول : وَكَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّه إِذْ أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّد , وَابْتَعَثَهُ اللَّه بِهِ رَسُولًا , وَأَنْكَرَ قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23212 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } : أَيْ بِالْقُرْآنِ وَقَوْله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } يَقُول تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَلَيْسَ فِي النَّار مَأْوًى وَمَسْكَن لِمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ , وَامْتَنَعَ مِنْ تَصْدِيق مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاتِّبَاعه عَلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَتَاهُ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه مِنْ التَّوْحِيد , وَحُكْم الْقُرْآن ؟ وَقَوْله : { فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : فَمِمَّنْ خَلَقَ اللَّه أَعْظَم فِرْيَة مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه , فَادَّعَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَصَاحِبَة , أَوْ أَنَّهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمهُ مِنْ الْمَطَاعِم { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } يَقُول : وَكَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّه إِذْ أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّد , وَابْتَعَثَهُ اللَّه بِهِ رَسُولًا , وَأَنْكَرَ قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23212 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } : أَيْ بِالْقُرْآنِ وَقَوْله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } يَقُول تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَلَيْسَ فِي النَّار مَأْوًى وَمَسْكَن لِمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ , وَامْتَنَعَ مِنْ تَصْدِيق مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاتِّبَاعه عَلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَتَاهُ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه مِنْ التَّوْحِيد , وَحُكْم الْقُرْآن ؟ '
تفسير القرطبي
قوله تعالى: { فمن أظلم} أي لا أحد أظلم { ممن كذب على الله} فزعم أن له ولدا وشريكا { وكذب بالصدق إذ جاءه} يعني القرآن { أليس في جهنم} استفهام تقرير { مثوى للكافرين} أي مقام للجاحدين، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواء وثويا مثل مضى مضاء ومضيا، ولو كان من أثوى لكان مثوى. وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصيحة. وحكى أبو عبيد أثوى، وأنشد قول الأعشى : أثوى وقصر ليلة ليزوَّدا ** ومضى وأخلف من قُتيْلة موعدا والأصمعي لا يعرف إلا ثوى، ويروى البيت أثوى على الاستفهام. وأثويت غيري يتعدى ولا يتعدى. قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق} في موضع رفع بالابتداء وخبره { أولئك هم المتقون} واختلف في الذي جاء بالصدق وصدق به؛ فقال علي رضي الله عنه: { الذي جاء بالصدق} النبي صلى الله عليه وسلم { وصدق به} أبو بكر رضي الله عنه. وقال مجاهد : النبي عليه السلام وعلي رضي الله عنه. السدي : الذي جاء بالصدق جبريل والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد ومقاتل وقتادة: { الذي جاء بالصدق} النبي صلى الله عليه وسلم: { وصدق به} المؤمنون. واستدلوا على ذلك بقوله: { أولئك هم المتقون} كما قال: { هدى للمتقين} [البقرة : 2]. وقال النخعي ومجاهد { الذي جاء بالصدق وصدق به} المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون : هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه؛ فيكون { الذي} على هذا بمعنى جمع كما تكون من بمعنى جمع. وقيل : بل حذفت منه النون لطول الاسم، وتأول الشعبي على أنه واحد. وقال: { الذي جاء بالصدق} محمد صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا خبره جماعة؛ كما يقال لمن يعظم هو فعلوا، وزيد فعلوا كذا وكذا. وقيل : إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله عز وجل؛ قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري. وفي قراءة ابن مسعود { والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به} وهي قراءة على التفسير. وفي قراءة أبي صالح الكوفي { والذي جاء بالصدق وصدق به} مخففا على معنى وصدق بمجيئه به، أي صدق في طاعة الله عز وجل، وقد مضى في { البقرة} الكلام في { الذي} وأنه يكون واحدا ويكون جمعا. { لهم ما يشاءون عند ربهم} أي من النعيم في الجنة، كما يقال : لك إكرام عندي؛ أي ينالك مني ذلك. { ذلك جزاء المحسنين} الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة. قوله تعالى: { ليكفر الله عنهم} أي صدّقوا { ليكفر الله عنهم} . { أسوأ الذي عملوا} أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام. { ويجزيهم أجرهم} أي يثيبهم على الطاعات في الدنيا { بأحسن الذي كانوا يعملون} وهي الجنة.
تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي
الاستفهام في { فَمَنْ أَظْلَمُ } [الزمر: 32] يحمل معنى التعجب والإنكار يعني: لا أحدَ أظلمُ من هذا الذي يكذب على الله، فلو كذب على غير الله لكان منكراً، فما بالك وقد كذب على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم حقائق الأشياء سِرَّها وعلانيتها.
إذن: فالكذب على الله خيبة، وإنْ كنت ولا بُدَّ ستكذب فاكذب على إنسان مثلك هو أيضاً عُرْضة لأن يكذب.
لذلك جاء لفظ { أَظْلَمُ } على وزن أفعل التي تدل على المبالغة، لأن أفظعَ الظلم وأعظمه أنْ تكذب على الله، لكن مَنْ ظلم؟ أظلم مَنْ يكذب عليه أم ظلم نفسه؟ بل ظلم نفسه.
ولم يقف الأمر عند هذا بل { وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } [الزمر: 32] لأن التكذيب بالصدق ينقل القضايا إلى نقيضها، والشيء الصدق هو الذي لا يُقال لقائله كذبت، لأنه إخبارٌ بأحداث يُصدِّقها الواقع وسبق أنْ قلنا: إن النسبة الكلامية إذا وافقتْ نسبة الواقع كان الكلام صادقاً، وإذا خالفت الواقع كان كاذباً.
ثم يستفهم الحق - سبحانه وتعالى - وهو أعلم: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [الزمر: 32] يعني: ما ظنّ هؤلاء الذي يكذبون على الله ويُكذبون بالصدق، ألم يعلموا هذه الحقيقة وهي أن جهنم مثوى للكافرين المكذِّبين، لو كانت هذه الحقيقة في بالهم ما اجترأوا على الله، إنما هم كاذبون يقولون غير الواقع ولا يؤمنون به.
وبعد ذلك ينتقل إلى خصوصية الصادق { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقّى عن ربه وبلّغ أمته، وقد أكد الله تعالى صِدْق رسوله في مواضع كثيرة، منها:
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }
[الحاقة: 44-47].
إذن: مسألة الكذب على الله مسألة لا يُحابى بها أحد حتى الرسل، لذلك جاء بلاغه صلى الله عليه وسلم عن ربه دقيقاً، فتراه لا يبلغ مضمون المقولات، إنما يبلغ المقولات ذاتها، واقرأ قوله تعالى:
{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }
[الإخلاص: 1] فكان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لقومه: الله أحد. وبذلك يكون قد بلَّغ المراد من الآية إنما قال كما جاءه من ربه
{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }
[الإخلاص: 1] فذكر المر بأنْ يقول (قل).
والعجيب أنْ يطلُعَ علينا مَنْ يقول بحذف مثل هذه الكلمة بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى، ونقول: هذا ليس كلامَ بشر، بل هو كلام الله وقرآنه، وقد حفظه الله بنفسه وبلّغه رسوله كما تلقّاه عن ربه.
أرأيتَ لو أرسلتَ ابنك عنك قضية مثلاً وقلتَ له: اذهب إلى فلان وقُلْ له كذا وكذا، وبإمكان الولد أنْ يبلغ مضمون القضية، لكنه حين يقول: أبي قال لي قُل لفلان كذا وكذا، فهذا يعني أنه يؤكد الكلام ويهتمّ بالرسالة كما تلقاها، إذن: لو حُذِفَتْ كلمة (قُلْ) فقد حُذِفَتْ كلمة من القرآن، لا كلمة زائدة عليه.وقوله: { وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] أي: صدَّق بالصدق الذي جاء به، صدَّق هو أولاً ولم ينتظر منا أنْ نُصدِّق نحن أو نشهد بذلك، لقد أخذ الرسول عن ربه أنه إله واحد لا شريكَ له فشهد بذلك أولاً وصدَّق، كذلك الحق سبحانه لم ينتظر شهادةَ العباد بوحدانيته إنما شهد بها لنفسه أولاً، فقال سبحانه:
{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ }
[آل عمران: 18] وبعد أنْ شهد اللهُ لنفسه بالوحدانية وجب على الرسول أيضاً أنْ يشهد بأن محمداً رسولُ الله، إذن: جاء بالصدق وصدَّق هو به وقال هو عن نفسه: أشهد أن محمداً رسول الله. كذلك شهد الملائكة بهذه الوحدانية، وشهد بها أولو العلم شهادةَ الحجة والدليل والبرهان.
