من مذكرات صائم
صمت أول مرة في حياتي عندما كنت طفلاً في الثامنة، وكان الجو صائفاً، وحاراً بدرجة لا يطيقها المفطر الريان، وقد رأيت شباب قريتنا الأثرياء يبللون الثياب، وملاءات الفراش، ويغطون بها أجسادهم، وهم رقود تحت المراوح، فمروحة السقف كانت آنذاك ترفاً لا يستطيعه إلا المغتربون، أما الفقراء فقد كانوا يلجئون لبيوت أصحاب المراوح، أو النهر؛ ليقضوا سحابة نهارهم، وكانت الرحمة بين الناس، وكانت قلوب الناس مشرعة، والإحساس بالأخوة الإنسانية والإيمانية وافرة، ولذا كانت دواوين المنازل تتسع للصائمين ومراوحهم تظلهم بهوائها.
بعد عناء شديد أكملت يومي الأول وسط فرح والدي، وقد وجدت في يومي ذاك اهتماما فوق المعتاد عند إفطاري وكأنني عروس، مما حفزني على صوم يومين آخرين، في اليوم الثالث بدأت أصاب بالدوار عند القيام للصلاة، وشعرت أنني نقصت بضعة كيلو غرامات من عظمي، فقد كنت طفلاً نحيفاً لا يثبت لي بنطال على ظهر، ورغم الشدة والعناء، قررت صوم يوما رابعاً في مسيرة التبتل المباركة، فقد اكتشفت في الصوم ذاتي، اكتشفت تميزي عن أقراني الأطفال وقدرة تحملي العالية مقارنة بهم وتهالكهم على الطعام والشراب والحلوى، كما أننا أجد تحفيزا من والداي وجدتي، وما زلت بعد تلك السنوات البعيدة أتساءل هل تنمية هذه المشاعر مسألة جيدة ومطلوبة في الطفل؛ لينشأ طفلاً قائداً مترفعا عن الصغائر، أم ضبطها، أو قل وأدها فيه لخيره ومصلحته حتى لا يشب وهو يتخذ الدين مطية للدنيا؟ رغم أنني تركت شاي اللبن الذي أعدته ابنة عمي لي لكن والدي أصرَّ علىَّ أن أفطر هذا اليوم وأن اكتفي بما صمت، وحزنت حزنا جماً، وكعادة الأطفال شكوت والدي لجدتي، في المساء سمعت والدي يقول لأمي " أنا خائف أن يفطر وليد سراً ويتعود على ذلك"، فدهش الطفل الصائم فيَّ دهشة الطفل القرير، وتساءلت نفس الطفل" وهل يفعل الناس ذلك؟ ولماذا؟ فقد تعود هو أن يفعل كل شيء أمام الناس، حتى عندما يود الذهاب إلى الخلاء فهو يخبر أمه.. وظل ما سمعه الطفل حبيس نفسه، ولكنه على رغم الجرح فقد عرف السبب الذي جعل أباه يمنعه الصوم، ولكن تلك الكلمة علمته أن الناس يكذبون ويتظاهرون بغير حقيقتهم وكانت تلك لكمة معنوية هائلة، ولكنني اكتشفت بعد سنوات، بعد الاطلاع على بعض الأحاديث النبوية، أن الإسلام كان يراهن في تدريب الصبيان على الصيام على الفطرة في نفس الطفل وسلامتها والأخلاق وأصالتها في النفس الإنسانية، فقد كان الصحابة يدربون أطفالهم على الصيام، ويشغلونهم عن الجوع ببعض الحيل اللطيفة؛ لأنهم يثقون في فطرة الطفل، وأنها لا يعرف الكذب الغليظ والنفاق القبيح.
وفي كتاب السنة للراجحي (( حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ)).
وأعادني عُرف قريتنا إلى صف الأطفال ساعة الإفطار بعد أن كنت اجلس بمحازاة الرجال الكبار وأتناول الإفطار معهم لحظة الآذان، ويداً بيد.
عدت بعد أن اكتشفت أن الكبار يكذبون، ويتظاهرون بغير ما هم عليه، وفي صفي الخلفي علمت أيضاً أنني أفضل من أقراني وأفضل من بعض الرجال الذين يفطرون في نهار رمضان.
