الماضي القريب كان الإعلامي يلهث خلف السياسي بحثا عن الرأي والخبر، في الوقت الحاضر انقلبت ، وأصبح الإعلامي هو الذي يضع أجندة السياسي بسبب السطوة وقوة التأثير في الرأي العام اللتين يملكهما الإعلام الحديث المتطور في الصعد كافة
في حرب غزة، مثلما كان عليه الحال في كل الحروب الأخرى في منطقتنا يلعب الإعلام الدور الأبرز في حشد الرأي العام وتعبئته وصياغة مواقفه، في هذا الاتجاه أو ذاك، ويمكن القول وبكل ثقة: إن إسرائيل خسرت الحرب الإعلامية هذه المرة، وربما لأول مرة؛ لان المتلقي العربي والأجنبي، لم يعد يصدق أكاذيبها أولا، ولأن الأمور على الأرض أصبحت واضحة، والأهم من كل ذلك أن الطرف الثاني، أي فصائل المقاومة الفلسطينية بات أكثر ذكاء ويملك قدرة مهنية عالية عنوانها: إعلاميون شبان جدد يواكبون كل النظريات الإعلامية الحديثة، ويجيدون التحدث باللغات الأجنبية بطلاقة أهلها.
 
نشرح أكثر ونقول: إن أقدام الخلية الجهادية التي نفذت عملية الهجوم على مستوطنة نحال عوز شرق مدينة غزة عبر نفق حفرته كتائب عز الدين القسام، صورت هذه العملية من ألفها إلى يائها، وبثت مقاطع منها عبر شاشة قناة الأقصى الفضائية، مكذبة الرواية الإسرائيلية الرسمية التي نفت وقوعها، مثلما نفت مقتل أي جنود إسرائيليين، تشكل انقلابا في التوظيف المنهجي الإعلامي العربي المتطور.
فصائل المقاومة لم تعد تعتمد على القنوات والصحف والإذاعات العربية، وأسست قنواتها الخاصة بها، مثل الأقصى والقدس (حماس) وفلسطين اليوم (الجهاد الإسلامي)، مثلما أطلقت العديد من المواقع الإخبارية على الإنترنت ووظفت “الفيسبوك” بشكل حديث، وأنشأت جيشا إلكترونيا استطاع اختراق المواقع الإسرائيلية الأمنية مثل موقع القبة الحديدية على سبيل المثال لا الحصر.
 
***
في المقابل انقسمت الساحة الإعلامية العربية أفقيا بين معسكر يؤيد المقاومة ويقف في خندقها ومعسكر آخر، يضم معظم القنوات الخليجية اختارت معظمها أسلوب “التهدئة” الإعلامية، والتصرف مع الحدث بطريقة “شبه محايدة”، مثل محطات التلفزة العالمية إن لم يكن أسوأ.
وسائل الإعلام المصرية كانت في معظمها أقرب إلى نظيرتها الإسرائيلية، وربما أكثر سوءا وشراسة، فقد اتخذ بعضها طابع التحريض ضد المقاومة والتشكيك في أغراضها ومنطلقاتها، والانتصار للعدوان الإسرائيلي بشكل فج، وحث بنيامين نتنياهو وجيشه على الإجهاز على قطاع غزة ورجال المقاومة فيه بأسرع وقت ممكن، تحت ذريعة القضاء على حركة “حماس″ التي تضعها الحكومة المصرية على قائمة “الإرهاب” ولا تقيم أي علاقات معها، حتى إن هناك نظرية تقول: إن الحرب الحالية على غزة هي تكملة لحرب مصر ومعسكرها الخليجي لاجتثاث حركة الإخوان المسلمين.
 
