بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله خلق الخلائق واستثنى منهم الجن والإنس بالتكليف، وشرع الشرائع، مرسِلاً الرسل مبشرين ومنذرين، داعين في أقوامهم: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [المؤمنون: 32]، إلا أن أحكام الشرائع اختلفت من شريعة لأخرى؛ قال عز وجل: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]،وقال: ﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ﴾ [الحج: 67].
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة))، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الأنبياء إخوة من علاَّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي))[1]؛ أي: شرائعنا مختلفة وعقيدتنا واحدة.
لذلك يحتل النسخ مكانة هامة في تاريخ الشرائع لما كان يتحقق به من نقل جنس البشر إلى الدين الذي بعده، حتى جاءت شريعة الإسلام ناسخةً لما سبقها من الشرائع ومهيمنة عليها، واقتضت حكمة الله أن يشرع أحكامًا لحكمة يعلمها، ثم ينسخها لحكمة أيضًا تستدعي ذلك النسخ؛ لأن البشر يتقلَّبون كما يتقلب الطفل في أطوار ومراحل مختلفة، ولكل مرحلة من هذه المراحل حال تناسبه وحكم يطرد بتغير الأحوال والظروف.
أولاً: تعريف النسخ:
أ- النسخ لغة: الإزالة، ومنه تقول العرب: نسخت الشمس الظل؛ أي: أزالته، وكذلك هو الرفع، ومنه يقال: نُسِخ الكتاب؛ أي: رفع منه إلى غيره.
اصطلاحًا: رفع حكم شرعي[2] بدليل شرعي[3] متأخر عنه.
ب- معنى النسخ عند السلف[4]:
فالسلف رحمهم الله عبَّروا عن النسخ بوجهين.
الأول: النسخ الكلي، وهو رفع حكم شرعي بدليل متأخر عنه.
الثاني: النسخ الجزئي، وهذا على خمسة أنواع.
النوع الأول: تخصيص[5] العام[6]؛ أي: يأتي ما يدخل عموم الشيء ثم يأتي ما يخرج بعض ذلك الشيء.
مثاله: خبر ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾ [النور: 27]، ثم نسخ واستثني من ذلك: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ [النور: 29][7]، فالآية الأولى فيها نهي عن دخول جميع البيوت قبل الاستئذان، ثم خص من النهي ما كان منها غير مسكون، يدخله الإنسان لتحصيل حاجاته دون استئذان، فسمى ابن عباس رضي الله عنه التخصيص نسخًا مع استمرار العمل بالنص الثاني.
النوع الثاني: تقييد[8] المطلق[9]؛ أي: يأتي نص يأخذ شيئًا أو شخصًا غير محدد، ثم يأتي في موضع آخر ما يحدِّده.
مثاله: قول قتادة وغيره من السلف في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102]،قالوا: نسخت بقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، فالآية الأولى فيها أمر بالتقوى مطلقًا، ثم قيِّدت بالاستطاعة في الثانية، فسموا تقييد المطلق نسخًا، مع أن العمل بالآية الأولى محكم لم يترك، إنما بيّن وجهه بالآية الثانية.
النوع الثالث: تبيين[10] المجمل[11] وتفسيره.
مثاله: كما وقع عند قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 284]،فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لَمَّا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطِيق، الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أُنزِلت عليك هذه الآية ولا نُطِيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير))، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل:﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، قال: نعم[12].
فهذا الذي نزل من القرآن من بعد من وعد الله تعالى لعباده المؤمنين بالمغفرة غيرُ منافٍ للمحاسبة لهم عما أسرُّوا؛ لأن المحاسبة لا تعني العذاب، كما قال الله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 8، 9].
