( ثبوت الرؤية )
ثبت شهر الصوم الشريف بالرؤية الشرعية ، وأصبح أهل القطر في يوم الثلاثاء الماضي صائمين ، فنهنئ قرَّاء جريدتنا الكرام وسائر المسلمين بهذا الموسم المبارك ، ونسأل الله تعالى أن يوفقهم لإكمال العدة بخير وعافية ونِعم ضافية .
*** ( من جاوا ) في 24 رجب الأصب سنة 1317 أحببت أن أبين لكم السياسة الهولاندية في مستعمراتها الشرقية - جزيرة جاوا ونواحيها - ومعاملتها للأهالي والنزلاء مثل العرب والصينيين والهنود والأوروبيين , فأما الأهالي فقد جعلت الحكومة أمرهم إلى كل من ترفعه منهم وتجعله رئيسًا عليهم من شيخ المحلة إلى ( تمنثوم ) وكل واحد منهم يخضع لمن هو أعلى منه درجة ويهابه ويحترمه أكثر من الحاكم الهولاندي ، فبهذه السياسة استراح رجال الحكومة الهولانديون لأن الجاويين كفوهم المؤنة في الحراسة وجباية الأموال وتدبير داخلية البلاد ، وطلاب الآبق والهارب والسارق وغير ذلك ، فمنهم الكناسون والرشاشون والمحافظون على الخزائن وحراس المخافر ليلاً ونهارًا ، ومع هذا كله ليس لهم تنفيذ أمر ما ، بل هم بمثابة خدّام للهولانديين فقط ، كل منهم باذل جهده بحسب طاقته فيما يفتخر به عند الهولانديين ، بل يخاصم الابن أباه من أجلهم ، والحاصل أنهم - أي الجاويين - أراحوا الهولانديين من الأشغال المهمة الداخلية ، يسعون فيها بكل نشاط وإخلاص ، وهم على جانب عظيم من الجهل بأمور دينهم ، وليس لهم مدارس ولا معلمون مهرة يبصرونهم بأمور دينهم ودنياهم ، والحكومة الهولاندية لهم بالمرصاد تصدهم عن التعليم والتعلم ؛ لأنها ترى مصلحتها في بقاء القوم على جهلهم ، فكم من عالم صدوه وآذوه ، ومتى علمت الحكومة بورود عالم راقبته في حركاته وسكناته ولا تأذن له بالسفر إلى البلدان والقرى في داخلية البلاد ، وإنما تلزمه بالإقامة في حواضر البحر فقط ، هذا حال الأهالي مع الهولانديين في جاوا ونواحيها ، وأما النزلاء فأكتفي بما أشاهده في العرب فإن الحكومة الهولاندية تجعل للعرب في كل بلدة محلاًّ مخصوصًا لا يتجاوزونه إلى سواه ، وتجعل عليهم رئيسًا منهم ، ورتبته تكون على حسب كثرة العرب وقلتهم , ففي المدائن الكبيرة مثل بتاويا وسورابايا رتبة ( كابتن ) وفي البلدان الصغيرة ( ليفتننت ) إلى شيخ المحلة ( ويكمستر ) وعند تولية كل منهم يحلف في الديوان أنه لا يخون الحكومة ، ولا يظلم أبناء جنسه ، وبهذه اليمين يصير مصدقًا لدى الحكومة في كل ما يقوله ، ولا تسمع فيه طعن الطاعنين ، ولا شكاية الشاكين ما لم تكن للحكومة ، فبهذه الحرية يفعلون بأبناء جلدتهم ما يشاءون من العسف والجور والظلم والحيل على أخذ أموالهم إذ لا تثبت عليهم حجة عند الحكومة ، وقد جرى عندنا في بتاوي في هذه الأيام منع التذاكر السنوية ( باسابورت ) التي تجعل في ورق مالية قيمة الورقة روبية ونصف ( زيغل ) وكان فيها بعض تسهيل على المسافر ، ولكن زعيم العرب هنا لم يربح منها ، فأبطلها حيلة منه على جذب الأموال لمنافعه الخصوصية , مما يضر بأبناء جنسه ويفعم كيسه , بأن التمس من الحاكم إبطال هذه التذاكر ، فأجابه حاكم بتاويا إلى مطلوبه بدون تأخير ، وأوهم هو قومه أنه لم يتداخل في هذه المسألة ، وإنما الحكومة أبطلت تلك التذاكر من تلقاء نفسها ولا تخفى مكيدته هذه إلا على غبي ، فإنه لو كان إبطالها من الحكومة لكان تساوى فيه العربي والصيني ، وإننا نرى الصيني متمتعًا بهذه التذكرة لم يمنعه مانع العربي منها ، وبهذا اتضح أن زعيم العرب في بتاويا لم يسعَ في إبطال هذه التذاكر إلا ليجذب بها الدراهم ، فمن أعطاه مراده أسعفه بالتذكرة ، والحكومة تغض نظرها عنه في هذه الأمور ؛ لأنه يخدمها بغير أجر إلا ما يختلسه من أبناء جنسه بأنواع الحيل التي تقوده إليها المطامع الأشعبية ، وظهرت منه أشياء كثيرة تدل على طمعه وامتهانه لقومه وجلب الأذى لهم ، ومثله زعيم العرب في سورابايا ، فحدّث عنه ولا حرج ، فإنه يفعل أضعاف ما يفعله صاحب بتاويا ، وزاد عليه بالكبر والتحقير لهم ، وأخذ أموالهم بالغدر والمكر والحيل , مما لو شرحته لاحتجت إلى كراريس ، وقس عليهما ما سواهما في الأماكن الأخرى إلا النادر ، مع أن أولئك الزعماء لو ساروا على النهج القويم وأعطوا كل ذي حق حقه كما هو المطلوب منهم لصار لهم القبول التام عند الخاص والعام ، ولكنهم عكسوا القضية ، وكانوا مع الزمان على إخوانهم ، ومَن نصحهم أو وعظهم أو خالفهم في سيرتهم سَعوا في تنكليه وسجنه بلا سبب ليرهبوا غيره ، وليس لهم عناية بأمر إخوانهم ، بل كل ما تفعله الحكومة بأبناء جنسهم هو بمساعدتهم ووساطتهم ، ومن حيلهم تقربهم إلى الحكومة ببذل كل ما في وسعهم ، فمتى نابتها نائبة قاموا فيها بجد واجتهاد كما وقع في هذه الأيام من جمع إعانة للمنكوبين بالزلازل في الجزر الشرقية التابعة للهولانديين ، فإن زعيم العرب قام بجمع أصحابه في كل حين وكلفهم جمع إعانة منهم لهذه النائبة ، والعرب يرتاحون لفعل الخيرات كهذه الإعانة ، ولكنهم يتأسفون لمنعهم من مطالبهم وعدم مساعدة هذا الزعيم لهم في أمورهم ، وهو يرى أشياء مضرة بهم ، ولو نصح لأزالها ، ولكنه لا يراعي إلا صوالحه الذاتية ، ولا يهمه أمرهم ، وفي ظنه أنه لو سعى في صلاح لأبناء جنسه - في فك معضلة أو شفاعة حسنة أو جلب نفع مما لايضر الحكومة يسقط - اعتباره عند الحكومة ، أو تظن به السوء ، وظنه هذا خطأ محض ، فإنه لو عدل وقام بالواجب الذي كلف اليمين من أجله لشكره الخاص والعلم ولا يصله عتاب من الحكام ، ولكن الذي قاده إلى مقاصده الخسيسة الطمع أبو المهالك .
