جدلية العلاقة بين مفهوم الأدب ونظرية المعرفة عند الانصاري .الأدب العربي.المكتبة الأدبية العالمية
تعرض هذه الدراسة مفهوم الإنسان عند الأنصاري، وهو مفهوم يرتكز على المعرفة، فالإنسان إنسان بالقوة ما لم يتعلم ولا يجهل، فإذا تعلم صار إنساناً بالفعل، وإذا جهل كان الحيوان أفضل منه. والأدب أكمل الوسائل التي تمكن الإنسان من اكتساب المعارف، ليصير بفضلها إنساناً بالفعل.
جدلية العلاقة بين مفهوم الأدب ونظرية المعرفة عند محمد بن إبراهيم الأنصاري
الدكتور حسين الصديق
مدرس في قسم اللغة العربية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة حلب
الملخّص
إن العلاقة بين النتاج الأدبي ونظرية المعرفة في الحضارة العربية الإسلامية علاقة وثيقة تقوم على الجدليّة. فالنظرية توجّه النتاج الأدبي، الذي يقوم في الوقت نفسه بتطوير مفهوم النظرية.
ويمكن رصد تلك العلاقة في كل مراحل تطور الحضارة العربية_ الإسلامية، وهي علاقة تتأسّس على العقيدة الإسلامية بمصدريها الأساسيّين: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وعلى مجموع الفكر العربي_ الإسلامي الذي تشكّل عبر العصور نتيجة العلاقة الجدلية بين تلك العقيدة وبين مجموع الديانات والثقافات والعادات والتقاليد الاجتماعية والنظم السياسية والاقتصادية التي كانت موجودة لدى أبناء البلاد التي فتها العرب_ المسلمون.
وتبدو هذه العلاقة بوضوح في كتاب الأنصاري موضوع الدرس، فالأدب ليس إبداعاً فنياً يرتبط بالذات المبدعة، ويدور حول علاقاتها مع الواقع، وإنما هو مؤسسة معرفية تسعى إلى تقديم أفضل المعارف والخبرات اللغوية والثقافية والاجتماعية والعلمية إلى المتلقّي لتساعده على تحقيق إنسانيّته.
ويرتكز مفهوم الإنسانية عند الأنصاري على المعرفة. فالإنسان إنسان بالقوة ما لم يتعلّم، ولا يجهل، فإذا تعلّم صار إنساناً بالفعل، وإذا جهل، صار الحيوان أفضل منه. والأدب أكمل الوسائل التي تمكن الإنسان من اكتساب المعارف ليصير بفضلها إنساناً بالفعل.
مقدّمة
ينضوي هذا البحث في إطار اهتمامنا بنظرية المعرفة وعلاقتها بمفهوم الأدب عند العرب المسلمين. فنحن نسعى إلى صياغة هذه النظرية من خلال مجموعة من الدراسات التي تستنبط مفاهيم ممثّلي الحضارة العربية_ الإسلامية عن المعرفة والأدب.
إن البحث في نظرية المعرفة وعلاقة مفهوم الأدب بها عند العرب_ المسلمين من الأبحاث الجديدة التي ما يزال اهتمام العرب المعاصرين بها ضئيلاً، على الرغم من أهميتها. فالبحث في هذا المجال ليس هدفاً في ذاته، وإنما هو وسيلة إلى غيره. فالنتائج التي يتوصل إليها البحث مفيدة في فهم معمّق وموضوعي للتراث الحضاري من جهة، وضرورية في وعي الحاضر في كل أبعاده الاجتماعية_ الثقافية. فالحاضر إنما هو امتداد للماضي، وإذا أردنا فهم هذا الحاضر، وحسن تخطيط المستقبل، لا بد لنا من فهم الماضي.
إن دراستنا لمفهومي المعرفة والأدب عند الأنصاري ( -749هـ) تكتسب أهميتها من كونها تشكّل لبنة أساسيّة في تكوين نظرية المعرفة والأدب عند العرب المسلمين، فقد كان الأنصاريّ موسوعيّ المعرفة، يجمع معارف عصره، إضافة إلى تخصّصه في الطّب، يدلّنا على هذا كتابه موضوع بحثنا، فهو كتاب يجمع بين دفّتيه تعريفات بكل العلوم التي عرفتها الحضارة العربية _ الإسلامية إلى عصر المؤلّف، ويبلغ عدد هذه العلوم ستين علماً رئيسيّاً وفرعيّاً، كما يعدد الكتاب ما يقرب من أربعمائة كتاب هي الأشهر في تلك العلوم موزّعة على ثلاثة مستويات: مبسوطة، ومتوسّطة، ومختصرة.
ويبدأ الأنصاريّ كتابه بمقدّمة يعرض فيها العلوم الرئيسية، ويعدّد تفريعاتها، ويتحدّث عن فضل العلم والتعليم، وسبل اكتشاف المعارف، ووظيفة المعرفة وأهدافها، ويقدّم منهجاً محدداً في طريقة التأليف، قلما نجد شبيهاً له في كتب التراث.
إن ما يعرضه الأنصاري في هذه المقدمة يدخل في إطار نظرية المعرفة، ويُقصد بنظرية المعرفة مجموعة الدراسات التي تبحث، في تراث حضارة من الحضارات أو مجتمع من المجتمعات، عن أجوبة على أسئلة تطرح في مجال المعرفة: ما طبيعة المعرفة؟ وما مصادرها وسبل امتلاكها؟ وما أهدافها ووظائفها؟ كما تحاول نظرية المعرفة تعريف العلم والنظر فيما يمكن العلم به من الأشياء وما لا يمكن، كما تناقش الشروط التي ينبغي توافرها لكي يتم هذا العلم، وتبحث نظرية المعرفة أيضاً في طبيعة المعلومات: ذاتية أو موضوعية، وتسعى إلى تحديد العلاقة بين موضوع العلم والذات العالمة.
1/ أصول النظرية المعرفية عند العرب _ المسلمين
قبل أن نعرض مفهوم المعرفة عند الأنصاري، لا بد لنا من أن نلخّص أهم النتائج التي توصلنا إليها في دراستنا السابقة في إطار النظرية المعرفية عند العرب _ المسلمين، وذلك لكي نتمكن من فهم ما سنجده عند الأنصاري من جهة، ولوضع مفهوم المعرفة عند الأنصاري في إطار المعرفة الإسلامية من جهة أخرى.
المعرفة مادةً ومنهجاً فعلٌ إنسانيٌّ بحت، لا يمكن تحقّقه من غير الإنسان، فالمعرفة مرتبطة بالوجود الإنساني ارتباطاً جدلياً، إذ إن الإنسان يصنع المعرفة بوسائل وأدوات يصنعها هو، وامتلاكه المعرفة يساعده على تطوير تلك الوسائل والأدوات، مما يعني تطوير نوعية المعرفة وسبلها. وهدف المعرفة هو الإنسان، فهي منه وله، يرتبط معها بعلاقة جدليّة.
إن هذه القاعدة تعني أن البحث في تحديد النظرية المعرفية في حضارة ما يجب أن ينطلق أولاً من تحديد موقف تلك الحضارة من صانع المعرفة وهدفها: الإنسان.