وأما إضمار الكفر والنفاق وبغض المؤمنين وموالاة الكافرين، فتلك من أعمال القلوب التي يحاسب عليها صاحبها ويؤاخذ عليها، فهنا جاءت الآية الأولى مجملة، لكنها متصلة بما فسّرها، فلا نسخ فيها، كما أن هذه الآية محكمة، وتحمل خبرًا عقديًّا، ومن المعلوم امتناع النسخ في الأخبار كما سيأتي معنا إن شاء الله في مبحث ضوابط النسخ.
النوع الرابع: ترك العمل بالنص مؤقتًا لتغير الظرف.
والمراد به الإزالة الوقتية؛ أي: ترك العمل بالنص الأول مؤقتًا، والعمل بالنص الثاني، لا نسخًا، ولكن مؤقتًا، فهذه الصورة ليست معارضة بين نصين نفى المتأخرُ منهما المتقدِّمَ.
مثاله: جميع الآيات الآمرة بالعفو أو الصفح أو الإعراض عن المشركين والكفار، مع الآيات الآمرة بقتالهم أو بأخذ الجزية منهم، فقد ذكر بعض السلف أن القتال أو أخذ الجزية قد نسخ الحكم الأول، وهذا عبّرت عنه طائفة بقولهم: منسوخ بآية السيف، ولكن بالنظر والتدقيق تجد أن جميع ذلك ليس من باب النسخ في شيء؛ إذ شروط النسخ منتفية فيه، والعمل بالنصين جميعًا حاصل[13]؛ لأن كل أمر ورد يجبُ امتثاله في وقتٍ ما؛ لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وهذا ليس بنسخ؛ لأن النسخ يقتضي الإزالة، والإزالة تقتضي عدم جواز امتثال النص الثاني أبدًا[14].
النوع الخامس: نقل حكم الإباحة الأصلية.
والمراد به عندهم أن الشيء تكون الإباحةُ أصليةً فيه، ثم يأتي نصٌّ يُغيِّر الحكم فيه؛ لأنهم يعتبرون سكوت الشارع أولاً في إباحته حكمًا مستفادًا من ذلك السكوت؛ لذلك من السلف من اعتبر تغيُّر تلك الإباحة إلى حكم جديد بنص إنما هو نسخ.
مثاله: آيات التضييق في الخمر حتى نزل التحريم، فمنهم مَن اعتبر ذلك التضييق نسخًا، وجعلوا أن الأصل في الخمر قبل نزول هذه الآيات هو الإباحة، فنزلت الآيات في سورة البقرة دلت الناس على الضرر، فأخرجتها من دائرة الإباحة المطلقة إلى إباحة مضيقة، فلما نزلت آية النساء زادت في التضييق ولم تحرم تحريمًا مطلقًا، فلما نزلت آية المائدة أتت على ما بقي من الإباحة التي لم تتناولها الآيتان السابقتان، فهي آيات مصدقة لبعضها وليس بينها ناسخ؛ إذ من شرط صحة النسخ - كما سيأتي - ثبوت التعارض بين الناسخ والمنسوخ، وهذا معدوم هنا فيما بين هذه الآيات، فالإباحة السابقة في الخمر مسكوت عنها أصلاً لا نصًّا، ولو صح إطلاق النسخ على نقل حكم الإباحة الأصلية إلى حكم آخر بدليل الشرع، لساغ أن تقول: كل آية تحريم هي ناسخة لما كان عليه الحال قبل نزولها، وهذا مخالف لما دل عليه القرآن من معنى النسخ.
فصل:
فهذه الأنواع الخمسة التي وقع إطلاق النسخ عليها من كلام السلف، ليست في التحقيق من باب النسخ الذي استقر معناه عند أهل العلم من بعد.
وحتى يكون طالب العلم متبصرًا بمقصودهم ولا يقع في محاكمة كلامِهم على اصطلاحٍ ظهر بعدهم، يجب أن نفهم مدى اعتبارهم لهذه الوجوه الخمسة نسخًا؛ وذلك لأنها تشترك في أن جزءًا من تلك النصوص لم يكن معمولاً به، فأشبهت النسخ من جهة كون الحكم فيه غير معمولٍ به، فمثلاً بحملِ المطلق على المقيد، فلا إعمال له على إطلاقه، بل المعمول به هو المقيد، فصار مثل المنسوخ، وكذلك في العام مع الخاص وباقي الوجوه.