القنوات الفضائية الغربية تغيرت أيضا، فبينما كان مراسلوها يغطون الحرب على غزة عام 2008 من فوق تلة قرب الحدود من القطاع، ويخضعون للرقابة العسكرية الإسرائيلية المباشرة ويعكسون وجهة النظر الإسرائيلية الأحادية المضللة، قررت هذه المرة، أي القنوات، كسر هذه السابقة المخجلة، وشاهدنا مراسلي هذه القنوات مثل “السي ان ان”، والقناة البريطانية الرابعة، والـ”إيه بي سي” والقائمة طويلة بثت نشراتها من وسط الدمار الذي أحدثه القصف الإسرائيلي لإحياء غزة، وانفردت محطة “إن بي سي” الأمريكية، وبفضل مراسلها في القطاع ايمن محيي الدين الأمريكي من أصل مصري، في فضح المجزرة الإسرائيلية التي وقعت على شاطئ غزة وراح ضحيتها أربعة أطفال من عائلة واحدة (بكر) كانوا يلعبون الكرة.
 
الصحافة الأوروبية المكتوبة ونسخها الإلكترونية تغيرت أيضا، وشاهدنا صحفا مثل اللوموند الفرنسية، و”الغارديان” و”الإندبندت” في بريطانيا تقدم صورة صادقة لوحشية العدوان الإسرائيلي وحجم المجازر التي ارتكبها من خلال مراسليها الذين صاغوا بأقلامهم قصصا واقعية مؤثرة في هذا الصدد، وفعلت مجلات وصحف ومحطات تلفزيونية الشيء نفسه في ألمانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية، ناهيك عن صحف وتلفزيونات أمريكا اللاتينية وشرق آسيا وروسيا والصين.
 
هيئة الإذاعة البريطانية BBC كانت من المحطات القليلة التي شذت عن القاعدة وانحازت إى العدوان الإسرائيلي تحت ذريعة الحيادية المزورة، وحملّت صواريخ المقاومة مسؤولية الحرب وما تفرع عنها من مجازر، خاصة في الأسبوعين الأولين من العدوان، الأمر الذي عّرضها لحملات انتقاد شرسة من قبل قطاع عريض من الرأي العام البريطاني، وقيام متظاهرين بريطانيين بالتظاهر أمام مقرها وسط لندن احتجاجا على هذا الانحياز، وطالب الكثيرون، وبينهم أسماء بريطانية أكاديمية وإعلامية وسياسية عريقة بعدم دفع رسوم التلفزيون السنوية التي تمول نفقات هذه الهيئة، وهي حملة بدأت تحظى بتأييد واسع.
 
هذا التغيير في أوساط الرأي العام، الذي دفع ناتان شارانسكي نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إلى القول أن اليهود سيخسرون أوروبا بسبب هذه الحرب، بدأ يتسارع بسبب وجود جيل من المهاجرين العرب والمسلمين والعالم الثالث يعمل بجهد علمي مكثف لمناصرة أشقائهم في غزة بطرق علمية حديثة، مدعوم بجيل أوروبي شبابي منفتح لم يعد يعاني من عقدة ذنب “الهولوكوست” تجاه اليهود، وبالتالي الإسرائيليين مثل آبائه وأجداده، وشاهدنا كيف تحدى هؤلاء الشبان حظر التظاهر في فرنسا والنزول إلى الشوارع بالآلاف للاحتجاج على المجازر الإسرائيلية في غزة، واجبروا الحكومة على تغيير موقفها المخجل المنحاز لهذه المجازر، والشيء نفسه يقال عن بريطانيا وأمريكا ودول غربية عديدة.
 
لا نريد أن نعطي انطباعا في هذه الصحيفة بأننا كسبنا الحرب الإعلامية كليا في الغرب، وأن التغيير كان جذريا، ولكننا أردنا أن نسلط الأضواء على هذا التغيير وأسبابه، مع تسليمنا أن الخطر الأكبر على قضايانا العادلة يتمثل في الإعلام الرسمي العربي الذي تحركه انظمه متواطئة مع العدوان الإسرائيلي على غزة، ففي الوقت الذي يتغير فيه الإعلام الغربي انتصارا للحقائق وليس الحق فقط، نرى إعلاما عربيا يزور الحقائق ويعتم عليها انتصارا للعدوان وشماتة بدماء وأرواح ضحاياه، وتوجيه اللوم إلى الضحية وليس إلى الجلاد، وما يطمئننا أن معظم هذا الإعلام سقط في امتحان النزاهة والموضوعية، قبل أن يسقط في امتحان قيم العدالة والأخلاق مثل حكوماته وقادته.
 
