في مثل هذا اليوم من شهر رمضان المبارك غادر الجيش الإسلامي المدينة إلى مكة ، في عشرة آلاف من الصحابة بقيادة رسول الله ، بعد أن استخلف على المدينة أبا ذر الغفاري ، ولما كان بالجحفة لقيه عمُّه العباس بن عبد المطلب ، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً .

وركب العباس بغلة رسول الله البيضاء ، يبحث عن أحدٍ يبلِّغ قريشاً لكي تطلب الأمان من رسول الله قبل أن يدخل مكة ، وكان أبو سفيان ممن يخرج يتجسّس الأخبار ، فوجده العباس ، فنصحه بأن يأتي معه ليطلب له الأمان من رسول الله ، فجاء به راكباً معه ، حتى أدخله على رسول الله ، فقال له الرسول : " ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ ، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ " ، فقال العباس : ويحك أسلم ! فأسلم وشهد شهادة الحق ، ثم أكرمه الرسول فقال : " مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن " .

ولما تحرك الجيش لدخول مكة أمر رسول الله العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي ؛ حتى تمر به جنود الله فيراها ، فمرّت القبائل على أبي سفيان ، والعباس يخبره بها ، حتى مر رسول الله في كتيبته الخضراء ، فيها المهاجرون والأنصار ، فقال أبو سفيان : سبحان الله ! ما لأحدٍ بهؤلاء قِبل ولا طاقة .



ثم أسرع إلى قومه ، وصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمد ، قد جاءكم فيما لا قِبل لكم به . فتفرق الناس إلى دورهم ، وإلى المسجد ، ودخل رسول الله مكة متواضعاً لله الذي أكرمه بالفتح ، وكان قد وزَّع جيشه إلى مجموعات أو كتائب ؛ احتياطاً لأي مواجهة .

ودخل الجيش الإسلامي كلٌّ حسب موضعه ومهامه ، وانهزم مَن أراد المقاومة من قريش ، ولم يستطع الصمود أمام القوى المؤمنة ، ثم دخل رسول الله المسجد الحرام والصحابة معه ، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بقوس في يده ويكسرها ، ويقول : " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " ، " قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ " ، والأصنام تتساقط على وجوهها ، ثم طاف بالبيت .

ثم دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، فأمر بها ففُتحت ، فدخلها فرأى فيها الصور فمحاها ، وصلى بها ، ثم خرج وقريش صفوفاً ينتظرون ما يصنع ، فقال : " يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم ؟ " قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم . قال : " فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه : " لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ " ، اذهبوا فأنتم الطلقاء " .

وفي اليوم الثاني قام رسول الله وألقى خطبته المشهورة ، وفيها : " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَهْيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي ، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ ، لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلاَ يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا ، وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ " .