محمد بدر الدين الحسيني
هو محمد بدر الدين بن يوسف بن بدر الدين بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني الحسيني، مراكشي الأصل، ولد بدمشق عام 1850م. كان أبوه عالماً وشاعراً، مالكي المذهب من سادة المغرب، رحل إلى مصر لطلب العلم، فأخذ عن أعلامها، وعن علماء مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم جاء إلى الشام ليأخذ عن أقطابها، ثم إلى الأستانة ثم إلى المغرب، وكانت الشام دار سكناه، وبها درّس وخرّج طلاباً بارزين. أماّ والدة المترجم له فهي السيدة عائشة بنت إبراهيم الكزبري.
تعهده والده الشيخ يوسف بالرعاية والتهذيب والتعليم، وعليه أخذ مبادئ الكتابة والحساب، وحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنوات تقريباً، وانقطع للعلم، فلماّ توفي والده وهو ابن اثنتي عشرة سنة تولت والدته وخاله الشيخ صالح الكزبري رعايته، وانقطع في غرفة أبيه لدار الحديث يطالع كتبه الموروثة بهمة ويحفظ المتون في العلوم المختلفة، فحفظ ما يقرب من اثني عشر ألف بيت وشغل بقراءة شروحها وفهمها على الشيخ أبو الخير الخطيب.
مال منذ الثالثة عشر ة من عمره إلى العزلة والخلوة، وانقطع إلى العلم والعبادة في غرفته، وعكف على التأليف نهاره وطرفاً من ليله، مولياً علم الحديث اهتمامه، فحفظ الصحيحين مع أسانيدها، وقيل حفظ كتب الحديث الستة مع المتون الشعرية المختلفة، وكان يعلق على ما يقرأ؛ فترك تعليقات على نحو خمسين كتاباً ورسالة صغيرة.
اهتم بالكتب واقتنائها، ولم يكن ترك علماً من العلوم المعروفة في الثقافة الإسلامية إلاّ درسه وتوغل فيه. وكان قد أُجيز بالتدريس ولم يكن نبت في لحييه شعر، إذ درّس في الجامع الأموي بدمشق النحو والصرف والبلاغة والفقه، فجمع في عمر مبكّر بين العلم والتعليم.
في حوالي الخامسة والعشرين من عمره رحل إلى مصر، وقصد الشيخ إبراهيم السقاّ علامة مصر وشيخ الأزهر في ذلك الوقت، فأخذ على يديه الإجازة في علم الحديث.
انتظم الشيخ محمد بدر الدين بإعطاء الدروس الخاصة حتى آخر حياته، وكانت هذه الدروس متنوعة ما بين حديث وتفسير ومصطلح وأصول وتوحيد ومنطق وعلوم العربية وغيرها، يقيمها في غرفته بدار الحديث، يفد عليه من الطلاب أجناس وطبقات ودرجات وأعمار مختلفة، بعضهم علماء البلد وشيوخه، وآخرون من النشء الجديد، وقد يجتمع في الدروس الطالبان والثلاثة إلى العشرة، وربما اقتصر على طالب واحد. تخرج جماعة وتدخل غيرها ابتداء من بعد ضحوة النهار إلى ما بعد العصر.
درّس الشيخ الحسيني إلى جانب العلوم الدينية الشرعية، العلوم الكونية، الرياضيات على اختلاف فروعها بدءاً من عمليات الحساب إلى نظريات الهندسة حتى معادلات الجبر، وعلم الفلك والكيمياء وسواها، وكان يضع أمامه للتوضيح والشرح وسائل معينة من مخروط وموشور وهرم وغير ذلك.