وقالوا: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] هو رسول الله { وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] أي: الذين صدَّقوا رسول الله في أول بلاغ له عن ربه، سواء أكان أبا بكر رضي الله عنه أم السيدة خديجة رضي الله عنها، وقد اختلفوا في هذه المسألة: أهو أبو بكر أم خديجة؟ وليس في المسألة خلاف. فإذا قيل: أول مَنْ آمن من الرجال نقول أبو بكر. ومن النساء: خديجة.
والواقع أن السيدة خديجة آمنتْ برسول الله وصدَّقته في أول الأمر، وربما قبل أنْ يبلغ أبا بكر الخبر، وتعلمون موقفها من رسول الله حين جاءه الوحي، وأنها ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، فقال: إنه نبيُّ هذه الأمة، ولكي يؤكد لها هذه القضية قال: وإنْ يدركني يومك لأنصرنَّك نصراً مؤزّراً، ليتني أكون حيّاً يوم يُخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: ما جاء أحد بمثل ما جئتَ به إلا أُوذِي ولتُخرَجُنَّ.
أما الصِّديق أبو بكر فلما أخبروه أن صاحبك يزعم أنه رسول قال: إنْ كان قال فقد صدق، إذن: كيف صدَّق أبو بكر وهو لم يَرَ من رسول الله معجزةً تدل على رسالته؟
قالوا: ليست المعجزة (عياقة) لا يؤمن الناس إلا بها، إنما المعجزة جُعِلَتْ لمن يكابر في التصديق؛ لذلك جاءت معجزةُ القرآن تحدياً للكافرين والمعاندين المكذِّبين، أما مَنْ آمن برسول الله أولاً فلا يحتاج إلى معجزة، وأيُّ معجزة جعلتْ أبا بكر يؤمن ويُصدِّق برسول الله بهذه السرعة؟
قالوا: لأنه لم يُجرِّب على رسول الله كذباً أبداً قبل ذلك، فإذا كان صادقاً في أموره مع الناس أيكذب على الله؟ إذن: أخذ أبو بكر المعجزة من تاريخه مع رسول الله، وكذلك السيدة خديجة بدليل أنها هي التي شجَّعته وآزرته وقالت: " والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتَقْري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر " فمعجزة محمد لمَنْ آمن به أولاً تاريخه وسيرته بينهم.
وأنتم تعلمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزيمة الذي يقول فيه: " مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه " ونِصاب الشهادة معروف، فكيف جعل رسول الله خزيمة نِصاباً وحده في الشهادة؟ وبم استحق هذه المنزلة؟
قالوا: لأنه فاز بجدارة في قضية التصديق برسول الله " حينما اقترض رسول الله مبلغاً من المال من يهودي، ثم أدَّاه إليه في موعده، لكن جاء اليهودي يدَّعي أنه لم يأخذ دَيْنه من رسول الله، وذهب إلى رسول الله أمام الناس يقول: يا محمد أو يا أبا القاسم أعْطِني دَيْني، فقال رسول الله: لقد أعطيتُك، فقال: ومَنْ يشهد على ذلك؟ فقام خزيمة وقال: يا رسول الله أشهد أنك أعطيته دَيْنه.
ولأن اليهودي كان كاذباً في ادعائه صدَّق بشهادة خزيمة وقال في نفسه: لعله كان حاضراً ولم أَرَه، لأن اليهودي أخذ دَيْنه من رسول الله ولم يكُنْ أحدٌ موجوداً معهما، عندها خنس اليهودي وانصرف، فاستدعى رسول الله خزيمة، وقال له: يا خزيمة لم يكُنْ معي أحد حين أعطيتُه حقه، فكيف شهدتَ أنك رأيتني أعطيه؟
فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في عدة دراهم؟ فأعجب رسول الله باستنتاج خزيمة، ورآه اجتهاداً جميلاً، فقال فيه: " مَنْ شَهِدَ له خُزيمةُ فحسْبُه ".
