أوراق أدبية: القصيدة الرديئة ... كيف نتعرّف عليها؟
تتميز القصيدة الرديئة أول ما تتميز بخاصية الجمود والإشارية، وأنا أطلق هذين المصطلحين على قصيدة الشعر التقليدية التي تقوم على صور محدودة الأبعاد، ثابتة الدلالة.
إن كثيراً من صور القصائد الإحيائية التي كتبها محمود سامي البارودي أو أحمد شوقي أو حافظ إبراهيم هي صور من هذا النوع، وهي صور يمكن أن نقيس عليها غيرها في كل شعر تقليدي أيّاً كان المسمى الذي يتخفى وراءه، خصوصاً حين لا تفعل الصور الشعرية شيئاً سوى الإشارة الموضحة لمعنى نثري يسبقها عادة، ويجمّدها في دلالة فردية ثابتة لا تتجاوز حدوده المسبقة، ولا تفلت من قيده. والنتيجة هي جمود الصور أو إشاريتها التي تجعلها غير قادرة على أن تشع في أكثر من اتجاه أو تخلق استجابة وجدانية نشطة لدى أي قارئ.
ويرتد جمود الصورة الشعرية وإشارية لغتها إلى الطريقة التي يفكر بها الشاعر في قصيدته. والغاية التي يهدف إليها في الوقت نفسه. ولقد كان الشاعر الإحيائي، عندما يغلب عليه التقليد، يفكر في قصيدته على أساس ثنائي مزدوج في حالات كثيرة، أي أن تفكيره في القصيدة كان يسير في خطوتين متتابعتين أو منفصلتين، فهو يعرض الفكرة في الخطوة الأولى ثم يعقبها بالصور في الخطوة الثانية. قد تتناسب هذه الطريقة مع الغاية التعليمية الاقتناعية، فلكي نقنع الآخرين ونعلّمهم علينا أن نحدد أفكارنا أولاً، ونقرّرها لهم في عبارات محددة، ثم نأتي بعد ذلك بما يشرحها أو يفسّرها أو يبررها أو يثبت صوابها، كي يزداد السامع أو القارئ اقتناعاً بها. ولكن إذا كانت الصور في ظل هذا التفكير مزدوج الخطو تنفصل عن موضوع القصيدة، فإنها تجنح إلى أن تكون جامدة فردية الدلالة، ثابتة المعنى. لماذا؟
لأنه طالما سبق الشاعر الصورة بمعنى نثري مباشر يرتبط بها، أو تأتي هي دليلاً عليه، فمن المنطقي أن تتقلص دلالة الصورة وتتقوقع في حدود هذا المعنى الذي فرض عليها أن تتعلق بأذياله، فلا تستطيع - نتيجة ذلك - أن تشع في أكثر من اتجاه أو توحي بأكثر من معنى، فيفتر إحساس المتلقي بها على الفور. ومثال ذلك هذا المطلع من قصيدة البارودي التي قالها مهنئاً الخديو إسماعيل بولاية مصر:
طرب الفؤاد وكان غير طروب
والمرء رهن بشاشة وقطوب
ورد البشير فقلت من سرف المنى
أعد الحديث علي فهو حسيبي
خبر جلا صدأ القلوب فلم
يدع فيها مجال تحفز لوجيب
طرح القذى كقميص يوسف عندما
ورد البشير إلى يعقوب
التقرير المباشر للمعنى
إن البيتين الأولين يقرران لنا المعنى تقريراً مباشراً، إذ يخبرنا كل منهما بأن البارودي قد ابتهج عند سماعه للنبأ العظيم الذي هو تولي الخديو العرش، ثم يأتي البيتان الثالث والرابع بصورتين تشرحان هذا المعنى الذي تقرر من قبل. ورغم كل ما يمكن أن يقال في إمكانات هاتين الصورتين، فإن القارئ لن يدهش لهما ولن يتلقاهما تلقياً بكراً، بل على العكس من ذلك، يمر عليهما مروراً عادياً بعد أن تحدد له معناهما في البيتين الأولين، ولو كان البارودي بدأ بالصورتين مباشرة، وحذف البيتين الأولين، لكان قد أتاح للقارئ بكارة التلقي، وحرر صوره من كل قيد، مهيئاً لها الفرصة كي توحي للقارئ بكل ما يمكن أن تموج به من إيحاءات ومعان،فتخلق استجابة وجدانية كاملة.
