لشخص بين الضرورة والحرية.
الطرح الإشكالي:
إن الحديث عن الشخص هو حديث عن الذات أو الأنا، والشخص هو مجموع السمات المميزة للفرد الذي هو في الأصل كيان نفسي واجتماعي متشابه مع الآخرين، ومتميز عنهم في نفس الوقت، لكن هويته ليست معطى جاهزا، بل هي خلاصة تفاعل عدة عناصر فيها ما هو بيولوجي، وما هو نفسي، وما هو اجتماعي …، وهذا ما يجعلنا نطرح إشكال الشخص على شكل أسئلة فلسفية وهي:
* فيما تتمثل هوية الشخص؟
* أين تكمن قيمته؟
* هل الشخص حر في تصرفاته؟ أم يخضع لضرورات حتمية؟
المحور الأول: الشخص والهوية:
تعود الإرهاصات الأولى لإشكالية الهوية إلى الفلسفة اليونانية، فبالعودة إلى قولة سقراط "اعرف نفسك بنفسك" يتبين أن ما يميز الشخص هو قدرته على تكوين معرفة حول ذاته وتصرفاته وسلوكه رغم التغيرات المختلفة التي يمر بها في مسيرة حياته، فما الشخص؟ ومن أين يستمد هويته؟ هل يستمدها من بعده الفكري أم من بعده الحسي أم من بعده الروحي؟
يؤكد الفيلسوف العقلاني رونيه ديكارت على أن الفكر هو ما يمثل هوية الشخص، فالتفكير خاصية ملازمة للذات من خلال ممارسة جملة من العمليات الذهنية، مثل: الشك والنفي والإثبات ...، وهي عمليات لا تنفصل عنها بل إنها دليل على وجودها الوجود اليقيني الذي لا يطاله الشك، وهذا ما نجد له صدى في عبارة الكوجيطو الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود"، ومتى ما انقطعت الذات عن التفكير انقطعت عن الوجود، وعلى خلاف ديكارت يرى الفيلسوف التجريبي جون لوك أن التفكير وإن كان يجسد هوية الشخص، فإنه لا يخرج عن إطار الإحساس، فهو حصيلة احتكاك الذات بمحيطها الخارجي عن طريق الحواس (البصر، السمع، الذوق...)، وبفضل الذاكرة يمتد الشعور بالهوية الشخصية رغم اختلاف الأمكنة والأزمنة يقول جون لوك: "فالذات الموجودة الآن في الحاضر هي نفسها التي كانت في الماضي، وهذا الفعل الماضي قد أنجز من طرف الذات نفسها التي تقوم باستحضاره في الذهن".
إذا كانت نزعة ديكارت العقلانية قد أرجعت الهوية الشخصية إلى التفكير المجرد، وإذا كانت نزعة جون لوك التجريبية قد رأت في الفكر بما هو خبرات حسية والذاكرة ما يمثل هذه الهوية، فإن شخصانية إيمانويل مونيي ترفض اختزال الشخص في بعد واحد من أبعاد وجوده المتعددة، فهو واقع كلي وشمولي لا يقبل التجزيء أو التصنيف في إطار انتماء طبقي أو سياسي أو ثقافي ...، لأنه ليس موضوعا، إنه بنيان روحي داخلي لا يدركه إلا الشخص ذاته.
تأسيسا على ما سبق يتضح أن المواقف الفلسفية تروم تحديد هوية الشخص بالنظر إليه كذات مفكرة، غير أنها تختلف في منظورها لطبيعة هذا الفكر، فقد حصره ديكارت في الفكر المجرد، بينما ربطه جون لوك بالتجربة الحسية والذاكرة، في حين اعتبرته شخصانية مونيي روحا داخلية، وإذا كان من الصعب الإجماع حول معيار محدد للهوية الشخصية، فإن ذلك يعود إلى الطبيعة المركبة للشخص، إذ لا يمكن الاقتصار على نعته بالذات المفكرة فحسب، بل إنه كائن حقوقي وأخلاقي أيضا.