إن مفهوم الإنسان في الحضارة العربية _ الإسلامية يرتكز على موقف هذه الحضارة من المفاهيم الثلاثة: الله والإنسان والكون، وهو موقف لا بد من أخذه بعين الاعتبار في كل محاولة لفهم تراث تلك الحضارة. فالحضارة العربية _ الإسلامية تغلّب مفهوم (الله) على المفهومين الآخرين، وتفهمهما من خلاله، ولذلك فإن مفهوم الإنسان في تلك الحضارة يجب أن يفهم من خلال الوجود الإلهي الأزلي. وقد عرفت المصادرُ الأساسيّةُ للعقيدة الإسلامية: القرآنُ الكريم والسنةُ النبوية الشريفة هذه المفاهيمَ جميعاً، وقامت مصادر الفكر العربي _ الإسلامي بتفسير هذه المفاهيم ومنحها أبعادها الاجتماعية _ الثقافية.
الإنسان خليفة الله في الأرض، خلقه الله ليعبده، وهي عبادة ليست لذاتها، وإنما لغيرها، فالإنسان، من خلال العبادة، يسمو ليكتشف إنسانيته، فقد خلق الله الإنسان بشراً من طين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه: ” وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين” (ص/71). فالتكوين البشري سابق على التكوين الإنساني الذي لم يتحقق إلا بعد النفخة، فهو سجود ليس للبشرية، وإنما للإنسانية التي تحقّق وجودها بالقوة في البشرية بعد النفخة الإلهية.
البشرية سابقة في الوجود المادي الترابي، أما الإنسانية فسابقة في الوجود الكوني النوراني، لأنها من الذات الإلهية، فهي خارجة عن أمر (كن)، وتخضع لقانون الأزل. والإنسانية موجودة في البشر بالقوة، فلا يصبح البشر إنساناً إلا بعد أن يتمكن من تحقيق جوهره الإنساني الكائن فيه بالقوة، وهو تحقيق ممكن بالفعل لوجوده بالقوة في البشر، إلا أن تحقيقه يحتاج إلى أداة وضعها الله في البشر بالقوة أيضاً، تولد معه، ولا تصبح موجودة بالفعل إلا عن طريق اكتساب المعارف من طرق مختلفة: مباشرة وغير مباشرة، يأتي الوحي في قمتها من حيث الأهمية.
ذلك هو موقف المفكرين المسلمين من المعرفة وعلاقتها بالإنسان، وقد رأينا هذا الموقف بشيء من التفاوت عند ممثّلي الفكر العربي _ الإسلامي، وهو تفاوت نشأ عن اختلاف المنهج العلمي الذي كان سائداً عند كل فئة من هؤلاء. (انظر كتاب غلاب، محمد، 1966 _ المعرفة عند مفكري المسلمين _ القاهرة. وكذلك انظر النشار، علي سامي، 1978 _ مناهج البحث عند مفكّري الإسلام _ دار المعارف _ القاهرة).
2/ مفهوم المعرفة عند الأنصاري
يكتب الأنصاري في مطلع كتابه عبارة تلخّص مفهومه حول المعرفة، وكل ما نجده في الكتاب يفسّرها، ويدلّل عليها، فهي عبارة جامعة مانعة تفسر هذا المفهوم، وتصل بينه وبين النظرية المعرفية عند العرب _ المسلمين. يقول الأنصاري: “وكان الإنسان إنساناً بالقوة، ما لم يعلم ويجهل جهلاً مركّباً، فإذا علم، صار إنساناً بالفعل، عارفاً بربه مستحقاً لجواره وقربه، وإذا جهل جهلاً مركّباً صار حيواناً ما، بل الحيوان خير منه”. (الأنصاري/2)
الإنسان يتكون من مجموع البشرية( الجسد/العرض) والإنسانية( النفخة الإلهية/ الجوهر) إلا أن البشرية توجد أولاً، والإنسانية كامنة في الإنسان بالقوة، لا تظهر إلى الوجود بالفعل بسبب من كون الإنسان في حالة وسطى بين الجهل والعلم، فلا هو بجاهل ولا بعالم، ولا يوجد إنسان بالفعل إلا بفضل العلم، فإذا تعلم العلم صار إنساناً، وإذا لم يتعلّم ظلّ بشراً هو أقرب إلى الحيوان، بل الحيوان خير منه، لأنه محكوم بغرائز تضبط سلوكه، على حين أن وقوف الإنسان بين البشرية والإنسانية أضعف فيه الغرائز الحيوانية لصالح العقل الذي ماز به الله الإنسان من الحيوان. والإنسانية شرط أساسي لا بد منه للبشر ليعرف ربه، فمعرفة الله تأتي بفضل العلم، فهي كامنة بالقوة في الإنسانية، كما أن الإنسان كائن بالقوة في البشرية.
العلم سبيل وجود الإنسانية في البشرية، فهو شرط تحقيق معنى جوهر الوجود البشري، وإذا كان العلم سبيل وجود الإنسانية في البشرية، فإن هذا الهدف ليس لذاته، وإنما لغيره، فالعلم إنما هو” سبب إلى الحياة الأبدية والنجاة السرمدية والفوز بالسعادة الأخروية”. (الأنصاري/1)
إن انتقال الإنسانية من وجودها في الإنسان بالقوة إلى الوجود بالفعل ليس هدفاً بذاته في هذه الحياة، وإنما هو وسيلة إلى تحقيق عبودية الإنسان التي رسمتها الآية “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (الواقعة/56)، فالعبادة تعني العمل، وخير العباد العلماء، فإنما “يخشى الله من عباده العلماء” (فاطر/28) . فالتكليف لم يقع على البشرية، ولا يصبح وجوداً إنسانياً إلا بالعلم، فهو مطالب به ليحقق وجوده الإنساني الذي هو شرط للفوز بالسعادة الأبدية، فلو ظل الإنسان بشراً، ولم يسع إلى تحقيق إنسانيته بالعلم، وهو مكلفٌ به، فإنه سيكون في الدارين من الخاسرين.
3/ ترتيب العلوم عند الأنصاري
يعدد الأنصاري في كتابه ثلاثة عشر علماً يسميها بالعلوم الأصلية، وما عداها فهي فرعية، فهل تستوي هذه العلوم بالنسبة إلى المؤلف؟
كل علم في نظر المؤلف له قيمة في ذاته، “فلا واحد من العلوم من حيث هو علم بضار، بل نافع، ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع بل ضار” (الأنصاري/4).
ومع ذلك فهو يقدّم علماً على آخر، فلكل علم ” من العلوم حال في نفسه ومرتبته بالنسبة إلى غيره من العلوم” (الأنصاري/4)، وبعض العلوم أفضل وأشرف من بعضها الآخر، فهي ” مع اشتراكها في الشرف، متفاوتة فيه” (الأنصاري/ 4).
إن غاية العلوم وهدفها عند الأنصاري هما اللذان يفسّران موقفه من نسبة العلوم بعضها إلى بعض، فالعلوم تنقسم بحسب منافعها على قسمين: واحد مفيد في أمور الحياة الدنيا، وآخر نافع في أمور المعاد والكمال الإنساني. وعلى هذا فيمكن اعتبار بعض العلوم خدماً لبعضها الآخر، فعلوم اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والقراءات وأسباب الناسخ والمنسوخ هي خدم لعلم التفسير (الأنصاري/35). كما يستعان في هذا العلم بأصول الفقه وعلم الجدل.