وأتصوّر أن الفكرة التي أقصد إلى توضيحها يمكن أن تظهر بمقارنة صنيع البارودي بصنيع شاعر معاصر جاء بعده بعقود. أقصد إلى الشاعر صلاح عبدالصبور الذي نقرأ له في قصيدته (رسالة إلى صديقة) وصفاً للأثر الذي تركه خطاب هذه الصديقة (أو الحبيبة) في نفسه:
خطابك الرقيق كالقميص بين مقلتيّ يعقوب
أنفاس عيسى تصنع الحياة في التراب
الساق للكسيح
العين للضرير
هناءة الفؤاد للكروب
المقعدون الضائعون التائهون يفرحون
كمثلما فرحت بالخطاب يا مسيحي الحبيب
ورغم مزالق الابتسار من قصائد صلاح عبدالصبور، لكن تشبيه أثر الخطاب بأثر قميص يوسف على عيني يعقوب يأتي بذاته، مستقلاً عن أي معنى سابق على التشبيه، أو أي فكرة تقريرية يستخدم التشبيه دليلاً عليها، فالتشبيه بذاته وفي ذاته هو ما يتولد عنه المعنى، وهو ما يشع من دلالات تفضي بدورها إلى تشبيهات أخرى تقترن بدورها بجوانب من الأثر نفسه، هكذا يغدو تأثير الخطاب كأنفاس عيسى التي تصنع الحياة في الموت، وترد الصحة على مَن فقدها. وعندما يصل الشاعر إلى مدى رد البصر على الضرير، فإنه يرد العجز على الصدر كما اعتاد القول أهل البلاغة، فيصل ذلك بالإشارة إلى هناءة المكروب التي تكمل الدائرة بفرحة المقعدين التي لا يكتمل معناها إلا من خلال الاستعارات التي لا تتكرر إلا لتؤكد بجماليات التكرار تعدد المعاني المباشرة وغير المباشرة لتتابع الصور.
وإذا عدنا إلى أبيات البارودي، وجدنا الموقف على العكس من ذلك، فالشاعر يبدأ بطرب الفؤاد غير الطروب، وينتقل إلى الخبر الذي جاءه به البشير، فلم يصدقه، فطلب من البشير الإعادة تأكيداً للبهجة التي أثارها الخبر، ويأتي وصف هذه البهجة بالاستعارة التي ينجلي فيها صدأ القلوب، ويتبع ذلك تشبيه أثر خبر نيل الخديو إسماعيل ولاية مصر بأثر قميص يوسف الذي ردّ البصر على يعقوب، وذلك اتساقاً مع تقرير الفكرة أولاً، وإرداف هذه الفكرة بما يشرحها أو يوضحها من الصور البلاغية التي تكون دليلاً على الفكرة.
وظيفة الشعر الإحيائي
وأحسب أن هذا النوع من صياغة الصور البلاغية يتناسب كل التناسب والوظيفة التعليمية للشاعر الإحيائي، وهي وظيفة تقترن بحرص ذلك الشاعر على تعليم قارئه وإقناعه بقضاياه، وفي هذا الحرص سبب آخر لجمود الصور وثبات معانيها، ويتضح ذلك عندما نضع في اعتبارنا حرص الشاعر الإحيائي على التعليم والإقناع. وكلاهما ينطوي على عملية عقلية باردة بمعنى أو غيره. ولا سبيل لمن يقصد إلى التعليم والإقناع معاً من التضحية بالمضمون النفسي أو الشعوري للكلمات، والاتكاء بدلاً منه على الهدف المنطقي لها، والنتيجة هي غلبة الاستخدام الإشاري للغة، واقتراب هذا الاستخدام في طبيعته من استخدام الرموز والإشارات في الجبر أو الرياضة مثلاً. ويتبع ذلك - بالطبع - جمود الصورة أو تحجّرها في دلالة فردية ثابتة بدلاً من أن تكون ثريّة الإيحاء، متعددة الدلالة، وأكثر ما يكون ذلك في الصور البلاغية التي يصوغ بها الشاعر أبيات الحكمة التي يحرص على حشدها في شعره، تأكيداً للمعنى التعليمي من ناحية، وحرصاً على استعادة نموذج الشاعر الحكيم من ميراثه الشعري من ناحية مقابلة. ومثال ذلك ما نقرأه في شعر البارودي على النحو التالي:
لولا التفاوت في الخلق ما ظهرت
مزية الفرق بين الحلى والعطل
فانهض إلى صهوات المجد معتليا
فالباز لم يأو إلا عالي القلل
ودع من الأمر أدناه لأبعده
في لجة البحر ما يغني عن الوشل
قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته
ويقعد العجز بالهيابة الوكل
وكن على حذر تسلم، فرب فتى
ألقى به الأمن بعد اليأس والأمل
لو يعلم المرء ما في الناس من دخن
لبات من ود ذي القربى على دخل
فلا تثق بوداد قبل معرفة
فالكحل في العينين أشبه بالكحل
واستقلال كل بيت من أبيات الحكمة السابقة بمعناه هو الوجه الآخر من انغلاق كل صورة بلاغية في كل بيت على معناها التعليمي الثابت الذي تهدف إلى تأكيده. وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن يغلب (تشبيه التمثيل) على الأبيات، وهو نوع التشبيه الذي يكون فيه المشبّه به أشبه بالدليل على سلامة المعنى المقصود في المشبّه. ولذلك تتتابع الحكم في الأبيات، محافظة على الثنائية نفسها: المعنى النثري المقرر + الدليل عليه باستخدام تشبيه التمثيل، تماماً كالدعوة إلى النهوض إلى صهوات المجد والاستدلال عليها بأن الصقور (البزاة) لا تأوى إلا إلى أعالي قمم الجبال (القلل). أو الدعوة بأن الناس تُظهر غير ما تبطن، فتلتبس حقيقة نواياها كالكحل الذي تتجمّل به العين، والكحل الذي هو سواد ضار. وهيمنة فعل الأمر في الأبيات قرين العملية المنطقية أو عملية القياس (التمثيل) التي تنطوي عليها غاية التعليم التي لا تفارقها غاية الإقناع. وأفعال الأمر بطبيعتها، خصوصاً في مثل هذا السياق، تنبئ عن طبيعة معرفة المتكلم في علاقته بالمستمع الذي يتوجه إليه المتكلم العليم الخبير بكل ما يعينه على الفهم، مفيداً من أساليب التوضيح والتمثيل الإقناعي.
تتميز القصيدة الرديئة أول ما تتميز بخاصية الجمود والإشارية، وأنا أطلق هذين المصطلحين على قصيدة الشعر التقليدية التي تقوم على صور محدودة الأبعاد، ثابتة الدلالة.
إن كثيراً من صور القصائد الإحيائية التي كتبها محمود سامي البارودي أو أحمد شوقي أو حافظ إبراهيم هي صور من هذا النوع، وهي صور يمكن أن نقيس عليها غيرها في كل شعر تقليدي أيّاً كان المسمى الذي يتخفى وراءه، خصوصاً حين لا تفعل الصور الشعرية شيئاً سوى الإشارة الموضحة لمعنى نثري يسبقها عادة، ويجمّدها في دلالة فردية ثابتة لا تتجاوز حدوده المسبقة، ولا تفلت من قيده. والنتيجة هي جمود الصور أو إشاريتها التي تجعلها غير قادرة على أن تشع في أكثر من اتجاه أو تخلق استجابة وجدانية نشطة لدى أي قارئ.
ويرتد جمود الصورة الشعرية وإشارية لغتها إلى الطريقة التي يفكر بها الشاعر في قصيدته. والغاية التي يهدف إليها في الوقت نفسه. ولقد كان الشاعر الإحيائي، عندما يغلب عليه التقليد، يفكر في قصيدته على أساس ثنائي مزدوج في حالات كثيرة، أي أن تفكيره في القصيدة كان يسير في خطوتين متتابعتين أو منفصلتين، فهو يعرض الفكرة في الخطوة الأولى ثم يعقبها بالصور في الخطوة الثانية. قد تتناسب هذه الطريقة مع الغاية التعليمية الاقتناعية، فلكي نقنع الآخرين ونعلّمهم علينا أن نحدد أفكارنا أولاً، ونقرّرها لهم في عبارات محددة، ثم نأتي بعد ذلك بما يشرحها أو يفسّرها أو يبررها أو يثبت صوابها، كي يزداد السامع أو القارئ اقتناعاً بها. ولكن إذا كانت الصور في ظل هذا التفكير مزدوج الخطو تنفصل عن موضوع القصيدة، فإنها تجنح إلى أن تكون جامدة فردية الدلالة، ثابتة المعنى. لماذا؟
لأنه طالما سبق الشاعر الصورة بمعنى نثري مباشر يرتبط بها، أو تأتي هي دليلاً عليه، فمن المنطقي أن تتقلص دلالة الصورة وتتقوقع في حدود هذا المعنى الذي فرض عليها أن تتعلق بأذياله، فلا تستطيع - نتيجة ذلك - أن تشع في أكثر من اتجاه أو توحي بأكثر من معنى، فيفتر إحساس المتلقي بها على الفور. ومثال ذلك هذا المطلع من قصيدة البارودي التي قالها مهنئاً الخديو إسماعيل بولاية مصر:
طرب الفؤاد وكان غير طروب
والمرء رهن بشاشة وقطوب
ورد البشير فقلت من سرف المنى
أعد الحديث علي فهو حسيبي
خبر جلا صدأ القلوب فلم
يدع فيها مجال تحفز لوجيب
طرح القذى كقميص يوسف عندما
ورد البشير إلى يعقوب
التقرير المباشر للمعنى
إن البيتين الأولين يقرران لنا المعنى تقريراً مباشراً، إذ يخبرنا كل منهما بأن البارودي قد ابتهج عند سماعه للنبأ العظيم الذي هو تولي الخديو العرش، ثم يأتي البيتان الثالث والرابع بصورتين تشرحان هذا المعنى الذي تقرر من قبل. ورغم كل ما يمكن أن يقال في إمكانات هاتين الصورتين، فإن القارئ لن يدهش لهما ولن يتلقاهما تلقياً بكراً، بل على العكس من ذلك، يمر عليهما مروراً عادياً بعد أن تحدد له معناهما في البيتين الأولين، ولو كان البارودي بدأ بالصورتين مباشرة، وحذف البيتين الأولين، لكان قد أتاح للقارئ بكارة التلقي، وحرر صوره من كل قيد، مهيئاً لها الفرصة كي توحي للقارئ بكل ما يمكن أن تموج به من إيحاءات ومعان،فتخلق استجابة وجدانية كاملة.
وأتصوّر أن الفكرة التي أقصد إلى توضيحها يمكن أن تظهر بمقارنة صنيع البارودي بصنيع شاعر معاصر جاء بعده بعقود. أقصد إلى الشاعر صلاح عبدالصبور الذي نقرأ له في قصيدته (رسالة إلى صديقة) وصفاً للأثر الذي تركه خطاب هذه الصديقة (أو الحبيبة) في نفسه:
خطابك الرقيق كالقميص بين مقلتيّ يعقوب
أنفاس عيسى تصنع الحياة في التراب
الساق للكسيح
العين للضرير
هناءة الفؤاد للكروب
المقعدون الضائعون التائهون يفرحون
كمثلما فرحت بالخطاب يا مسيحي الحبيب
ورغم مزالق الابتسار من قصائد صلاح عبدالصبور، لكن تشبيه أثر الخطاب بأثر قميص يوسف على عيني يعقوب يأتي بذاته، مستقلاً عن أي معنى سابق على التشبيه، أو أي فكرة تقريرية يستخدم التشبيه دليلاً عليها، فالتشبيه بذاته وفي ذاته هو ما يتولد عنه المعنى، وهو ما يشع من دلالات تفضي بدورها إلى تشبيهات أخرى تقترن بدورها بجوانب من الأثر نفسه، هكذا يغدو تأثير الخطاب كأنفاس عيسى التي تصنع الحياة في الموت، وترد الصحة على مَن فقدها. وعندما يصل الشاعر إلى مدى رد البصر على الضرير، فإنه يرد العجز على الصدر كما اعتاد القول أهل البلاغة، فيصل ذلك بالإشارة إلى هناءة المكروب التي تكمل الدائرة بفرحة المقعدين التي لا يكتمل معناها إلا من خلال الاستعارات التي لا تتكرر إلا لتؤكد بجماليات التكرار تعدد المعاني المباشرة وغير المباشرة لتتابع الصور.