فهذه حالة العرب في جاوا ونواحيها ، وكل ما يجري علينا معاشر العرب بهذا الطرف هو لعدم جمع الكلمة وسكوتنا وعدم مساعدة بعضنا بعضًا ، فلو اجتمع رأينا وقدّمنا عريضة للحاكم العمومي وأخبرناه بما نقاسيه من رؤسائنا بمساعدة رجال الحكومة لهم وصرنا يداً واحدة لوقع لكلامنا تأثير ، ولكنا صرنا مهملين ، كل منا يسعى في حاجته الخصوصية لا يبالي بغيره من إخوانه وأبناء جنسه ، ومثل هذا الزعيم لا يُرجى نفعه لأصحابه ، ومثله حضرة السيد عثمان بن عقيل الذي حصل منه الإيذاء لأبناء جنسه ، وسعى في سجن 3 من السادة في العام الماضي ، وفي الشهر الماضي استدعى أعيان العرب في بتاويا إلى منزله ، فلما اجتمعوا لديه التمس منهم موافقته على غرض له خفي يجحف بمصالحهم ، فلم يوافقوه عليه ؛ فأخذ يسبهم ويشتمهم ورماهم بالعظائم مما نتحاشا أن نذكره في هذه السطور ، فخرجوا من بيته قارئين : [ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَناَ ]( آل عمران : 8 ) الآية .
وأما الأوربيون فهم متمعون بالحرية لا يعاملون بالقانون المعوج الذى تعاملنا به حكومة هولاندا , بل هم مطلقو العنان في كل تصرفاتهم ، وهاك ما فعله حاكم مدينة باندونغ عاصمة ولاية فرياغن في 15 نوفمبر سنة 1899م : مرّ هذا الحاكم في عربته فرأى اثنين من العرب واقفين على قارعة الطريق ، فأوقف عربته وسبهما لكونهما لم يحترماه كغيرهما , وساقهما للمحاكمة وألزمهما غرامة خمسين ربية على كل واحد منهما ، ثم إنه أمر أعوانه وشرطته بالتفتيش على العرب في بيوتهم , فألقي القبض على ثمانية نفر قادهم من محل الحريم ، ولم يكتف بذلك بل أخذ نساءهم وأطفالهم وساقهم إلى المحكمة ، فأما الرجال فغَرّمهم خمسين روبية أو سجن 15 يومًا ، ثم طردهم بعد إمضاء الحكم عليهم بما ذكر ، وأما النساء فردهن إلى مساكنهن بعد ما وبخهن وأكد عليهن أن يخبرن البوليس إذا عاد أزواجهن إلى باندونغ مرة أخرى ، ومن أخفت زوجها تساق للمحاكمة ، بل تصير مجرمة إذا لم تخبر شيخ الحارة ، فهكذا يفعل حكام هولاندا بالعرب ، لا يراعون قانونًا ولا إنسانية ، بل يحكمون بما تهوى أنفسهم مع أن قانون البلاد هنا ساوى بين العربي والصيني في مواده ، ولكنهم تركوا العمل به بالنسبة للعربي فقط ، وأما الذي على العربي فإنه مطالب به يحاسبونه على النقير ، فمن هنا تعلم أن الهولانديين متعصبون على العرب ويسيئون بهم الظنون ، ومن أدلة هذا أن بعض العرب قدّم عريضة لحاكم باندونغ طلب منه العمل بمقتضى القانون الذي أباح للصينيين والهنود والعرب الدخول إلى باندونغ ولم يميز بين أحد منهم , فردّ حاكمُ باندونغ تلك العريضة إلى بتاويا ، ثم إن حاكم بتاويا دعا ذلك العربي وسأله : أأنت الذي قدّمت عريضة لحاكم باندونغ طلبت منه المساواة بالصينيين وغيرهم ؟ فأجابه بنعم ، فقال له : إذا كنت تريد ذلك فأبدل لباسك وزيك ، واجعل بدل العمامة قلنسوة كالجاويين والتزم خدمة للحكومة يومًا في الأسبوع ، فأجابه العربي : إني أريد العمل بما تضمنته المادة التي تساوي بين العرب والصينيين والهنود من القانون الذي تقرر به العمل في سائر المستعمرات الهولاندية ، فما الفرق بين العربي والصيني والقانون مصرح بالمساواة؟ فعند ذلك غضب الهولاندي وقال للعربي : لا تخض في هذه المسألة فإنها سريِّة وأعاد عليه القول في تبديل اللباس والشكل كما تقدم وطال بينهما الكلام ، وقال للعربي : اخرج الآن وعد إليّ في اليوم الفلاني للبحث في هذه المسألة مرة أخرى ، وسأخبركم بما يكون .