يقول الشاطبي رحمه الله:
وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدِّمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام المتأخِّرين، فقد يُطلِقون تقييد المطلق نسخًا، وتخصيص العام بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا[15].
خلاصة:
فهذه مسألة اصطلاحية بين المتقدِّمين والمتأخِّرين لا غير، يجب التنبه لها؛ حتى لا يقع الخلط، ويترتب عليه تعطيل النصوص ممن لم ترسخ له قدم في العلم.
ثانيًا: ضوابط النسخ:
وضع العلماء بعض الضوابط والقواعد لمعرفة الناسخ والمنسوخ، يرجعون إليها لضبطهما، نذكر منها التالي:
1- أن يكون النسخ شرعيًّا لا عقليًّا؛ لأننا قلنا: "رفع حكم شرعي بدليل شرعي لا عقلي".
2- أن يكون الناسخ متأخِّرًا عن المنسوخ منفصلاً عنه، فإن كان متصلاً به كالصفة، أو الاستثناء، أو الشرط، فلا يعتبر نسخًا، بل تخصيصًا أو تقييدًا.
3- ورود تعارض فيما تعنيه نصوص الناسخ والمنسوخ.
4- تعذر الجمع بين معنيينِ وردا في الناسخ والمنسوخ.
5- أن يكون النسخ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبموتِه صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي.
6 - أن يكون النسخ مما يجوز نسخه؛ كجزئيات العبادات (في الأمر والنهي، ولو كانا بلفظ الخبر الذي على سبيل الطلب).
7- لا يجوز النسخ في التوحيد والعقائد، والكليات والمقاصد، وأصول العبادات والأخلاق العامة والأخبار.
ثالثًا: أنواع النسخ في القرآن:
والمراد أنواع النسخ من حيث الحكم، أو التلاوة، أو رفعهما معًا، وهم على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: نسخ الخط والحكم؛ أي: ما رفع حكمه ونظمه.
مثاله: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن"[16]، ومحل الشاهد أن عشر رضعات يحرمن، رُفِع خطُّها وحكمها من المصحف.
النوع الثاني: نسخ الخط دون الحكم؛ أي: ما رُفِع نظمه وبقي حكمه.
مثاله: ما رواه الشيخان وغيرهما عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن [الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم]، والمقصود بالشيخ والشيخة الثيِّب من الرجال والنساء، وهذا الحكم معمول به حكمًا، منسوخ خطًّا.
النوع الثالث: نسخ الحكم دون الخط؛ أي: يبطل العمل بالحكم وتصح العبادة بالتلاوة.
مثاله: نسخ العدة حولاً كاملاً بالعدة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ قال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [البقرة: 240]،ثم نسخ هذا الحكم إلى: قال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]،مع بقاء الرسم في المصحف.
رابعًا: فوائد معرفة النسخ في القرآن:
1- الاستعانة به في تفسير القرآن الكريم.
2- معرفة تاريخ التشريع، وتدرج الحكم.
3- إفادة الداعية في دعواه إلى الله، ومراعاة أحوال الناس؛ لأن النسخ راعى فيه الشارع مراحل الدعوة الإسلامية.
4- ضبط الفتوى؛عن ابن عباس أنه قال في قوله: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269]، قال: (ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخره، وحرامه وحلاله)[17].
5- بيان حكمة الشرع في مراعاة مصالح العباد.
6- في النسخ إظهار نعمة الله عز وجل برفعه تكليفًا أضيق إلى ما هو أخف، كنقل عدة المتوفَّى عنها زوجها من عام في أول الأمر إلى أربعة أشهر وعشر.
خامسًا: الآراء في النسخ:
الناس في موقفهم من النسخ يختلفون بين مقصّر ومقتصد وغالٍ، وهم في ذلك طوائف.
1- اليهود: فهم ينكرونه زعمًا منهم أنه بداء، وهو ظهور فائدة الحكم لله بعد خفائه، وقد أفسدوا حيث أرادوا الإصلاح جهلاً منهم بحقيقة النسخ والحكمة الإلهية المتعلقة به.
2- الروافض: وهؤلاء غالوا في إثباته، وأجازوا البداء على الله تعالى، مستدلين بأقوال باطلة، نُسِبت زورًا وبهتانًا لعلي رضي الله عنه.
3- أبو مسلم الأصفهاني[18]: وهو يجيز النسخ عقلاً لا شرعًا، ودليله على ذلك قوله تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وهو بذلك يحمل النسخ على التخصيص.
4- جمهور العلماء: وهم على جواز النسخ عقلاً وشرعًا، مستدلين على ذلك بنصوص من القرآن والسنة على وقوعه؛ نذكر منها:
قوله عز وجل: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: 106].
وقوله: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ [النحل: 101].
وقوله: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39].
سادسًا: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ:
انقسمت سور القرآن من حيث وجود الناسخ والمنسوخ إلى أربعة أقسام:
الأول: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ؛ وهو ثلاث وأربعون سورة: (الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعمَّ، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن، إلا التين والعصر والكافرون).
الثاني: قسم فيه الناسخ والمنسوخ،وهي خمس وعشرون: (البقرة، وثلاث بعدها، والحج، والنور وتالياها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدَّثر، وكُوِّرت، والعصر).
الثالث: قسم فيه الناسخ فقط، وهو ستٌّ: (الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى).
الرابع: قسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية[19].
الموضوع الأصلي : الميسر المفهوم في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن المصدر : شبكة دزاير سات الكاتب:Dzair-Sat
والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله خلق الخلائق واستثنى منهم الجن والإنس بالتكليف، وشرع الشرائع، مرسِلاً الرسل مبشرين ومنذرين، داعين في أقوامهم: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [المؤمنون: 32]، إلا أن أحكام الشرائع اختلفت من شريعة لأخرى؛ قال عز وجل: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]،وقال: ﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ﴾ [الحج: 67].
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة))، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الأنبياء إخوة من علاَّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي))[1]؛ أي: شرائعنا مختلفة وعقيدتنا واحدة.
لذلك يحتل النسخ مكانة هامة في تاريخ الشرائع لما كان يتحقق به من نقل جنس البشر إلى الدين الذي بعده، حتى جاءت شريعة الإسلام ناسخةً لما سبقها من الشرائع ومهيمنة عليها، واقتضت حكمة الله أن يشرع أحكامًا لحكمة يعلمها، ثم ينسخها لحكمة أيضًا تستدعي ذلك النسخ؛ لأن البشر يتقلَّبون كما يتقلب الطفل في أطوار ومراحل مختلفة، ولكل مرحلة من هذه المراحل حال تناسبه وحكم يطرد بتغير الأحوال والظروف.
أولاً: تعريف النسخ:
أ- النسخ لغة: الإزالة، ومنه تقول العرب: نسخت الشمس الظل؛ أي: أزالته، وكذلك هو الرفع، ومنه يقال: نُسِخ الكتاب؛ أي: رفع منه إلى غيره.
اصطلاحًا: رفع حكم شرعي[2] بدليل شرعي[3] متأخر عنه.
ب- معنى النسخ عند السلف[4]:
فالسلف رحمهم الله عبَّروا عن النسخ بوجهين.
الأول: النسخ الكلي، وهو رفع حكم شرعي بدليل متأخر عنه.
الثاني: النسخ الجزئي، وهذا على خمسة أنواع.