صمت أول مرة في حياتي عندما كنت طفلاً في الثامنة، وكان الجو صائفاً، وحاراً بدرجة لا يطيقها المفطر الريان، وقد رأيت شباب قريتنا الأثرياء يبللون الثياب، وملاءات الفراش، ويغطون بها أجسادهم، وهم رقود تحت المراوح، فمروحة السقف كانت آنذاك ترفاً لا يستطيعه إلا المغتربون، أما الفقراء فقد كانوا يلجئون لبيوت أصحاب المراوح، أو النهر؛ ليقضوا سحابة نهارهم، وكانت الرحمة بين الناس، وكانت قلوب الناس مشرعة، والإحساس بالأخوة الإنسانية والإيمانية وافرة، ولذا كانت دواوين المنازل تتسع للصائمين ومراوحهم تظلهم بهوائها.
بعد عناء شديد أكملت يومي الأول وسط فرح والدي، وقد وجدت في يومي ذاك اهتماما فوق المعتاد عند إفطاري وكأنني عروس، مما حفزني على صوم يومين آخرين، في اليوم الثالث بدأت أصاب بالدوار عند القيام للصلاة، وشعرت أنني نقصت بضعة كيلو غرامات من عظمي، فقد كنت طفلاً نحيفاً لا يثبت لي بنطال على ظهر، ورغم الشدة والعناء، قررت صوم يوما رابعاً في مسيرة التبتل المباركة، فقد اكتشفت في الصوم ذاتي، اكتشفت تميزي عن أقراني الأطفال وقدرة تحملي العالية مقارنة بهم وتهالكهم على الطعام والشراب والحلوى، كما أننا أجد تحفيزا من والداي وجدتي، وما زلت بعد تلك السنوات البعيدة أتساءل هل تنمية هذه المشاعر مسألة جيدة ومطلوبة في الطفل؛ لينشأ طفلاً قائداً مترفعا عن الصغائر، أم ضبطها، أو قل وأدها فيه لخيره ومصلحته حتى لا يشب وهو يتخذ الدين مطية للدنيا؟ رغم أنني تركت شاي اللبن الذي أعدته ابنة عمي لي لكن والدي أصرَّ علىَّ أن أفطر هذا اليوم وأن اكتفي بما صمت، وحزنت حزنا جماً، وكعادة الأطفال شكوت والدي لجدتي، في المساء سمعت والدي يقول لأمي " أنا خائف أن يفطر وليد سراً ويتعود على ذلك"، فدهش الطفل الصائم فيَّ دهشة الطفل القرير، وتساءلت نفس الطفل" وهل يفعل الناس ذلك؟ ولماذا؟ فقد تعود هو أن يفعل كل شيء أمام الناس، حتى عندما يود الذهاب إلى الخلاء فهو يخبر أمه.. وظل ما سمعه الطفل حبيس نفسه، ولكنه على رغم الجرح فقد عرف السبب الذي جعل أباه يمنعه الصوم، ولكن تلك الكلمة علمته أن الناس يكذبون ويتظاهرون بغير حقيقتهم وكانت تلك لكمة معنوية هائلة، ولكنني اكتشفت بعد سنوات، بعد الاطلاع على بعض الأحاديث النبوية، أن الإسلام كان يراهن في تدريب الصبيان على الصيام على الفطرة في نفس الطفل وسلامتها والأخلاق وأصالتها في النفس الإنسانية، فقد كان الصحابة يدربون أطفالهم على الصيام، ويشغلونهم عن الجوع ببعض الحيل اللطيفة؛ لأنهم يثقون في فطرة الطفل، وأنها لا يعرف الكذب الغليظ والنفاق القبيح.
وفي كتاب السنة للراجحي (( حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ)).
وأعادني عُرف قريتنا إلى صف الأطفال ساعة الإفطار بعد أن كنت اجلس بمحازاة الرجال الكبار وأتناول الإفطار معهم لحظة الآذان، ويداً بيد.
عدت بعد أن اكتشفت أن الكبار يكذبون، ويتظاهرون بغير ما هم عليه، وفي صفي الخلفي علمت أيضاً أنني أفضل من أقراني وأفضل من بعض الرجال الذين يفطرون في نهار رمضان.