ثبت شهر الصوم الشريف بالرؤية الشرعية ، وأصبح أهل القطر في يوم الثلاثاء الماضي صائمين ، فنهنئ قرَّاء جريدتنا الكرام وسائر المسلمين بهذا الموسم المبارك ، ونسأل الله تعالى أن يوفقهم لإكمال العدة بخير وعافية ونِعم ضافية .
*** ( من جاوا ) في 24 رجب الأصب سنة 1317 أحببت أن أبين لكم السياسة الهولاندية في مستعمراتها الشرقية - جزيرة جاوا ونواحيها - ومعاملتها للأهالي والنزلاء مثل العرب والصينيين والهنود والأوروبيين , فأما الأهالي فقد جعلت الحكومة أمرهم إلى كل من ترفعه منهم وتجعله رئيسًا عليهم من شيخ المحلة إلى ( تمنثوم ) وكل واحد منهم يخضع لمن هو أعلى منه درجة ويهابه ويحترمه أكثر من الحاكم الهولاندي ، فبهذه السياسة استراح رجال الحكومة الهولانديون لأن الجاويين كفوهم المؤنة في الحراسة وجباية الأموال وتدبير داخلية البلاد ، وطلاب الآبق والهارب والسارق وغير ذلك ، فمنهم الكناسون والرشاشون والمحافظون على الخزائن وحراس المخافر ليلاً ونهارًا ، ومع هذا كله ليس لهم تنفيذ أمر ما ، بل هم بمثابة خدّام للهولانديين فقط ، كل منهم باذل جهده بحسب طاقته فيما يفتخر به عند الهولانديين ، بل يخاصم الابن أباه من أجلهم ، والحاصل أنهم - أي الجاويين - أراحوا الهولانديين من الأشغال المهمة الداخلية ، يسعون فيها بكل نشاط وإخلاص ، وهم على جانب عظيم من الجهل بأمور دينهم ، وليس لهم مدارس ولا معلمون مهرة يبصرونهم بأمور دينهم ودنياهم ، والحكومة الهولاندية لهم بالمرصاد تصدهم عن التعليم والتعلم ؛ لأنها ترى مصلحتها في بقاء القوم على جهلهم ، فكم من عالم صدوه وآذوه ، ومتى علمت الحكومة بورود عالم راقبته في حركاته وسكناته ولا تأذن له بالسفر إلى البلدان والقرى في داخلية البلاد ، وإنما تلزمه بالإقامة في حواضر البحر فقط ، هذا حال الأهالي مع الهولانديين في جاوا ونواحيها ، وأما النزلاء فأكتفي بما أشاهده في العرب فإن الحكومة الهولاندية تجعل للعرب في كل بلدة محلاًّ مخصوصًا لا يتجاوزونه إلى سواه ، وتجعل عليهم رئيسًا منهم ، ورتبته تكون على حسب كثرة العرب وقلتهم , ففي المدائن الكبيرة مثل بتاويا وسورابايا رتبة ( كابتن ) وفي البلدان الصغيرة ( ليفتننت ) إلى شيخ المحلة ( ويكمستر ) وعند تولية كل منهم يحلف في الديوان أنه لا يخون الحكومة ، ولا يظلم أبناء جنسه ، وبهذه اليمين يصير مصدقًا لدى الحكومة في كل ما يقوله ، ولا تسمع فيه طعن الطاعنين ، ولا شكاية الشاكين ما لم تكن للحكومة ، فبهذه الحرية يفعلون بأبناء جلدتهم ما يشاءون من العسف والجور والظلم والحيل على أخذ أموالهم إذ لا تثبت عليهم حجة عند الحكومة ، وقد جرى عندنا في بتاوي في هذه الأيام منع التذاكر السنوية ( باسابورت ) التي