النوع الأول: تخصيص[5] العام[6]؛ أي: يأتي ما يدخل عموم الشيء ثم يأتي ما يخرج بعض ذلك الشيء.
مثاله: خبر ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾ [النور: 27]، ثم نسخ واستثني من ذلك: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ [النور: 29][7]، فالآية الأولى فيها نهي عن دخول جميع البيوت قبل الاستئذان، ثم خص من النهي ما كان منها غير مسكون، يدخله الإنسان لتحصيل حاجاته دون استئذان، فسمى ابن عباس رضي الله عنه التخصيص نسخًا مع استمرار العمل بالنص الثاني.
النوع الثاني: تقييد[8] المطلق[9]؛ أي: يأتي نص يأخذ شيئًا أو شخصًا غير محدد، ثم يأتي في موضع آخر ما يحدِّده.
مثاله: قول قتادة وغيره من السلف في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102]،قالوا: نسخت بقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، فالآية الأولى فيها أمر بالتقوى مطلقًا، ثم قيِّدت بالاستطاعة في الثانية، فسموا تقييد المطلق نسخًا، مع أن العمل بالآية الأولى محكم لم يترك، إنما بيّن وجهه بالآية الثانية.
النوع الثالث: تبيين[10] المجمل[11] وتفسيره.
مثاله: كما وقع عند قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 284]،فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لَمَّا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطِيق، الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أُنزِلت عليك هذه الآية ولا نُطِيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير))، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل:﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، قال: نعم[12].
فهذا الذي نزل من القرآن من بعد من وعد الله تعالى لعباده المؤمنين بالمغفرة غيرُ منافٍ للمحاسبة لهم عما أسرُّوا؛ لأن المحاسبة لا تعني العذاب، كما قال الله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 8، 9].
وأما إضمار الكفر والنفاق وبغض المؤمنين وموالاة الكافرين، فتلك من أعمال القلوب التي يحاسب عليها صاحبها ويؤاخذ عليها، فهنا جاءت الآية الأولى مجملة، لكنها متصلة بما فسّرها، فلا نسخ فيها، كما أن هذه الآية محكمة، وتحمل خبرًا عقديًّا، ومن المعلوم امتناع النسخ في الأخبار كما سيأتي معنا إن شاء الله في مبحث ضوابط النسخ.
النوع الرابع: ترك العمل بالنص مؤقتًا لتغير الظرف.
والمراد به الإزالة الوقتية؛ أي: ترك العمل بالنص الأول مؤقتًا، والعمل بالنص الثاني، لا نسخًا، ولكن مؤقتًا، فهذه الصورة ليست معارضة بين نصين نفى المتأخرُ منهما المتقدِّمَ.
مثاله: جميع الآيات الآمرة بالعفو أو الصفح أو الإعراض عن المشركين والكفار، مع الآيات الآمرة بقتالهم أو بأخذ الجزية منهم، فقد ذكر بعض السلف أن القتال أو أخذ الجزية قد نسخ الحكم الأول، وهذا عبّرت عنه طائفة بقولهم: منسوخ بآية السيف، ولكن بالنظر والتدقيق تجد أن جميع ذلك ليس من باب النسخ في شيء؛ إذ شروط النسخ منتفية فيه، والعمل بالنصين جميعًا حاصل[13]؛ لأن كل أمر ورد يجبُ امتثاله في وقتٍ ما؛ لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وهذا ليس بنسخ؛ لأن النسخ يقتضي الإزالة، والإزالة تقتضي عدم جواز امتثال النص الثاني أبدًا[14].
النوع الخامس: نقل حكم الإباحة الأصلية.
والمراد به عندهم أن الشيء تكون الإباحةُ أصليةً فيه، ثم يأتي نصٌّ يُغيِّر الحكم فيه؛ لأنهم يعتبرون سكوت الشارع أولاً في إباحته حكمًا مستفادًا من ذلك السكوت؛ لذلك من السلف من اعتبر تغيُّر تلك الإباحة إلى حكم جديد بنص إنما هو نسخ.
