قنديل أم هاشم
ومرت سبع سنوات، وعادت الباخرة.
من هذا الشاب الأنيق السمهري القامة، المرفوع الرأس، المتألق الوجه، الذي يهبط سلم الباخرة قفزا؟ هو والله إسماعيل بعينه. أستغفر الله. هو الدكتور إسماعيل، المتخصص في طب العيون، والذي شهدت له جامعات إنجلترا بالتفوق النادر، والبراعة الفذة. كان أستاذه يمزح معه ويقول له:
"أراهن أن روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصت فيك يا مستر إسماعيل. إن بلادك في حاجة إليك، فهي بلد العميان."
رأى فيه دراية كأنها ملهمة، وصفاء هو سليل نضج أجيال طويلة، ورشاقة أصابع هي وريثة الأيدي التي نحتت من الحجر الصلد دمى تكاد تحيى.
أقبل يا إسماعيل فإننا مشتاقون. لم نرك منذ سبع سنوات مرت كأنها دهور. كانت رسائلك المتوالية، ثم المتراخية، لا تنفع في إرواء غلتنا. أقبل إلينا قدوم العافية والغيث، وخذ مكانك في الأسرة فستراها كآلة وقفت، بل صدئت لأن محركها قد انتزع منها. آه كم بذلت هذه الأسرة لك! فهل تدري؟
لم ينم إسماعيل ليلة الوصول إلا غرارا. قفز إلى ظهر الباخرة مع الفجر يريد ألا يفوته أول ما يبدو من شاطئ الإسكندرية. لا يرى شيئا على الأفق، ولكن خياشيمه تتشمم في النسيم رائحة لم يألفها من قبل. أول من لقيه من وطنه مخلوقٌ الكونُ كلُه وطنه: طائر ابيض منفرد يحوم حول السفينة، طليق، متعال، نظيف، وحيد. لماذا تتعمد البواخر كل هذا التلكوء عند الوصول؟ وما كان أسرعها عند الفراق! إنها تتهادى بدلال العودة، فما لها وللركاب وما يشعرون.
كتم إسماعيل عن أهله موعد الباخرة حتى لا يكلف أباه مشقة السفر للإسكندرية. في عزمه أن يبرق لهم بموعد وصول قطاره للقاهرة. هذا هو الفنار المتمنطق، وهذا هو الشاطئ الأصفر يكاد يكون في مستوى الماء. أنت يا مصر راحة ممدودة إلى البحر لا تفخر إلا بانبساطها. ليس أمامك حواجز من شعاب خائنة، ولا على شاطئك جبال تصد. أنت دار كل ما فيها يوحي بالأمان.
ها هو أول قارب يظهر، فيه شيخ قد وخط الشيب لحيته، مقوس الظهر، أقعى كالقرد في مقدم قاربه يصطاد. جلبابه الأزرق، أو الذي كان أزرق، ممزق مرقع. وقعت نظرة إسماعيل على سيدة مصرية وقفت بجواره، فرآها مطلة على الصياد، مغرورقة عيونها بالدموع، وسمعها تتمتم:
"مصر. مصر."
كيف ينتبه لها الصياد وهو لم ينتبه للباخرة كلها. مثلها كثيرات داخلات خارجات تكاد تصدم قاربه، ولكن هيهات لها أن تصدم عالمه المقفل، عالم يجري على وتيرة واحدة متكررة يوما بعد يوم. هم إسماعيل بان ينادي هذا الشيخ ويلقي عليه السلام، أو يلوح له بمنديل. كيف تسقط المقاييس، وينهزم المنطق في مثل تلك اللحظات التي تتأجج فيها العواطف وتصفو القلوب!
ورن جرس إيذانا بموت الباخرة، فأصبحت جثتها فريسة لجيش من النمل البشري يهاجمها: جنود وضباط، وإخواننا المحتلون ولو أنهم أخلاط مطربشون، وحمالون وصيارفة وزورا. ثم اندلق الزحام والتدافع، وتعالت النداءات، وكثر العناق والتقبيل، وإسماعيل وسط التيار، غير مغمور، يلتقط بنهم كل ما يصل إليه، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة مطمئنة، له أذن فارزة واعية، ونظرة حية يقظة تريد أن ترى كل شيء، وتفهم كل شيء. إذا دققت النظر إليه وجدت تكورات وجهه قد زالت وشد شدقاه في أخدودين. كانت شفتاه مرتخيتين، قلما تنطبقان. أما الآن فقد ضمهما عزم ووثوق. يجتاز الجمرك. وفي العربة يستمع لوقع عجلاتها بين الأسفلت والبلاط، فيذكره تنافر النغم وتناوبه بيوم السفر.