تجعل في ورق مالية قيمة الورقة روبية ونصف ( زيغل ) وكان فيها بعض تسهيل على المسافر ، ولكن زعيم العرب هنا لم يربح منها ، فأبطلها حيلة منه على جذب الأموال لمنافعه الخصوصية , مما يضر بأبناء جنسه ويفعم كيسه , بأن التمس من الحاكم إبطال هذه التذاكر ، فأجابه حاكم بتاويا إلى مطلوبه بدون تأخير ، وأوهم هو قومه أنه لم يتداخل في هذه المسألة ، وإنما الحكومة أبطلت تلك التذاكر من تلقاء نفسها ولا تخفى مكيدته هذه إلا على غبي ، فإنه لو كان إبطالها من الحكومة لكان تساوى فيه العربي والصيني ، وإننا نرى الصيني متمتعًا بهذه التذكرة لم يمنعه مانع العربي منها ، وبهذا اتضح أن زعيم العرب في بتاويا لم يسعَ في إبطال هذه التذاكر إلا ليجذب بها الدراهم ، فمن أعطاه مراده أسعفه بالتذكرة ، والحكومة تغض نظرها عنه في هذه الأمور ؛ لأنه يخدمها بغير أجر إلا ما يختلسه من أبناء جنسه بأنواع الحيل التي تقوده إليها المطامع الأشعبية ، وظهرت منه أشياء كثيرة تدل على طمعه وامتهانه لقومه وجلب الأذى لهم ، ومثله زعيم العرب في سورابايا ، فحدّث عنه ولا حرج ، فإنه يفعل أضعاف ما يفعله صاحب بتاويا ، وزاد عليه بالكبر والتحقير لهم ، وأخذ أموالهم بالغدر والمكر والحيل , مما لو شرحته لاحتجت إلى كراريس ، وقس عليهما ما سواهما في الأماكن الأخرى إلا النادر ، مع أن أولئك الزعماء لو ساروا على النهج القويم وأعطوا كل ذي حق حقه كما هو المطلوب منهم لصار لهم القبول التام عند الخاص والعام ، ولكنهم عكسوا القضية ، وكانوا مع الزمان على إخوانهم ، ومَن نصحهم أو وعظهم أو خالفهم في سيرتهم سَعوا في تنكليه وسجنه بلا سبب ليرهبوا غيره ، وليس لهم عناية بأمر إخوانهم ، بل كل ما تفعله الحكومة بأبناء جنسهم هو بمساعدتهم ووساطتهم ، ومن حيلهم تقربهم إلى الحكومة ببذل كل ما في وسعهم ، فمتى نابتها نائبة قاموا فيها بجد واجتهاد كما وقع في هذه الأيام من جمع إعانة للمنكوبين بالزلازل في الجزر الشرقية التابعة للهولانديين ، فإن زعيم العرب قام بجمع أصحابه في كل حين وكلفهم جمع إعانة منهم لهذه النائبة ، والعرب يرتاحون لفعل الخيرات كهذه الإعانة ، ولكنهم يتأسفون لمنعهم من مطالبهم وعدم مساعدة هذا الزعيم لهم في أمورهم ، وهو يرى أشياء مضرة بهم ، ولو نصح لأزالها ، ولكنه لا يراعي إلا صوالحه الذاتية ، ولا يهمه أمرهم ، وفي ظنه أنه لو سعى في صلاح لأبناء جنسه - في فك معضلة أو شفاعة حسنة أو جلب نفع مما لايضر الحكومة يسقط - اعتباره عند الحكومة ، أو تظن به السوء ، وظنه هذا خطأ محض ، فإنه لو عدل وقام بالواجب الذي كلف اليمين من أجله لشكره الخاص والعلم ولا يصله عتاب من الحكام ، ولكن الذي قاده إلى مقاصده الخسيسة الطمع أبو المهالك .