لم يكن تدريسه عادياً، ولم يكن يسرد المسائل سرداً، بل يتلو النظرية أولاً فيرسم للطلاب شكلها على الورق إن كانت بحاجة إلى رسم، ثم يشرع في سرد إثباتها، وهم يطبقون الإثبات على الشكل ويناقشونه أحياناً في بعض الإشكاليات التي تعرض لهم، فيناقشهم ويتقبل منهم، وربما تردد في قبول ما يأتي به الكتاب المقروء، فيحاكم القضية طويلاً إلى أن يصل إلى شيء يستقر عليه رأيه، وكذلك كان شأنه في العلوم الكونية. ويختبر كل حين فهم الطلاب، فيلقي عليهم مسائل في الحساب أو الجبر من كتب خطية قديمة لديه، فإذا أخطؤوا ناقشهم وأعادهم إلى الصواب.
وهو يشجع العلوم الحديثة، والثقافة الجديدة، في الوقت الذي كان فيه العالم الإسلامي يستريب مما يأتي من أوروبا، وهو لهذا يزور المدارس الرسمية ويحضر بعض دروسها في الطبيعيات والفلسفة وغيرها، ويناقش الأساتذة، ويسأل الطلاب.
كان الشيخ الحسيني يرى السفر إلى الغرب من أجل العلم النافع للمسلمين واجباً، ومن الواجب عنده كذلك نشر الدعاية الإسلامية في أوروبا، ولهذا حث على الجهاد بالإضافة إلى تعلم اللغة الأجنبية.
ولديه نفائس من الكتب المخطوطة والمطبوعة في الحساب والهندسة والجبر نادرة الوجود، وهو لم يقتن كتباً حديثة، ولم يتصل بترجمات إلاّ في الرياضيات، منها كتاب (هندسة جاندار) وكتاب (كشف السر المصون في تطبيق الهندسة على الفنون)، والغريب أنه كان في كل الدروس أستاذ نفسه.
كذلك كان الشيخ محمد بدر الدين الحسيني يلقي دروساً عامة على جمهور من العامة والخاصة، يفتتح الدرس بحديث شريف من صحيح الإمام البخاري ثم يشرحه ويلم بجوانبه، وبكل ما يتصل به من علوم، يلقيه بأسلوب عذب مشرق جذاب وبفصاحة لهجة وحسن بيان في كلام سهل قريب المأخذ، وصوت جهوري يسمعه الحضور كلهم.
ودرسه العام هذا مع تشعب موضوعاته وكثرة استطراداته مرتبط الأجزاء، متسلسل الأفكار تجمعه وحدة الموضوع لا يتشتت ولا يضيع. وقد وصفه الشيخ رشيد رضا بأنه دائرة معارف سيارة.
وكان ينتخب موضوع الدرس مما له علاقة بحال الناس في وقته، ويستطرد إلى ما يرى أنه يهمهم أو يرى وجوب تنبيههم له، يتفرس في وجوه الحاضرين جميعاً يلتفت إلى اليمين واليسار والخلف حتى يلائم بين موضوع الدرس وحال الحاضرين بما توحيه إليه فراسته ـ بدأ دروسه العامة هذه في جامع السادات بسوق مدحت باشا ولما ضاق بدروسه المسجد انتقل إلى جامع سنان باشا، وفي سنة 1881م أوكل إليه تدريس الحديث الشريف في الجامع الأموي بدمشق، وذلك زمن الوالي العثماني (مدحت باشا)، وظل كذلك حتى وفاته ـ.
كما كان الشيخ محمد بدر الدين يخصص لطلاب العلم والعلماء دروساً عامة يلقيها في داره بعد المغرب إلى ما بعد العشاء بقليل، يجتمع فيها من الحضور ما يزيد على المئة في قاعة أعدت لذلك، فإذا حان وقت الدرس دخل المحدّث، وأخذ مجلسه بجانب الباب دون أن يقوم له أحد أو يحييه بغير رد السلام، ثم يشرع في القراءة أحد علماء ثلاثة كانوا مقربين إليه وهم: الشيخ عارف الدوجي، والشيخ عارف جويجاتي، والشيخ راشد القوتلي وكانوا يسمون معيدين. يقرأ المعيد ولا يقف حتى يومَئ له بالتوقف أو تُعَرض له أو لأحد المستمعين مشكلة، فيقف ليجيب المحدِّث بإيجاز أو تبسط حسب المقام. وقد تتوارد عليه الأسئلة، وينتهز الحاضرون انشراحه ليسألوه فيجيب، وربما أعرض عن بعض ما يُسأل أو قال: لا علم لي.