مثاله: آيات التضييق في الخمر حتى نزل التحريم، فمنهم مَن اعتبر ذلك التضييق نسخًا، وجعلوا أن الأصل في الخمر قبل نزول هذه الآيات هو الإباحة، فنزلت الآيات في سورة البقرة دلت الناس على الضرر، فأخرجتها من دائرة الإباحة المطلقة إلى إباحة مضيقة، فلما نزلت آية النساء زادت في التضييق ولم تحرم تحريمًا مطلقًا، فلما نزلت آية المائدة أتت على ما بقي من الإباحة التي لم تتناولها الآيتان السابقتان، فهي آيات مصدقة لبعضها وليس بينها ناسخ؛ إذ من شرط صحة النسخ - كما سيأتي - ثبوت التعارض بين الناسخ والمنسوخ، وهذا معدوم هنا فيما بين هذه الآيات، فالإباحة السابقة في الخمر مسكوت عنها أصلاً لا نصًّا، ولو صح إطلاق النسخ على نقل حكم الإباحة الأصلية إلى حكم آخر بدليل الشرع، لساغ أن تقول: كل آية تحريم هي ناسخة لما كان عليه الحال قبل نزولها، وهذا مخالف لما دل عليه القرآن من معنى النسخ.
فصل:
فهذه الأنواع الخمسة التي وقع إطلاق النسخ عليها من كلام السلف، ليست في التحقيق من باب النسخ الذي استقر معناه عند أهل العلم من بعد.
وحتى يكون طالب العلم متبصرًا بمقصودهم ولا يقع في محاكمة كلامِهم على اصطلاحٍ ظهر بعدهم، يجب أن نفهم مدى اعتبارهم لهذه الوجوه الخمسة نسخًا؛ وذلك لأنها تشترك في أن جزءًا من تلك النصوص لم يكن معمولاً به، فأشبهت النسخ من جهة كون الحكم فيه غير معمولٍ به، فمثلاً بحملِ المطلق على المقيد، فلا إعمال له على إطلاقه، بل المعمول به هو المقيد، فصار مثل المنسوخ، وكذلك في العام مع الخاص وباقي الوجوه.
يقول الشاطبي رحمه الله:
وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدِّمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام المتأخِّرين، فقد يُطلِقون تقييد المطلق نسخًا، وتخصيص العام بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا[15].
خلاصة:
فهذه مسألة اصطلاحية بين المتقدِّمين والمتأخِّرين لا غير، يجب التنبه لها؛ حتى لا يقع الخلط، ويترتب عليه تعطيل النصوص ممن لم ترسخ له قدم في العلم.
ثانيًا: ضوابط النسخ:
وضع العلماء بعض الضوابط والقواعد لمعرفة الناسخ والمنسوخ، يرجعون إليها لضبطهما، نذكر منها التالي:
1- أن يكون النسخ شرعيًّا لا عقليًّا؛ لأننا قلنا: "رفع حكم شرعي بدليل شرعي لا عقلي".
2- أن يكون الناسخ متأخِّرًا عن المنسوخ منفصلاً عنه، فإن كان متصلاً به كالصفة، أو الاستثناء، أو الشرط، فلا يعتبر نسخًا، بل تخصيصًا أو تقييدًا.
3- ورود تعارض فيما تعنيه نصوص الناسخ والمنسوخ.
4- تعذر الجمع بين معنيينِ وردا في الناسخ والمنسوخ.
5- أن يكون النسخ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبموتِه صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي.
6 - أن يكون النسخ مما يجوز نسخه؛ كجزئيات العبادات (في الأمر والنهي، ولو كانا بلفظ الخبر الذي على سبيل الطلب).
7- لا يجوز النسخ في التوحيد والعقائد، والكليات والمقاصد، وأصول العبادات والأخلاق العامة والأخبار.