فهذه حالة العرب في جاوا ونواحيها ، وكل ما يجري علينا معاشر العرب بهذا الطرف هو لعدم جمع الكلمة وسكوتنا وعدم مساعدة بعضنا بعضًا ، فلو اجتمع رأينا وقدّمنا عريضة للحاكم العمومي وأخبرناه بما نقاسيه من رؤسائنا بمساعدة رجال الحكومة لهم وصرنا يداً واحدة لوقع لكلامنا تأثير ، ولكنا صرنا مهملين ، كل منا يسعى في حاجته الخصوصية لا يبالي بغيره من إخوانه وأبناء جنسه ، ومثل هذا الزعيم لا يُرجى نفعه لأصحابه ، ومثله حضرة السيد عثمان بن عقيل الذي حصل منه الإيذاء لأبناء جنسه ، وسعى في سجن 3 من السادة في العام الماضي ، وفي الشهر الماضي استدعى أعيان العرب في بتاويا إلى منزله ، فلما اجتمعوا لديه التمس منهم موافقته على غرض له خفي يجحف بمصالحهم ، فلم يوافقوه عليه ؛ فأخذ يسبهم ويشتمهم ورماهم بالعظائم مما نتحاشا أن نذكره في هذه السطور ، فخرجوا من بيته قارئين : [ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَناَ ]( آل عمران : 8 ) الآية .
وأما الأوربيون فهم متمعون بالحرية لا يعاملون بالقانون المعوج الذى تعاملنا به حكومة هولاندا , بل هم مطلقو العنان في كل تصرفاتهم ، وهاك ما فعله حاكم مدينة باندونغ عاصمة ولاية فرياغن في 15 نوفمبر سنة 1899م : مرّ هذا الحاكم في عربته فرأى اثنين من العرب واقفين على قارعة الطريق ، فأوقف عربته وسبهما لكونهما لم يحترماه كغيرهما , وساقهما للمحاكمة وألزمهما غرامة خمسين ربية على كل واحد منهما ، ثم إنه أمر أعوانه وشرطته بالتفتيش على العرب في بيوتهم , فألقي القبض على ثمانية نفر قادهم من محل الحريم ، ولم يكتف بذلك بل أخذ نساءهم وأطفالهم وساقهم إلى المحكمة ، فأما الرجال فغَرّمهم خمسين روبية أو سجن 15 يومًا ، ثم طردهم بعد إمضاء الحكم عليهم بما ذكر ، وأما النساء فردهن إلى مساكنهن بعد ما وبخهن وأكد عليهن أن يخبرن البوليس إذا عاد أزواجهن إلى باندونغ مرة أخرى ، ومن أخفت زوجها تساق للمحاكمة ، بل تصير مجرمة إذا لم تخبر شيخ الحارة ، فهكذا يفعل حكام هولاندا بالعرب ، لا يراعون قانونًا ولا إنسانية ، بل يحكمون بما تهوى أنفسهم مع أن قانون البلاد هنا ساوى بين العربي والصيني في مواده ، ولكنهم تركوا العمل به بالنسبة للعربي فقط ، وأما الذي على العربي فإنه مطالب به يحاسبونه على النقير ، فمن هنا تعلم أن الهولانديين متعصبون على العرب ويسيئون بهم الظنون ، ومن أدلة هذا أن بعض العرب قدّم عريضة لحاكم باندونغ طلب منه العمل بمقتضى القانون الذي أباح للصينيين والهنود والعرب الدخول إلى باندونغ ولم يميز بين أحد منهم , فردّ حاكمُ باندونغ تلك العريضة إلى بتاويا ، ثم إن حاكم بتاويا دعا ذلك العربي وسأله : أأنت الذي قدّمت عريضة لحاكم باندونغ طلبت منه المساواة بالصينيين وغيرهم ؟ فأجابه بنعم ، فقال له : إذا كنت تريد ذلك فأبدل لباسك وزيك ، واجعل بدل العمامة قلنسوة كالجاويين والتزم خدمة للحكومة يومًا في الأسبوع ، فأجابه العربي : إني أريد العمل بما تضمنته المادة التي تساوي بين العرب والصينيين والهنود من القانون الذي تقرر به العمل في سائر المستعمرات الهولاندية ، فما الفرق بين العربي والصيني والقانون مصرح بالمساواة؟ فعند ذلك غضب الهولاندي وقال للعربي : لا تخض في هذه المسألة فإنها سريِّة وأعاد عليه القول في تبديل اللباس والشكل كما تقدم وطال بينهما الكلام ، وقال للعربي : اخرج الآن وعد إليّ في اليوم الفلاني للبحث في هذه المسألة مرة أخرى ، وسأخبركم بما يكون .