والمسألة ليست على دراهم اليهودي، إنما لها واقعٌ آخر، حينما أرادوا أن يجمعوا القرآن تحرَّوْا فيه أقصى درجات الدقة، فكان الجامع لا يكتب كلمة واحدة في المصحف الجامع إلا إذا رآها مكتوبة، وشهد عليها شاهدان ليتأكد من صدقها في الصدور وفي السطور، حتى وقف أمام آية كُتِب وشهد عليها شاهد واحد فتوقف، فلما رأى أن هذا الشاهد هو خزيمة تذكَّر قول رسول الله فيه: " مَنْ شهِد له خزيمة فحَسْبه " فكتبها.
ومن مواقف التصديق ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج. وقالوا له: إن صاحبك يدَّعِي أنه أتى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء في ليلة واحدة، لم يبحث المسألة ولم يناقشها إنما صَدَّق بدايةً وقال: إنْ كان قد قال فقد صدق. فميزان الصدق عنده مجرد أنْ يقول رسول الله.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [الزمر: 33] أي: الذين أخذوها من قصيرها كما يقولون، وجعلوا بينهم وبين صفات الجلال من الله وقاية.
منقول للافاده
تفسير بن كثير
يقول عزَّ وجلَّ مخاطباً للمشركين الذين افتروا على اللّه، وجعلوا معه آلهة أُخرى، وادعوا أن الملائكة بنات اللّه، وجعلوا للّه ولداً - تعالى اللّه عن قولهم علواً كبيراً - ومع هذا فقد كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل اللّه صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، ولهذا قال اللّه عزَّ وجلَّ: { فمن أظلم ممن كذب على اللّه وكذّب بالصدق إذ جاءه} أي لا أحد أظلم من هذا، لأنه جمع بين طرفي الباطل: كذب على اللّه، وكذّب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال الباطل، ورد الحق، ولهذا قال جلت عظمته متوعداً لهم: { أليس في جهنم مثوى للكافرين} وهم الجاحدون المكذبون، ثم قال جلَّ وعلا { والذي جاء بالصدق وصدّق به} ، قال مجاهد وقتادة: { الذي جاء بالصدق} هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وقال السدي: هو جبريل عليه السلام، { وصدّق به} يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم، وقال ابن عباس: من جاء بلا إله إلا اللّه { وصدّق به} يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقيل: أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون: هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا، وهذا القول (وهو رواية ليث عن مجاهد وهو اختيار ابن كثير) يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به، والرسول صلى اللّه عليه وسلم أول الناس بالدخول في هذه الآية، فإنه جاء بالصدق وصدّق المرسلين، وآمن بما أنزل إليه من ربه، وقال ابن زيد: { والذي جاء بالصدق} هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { وصدّق به} قال المسلمون { أولئك هم المتقون} قال ابن عباس: اتقوا الشرك { لهم ما يشاؤون عند ربهم} يعني في الجنة، مهما طلبوا وجدوا { ذلك جزاء المحسنين ليكفر اللّه عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} كما قال عزَّ وجلَّ في الآية الأخرى: { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} .
تفسير الجلالين
{ فمن } أي لا أحد { أظلم ممن كذب على الله } بنسبة الشريك والولد إليه { وكذَّب بالصدق } بالقرآن { إذ جاءه أليس في جهنم مثوىً } مأوى { للكافرين } بلى .