فعندما تتهافت قنوات فضائية عربية، وبطريقة مبالغ فيها، على استضافة متحدثين باسم الجيش الإسرائيلي الذي يقتل الأطفال بالمئات في قطاع غزة حاليا بحجة الموضوعية، وتقدم بعض مذيعاتها ومذيعيها بمقاطعهم أو الصراخ بحدة في وجههم، لتبرئة ذممهم فهذا لا يمكن أن يبرر، أو يقلل من الخطية الكبرى في هذا المضمار مع كل التقدير والاحترام للنوايا الوطنية الصادقة لكل المذيعين والمذيعات التي لا نشك مطلقا فيها.
 
***
بريطانيا التي تعتبر نفسها الرائدة في مجال الإعلام والديمقراطية، لم تستضف مطلقا ضيفا أرجنتينيا واحدا أثناء حرب الفولكلاند ليقدم وجهة نظر بلاده، وكنا شهداء على ذلك، فأي موضوعية ومهنية يدعيها بعض هذا الإعلام العربي باستضافته للمتحدثين باسم الحكومة الإسرائيلية وجيشها الذي يرتكب جرائم حرب ضد أهلنا وأطفالنا ويدمر بيوتهم فوق رؤوسهم في قطاع غزة الصامد، ويشرد مئات الآلاف منهم ويقصف مستشفياتهم.
 
طرح وجهة النظر الأخرى، ومن زاوية اعرف عدوك مفهومة شريطة أن يكون مفتاح التحكم في أيدينا، فهناك فرق كبير بين الاطلاع على كيفية مخاطبتهم لمستوطنيهم عبر وسائلهم الإعلامية والبحثية، ومخاطبتهم لمواطنينا عبر شاشاتنا مباشرة، فهؤلاء المتحدثون مبرمجون من قبل مؤسسات عسكرية وأمنية وأكاديمية لهذا الغرض وبما يخدم الطموحات الإسرائيلية في اختراق الرأي العام العربي، وبلبلة أفكاره والتشكيك في قيمه ومعتقداته، أو نسبة كبيرة منه، ويطبع عمليات التطبيع ويسرعها، وشاهدنا كيف أصبح لمارك ريغيف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي طابورا طويلا من المتابعين والمتابعات على وسائل التواصل الاجتماعي يدخلون معه في نقاشات حارة يصل بعضها إلى درجة الإعجاب، وربما ما هو اخطر من ذلك، ولا نستغرب أن يكون بعض هؤلاء قد تم إيقاعه في مصيدة التجنيد في خدمة المشروع الإسرائيلي.
 
نعم.. نحن لا نلوم المذيعات والمذيعين وكل العاملين في هذه المحطات، ولا نشكك مطلقا بمشاعرهم الوطنية الصادقة، ولكننا نلوم الحكومات التي تقف خلف محطات التلفزة هذه، وتضعهم جميعا في هذا الموقف المحرج بالتمسك بمثل هذه الممارسات الإعلامية التي ارتبطت بمرحلة التطبيع ووهم السلام ومعاهداته الكاذبة والخطرة في آن، عندما اعتقدت هذه الحكومات أن استضافة المتحدثين الإسرائيليين سيطمئن حكوماتهم والرأي العام الإسرائيلي على النوايا العربية الصادقة نحو السلام، وهو اعتقاد تأكد سذاجته وسطحيته وجهله بهذا العدو ومخططاته ومشاريعه المعادية للعرب والمسلمين.