هذا التقسيم للعلوم بحسب منافعها يوحي بترتيب هرمي للعلوم عند الأنصاري، يحتلّ قمة هذا الهرم العلم الإلهي بلا منازع، إذ كان هذا العلم “المقصود بالذات للإنسان في كمال ذاته وسعادته في دار البقاء، وكل علم سواه إن تعلقت منفعته بأمر المعاد فهو وسيلة إليه، وإن تعلقت بأمر المعاش، فهو خدم لما يعد له، ومن وُفّق للوقوف على حقائقه فقد فاز فوزاً عظيماً” (الأنصاري/20).
إن ترتيب العلوم هذا، ومكانة العلم الإلهي فيه، إنما هو مستمدّ من طبيعة العلم ووظيفته عند الأنصاري، فهدف المعرفة على العموم_ كما رأينا_ إنما هو معرفة النفس الإنسانية الضرورية لبلوغ الإنسان الكمال في نفسه، وهو كمال لا بد منه لمعرفة الله غايةِ الإنسان النهائية التي تحقق له السعادة في الدارين. وخير ما يحقق غاية المعرفة هذه هو العلم الإلهي، ولذلك فإنه العلم المقصود بالذات من حيث فائدته للإنسان في كماله وتحقيق سعادته، على حين أن باقي العلوم مقصودة لغيرها، فهي خدم لهذا العلم، تمهّد النفس العارفة لتلقّيه، وتساعدها على الوصول إليه.
ويقودنا هذا الترتيب الهرمي إلى استنباط علاقة أخرى بين العلوم تقوم على الجدليّة النفعيّة، فالعلوم لا تُتعلّم لذاتها وإنما لغيرها، وليس الغرض منها الاكتساب، بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب النفس (الأنصاري/5)، لذلك فهي مرتبة بحسب وظيفتها في إطار تلك الجدلية.
ويرتبط تصنيف العلوم بتصنيف آخر للمتعلمين، فمن هؤلاء من يقصد العلم لغير غايته على الحقيقة، فيتعلّم علماً للمال أو الجاه، فمن قصد هذا فإنه لن يكون عالماً، وإنما سيصير شبيهاً بالعلماء، وسيؤدي هذا إلى ابتذال العلم وامتهانه إذا ما وصل إلى غير أهله. وقد تنبه القدماء على هذه المسألة فقالوا: “لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم” (الأنصاري/6)، ولذلك فإن سنة العلماء ” لم تزل جارية في تعليم العلوم مشافهة دون كتابة، فلا يصل علم إلى غير مستحقّه” (الأنصاري/6). ولذلك فإنهم عندما رأوا اتساع فئة المتعلمين ووصول العلم إلى غير مستحقيه، لجؤوا إلى الرمز في تدوين بعض العلوم في الكتب خوفاً من أن تقع عند غير أهلها، فلا يصل إلى أغراضهم إلا من عرف مقاصدهم مشافهة، وأُيّد بعصمة إلهية. “ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر، ونطقوا به لمّا بلغهم بناء المدارس ببغداد، فأقاموا للعلم مأتماً، وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العليّة والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تداني إليه الأخسّاء وأرباب الكسل فيكون ذلك سبباً لارتفاعه. ومن ها هنا هُجرت علوم الحكمة، وإن كانت شريفة لذاتها” (الأنصاري/5).
إن هذه النظرة القداسية إلى العلم لا يصحّ أن نفسرها اليوم تفسيراً اجتماعياً، فنرى فيها نظرة “برجوازية” للعلم من خلال تقسيم المجتمع الطبقي، إذ لم يكن العلماء آنذاك ينتمون إلى الطبقة الخاصة التي تتمتع بالمال والجاه، ولذلك فإن التفسير الأرجح لهذه النظرة هو أنهم كانوا يرون في العلم وسيلة الإنسان إلى الكمال، وأي ابتذال لها سوف يخرجها عن وظيفتها الأولى، فليس العلم للكسب، وإنما هو فوق كل ذلك، يهدف أولاً وأخيراً إلى سعادة الإنسان في الدارين عن طريق تحقيق إنسانيته وتحريره من عبوديّته للعناصر الأربعة التي لا تجعل فارقاً بينه وبين باقي الحيوانات، وإطلاق العقل الكامن بالقوة ليصبح عقلاً موجوداً بالفعل يميّزه من سائر المخلوقات.
4/ مفهوم الأدب عند الأنصاري
يرتبط مفهوم الأدب عند الأنصاري ارتباطاً وثيقاً بمفهوم المعرفة لديه، فالأدب ما هو إلا مفتاح المعرفة وأداتها الأولى، ولذلك فإن ترتيبه في تصنيف العلوم عند الأنصاري يأتي في طليعة العلوم التي لا تتعلم لذاتها وإنما لغيرها، فالأدب خادم لباقي العلوم، وترتيبه ترتيب ذرائعيّ لا يقوم على قيمته من حيث هو علم، وإنما على قيمته من حيث هو أداة لغيره من العلوم لا بد منها إذا أراد الإنسان اكتسابها.
“القول في علم الأدب” بهذا العنوان يبدأ الأنصاري كلامه على الأدب أول العلوم. والتسمية واضحة في اعتبار الأدب واحد العلوم، وهي تسمية تخرج مفهوم الأدب عن مفهومه كما نعرفه اليوم من خلال المفهوم الذي نقلناه عن الغرب الأوروبي منذ نهاية القرن الماضي، ويقوم في جوهره على مفهوم الإبداع الفني المترتب على اللقاء بين الذات والموضوع.
يعرّف الأنصاري الأدب بقوله: “هو علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة، وموضوعه الخط واللفظ من جهة دلالتها على المعاني، ومنفعته إظهار ما في نفس إنسان ما من المعاني، وإيصاله إلى شخص آخر من النوع الإنساني، حاضراً كان أو غائباً. وهو حلية اللسان والبنان، وبه تميّز ظاهر الإنسان على سائر الحيوان” (الأنصاري/13).
الأدب من خلال هذا التعريف هو مرادف للغة أداة التواصل الاجتماعي في أسمى قدراتها التعبيرية التواصلية_ الاجتماعية، فالأدب هو علم يتعلّمه الإنسان لهدف محدد هو أساس الوجود الاجتماعي: التواصل، إذ لولا التواصل اللساني لما وجدت المجتمعات البشرية التي لا بد لقيامها واستمرارها وتطورها، من أداة يتفاهم بها أفرادها لتبادل المصالح والمنافع والخبرات. وتعلم الأدب هو حفاظ على المجتمع وتطوير له بتطوير أداته.
إن مفهوم الأدب هذا لا يبتعد كثيراً عن تعريفنا المعاصر للغة، فهي أداة التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة، ومنفعتها إظهار ما في نفس إنسان من المعاني، وإيصاله إلى شخص آخر، وبها يتميز الإنسان من الحيوان.
الأدب علم يساعد الإنسان على تطوير قدراته اللغوية فيستخدمها في أقصى درجاتها، كالمنطق الذي هو علم يساعد الإنسان على تطوير قدراته الفكرية الجدلية. أما التفريق بين الأدب فعالية إبداعية، وبين اللغة أداة التواصل، فإن العرب_ المسلمين ما كانوا يعتمدونه كما نفعل اليوم، وإنما كانوا يتفقون على أنهما واحد يهدف إلى مساعدة الإنسان على الوصول إلى المعرفة أول درجات الكمال.