تفسير الطبري
وَقَوْله : { فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : فَمِمَّنْ خَلَقَ اللَّه أَعْظَم فِرْيَة مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه , فَادَّعَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَصَاحِبَة , أَوْ أَنَّهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمهُ مِنْ الْمَطَاعِم { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } يَقُول : وَكَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّه إِذْ أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّد , وَابْتَعَثَهُ اللَّه بِهِ رَسُولًا , وَأَنْكَرَ قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23212 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } : أَيْ بِالْقُرْآنِ وَقَوْله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } يَقُول تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَلَيْسَ فِي النَّار مَأْوًى وَمَسْكَن لِمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ , وَامْتَنَعَ مِنْ تَصْدِيق مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاتِّبَاعه عَلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَتَاهُ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه مِنْ التَّوْحِيد , وَحُكْم الْقُرْآن ؟ وَقَوْله : { فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : فَمِمَّنْ خَلَقَ اللَّه أَعْظَم فِرْيَة مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه , فَادَّعَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَصَاحِبَة , أَوْ أَنَّهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمهُ مِنْ الْمَطَاعِم { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } يَقُول : وَكَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّه إِذْ أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّد , وَابْتَعَثَهُ اللَّه بِهِ رَسُولًا , وَأَنْكَرَ قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23212 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } : أَيْ بِالْقُرْآنِ وَقَوْله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } يَقُول تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَلَيْسَ فِي النَّار مَأْوًى وَمَسْكَن لِمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ , وَامْتَنَعَ مِنْ تَصْدِيق مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاتِّبَاعه عَلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَتَاهُ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه مِنْ التَّوْحِيد , وَحُكْم الْقُرْآن ؟ '
تفسير القرطبي
قوله تعالى: { فمن أظلم} أي لا أحد أظلم { ممن كذب على الله} فزعم أن له ولدا وشريكا { وكذب بالصدق إذ جاءه} يعني القرآن { أليس في جهنم} استفهام تقرير { مثوى للكافرين} أي مقام للجاحدين، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواء وثويا مثل مضى مضاء ومضيا، ولو كان من أثوى لكان مثوى. وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصيحة. وحكى أبو عبيد أثوى، وأنشد قول الأعشى : أثوى وقصر ليلة ليزوَّدا ** ومضى وأخلف من قُتيْلة موعدا والأصمعي لا يعرف إلا ثوى، ويروى البيت أثوى على الاستفهام. وأثويت غيري يتعدى ولا يتعدى. قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق} في موضع رفع بالابتداء وخبره { أولئك هم المتقون} واختلف في الذي جاء بالصدق وصدق به؛ فقال علي رضي الله عنه: { الذي جاء بالصدق} النبي صلى الله عليه وسلم { وصدق به} أبو بكر رضي الله عنه. وقال مجاهد : النبي عليه السلام وعلي رضي الله عنه. السدي : الذي جاء بالصدق جبريل والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد ومقاتل وقتادة: { الذي جاء بالصدق} النبي صلى الله عليه وسلم: { وصدق به} المؤمنون. واستدلوا على ذلك بقوله: { أولئك هم المتقون} كما قال: { هدى للمتقين} [البقرة : 2]. وقال النخعي ومجاهد { الذي جاء بالصدق وصدق به} المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون : هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه؛ فيكون { الذي} على هذا بمعنى جمع كما تكون من بمعنى جمع. وقيل : بل حذفت منه النون لطول الاسم، وتأول الشعبي على أنه واحد. وقال: { الذي جاء بالصدق} محمد صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا خبره جماعة؛ كما يقال لمن يعظم هو فعلوا، وزيد فعلوا كذا وكذا. وقيل : إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله عز وجل؛ قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري. وفي قراءة ابن مسعود { والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به} وهي قراءة على التفسير. وفي قراءة أبي صالح الكوفي { والذي جاء بالصدق وصدق به} مخففا على معنى وصدق بمجيئه به، أي صدق في طاعة الله عز وجل، وقد مضى في { البقرة} الكلام في { الذي} وأنه يكون واحدا ويكون جمعا. { لهم ما يشاءون عند ربهم} أي من النعيم في الجنة، كما يقال : لك إكرام عندي؛ أي ينالك مني ذلك. { ذلك جزاء المحسنين} الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة. قوله تعالى: { ليكفر الله عنهم} أي صدّقوا { ليكفر الله عنهم} . { أسوأ الذي عملوا} أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام. { ويجزيهم أجرهم} أي يثيبهم على الطاعات في الدنيا { بأحسن الذي كانوا يعملون} وهي الجنة.
تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي
الاستفهام في { فَمَنْ أَظْلَمُ } [الزمر: 32] يحمل معنى التعجب والإنكار يعني: لا أحدَ أظلمُ من هذا الذي يكذب على الله، فلو كذب على غير الله لكان منكراً، فما بالك وقد كذب على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم حقائق الأشياء سِرَّها وعلانيتها.
إذن: فالكذب على الله خيبة، وإنْ كنت ولا بُدَّ ستكذب فاكذب على إنسان مثلك هو أيضاً عُرْضة لأن يكذب.
لذلك جاء لفظ { أَظْلَمُ } على وزن أفعل التي تدل على المبالغة، لأن أفظعَ الظلم وأعظمه أنْ تكذب على الله، لكن مَنْ ظلم؟ أظلم مَنْ يكذب عليه أم ظلم نفسه؟ بل ظلم نفسه.