المحور الثاني: الشخص بوصفه قيمة:
خلصنا من خلال النقاش السابق إلى أن هوية الشخص تقوم على استحضار مرجعيات متعددة ومتداخلة لتحديد أسسها وفهمها، لكن يبقى القاسم المشترك بين الفلاسفة هو أن الشخص ذات مفكرة، عاقلة، واعية، قوامها الأنا كيفما كانت طبيعة وأسس بنائه وتكوينه (التفكير، العقل، الشعور، الذاكرة ...)، إلا أن قيمته تقترن بأبعاده الأخلاقية والحقوقية، فما الذي يؤسس البعد القيمي الأخلاقي للشخص؟ وبمعنى آخر، من أين يستمد الشخص قيمته؟ هل من كونه كائنا عاقلا أم من كونه كائنا أخلاقيا يسلك وفق قيم محددة؟
في سياق عرض نظريته للعدالة كإنصاف، يرى جون راولز أن قيمة الشخص تتأسس على كفاءاته العقلية والأخلاقية، والمشاركة في الحياة الاجتماعية والتعاون مع الآخرين أفرادا كانوا أو جماعات وهيأت، من منطلق أن المجتمع نظام للتعاون المنصف، فلا يمكن الحديث عن قيمة الشخص إلا إذا تبين بأنه كائن مفكر وكائن أخلاقي يروم العدل والخير والالتزام والمسؤولية، وفي ذات السياق يذهب إيمانويل كانط إلى أن الشخص لا يكتسي قيمته من عقله المجرد، بل من التصرف وفق ما يمليه عليه عقله الأخلاقي العملي، وٌيلزم احترامه ومعاملته كغاية في ذاته لا مجرد وسيلة، عملا بالمبدأ الأخلاقي الأسمى ومفاده: "تصرف على نحو تعامل معه الإنسانية في شخصك، كما في شخص غيرك دائما وأبدا، كغاية وليس مجرد وسيلة"، أي تصرف مع الآخرين كما تتصرف مع ذاتك، وهذا ما يمنح الشخص قيمة مطلقة ويكسبه احتراما لذاته ويلزم الآخرين باحترامه، بأن يحافظ على كرامته، وأن يعتبر الآخر غاية لا مجرد وسيلة، يسري عليه قانون العرض والطلب، أما التصور الهيجلي فينطلق من النظر إلى الشخص كقيمة أخلاقية بالأساس لا يمكنها أن تتحقق إلا بانخراطه داخل حياة المجموع، وتتجلى قيمة الأشخاص في امتثالهم لروح شعوبهم وتجسيدهم لهذه الروح، وهذا يقتضي من الشخص العمل على تحقيق بعده الأخلاقي وامتثاله للواجب ووعيه بالسلوك الخير الممثل للقانون، والآخر المنافي له.
ومجمل القول أن الخطاب الفلسفي ينظر إلى الشخص بما هو ذات عاقلة ومسؤولة، تستوجب الاحترام والمعاملة بوصفها غاية لا مجرد وسيلة، كما أن قيمته لا تتحدد في مجال الوجود الفردي بل في انفتاحه على الآخرين في إطار أشكال من التضامن الإنساني القائم على التعاون والالتزام بالمبادئ الأخلاقية
الطرح الإشكالي:
إن الحديث عن الشخص هو حديث عن الذات أو الأنا، والشخص هو مجموع السمات المميزة للفرد الذي هو في الأصل كيان نفسي واجتماعي متشابه مع الآخرين، ومتميز عنهم في نفس الوقت، لكن هويته ليست معطى جاهزا، بل هي خلاصة تفاعل عدة عناصر فيها ما هو بيولوجي، وما هو نفسي، وما هو اجتماعي …، وهذا ما يجعلنا نطرح إشكال الشخص على شكل أسئلة فلسفية وهي:
* فيما تتمثل هوية الشخص؟
* أين تكمن قيمته؟
* هل الشخص حر في تصرفاته؟ أم يخضع لضرورات حتمية؟
المحور الأول: الشخص والهوية:
تعود الإرهاصات الأولى لإشكالية الهوية إلى الفلسفة اليونانية، فبالعودة إلى قولة سقراط "اعرف نفسك بنفسك" يتبين أن ما يميز الشخص هو قدرته على تكوين معرفة حول ذاته وتصرفاته وسلوكه رغم التغيرات المختلفة التي يمر بها في مسيرة حياته، فما الشخص؟ ومن أين يستمد هويته؟ هل يستمدها من بعده الفكري أم من بعده الحسي أم من بعده الروحي؟
يؤكد الفيلسوف العقلاني رونيه ديكارت على أن الفكر هو ما يمثل هوية الشخص، فالتفكير خاصية ملازمة للذات من خلال ممارسة جملة من العمليات الذهنية، مثل: الشك والنفي والإثبات ...، وهي عمليات لا تنفصل عنها بل إنها دليل على وجودها الوجود اليقيني الذي لا يطاله الشك، وهذا ما نجد له صدى في عبارة الكوجيطو الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود"، ومتى ما انقطعت الذات عن التفكير انقطعت عن الوجود، وعلى خلاف ديكارت يرى الفيلسوف التجريبي جون لوك أن التفكير وإن كان يجسد هوية الشخص، فإنه لا يخرج عن إطار الإحساس، فهو حصيلة احتكاك الذات بمحيطها الخارجي عن طريق الحواس (البصر، السمع، الذوق...)، وبفضل الذاكرة يمتد الشعور بالهوية الشخصية رغم اختلاف الأمكنة والأزمنة يقول جون لوك: "فالذات الموجودة الآن في الحاضر هي نفسها التي كانت في الماضي، وهذا الفعل الماضي قد أنجز من طرف الذات نفسها التي تقوم باستحضاره في الذهن".