-----
ومرت سبع سنوات، وعادت الباخرة.
من هذا الشاب الأنيق السمهري القامة، المرفوع الرأس، المتألق الوجه، الذي يهبط سلم الباخرة قفزا؟ هو والله إسماعيل بعينه. أستغفر الله. هو الدكتور إسماعيل، المتخصص في طب العيون، والذي شهدت له جامعات إنجلترا بالتفوق النادر، والبراعة الفذة. كان أستاذه يمزح معه ويقول له:
"أراهن أن روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصت فيك يا مستر إسماعيل. إن بلادك في حاجة إليك، فهي بلد العميان."
رأى فيه دراية كأنها ملهمة، وصفاء هو سليل نضج أجيال طويلة، ورشاقة أصابع هي وريثة الأيدي التي نحتت من الحجر الصلد دمى تكاد تحيى.
أقبل يا إسماعيل فإننا مشتاقون. لم نرك منذ سبع سنوات مرت كأنها دهور. كانت رسائلك المتوالية، ثم المتراخية، لا تنفع في إرواء غلتنا. أقبل إلينا قدوم العافية والغيث، وخذ مكانك في الأسرة فستراها كآلة وقفت، بل صدئت لأن محركها قد انتزع منها. آه كم بذلت هذه الأسرة لك! فهل تدري؟
لم ينم إسماعيل ليلة الوصول إلا غرارا. قفز إلى ظهر الباخرة مع الفجر يريد ألا يفوته أول ما يبدو من شاطئ الإسكندرية. لا يرى شيئا على الأفق، ولكن خياشيمه تتشمم في النسيم رائحة لم يألفها من قبل. أول من لقيه من وطنه مخلوقٌ الكونُ كلُه وطنه: طائر ابيض منفرد يحوم حول السفينة، طليق، متعال، نظيف، وحيد. لماذا تتعمد البواخر كل هذا التلكوء عند الوصول؟ وما كان أسرعها عند الفراق! إنها تتهادى بدلال العودة، فما لها وللركاب وما يشعرون.
كتم إسماعيل عن أهله موعد الباخرة حتى لا يكلف أباه مشقة السفر للإسكندرية. في عزمه أن يبرق لهم بموعد وصول قطاره للقاهرة. هذا هو الفنار المتمنطق، وهذا هو الشاطئ الأصفر يكاد يكون في مستوى الماء. أنت يا مصر راحة ممدودة إلى البحر لا تفخر إلا بانبساطها. ليس أمامك حواجز من شعاب خائنة، ولا على شاطئك جبال تصد. أنت دار كل ما فيها يوحي بالأمان.
ها هو أول قارب يظهر، فيه شيخ قد وخط الشيب لحيته، مقوس الظهر، أقعى كالقرد في مقدم قاربه يصطاد. جلبابه الأزرق، أو الذي كان أزرق، ممزق مرقع. وقعت نظرة إسماعيل على سيدة مصرية وقفت بجواره، فرآها مطلة على الصياد، مغرورقة عيونها بالدموع، وسمعها تتمتم:
"مصر. مصر."
كيف ينتبه لها الصياد وهو لم ينتبه للباخرة كلها. مثلها كثيرات داخلات خارجات تكاد تصدم قاربه، ولكن هيهات لها أن تصدم عالمه المقفل، عالم يجري على وتيرة واحدة متكررة يوما بعد يوم. هم إسماعيل بان ينادي هذا الشيخ ويلقي عليه السلام، أو يلوح له بمنديل. كيف تسقط المقاييس، وينهزم المنطق في مثل تلك اللحظات التي تتأجج فيها العواطف وتصفو القلوب!
ورن جرس إيذانا بموت الباخرة، فأصبحت جثتها فريسة لجيش من النمل البشري يهاجمها: جنود وضباط، وإخواننا المحتلون ولو أنهم أخلاط مطربشون، وحمالون وصيارفة وزورا. ثم اندلق الزحام والتدافع، وتعالت النداءات، وكثر العناق والتقبيل، وإسماعيل وسط التيار، غير مغمور، يلتقط بنهم كل ما يصل إليه، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة مطمئنة، له أذن فارزة واعية، ونظرة حية يقظة تريد أن ترى كل شيء، وتفهم كل شيء. إذا دققت النظر إليه وجدت تكورات وجهه قد زالت وشد شدقاه في أخدودين. كانت شفتاه مرتخيتين، قلما تنطبقان. أما الآن فقد ضمهما عزم ووثوق. يجتاز الجمرك. وفي العربة يستمع لوقع عجلاتها بين الأسفلت والبلاط، فيذكره تنافر النغم وتناوبه بيوم السفر.
-----