وإذا عدنا إلى أبيات البارودي، وجدنا الموقف على العكس من ذلك، فالشاعر يبدأ بطرب الفؤاد غير الطروب، وينتقل إلى الخبر الذي جاءه به البشير، فلم يصدقه، فطلب من البشير الإعادة تأكيداً للبهجة التي أثارها الخبر، ويأتي وصف هذه البهجة بالاستعارة التي ينجلي فيها صدأ القلوب، ويتبع ذلك تشبيه أثر خبر نيل الخديو إسماعيل ولاية مصر بأثر قميص يوسف الذي ردّ البصر على يعقوب، وذلك اتساقاً مع تقرير الفكرة أولاً، وإرداف هذه الفكرة بما يشرحها أو يوضحها من الصور البلاغية التي تكون دليلاً على الفكرة.
وظيفة الشعر الإحيائي
وأحسب أن هذا النوع من صياغة الصور البلاغية يتناسب كل التناسب والوظيفة التعليمية للشاعر الإحيائي، وهي وظيفة تقترن بحرص ذلك الشاعر على تعليم قارئه وإقناعه بقضاياه، وفي هذا الحرص سبب آخر لجمود الصور وثبات معانيها، ويتضح ذلك عندما نضع في اعتبارنا حرص الشاعر الإحيائي على التعليم والإقناع. وكلاهما ينطوي على عملية عقلية باردة بمعنى أو غيره. ولا سبيل لمن يقصد إلى التعليم والإقناع معاً من التضحية بالمضمون النفسي أو الشعوري للكلمات، والاتكاء بدلاً منه على الهدف المنطقي لها، والنتيجة هي غلبة الاستخدام الإشاري للغة، واقتراب هذا الاستخدام في طبيعته من استخدام الرموز والإشارات في الجبر أو الرياضة مثلاً. ويتبع ذلك - بالطبع - جمود الصورة أو تحجّرها في دلالة فردية ثابتة بدلاً من أن تكون ثريّة الإيحاء، متعددة الدلالة، وأكثر ما يكون ذلك في الصور البلاغية التي يصوغ بها الشاعر أبيات الحكمة التي يحرص على حشدها في شعره، تأكيداً للمعنى التعليمي من ناحية، وحرصاً على استعادة نموذج الشاعر الحكيم من ميراثه الشعري من ناحية مقابلة. ومثال ذلك ما نقرأه في شعر البارودي على النحو التالي:
لولا التفاوت في الخلق ما ظهرت
مزية الفرق بين الحلى والعطل
فانهض إلى صهوات المجد معتليا
فالباز لم يأو إلا عالي القلل
ودع من الأمر أدناه لأبعده
في لجة البحر ما يغني عن الوشل
قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته
ويقعد العجز بالهيابة الوكل
وكن على حذر تسلم، فرب فتى
ألقى به الأمن بعد اليأس والأمل
لو يعلم المرء ما في الناس من دخن
لبات من ود ذي القربى على دخل
فلا تثق بوداد قبل معرفة
فالكحل في العينين أشبه بالكحل
واستقلال كل بيت من أبيات الحكمة السابقة بمعناه هو الوجه الآخر من انغلاق كل صورة بلاغية في كل بيت على معناها التعليمي الثابت الذي تهدف إلى تأكيده. وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن يغلب (تشبيه التمثيل) على الأبيات، وهو نوع التشبيه الذي يكون فيه المشبّه به أشبه بالدليل على سلامة المعنى المقصود في المشبّه. ولذلك تتتابع الحكم في الأبيات، محافظة على الثنائية نفسها: المعنى النثري المقرر + الدليل عليه باستخدام تشبيه التمثيل، تماماً كالدعوة إلى النهوض إلى صهوات المجد والاستدلال عليها بأن الصقور (البزاة) لا تأوى إلا إلى أعالي قمم الجبال (القلل). أو الدعوة بأن الناس تُظهر غير ما تبطن، فتلتبس حقيقة نواياها كالكحل الذي تتجمّل به العين، والكحل الذي هو سواد ضار. وهيمنة فعل الأمر في الأبيات قرين العملية المنطقية أو عملية القياس (التمثيل) التي تنطوي عليها غاية التعليم التي لا تفارقها غاية الإقناع. وأفعال الأمر بطبيعتها، خصوصاً في مثل هذا السياق، تنبئ عن طبيعة معرفة المتكلم في علاقته بالمستمع الذي يتوجه إليه المتكلم العليم الخبير بكل ما يعينه على الفهم، مفيداً من أساليب التوضيح والتمثيل الإقناعي.