ولم يقف الأمر عند هذا بل { وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } [الزمر: 32] لأن التكذيب بالصدق ينقل القضايا إلى نقيضها، والشيء الصدق هو الذي لا يُقال لقائله كذبت، لأنه إخبارٌ بأحداث يُصدِّقها الواقع وسبق أنْ قلنا: إن النسبة الكلامية إذا وافقتْ نسبة الواقع كان الكلام صادقاً، وإذا خالفت الواقع كان كاذباً.
ثم يستفهم الحق - سبحانه وتعالى - وهو أعلم: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [الزمر: 32] يعني: ما ظنّ هؤلاء الذي يكذبون على الله ويُكذبون بالصدق، ألم يعلموا هذه الحقيقة وهي أن جهنم مثوى للكافرين المكذِّبين، لو كانت هذه الحقيقة في بالهم ما اجترأوا على الله، إنما هم كاذبون يقولون غير الواقع ولا يؤمنون به.
وبعد ذلك ينتقل إلى خصوصية الصادق { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقّى عن ربه وبلّغ أمته، وقد أكد الله تعالى صِدْق رسوله في مواضع كثيرة، منها:
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }
[الحاقة: 44-47].
إذن: مسألة الكذب على الله مسألة لا يُحابى بها أحد حتى الرسل، لذلك جاء بلاغه صلى الله عليه وسلم عن ربه دقيقاً، فتراه لا يبلغ مضمون المقولات، إنما يبلغ المقولات ذاتها، واقرأ قوله تعالى:
{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }
[الإخلاص: 1] فكان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لقومه: الله أحد. وبذلك يكون قد بلَّغ المراد من الآية إنما قال كما جاءه من ربه
{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }
[الإخلاص: 1] فذكر المر بأنْ يقول (قل).
والعجيب أنْ يطلُعَ علينا مَنْ يقول بحذف مثل هذه الكلمة بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى، ونقول: هذا ليس كلامَ بشر، بل هو كلام الله وقرآنه، وقد حفظه الله بنفسه وبلّغه رسوله كما تلقّاه عن ربه.
أرأيتَ لو أرسلتَ ابنك عنك قضية مثلاً وقلتَ له: اذهب إلى فلان وقُلْ له كذا وكذا، وبإمكان الولد أنْ يبلغ مضمون القضية، لكنه حين يقول: أبي قال لي قُل لفلان كذا وكذا، فهذا يعني أنه يؤكد الكلام ويهتمّ بالرسالة كما تلقاها، إذن: لو حُذِفَتْ كلمة (قُلْ) فقد حُذِفَتْ كلمة من القرآن، لا كلمة زائدة عليه.وقوله: { وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] أي: صدَّق بالصدق الذي جاء به، صدَّق هو أولاً ولم ينتظر منا أنْ نُصدِّق نحن أو نشهد بذلك، لقد أخذ الرسول عن ربه أنه إله واحد لا شريكَ له فشهد بذلك أولاً وصدَّق، كذلك الحق سبحانه لم ينتظر شهادةَ العباد بوحدانيته إنما شهد بها لنفسه أولاً، فقال سبحانه:
{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ }
[آل عمران: 18] وبعد أنْ شهد اللهُ لنفسه بالوحدانية وجب على الرسول أيضاً أنْ يشهد بأن محمداً رسولُ الله، إذن: جاء بالصدق وصدَّق هو به وقال هو عن نفسه: أشهد أن محمداً رسول الله. كذلك شهد الملائكة بهذه الوحدانية، وشهد بها أولو العلم شهادةَ الحجة والدليل والبرهان.
وقالوا: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] هو رسول الله { وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] أي: الذين صدَّقوا رسول الله في أول بلاغ له عن ربه، سواء أكان أبا بكر رضي الله عنه أم السيدة خديجة رضي الله عنها، وقد اختلفوا في هذه المسألة: أهو أبو بكر أم خديجة؟ وليس في المسألة خلاف. فإذا قيل: أول مَنْ آمن من الرجال نقول أبو بكر. ومن النساء: خديجة.
والواقع أن السيدة خديجة آمنتْ برسول الله وصدَّقته في أول الأمر، وربما قبل أنْ يبلغ أبا بكر الخبر، وتعلمون موقفها من رسول الله حين جاءه الوحي، وأنها ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، فقال: إنه نبيُّ هذه الأمة، ولكي يؤكد لها هذه القضية قال: وإنْ يدركني يومك لأنصرنَّك نصراً مؤزّراً، ليتني أكون حيّاً يوم يُخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: ما جاء أحد بمثل ما جئتَ به إلا أُوذِي ولتُخرَجُنَّ.