أما العلاقة بين مفهوم الأدب وبقية العلوم فإنها تتجلّى في قول الأنصاري متحدّثاً عن سبب ابتدائه الكلام بالأدب: “وإنما ابتدأت به لأنه أول أدوات الكمال، ولذلك من عري عنه لم يهتم بغيره من الكمالات النفسانية” (الأنصاري/13). فالعلوم أدوات الكمال، والأدب أول هذه الأدوات، إذ لا يمكن للإنسان أن يتعلم سواه من العلوم إذا لم يحسنه، فهو وسيلة إلى ما عداه من العلوم، ولذلك فهو يأتي في طليعتها.
والأدب كلٌّ يشتمل على علوم فرعية عشرة: “علم اللغة، وعلم التصريف، وعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وعلم العروض، وعلم القوافي، وعلم النحو، وعلم قوانين الكتابة، وعلم قوانين القراءة” (الأنصاري/13). وهي علوم توصل من يكتسبها إلى أرفع درجة في استخدام اللغة استخداماً نفعياً. ولعل أول وظيفة تهدف إليها هذه العلوم هي أنها وسيلة إلى “فهم كتاب الله المنزل، وكلام نبيه محمد المرسل، إذ كانا من الفصاحة والبلاغة في حدّ الإعجاز. ويا لها من درجات ما أرفعها، ومن علوم ما أنفعها” (الأنصاري/16).
إن الأنصاري في قوله هذا يؤكّد مفهومه للأدب، فالأدب علم يتعلم لتحسين التفاهم والتواصل، إلا أن أسمى وظيفة له إنما هي مساعدة الإنسان للوصول إلى الكمال، فالأدب لا بد منه للكمال الإنساني، إذ لا يستطيع الإنسان أن يبلغ الكمال إلا عن طريق الكتاب والسنة، وهما من الفصاحة والبلاغة في حد الإعجاز، ولا بد من أن يتعلم الإنسان الفصاحة ليتمكن من فهم القرآن والسنة.
ما تقدم يوصلنا إلى استنتاج وظيفتين للأدب: الأولى اجتماعية، والثانية إنسانية. فالأدب أداة التواصل الاجتماعي، وسبيل بناء الحياة الإنسانية، وهو بعد أن يحقق للإنسان هذه الغاية يصبح وسيلة إلى الكمال الإنساني الذي لا يُبلغ إلا عن طريق اكتساب المعارف، وأول هذه المعارف القرآن والسنة النبوية الشريفة، فالإنسان كما رأينا بشراً من طين نفخ الله فيه من روحه، فهو إنسان بالجوهر، بشر بالعرض. ومما يساعده على تحقيق هذا الجوهر والانتقال به من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، إنما هو العقل الكامن بدوره في البشر بالقوة، ولا يتحول إلى وجود بالفعل إلا من طريق العلم والتعلم، والأدب أول أدوات التعلم، فهو أداة الإنسان الأولى في تحقيق جوهره الإنساني بمساعدته على الفهم الكامل للقرآن الذي يقود إلى الكمال.
وما يؤكّد هذا المعنى ما وجدناه عند الأنصاري من ترتيب العلوم، فالعلوم أدوات الوصول إلى الكمال الإنساني، وهي لا تحتلّ مكانة واحدة، بل بعضها مقدّم على الآخر. وهو تفضيل منطقيّ_ ذرائعي ينتقل من الوسيلة إلى الغاية، ومن الجوهر إلى العرض.
يأتي الأدب في طليعة هذه العلوم، يليه المنطق، فالعلم الإلهي، فعلم النواميس، فالعلم الطبيعي بفروعه، فالهندسة بفروعها، فالحساب، فالموسيقى، فالسياسة والأخلاق وتدبير المنزل.
الأدب في هذا الترتيب ليس هدفاً ليوضع في قمة العلوم، وإنما هو أداة، ولذلك هو أول هذه العلوم على المتعلم ألا يبدأ إلا به، لأنه أداته إلى ما بعده من العلوم. ولا بد لمن أتقن الأدب، وتعلم سبل التواصل، من المنطق الضروري في تمييز الخطأ من الصواب في المعاني، فالمنطق ميزان عقلي يزن فيه الإنسان ما حوله من مقولات يتقبل منها ما وافق العقل، ويرفض ما سواها. وإذا ما تسلح الإنسان بهذين العلمين: الأدب والمنطق، كان من الممكن له أن يخوض في بحر العلم الإلهي إذ هو الغاية، لأنه أشرف العلوم، فهو العلم الذي يتعلّم لأنه يوصل إلى السعادة الأبدية. ويأتي علم النواميس بعد العلم الإلهي، فهو علم شريف كالعلم الإلهي إلا أنه في خدمته، فالعلم الإلهي يهتم بالجوهر، على حين أن علم النواميس يخوض في العرض.
وإذا ما انتهى الإنسان إلى علم النواميس أصبح متمكّناً من حقائق الأمور وجواهرها، ساعياً في طريق الكمال، مالكاً نصاب الأمور وميزانها، وصار بإمكانه أن يخوض فيما بقي من العلوم: الطبيعي وفروعه، والهندسة والحساب والموسيقى والسياسة والأخلاق، وكلها إنما تهدف إلى مساعدة الإنسان في الوصول إلى الكمال بشرط أن تكون مشروطة بالعلم الإلهي وفي خدمته، فهي علوم تمكن صاحبها من معرفة الكون والعالم المادي الذي يحيط به وفيه دلائل على قدرة الله وخلقه، فجمال المخلوق يدلّ على جمال الخالق، ومعرفة الجمال الأصغر تدلّ على الجمال الأكبر، وتقود إلى معرفته.
إن ترتيب العلوم عند الأنصاري لك يكن مصادفة، وإنما كان ينطلق من نظرية شاملة متمحورة على معنى الوجود الإنساني من خلال الرؤية الإسلامية، وتدور كل العلوم في فلك هذا المحور، وتسعى إلى خدمته، فلا شيء في الوجود الإنساني ليس بذي فائدة ما دام يخدم العقل الإنساني. وكل ما في الكون يجب أن يخضع لهذا العقل، ويصبح وسيلة تمكّن الإنسان من تحقيق جوهره المتمثّل بالنفخة الأولى، وهو تحقيق لا بد منه في إدراك السعادة في الدارين.
خاتمة
إن النتائج التي خلصنا إليها في هذه الدراسة تتفق مع ما توصّلنا إليه في دراستنا السابقة في المجال ذاته، فالعلم عند الأنصاري، كما عند المفكرين العرب المسلمين، لا يتعلّم لذاته، وإنما لخدمة الإنسان في تحقيق معنى وجوده الإنساني، وفي سعيه نحو الكمال من خلال المفهوم الإسلامي.
العلم يصدر عن الإنسان، ويرمي إلى خدمته، وصدوره عنه إنما هو ناجم عن العقل الكامن فيه بالقوة من حيث هو أداة ماز الله بها الإنسان من الحيوان، ليتمكّن من إدراك معنى الكمال الكامن فيه في أصل الخلق.
في العلاقة بين العلم والأدب يسود مفهوم الله الذي يحكم مفهوم الإنسان، والوجود الإنساني مرتبط بالوجود الإلهي، منه يستمدّ معناه، وكل ما في الكون في خدمة الإنسان ليحقق معنى هذا الوجود. ويأتي العلم في المقدّمة لارتباطه بالعقل شرط الوجود الإنساني، أما الأدب، فهو أداة العقل في اكتساب العلم واكتشاف المعرفة.