ثالثًا: أنواع النسخ في القرآن:
والمراد أنواع النسخ من حيث الحكم، أو التلاوة، أو رفعهما معًا، وهم على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: نسخ الخط والحكم؛ أي: ما رفع حكمه ونظمه.
مثاله: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن"[16]، ومحل الشاهد أن عشر رضعات يحرمن، رُفِع خطُّها وحكمها من المصحف.
النوع الثاني: نسخ الخط دون الحكم؛ أي: ما رُفِع نظمه وبقي حكمه.
مثاله: ما رواه الشيخان وغيرهما عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن [الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم]، والمقصود بالشيخ والشيخة الثيِّب من الرجال والنساء، وهذا الحكم معمول به حكمًا، منسوخ خطًّا.
النوع الثالث: نسخ الحكم دون الخط؛ أي: يبطل العمل بالحكم وتصح العبادة بالتلاوة.
مثاله: نسخ العدة حولاً كاملاً بالعدة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ قال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [البقرة: 240]،ثم نسخ هذا الحكم إلى: قال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]،مع بقاء الرسم في المصحف.
رابعًا: فوائد معرفة النسخ في القرآن:
1- الاستعانة به في تفسير القرآن الكريم.
2- معرفة تاريخ التشريع، وتدرج الحكم.
3- إفادة الداعية في دعواه إلى الله، ومراعاة أحوال الناس؛ لأن النسخ راعى فيه الشارع مراحل الدعوة الإسلامية.
4- ضبط الفتوى؛عن ابن عباس أنه قال في قوله: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269]، قال: (ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخره، وحرامه وحلاله)[17].
5- بيان حكمة الشرع في مراعاة مصالح العباد.
6- في النسخ إظهار نعمة الله عز وجل برفعه تكليفًا أضيق إلى ما هو أخف، كنقل عدة المتوفَّى عنها زوجها من عام في أول الأمر إلى أربعة أشهر وعشر.
خامسًا: الآراء في النسخ:
الناس في موقفهم من النسخ يختلفون بين مقصّر ومقتصد وغالٍ، وهم في ذلك طوائف.
1- اليهود: فهم ينكرونه زعمًا منهم أنه بداء، وهو ظهور فائدة الحكم لله بعد خفائه، وقد أفسدوا حيث أرادوا الإصلاح جهلاً منهم بحقيقة النسخ والحكمة الإلهية المتعلقة به.
2- الروافض: وهؤلاء غالوا في إثباته، وأجازوا البداء على الله تعالى، مستدلين بأقوال باطلة، نُسِبت زورًا وبهتانًا لعلي رضي الله عنه.
3- أبو مسلم الأصفهاني[18]: وهو يجيز النسخ عقلاً لا شرعًا، ودليله على ذلك قوله تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وهو بذلك يحمل النسخ على التخصيص.
4- جمهور العلماء: وهم على جواز النسخ عقلاً وشرعًا، مستدلين على ذلك بنصوص من القرآن والسنة على وقوعه؛ نذكر منها:
قوله عز وجل: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: 106].
وقوله: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ [النحل: 101].
وقوله: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39].
سادسًا: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ:
انقسمت سور القرآن من حيث وجود الناسخ والمنسوخ إلى أربعة أقسام:
الأول: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ؛ وهو ثلاث وأربعون سورة: (الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعمَّ، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن، إلا التين والعصر والكافرون).
الثاني: قسم فيه الناسخ والمنسوخ،وهي خمس وعشرون: (البقرة، وثلاث بعدها، والحج، والنور وتالياها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدَّثر، وكُوِّرت، والعصر).
الثالث: قسم فيه الناسخ فقط، وهو ستٌّ: (الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى).
الرابع: قسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية[19].
الموضوع الأصلي : الميسر المفهوم في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن المصدر : شبكة دزاير سات الكاتب:Dzair-Sat