كانت دروس الشيخ الحسيني تستغرق جل وقته، حتى قيل أن أخاه أحمد بهاء الدين كان يتولى أمور منزله عنه ليتفرغ كل التفرغ.
استجازه عدد من كبار العلماء منهم: الشيخ محمد بن جعفر الكتاني، والشيخ عبد الحكيم الأفغاني، والشيخ أحمد بن شمس الدين، والشيخ أعظم حسين الهندي، وغيرهم من علماء الحرمين الشريفين، والأستانة، واليمن والهند. وكانت له صورة خاصة لإجازته (مطبوعة) يجيز بها من تخرج من طلابه، ويختم عليها بخاتم خاص.
حينما حج الحجة الأولى سنة 1899م أخذ عنه علماء مكة المكرمة، فاجتمع عنده كثيرون، وخاصة من الهنود فدرسوا عليه بعض كتب الحديث، ولما زار المسجد النبوي في حجته الأخيرة جاءه الناس أفواجاً، فلم يبق في المدينة المنورة عالم ولا طالب علم إلاّ أخذ عنه أو استجازه.
تزوج الشيخ الحسيني سنة 1295هـ من السيدة رقية بنت العارف بالله الشيخ محيي الدين العاني ورزق منها ثمانية أولاد، ابنان أكبرهما: إبراهيم عصام الدين، الذي جمع العلم والصلاح والذكاء، وتوفي في حياة والده. وثانيهما الشيخ تاج الدين، وست بنات. وكان في بيته كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، يرشدهم إلى المعروف بالمعروف؛ فلا يضرب ولا يشتم ولا يدعو بسوء، فإن غضب لشيء قطب جبينه، أو حذر بعبارة قصيرة أو حوقل، وربماّ علل غضبه وبين رأي الشريعة في ذلك الأمر.
عاصر الشيخ محمد بدر الدين الحسيني أواخر العهد العثماني والعهد الفيصلي، وزمناً من الاحتلال الفرنسي وهيأ النفوس في بداية الاحتلال للثورة، فتنقل بين المدن السورية يحض على الجهاد قائلاً بصراحة: (الجهاد فرض عين على كل من يستطيع أن يحمل السلاح). ولماّ قامت الثورة السورية كان أباً روحياً للثورة والثائرين والمجاهدين يلتقي بهم ويشجعهم، ويمدهم من طريق تلاميذه بالذخيرة والمؤن، ويتعرف أخبارهم وأخبار معاركهم كل يوم.
قبل وفاته بأربع أشهر وقع الشيخ الحسيني من فوق السلم في داره، فلزم بيته ولم يخرج إلاّ لصلاة الجمعة، ثم اشتكى من أمعائه فدب الضعف في جسمه، ورغم أن مشاهير أطباء دمشق ولبنان ومصر نصحوا له بالراحة وإيقاف دروسه، إلاّ أنه لم يوقفها إلاّ في اليوم السابق لوفاته. وتوفي ـ رحمه الله ـ صباح يوم الجمعة 27 ربيع أول 1354هـ / 1935م.
ترك الشيخ محمد بدر الدين الحسيني ـ رحمه الله ـ عددا من المؤلفات عُرف من أسمائها أربعون كتاباً، كانت حصيلة الفترة التي اعتزل فيها الناس وعكف على العبادة والعلم، علق على بعض الكتب وشرح بعضها الآخر... ومن هنا نعلم أنه وضعها وهو دون العشرين، ولعل له مؤلفات أخرى ضاعت أو لم تُعرف، والذي يدفع لهذا أنها كانت باكورة عمله وأنه ـ ولشدة تواضعه وورعه ـ كان يمحو اسمه عماّ يكتب.