تعرض هذه الدراسة مفهوم الإنسان عند الأنصاري، وهو مفهوم يرتكز على المعرفة، فالإنسان إنسان بالقوة ما لم يتعلم ولا يجهل، فإذا تعلم صار إنساناً بالفعل، وإذا جهل كان الحيوان أفضل منه. والأدب أكمل الوسائل التي تمكن الإنسان من اكتساب المعارف، ليصير بفضلها إنساناً بالفعل.
جدلية العلاقة بين مفهوم الأدب ونظرية المعرفة عند محمد بن إبراهيم الأنصاري
الدكتور حسين الصديق
مدرس في قسم اللغة العربية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة حلب
الملخّص
إن العلاقة بين النتاج الأدبي ونظرية المعرفة في الحضارة العربية الإسلامية علاقة وثيقة تقوم على الجدليّة. فالنظرية توجّه النتاج الأدبي، الذي يقوم في الوقت نفسه بتطوير مفهوم النظرية.
ويمكن رصد تلك العلاقة في كل مراحل تطور الحضارة العربية_ الإسلامية، وهي علاقة تتأسّس على العقيدة الإسلامية بمصدريها الأساسيّين: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وعلى مجموع الفكر العربي_ الإسلامي الذي تشكّل عبر العصور نتيجة العلاقة الجدلية بين تلك العقيدة وبين مجموع الديانات والثقافات والعادات والتقاليد الاجتماعية والنظم السياسية والاقتصادية التي كانت موجودة لدى أبناء البلاد التي فتها العرب_ المسلمون.
وتبدو هذه العلاقة بوضوح في كتاب الأنصاري موضوع الدرس، فالأدب ليس إبداعاً فنياً يرتبط بالذات المبدعة، ويدور حول علاقاتها مع الواقع، وإنما هو مؤسسة معرفية تسعى إلى تقديم أفضل المعارف والخبرات اللغوية والثقافية والاجتماعية والعلمية إلى المتلقّي لتساعده على تحقيق إنسانيّته.
ويرتكز مفهوم الإنسانية عند الأنصاري على المعرفة. فالإنسان إنسان بالقوة ما لم يتعلّم، ولا يجهل، فإذا تعلّم صار إنساناً بالفعل، وإذا جهل، صار الحيوان أفضل منه. والأدب أكمل الوسائل التي تمكن الإنسان من اكتساب المعارف ليصير بفضلها إنساناً بالفعل.
مقدّمة
ينضوي هذا البحث في إطار اهتمامنا بنظرية المعرفة وعلاقتها بمفهوم الأدب عند العرب المسلمين. فنحن نسعى إلى صياغة هذه النظرية من خلال مجموعة من الدراسات التي تستنبط مفاهيم ممثّلي الحضارة العربية_ الإسلامية عن المعرفة والأدب.
إن البحث في نظرية المعرفة وعلاقة مفهوم الأدب بها عند العرب_ المسلمين من الأبحاث الجديدة التي ما يزال اهتمام العرب المعاصرين بها ضئيلاً، على الرغم من أهميتها. فالبحث في هذا المجال ليس هدفاً في ذاته، وإنما هو وسيلة إلى غيره. فالنتائج التي يتوصل إليها البحث مفيدة في فهم معمّق وموضوعي للتراث الحضاري من جهة، وضرورية في وعي الحاضر في كل أبعاده الاجتماعية_ الثقافية. فالحاضر إنما هو امتداد للماضي، وإذا أردنا فهم هذا الحاضر، وحسن تخطيط المستقبل، لا بد لنا من فهم الماضي.
إن دراستنا لمفهومي المعرفة والأدب عند الأنصاري ( -749هـ) تكتسب أهميتها من كونها تشكّل لبنة أساسيّة في تكوين نظرية المعرفة والأدب عند العرب المسلمين، فقد كان الأنصاريّ موسوعيّ المعرفة، يجمع معارف عصره، إضافة إلى تخصّصه في الطّب، يدلّنا على هذا كتابه موضوع بحثنا، فهو كتاب يجمع بين دفّتيه تعريفات بكل العلوم التي عرفتها الحضارة العربية _ الإسلامية إلى عصر المؤلّف، ويبلغ عدد هذه العلوم ستين علماً رئيسيّاً وفرعيّاً، كما يعدد الكتاب ما يقرب من أربعمائة كتاب هي الأشهر في تلك العلوم موزّعة على ثلاثة مستويات: مبسوطة، ومتوسّطة، ومختصرة.
ويبدأ الأنصاريّ كتابه بمقدّمة يعرض فيها العلوم الرئيسية، ويعدّد تفريعاتها، ويتحدّث عن فضل العلم والتعليم، وسبل اكتشاف المعارف، ووظيفة المعرفة وأهدافها، ويقدّم منهجاً محدداً في طريقة التأليف، قلما نجد شبيهاً له في كتب التراث.
إن ما يعرضه الأنصاري في هذه المقدمة يدخل في إطار نظرية المعرفة، ويُقصد بنظرية المعرفة مجموعة الدراسات التي تبحث، في تراث حضارة من الحضارات أو مجتمع من المجتمعات، عن أجوبة على أسئلة تطرح في مجال المعرفة: ما طبيعة المعرفة؟ وما مصادرها وسبل امتلاكها؟ وما أهدافها ووظائفها؟ كما تحاول نظرية المعرفة تعريف العلم والنظر فيما يمكن العلم به من الأشياء وما لا يمكن، كما تناقش الشروط التي ينبغي توافرها لكي يتم هذا العلم، وتبحث نظرية المعرفة أيضاً في طبيعة المعلومات: ذاتية أو موضوعية، وتسعى إلى تحديد العلاقة بين موضوع العلم والذات العالمة.
1/ أصول النظرية المعرفية عند العرب _ المسلمين
قبل أن نعرض مفهوم المعرفة عند الأنصاري، لا بد لنا من أن نلخّص أهم النتائج التي توصلنا إليها في دراستنا السابقة في إطار النظرية المعرفية عند العرب _ المسلمين، وذلك لكي نتمكن من فهم ما سنجده عند الأنصاري من جهة، ولوضع مفهوم المعرفة عند الأنصاري في إطار المعرفة الإسلامية من جهة أخرى.
المعرفة مادةً ومنهجاً فعلٌ إنسانيٌّ بحت، لا يمكن تحقّقه من غير الإنسان، فالمعرفة مرتبطة بالوجود الإنساني ارتباطاً جدلياً، إذ إن الإنسان يصنع المعرفة بوسائل وأدوات يصنعها هو، وامتلاكه المعرفة يساعده على تطوير تلك الوسائل والأدوات، مما يعني تطوير نوعية المعرفة وسبلها. وهدف المعرفة هو الإنسان، فهي منه وله، يرتبط معها بعلاقة جدليّة.
إن هذه القاعدة تعني أن البحث في تحديد النظرية المعرفية في حضارة ما يجب أن ينطلق أولاً من تحديد موقف تلك الحضارة من صانع المعرفة وهدفها: الإنسان.