إذا كانت نزعة ديكارت العقلانية قد أرجعت الهوية الشخصية إلى التفكير المجرد، وإذا كانت نزعة جون لوك التجريبية قد رأت في الفكر بما هو خبرات حسية والذاكرة ما يمثل هذه الهوية، فإن شخصانية إيمانويل مونيي ترفض اختزال الشخص في بعد واحد من أبعاد وجوده المتعددة، فهو واقع كلي وشمولي لا يقبل التجزيء أو التصنيف في إطار انتماء طبقي أو سياسي أو ثقافي ...، لأنه ليس موضوعا، إنه بنيان روحي داخلي لا يدركه إلا الشخص ذاته.
تأسيسا على ما سبق يتضح أن المواقف الفلسفية تروم تحديد هوية الشخص بالنظر إليه كذات مفكرة، غير أنها تختلف في منظورها لطبيعة هذا الفكر، فقد حصره ديكارت في الفكر المجرد، بينما ربطه جون لوك بالتجربة الحسية والذاكرة، في حين اعتبرته شخصانية مونيي روحا داخلية، وإذا كان من الصعب الإجماع حول معيار محدد للهوية الشخصية، فإن ذلك يعود إلى الطبيعة المركبة للشخص، إذ لا يمكن الاقتصار على نعته بالذات المفكرة فحسب، بل إنه كائن حقوقي وأخلاقي أيضا.
المحور الثاني: الشخص بوصفه قيمة:
خلصنا من خلال النقاش السابق إلى أن هوية الشخص تقوم على استحضار مرجعيات متعددة ومتداخلة لتحديد أسسها وفهمها، لكن يبقى القاسم المشترك بين الفلاسفة هو أن الشخص ذات مفكرة، عاقلة، واعية، قوامها الأنا كيفما كانت طبيعة وأسس بنائه وتكوينه (التفكير، العقل، الشعور، الذاكرة ...)، إلا أن قيمته تقترن بأبعاده الأخلاقية والحقوقية، فما الذي يؤسس البعد القيمي الأخلاقي للشخص؟ وبمعنى آخر، من أين يستمد الشخص قيمته؟ هل من كونه كائنا عاقلا أم من كونه كائنا أخلاقيا يسلك وفق قيم محددة؟
في سياق عرض نظريته للعدالة كإنصاف، يرى جون راولز أن قيمة الشخص تتأسس على كفاءاته العقلية والأخلاقية، والمشاركة في الحياة الاجتماعية والتعاون مع الآخرين أفرادا كانوا أو جماعات وهيأت، من منطلق أن المجتمع نظام للتعاون المنصف، فلا يمكن الحديث عن قيمة الشخص إلا إذا تبين بأنه كائن مفكر وكائن أخلاقي يروم العدل والخير والالتزام والمسؤولية، وفي ذات السياق يذهب إيمانويل كانط إلى أن الشخص لا يكتسي قيمته من عقله المجرد، بل من التصرف وفق ما يمليه عليه عقله الأخلاقي العملي، وٌيلزم احترامه ومعاملته كغاية في ذاته لا مجرد وسيلة، عملا بالمبدأ الأخلاقي الأسمى ومفاده: "تصرف على نحو تعامل معه الإنسانية في شخصك، كما في شخص غيرك دائما وأبدا، كغاية وليس مجرد وسيلة"، أي تصرف مع الآخرين كما تتصرف مع ذاتك، وهذا ما يمنح الشخص قيمة مطلقة ويكسبه احتراما لذاته ويلزم الآخرين باحترامه، بأن يحافظ على كرامته، وأن يعتبر الآخر غاية لا مجرد وسيلة، يسري عليه قانون العرض والطلب، أما التصور الهيجلي فينطلق من النظر إلى الشخص كقيمة أخلاقية بالأساس لا يمكنها أن تتحقق إلا بانخراطه داخل حياة المجموع، وتتجلى قيمة الأشخاص في امتثالهم لروح شعوبهم وتجسيدهم لهذه الروح، وهذا يقتضي من الشخص العمل على تحقيق بعده الأخلاقي وامتثاله للواجب ووعيه بالسلوك الخير الممثل للقانون، والآخر المنافي له.
ومجمل القول أن الخطاب الفلسفي ينظر إلى الشخص بما هو ذات عاقلة ومسؤولة، تستوجب الاحترام والمعاملة بوصفها غاية لا مجرد وسيلة، كما أن قيمته لا تتحدد في مجال الوجود الفردي بل في انفتاحه على الآخرين في إطار أشكال من التضامن الإنساني القائم على التعاون والالتزام بالمبادئ الأخلاقية