أما الصِّديق أبو بكر فلما أخبروه أن صاحبك يزعم أنه رسول قال: إنْ كان قال فقد صدق، إذن: كيف صدَّق أبو بكر وهو لم يَرَ من رسول الله معجزةً تدل على رسالته؟
قالوا: ليست المعجزة (عياقة) لا يؤمن الناس إلا بها، إنما المعجزة جُعِلَتْ لمن يكابر في التصديق؛ لذلك جاءت معجزةُ القرآن تحدياً للكافرين والمعاندين المكذِّبين، أما مَنْ آمن برسول الله أولاً فلا يحتاج إلى معجزة، وأيُّ معجزة جعلتْ أبا بكر يؤمن ويُصدِّق برسول الله بهذه السرعة؟
قالوا: لأنه لم يُجرِّب على رسول الله كذباً أبداً قبل ذلك، فإذا كان صادقاً في أموره مع الناس أيكذب على الله؟ إذن: أخذ أبو بكر المعجزة من تاريخه مع رسول الله، وكذلك السيدة خديجة بدليل أنها هي التي شجَّعته وآزرته وقالت: " والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتَقْري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر " فمعجزة محمد لمَنْ آمن به أولاً تاريخه وسيرته بينهم.
وأنتم تعلمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزيمة الذي يقول فيه: " مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه " ونِصاب الشهادة معروف، فكيف جعل رسول الله خزيمة نِصاباً وحده في الشهادة؟ وبم استحق هذه المنزلة؟
قالوا: لأنه فاز بجدارة في قضية التصديق برسول الله " حينما اقترض رسول الله مبلغاً من المال من يهودي، ثم أدَّاه إليه في موعده، لكن جاء اليهودي يدَّعي أنه لم يأخذ دَيْنه من رسول الله، وذهب إلى رسول الله أمام الناس يقول: يا محمد أو يا أبا القاسم أعْطِني دَيْني، فقال رسول الله: لقد أعطيتُك، فقال: ومَنْ يشهد على ذلك؟ فقام خزيمة وقال: يا رسول الله أشهد أنك أعطيته دَيْنه.
ولأن اليهودي كان كاذباً في ادعائه صدَّق بشهادة خزيمة وقال في نفسه: لعله كان حاضراً ولم أَرَه، لأن اليهودي أخذ دَيْنه من رسول الله ولم يكُنْ أحدٌ موجوداً معهما، عندها خنس اليهودي وانصرف، فاستدعى رسول الله خزيمة، وقال له: يا خزيمة لم يكُنْ معي أحد حين أعطيتُه حقه، فكيف شهدتَ أنك رأيتني أعطيه؟
فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في عدة دراهم؟ فأعجب رسول الله باستنتاج خزيمة، ورآه اجتهاداً جميلاً، فقال فيه: " مَنْ شَهِدَ له خُزيمةُ فحسْبُه ".
والمسألة ليست على دراهم اليهودي، إنما لها واقعٌ آخر، حينما أرادوا أن يجمعوا القرآن تحرَّوْا فيه أقصى درجات الدقة، فكان الجامع لا يكتب كلمة واحدة في المصحف الجامع إلا إذا رآها مكتوبة، وشهد عليها شاهدان ليتأكد من صدقها في الصدور وفي السطور، حتى وقف أمام آية كُتِب وشهد عليها شاهد واحد فتوقف، فلما رأى أن هذا الشاهد هو خزيمة تذكَّر قول رسول الله فيه: " مَنْ شهِد له خزيمة فحَسْبه " فكتبها.
ومن مواقف التصديق ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج. وقالوا له: إن صاحبك يدَّعِي أنه أتى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء في ليلة واحدة، لم يبحث المسألة ولم يناقشها إنما صَدَّق بدايةً وقال: إنْ كان قد قال فقد صدق. فميزان الصدق عنده مجرد أنْ يقول رسول الله.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [الزمر: 33] أي: الذين أخذوها من قصيرها كما يقولون، وجعلوا بينهم وبين صفات الجلال من الله وقاية.
منقول للافاده