إن مفهوم الإنسان في الحضارة العربية _ الإسلامية يرتكز على موقف هذه الحضارة من المفاهيم الثلاثة: الله والإنسان والكون، وهو موقف لا بد من أخذه بعين الاعتبار في كل محاولة لفهم تراث تلك الحضارة. فالحضارة العربية _ الإسلامية تغلّب مفهوم (الله) على المفهومين الآخرين، وتفهمهما من خلاله، ولذلك فإن مفهوم الإنسان في تلك الحضارة يجب أن يفهم من خلال الوجود الإلهي الأزلي. وقد عرفت المصادرُ الأساسيّةُ للعقيدة الإسلامية: القرآنُ الكريم والسنةُ النبوية الشريفة هذه المفاهيمَ جميعاً، وقامت مصادر الفكر العربي _ الإسلامي بتفسير هذه المفاهيم ومنحها أبعادها الاجتماعية _ الثقافية.
الإنسان خليفة الله في الأرض، خلقه الله ليعبده، وهي عبادة ليست لذاتها، وإنما لغيرها، فالإنسان، من خلال العبادة، يسمو ليكتشف إنسانيته، فقد خلق الله الإنسان بشراً من طين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه: ” وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين” (ص/71). فالتكوين البشري سابق على التكوين الإنساني الذي لم يتحقق إلا بعد النفخة، فهو سجود ليس للبشرية، وإنما للإنسانية التي تحقّق وجودها بالقوة في البشرية بعد النفخة الإلهية.
البشرية سابقة في الوجود المادي الترابي، أما الإنسانية فسابقة في الوجود الكوني النوراني، لأنها من الذات الإلهية، فهي خارجة عن أمر (كن)، وتخضع لقانون الأزل. والإنسانية موجودة في البشر بالقوة، فلا يصبح البشر إنساناً إلا بعد أن يتمكن من تحقيق جوهره الإنساني الكائن فيه بالقوة، وهو تحقيق ممكن بالفعل لوجوده بالقوة في البشر، إلا أن تحقيقه يحتاج إلى أداة وضعها الله في البشر بالقوة أيضاً، تولد معه، ولا تصبح موجودة بالفعل إلا عن طريق اكتساب المعارف من طرق مختلفة: مباشرة وغير مباشرة، يأتي الوحي في قمتها من حيث الأهمية.
ذلك هو موقف المفكرين المسلمين من المعرفة وعلاقتها بالإنسان، وقد رأينا هذا الموقف بشيء من التفاوت عند ممثّلي الفكر العربي _ الإسلامي، وهو تفاوت نشأ عن اختلاف المنهج العلمي الذي كان سائداً عند كل فئة من هؤلاء. (انظر كتاب غلاب، محمد، 1966 _ المعرفة عند مفكري المسلمين _ القاهرة. وكذلك انظر النشار، علي سامي، 1978 _ مناهج البحث عند مفكّري الإسلام _ دار المعارف _ القاهرة).
2/ مفهوم المعرفة عند الأنصاري
يكتب الأنصاري في مطلع كتابه عبارة تلخّص مفهومه حول المعرفة، وكل ما نجده في الكتاب يفسّرها، ويدلّل عليها، فهي عبارة جامعة مانعة تفسر هذا المفهوم، وتصل بينه وبين النظرية المعرفية عند العرب _ المسلمين. يقول الأنصاري: “وكان الإنسان إنساناً بالقوة، ما لم يعلم ويجهل جهلاً مركّباً، فإذا علم، صار إنساناً بالفعل، عارفاً بربه مستحقاً لجواره وقربه، وإذا جهل جهلاً مركّباً صار حيواناً ما، بل الحيوان خير منه”. (الأنصاري/2)
الإنسان يتكون من مجموع البشرية( الجسد/العرض) والإنسانية( النفخة الإلهية/ الجوهر) إلا أن البشرية توجد أولاً، والإنسانية كامنة في الإنسان بالقوة، لا تظهر إلى الوجود بالفعل بسبب من كون الإنسان في حالة وسطى بين الجهل والعلم، فلا هو بجاهل ولا بعالم، ولا يوجد إنسان بالفعل إلا بفضل العلم، فإذا تعلم العلم صار إنساناً، وإذا لم يتعلّم ظلّ بشراً هو أقرب إلى الحيوان، بل الحيوان خير منه، لأنه محكوم بغرائز تضبط سلوكه، على حين أن وقوف الإنسان بين البشرية والإنسانية أضعف فيه الغرائز الحيوانية لصالح العقل الذي ماز به الله الإنسان من الحيوان. والإنسانية شرط أساسي لا بد منه للبشر ليعرف ربه، فمعرفة الله تأتي بفضل العلم، فهي كامنة بالقوة في الإنسانية، كما أن الإنسان كائن بالقوة في البشرية.
العلم سبيل وجود الإنسانية في البشرية، فهو شرط تحقيق معنى جوهر الوجود البشري، وإذا كان العلم سبيل وجود الإنسانية في البشرية، فإن هذا الهدف ليس لذاته، وإنما لغيره، فالعلم إنما هو” سبب إلى الحياة الأبدية والنجاة السرمدية والفوز بالسعادة الأخروية”. (الأنصاري/1)
إن انتقال الإنسانية من وجودها في الإنسان بالقوة إلى الوجود بالفعل ليس هدفاً بذاته في هذه الحياة، وإنما هو وسيلة إلى تحقيق عبودية الإنسان التي رسمتها الآية “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (الواقعة/56)، فالعبادة تعني العمل، وخير العباد العلماء، فإنما “يخشى الله من عباده العلماء” (فاطر/28) . فالتكليف لم يقع على البشرية، ولا يصبح وجوداً إنسانياً إلا بالعلم، فهو مطالب به ليحقق وجوده الإنساني الذي هو شرط للفوز بالسعادة الأبدية، فلو ظل الإنسان بشراً، ولم يسع إلى تحقيق إنسانيته بالعلم، وهو مكلفٌ به، فإنه سيكون في الدارين من الخاسرين.
3/ ترتيب العلوم عند الأنصاري
يعدد الأنصاري في كتابه ثلاثة عشر علماً يسميها بالعلوم الأصلية، وما عداها فهي فرعية، فهل تستوي هذه العلوم بالنسبة إلى المؤلف؟
كل علم في نظر المؤلف له قيمة في ذاته، “فلا واحد من العلوم من حيث هو علم بضار، بل نافع، ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع بل ضار” (الأنصاري/4).
ومع ذلك فهو يقدّم علماً على آخر، فلكل علم ” من العلوم حال في نفسه ومرتبته بالنسبة إلى غيره من العلوم” (الأنصاري/4)، وبعض العلوم أفضل وأشرف من بعضها الآخر، فهي ” مع اشتراكها في الشرف، متفاوتة فيه” (الأنصاري/ 4).
إن غاية العلوم وهدفها عند الأنصاري هما اللذان يفسّران موقفه من نسبة العلوم بعضها إلى بعض، فالعلوم تنقسم بحسب منافعها على قسمين: واحد مفيد في أمور الحياة الدنيا، وآخر نافع في أمور المعاد والكمال الإنساني. وعلى هذا فيمكن اعتبار بعض العلوم خدماً لبعضها الآخر، فعلوم اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والقراءات وأسباب الناسخ والمنسوخ هي خدم لعلم التفسير (الأنصاري/35). كما يستعان في هذا العلم بأصول الفقه وعلم الجدل.
هذا التقسيم للعلوم بحسب منافعها يوحي بترتيب هرمي للعلوم عند الأنصاري، يحتلّ قمة هذا الهرم العلم الإلهي بلا منازع، إذ كان هذا العلم “المقصود بالذات للإنسان في كمال ذاته وسعادته في دار البقاء، وكل علم سواه إن تعلقت منفعته بأمر المعاد فهو وسيلة إليه، وإن تعلقت بأمر المعاش، فهو خدم لما يعد له، ومن وُفّق للوقوف على حقائقه فقد فاز فوزاً عظيماً” (الأنصاري/20).
إن ترتيب العلوم هذا، ومكانة العلم الإلهي فيه، إنما هو مستمدّ من طبيعة العلم ووظيفته عند الأنصاري، فهدف المعرفة على العموم_ كما رأينا_ إنما هو معرفة النفس الإنسانية الضرورية لبلوغ الإنسان الكمال في نفسه، وهو كمال لا بد منه لمعرفة الله غايةِ الإنسان النهائية التي تحقق له السعادة في الدارين. وخير ما يحقق غاية المعرفة هذه هو العلم الإلهي، ولذلك فإنه العلم المقصود بالذات من حيث فائدته للإنسان في كماله وتحقيق سعادته، على حين أن باقي العلوم مقصودة لغيرها، فهي خدم لهذا العلم، تمهّد النفس العارفة لتلقّيه، وتساعدها على الوصول إليه.
ويقودنا هذا الترتيب الهرمي إلى استنباط علاقة أخرى بين العلوم تقوم على الجدليّة النفعيّة، فالعلوم لا تُتعلّم لذاتها وإنما لغيرها، وليس الغرض منها الاكتساب، بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب النفس (الأنصاري/5)، لذلك فهي مرتبة بحسب وظيفتها في إطار تلك الجدلية.
ويرتبط تصنيف العلوم بتصنيف آخر للمتعلمين، فمن هؤلاء من يقصد العلم لغير غايته على الحقيقة، فيتعلّم علماً للمال أو الجاه، فمن قصد هذا فإنه لن يكون عالماً، وإنما سيصير شبيهاً بالعلماء، وسيؤدي هذا إلى ابتذال العلم وامتهانه إذا ما وصل إلى غير أهله. وقد تنبه القدماء على هذه المسألة فقالوا: “لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم” (الأنصاري/6)، ولذلك فإن سنة العلماء ” لم تزل جارية في تعليم العلوم مشافهة دون كتابة، فلا يصل علم إلى غير مستحقّه” (الأنصاري/6). ولذلك فإنهم عندما رأوا اتساع فئة المتعلمين ووصول العلم إلى غير مستحقيه، لجؤوا إلى الرمز في تدوين بعض العلوم في الكتب خوفاً من أن تقع عند غير أهلها، فلا يصل إلى أغراضهم إلا من عرف مقاصدهم مشافهة، وأُيّد بعصمة إلهية. “ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر، ونطقوا به لمّا بلغهم بناء المدارس ببغداد، فأقاموا للعلم مأتماً، وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العليّة والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تداني إليه الأخسّاء وأرباب الكسل فيكون ذلك سبباً لارتفاعه. ومن ها هنا هُجرت علوم الحكمة، وإن كانت شريفة لذاتها” (الأنصاري/5).
إن هذه النظرة القداسية إلى العلم لا يصحّ أن نفسرها اليوم تفسيراً اجتماعياً، فنرى فيها نظرة “برجوازية” للعلم من خلال تقسيم المجتمع الطبقي، إذ لم يكن العلماء آنذاك ينتمون إلى الطبقة الخاصة التي تتمتع بالمال والجاه، ولذلك فإن التفسير الأرجح لهذه النظرة هو أنهم كانوا يرون في العلم وسيلة الإنسان إلى الكمال، وأي ابتذال لها سوف يخرجها عن وظيفتها الأولى، فليس العلم للكسب، وإنما هو فوق كل ذلك، يهدف أولاً وأخيراً إلى سعادة الإنسان في الدارين عن طريق تحقيق إنسانيته وتحريره من عبوديّته للعناصر الأربعة التي لا تجعل فارقاً بينه وبين باقي الحيوانات، وإطلاق العقل الكامن بالقوة ليصبح عقلاً موجوداً بالفعل يميّزه من سائر المخلوقات.
4/ مفهوم الأدب عند الأنصاري
يرتبط مفهوم الأدب عند الأنصاري ارتباطاً وثيقاً بمفهوم المعرفة لديه، فالأدب ما هو إلا مفتاح المعرفة وأداتها الأولى، ولذلك فإن ترتيبه في تصنيف العلوم عند الأنصاري يأتي في طليعة العلوم التي لا تتعلم لذاتها وإنما لغيرها، فالأدب خادم لباقي العلوم، وترتيبه ترتيب ذرائعيّ لا يقوم على قيمته من حيث هو علم، وإنما على قيمته من حيث هو أداة لغيره من العلوم لا بد منها إذا أراد الإنسان اكتسابها.
“القول في علم الأدب” بهذا العنوان يبدأ الأنصاري كلامه على الأدب أول العلوم. والتسمية واضحة في اعتبار الأدب واحد العلوم، وهي تسمية تخرج مفهوم الأدب عن مفهومه كما نعرفه اليوم من خلال المفهوم الذي نقلناه عن الغرب الأوروبي منذ نهاية القرن الماضي، ويقوم في جوهره على مفهوم الإبداع الفني المترتب على اللقاء بين الذات والموضوع.
يعرّف الأنصاري الأدب بقوله: “هو علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة، وموضوعه الخط واللفظ من جهة دلالتها على المعاني، ومنفعته إظهار ما في نفس إنسان ما من المعاني، وإيصاله إلى شخص آخر من النوع الإنساني، حاضراً كان أو غائباً. وهو حلية اللسان والبنان، وبه تميّز ظاهر الإنسان على سائر الحيوان” (الأنصاري/13).
الأدب من خلال هذا التعريف هو مرادف للغة أداة التواصل الاجتماعي في أسمى قدراتها التعبيرية التواصلية_ الاجتماعية، فالأدب هو علم يتعلّمه الإنسان لهدف محدد هو أساس الوجود الاجتماعي: التواصل، إذ لولا التواصل اللساني لما وجدت المجتمعات البشرية التي لا بد لقيامها واستمرارها وتطورها، من أداة يتفاهم بها أفرادها لتبادل المصالح والمنافع والخبرات. وتعلم الأدب هو حفاظ على المجتمع وتطوير له بتطوير أداته.
إن مفهوم الأدب هذا لا يبتعد كثيراً عن تعريفنا المعاصر للغة، فهي أداة التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة، ومنفعتها إظهار ما في نفس إنسان من المعاني، وإيصاله إلى شخص آخر، وبها يتميز الإنسان من الحيوان.
الأدب علم يساعد الإنسان على تطوير قدراته اللغوية فيستخدمها في أقصى درجاتها، كالمنطق الذي هو علم يساعد الإنسان على تطوير قدراته الفكرية الجدلية. أما التفريق بين الأدب فعالية إبداعية، وبين اللغة أداة التواصل، فإن العرب_ المسلمين ما كانوا يعتمدونه كما نفعل اليوم، وإنما كانوا يتفقون على أنهما واحد يهدف إلى مساعدة الإنسان على الوصول إلى المعرفة أول درجات الكمال.
أما العلاقة بين مفهوم الأدب وبقية العلوم فإنها تتجلّى في قول الأنصاري متحدّثاً عن سبب ابتدائه الكلام بالأدب: “وإنما ابتدأت به لأنه أول أدوات الكمال، ولذلك من عري عنه لم يهتم بغيره من الكمالات النفسانية” (الأنصاري/13). فالعلوم أدوات الكمال، والأدب أول هذه الأدوات، إذ لا يمكن للإنسان أن يتعلم سواه من العلوم إذا لم يحسنه، فهو وسيلة إلى ما عداه من العلوم، ولذلك فهو يأتي في طليعتها.
والأدب كلٌّ يشتمل على علوم فرعية عشرة: “علم اللغة، وعلم التصريف، وعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وعلم العروض، وعلم القوافي، وعلم النحو، وعلم قوانين الكتابة، وعلم قوانين القراءة” (الأنصاري/13). وهي علوم توصل من يكتسبها إلى أرفع درجة في استخدام اللغة استخداماً نفعياً. ولعل أول وظيفة تهدف إليها هذه العلوم هي أنها وسيلة إلى “فهم كتاب الله المنزل، وكلام نبيه محمد المرسل، إذ كانا من الفصاحة والبلاغة في حدّ الإعجاز. ويا لها من درجات ما أرفعها، ومن علوم ما أنفعها” (الأنصاري/16).
إن الأنصاري في قوله هذا يؤكّد مفهومه للأدب، فالأدب علم يتعلم لتحسين التفاهم والتواصل، إلا أن أسمى وظيفة له إنما هي مساعدة الإنسان للوصول إلى الكمال، فالأدب لا بد منه للكمال الإنساني، إذ لا يستطيع الإنسان أن يبلغ الكمال إلا عن طريق الكتاب والسنة، وهما من الفصاحة والبلاغة في حد الإعجاز، ولا بد من أن يتعلم الإنسان الفصاحة ليتمكن من فهم القرآن والسنة.
ما تقدم يوصلنا إلى استنتاج وظيفتين للأدب: الأولى اجتماعية، والثانية إنسانية. فالأدب أداة التواصل الاجتماعي، وسبيل بناء الحياة الإنسانية، وهو بعد أن يحقق للإنسان هذه الغاية يصبح وسيلة إلى الكمال الإنساني الذي لا يُبلغ إلا عن طريق اكتساب المعارف، وأول هذه المعارف القرآن والسنة النبوية الشريفة، فالإنسان كما رأينا بشراً من طين نفخ الله فيه من روحه، فهو إنسان بالجوهر، بشر بالعرض. ومما يساعده على تحقيق هذا الجوهر والانتقال به من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، إنما هو العقل الكامن بدوره في البشر بالقوة، ولا يتحول إلى وجود بالفعل إلا من طريق العلم والتعلم، والأدب أول أدوات التعلم، فهو أداة الإنسان الأولى في تحقيق جوهره الإنساني بمساعدته على الفهم الكامل للقرآن الذي يقود إلى الكمال.
وما يؤكّد هذا المعنى ما وجدناه عند الأنصاري من ترتيب العلوم، فالعلوم أدوات الوصول إلى الكمال الإنساني، وهي لا تحتلّ مكانة واحدة، بل بعضها مقدّم على الآخر. وهو تفضيل منطقيّ_ ذرائعي ينتقل من الوسيلة إلى الغاية، ومن الجوهر إلى العرض.
يأتي الأدب في طليعة هذه العلوم، يليه المنطق، فالعلم الإلهي، فعلم النواميس، فالعلم الطبيعي بفروعه، فالهندسة بفروعها، فالحساب، فالموسيقى، فالسياسة والأخلاق وتدبير المنزل.
الأدب في هذا الترتيب ليس هدفاً ليوضع في قمة العلوم، وإنما هو أداة، ولذلك هو أول هذه العلوم على المتعلم ألا يبدأ إلا به، لأنه أداته إلى ما بعده من العلوم. ولا بد لمن أتقن الأدب، وتعلم سبل التواصل، من المنطق الضروري في تمييز الخطأ من الصواب في المعاني، فالمنطق ميزان عقلي يزن فيه الإنسان ما حوله من مقولات يتقبل منها ما وافق العقل، ويرفض ما سواها. وإذا ما تسلح الإنسان بهذين العلمين: الأدب والمنطق، كان من الممكن له أن يخوض في بحر العلم الإلهي إذ هو الغاية، لأنه أشرف العلوم، فهو العلم الذي يتعلّم لأنه يوصل إلى السعادة الأبدية. ويأتي علم النواميس بعد العلم الإلهي، فهو علم شريف كالعلم الإلهي إلا أنه في خدمته، فالعلم الإلهي يهتم بالجوهر، على حين أن علم النواميس يخوض في العرض.
وإذا ما انتهى الإنسان إلى علم النواميس أصبح متمكّناً من حقائق الأمور وجواهرها، ساعياً في طريق الكمال، مالكاً نصاب الأمور وميزانها، وصار بإمكانه أن يخوض فيما بقي من العلوم: الطبيعي وفروعه، والهندسة والحساب والموسيقى والسياسة والأخلاق، وكلها إنما تهدف إلى مساعدة الإنسان في الوصول إلى الكمال بشرط أن تكون مشروطة بالعلم الإلهي وفي خدمته، فهي علوم تمكن صاحبها من معرفة الكون والعالم المادي الذي يحيط به وفيه دلائل على قدرة الله وخلقه، فجمال المخلوق يدلّ على جمال الخالق، ومعرفة الجمال الأصغر تدلّ على الجمال الأكبر، وتقود إلى معرفته.
إن ترتيب العلوم عند الأنصاري لك يكن مصادفة، وإنما كان ينطلق من نظرية شاملة متمحورة على معنى الوجود الإنساني من خلال الرؤية الإسلامية، وتدور كل العلوم في فلك هذا المحور، وتسعى إلى خدمته، فلا شيء في الوجود الإنساني ليس بذي فائدة ما دام يخدم العقل الإنساني. وكل ما في الكون يجب أن يخضع لهذا العقل، ويصبح وسيلة تمكّن الإنسان من تحقيق جوهره المتمثّل بالنفخة الأولى، وهو تحقيق لا بد منه في إدراك السعادة في الدارين.
خاتمة
إن النتائج التي خلصنا إليها في هذه الدراسة تتفق مع ما توصّلنا إليه في دراستنا السابقة في المجال ذاته، فالعلم عند الأنصاري، كما عند المفكرين العرب المسلمين، لا يتعلّم لذاته، وإنما لخدمة الإنسان في تحقيق معنى وجوده الإنساني، وفي سعيه نحو الكمال من خلال المفهوم الإسلامي.
العلم يصدر عن الإنسان، ويرمي إلى خدمته، وصدوره عنه إنما هو ناجم عن العقل الكامن فيه بالقوة من حيث هو أداة ماز الله بها الإنسان من الحيوان، ليتمكّن من إدراك معنى الكمال الكامن فيه في أصل الخلق.
في العلاقة بين العلم والأدب يسود مفهوم الله الذي يحكم مفهوم الإنسان، والوجود الإنساني مرتبط بالوجود الإلهي، منه يستمدّ معناه، وكل ما في الكون في خدمة الإنسان ليحقق معنى هذا الوجود. ويأتي العلم في المقدّمة لارتباطه بالعقل شرط الوجود الإنساني، أما الأدب، فهو أداة العقل في اكتساب العلم واكتشاف المعرفة.