فكرة الدّهر في الشعر:
لم يكن الشّعر العربي، حتّى وهو في مرحلة المخاض بمنأى عن الفكر، وليس ذلك فحسب، بل إنّ الشّعر العربي في أقدم صوره ما هو في الواقع إلا صورة من صور التأمل الكوني، وبغض النّظر عمّا إذا كانت تلك التأملات قد وافقت منطق الشريعة أو العلم أم لا، فإنّ الحقيقة الشاخصة في هذه المسألة أنّ الإبداع الشعري هو في الأصل موقف فكري، وتعبير عن حاجة وجودية.
لقد كانت أغلب الرؤى حول تأويل الشعر العربي في طوره المتقدم، أعني زمن الجاهلية تتجاوز هذا المسألة تجاوزاً مقصوداً، خوفاً من التعمّق الذي قد يحيل تلك الرؤى إلى ضرب من التفلسف الفارغ، والواقع أنّ توجيه البحث إلى تلك الناحية فيه نظر؛ ذلك لأنّ الشاعر الجاهلي منذ القدم وعى موقعه في الوجود، وبناء على ذلك عبّر عن نفسه تعبيراً صادقاً يتفق مع ما توافر لـه من معارف، ولعلّ أهمّ مشكلة واجهها الإحساس بأنّه زائل، إذ هو لا محالة سيؤول في نهاية أمره إلى العدم، من أجل ذلك كان شعره نشيداً لندب مصيره، وما احتفاله الشديد بذكر الطلل، ورسمه البارع مصائر الموجودات من حوله إلا تأملات عميقة استهدفت تصوير أثر الزّمن في واقعه ونفسه على حد سواء.
لقد كانت فكرة الموت أو الدهر أو الفناء ما يستأثر بكامل تأملات الشعراء القدامى، إذ كان وعيهم منصباً حول فكرة فحواها أن دهرهم سيطويهم آجلاً أو عاجلاً، ولهذا وقفوا موقفاً عدائياً منه، وهذا ما تشف عنه تصاويرهم الخاصة بالموت، ولعل أبرز من ألحت عليه صورة الموت في سياق التأمل الكوني زهير بن أبي سلمى حين صوره على هيئة ناقة عمياء تتخبط بمصائر الأحياء فقال( [1] ):
رأيتُ المنايا خَِبْطَ عشواء مَنْ تُصِبْ
تُمتْهُ ومَنْ تُخطئ يُعمر فيهرمِ
إنّ صورة زهير هنا وإن كانت أدخل في باب التأمل الكوني إلا أنّ حظها من الحكمة قليل، والسبب أنّ تصويره الموت على هيئة ناقة عمياء لا تدرك هدفها، ولا تنتقي ضحاياها لم تؤكده الشريعة الإسلامية فيما بعد، لأنّ الموت في الإسلام قوّة واعية وأجل محتوم ومحدد. غير أنّ ذلك لا يعني أنّه لا قيمة لصورة زهير التي تناقلتها الألسنة عبر العصور، وصار قوله في هذا الباب من سوائر الأشعار، وإنّما يعنى أنّ العقل الشعري لا يعنى بالمطابقة بين المعاني الشعرية والمنطق، لأنّ للشعر منطقاً خاصاً، بدليل أنّ معنى زهير هذا ظلّ موضع احتذاء حتّى عند الشعراء الذين جاؤوا بعد الإسلام كما سنرى. وقيمة قول زهير تتجسد في الجانب الانفعالي والعاطفي ومن ثم الإنساني. وهذا كما نفهم اليوم موقف شعري من الدّهر، أو هو ضرب من التأمل الذاتي الذي تتحدد فيه العلاقة بين الشاعر والموضوع بالجانب العاطفي الوجداني، وليس بالجانب العقلي التأملي، أو إن شئتَ القول: إنّ الشاعر لا يتأمل بعقله، وإنّما يتأمل بوجدانه، فمن هذا الباب تخرج المعاني الشعرية بمعزل عن سلطة العقل، وعليه فإنّ المتلقي لا يحمل المعنى الشعري على محمل الصواب في الأغلب الأعم، مع أنّ النقد الأدبي بعد ذلك طالب الشعراء بصحة المعنى، كما هو الشأن في أقوال المرزوقي عن فكرة عمود الشعر، غير أنّ هذا المطلب ظلّ بعيداً عن الواقع، ولا سيما حين يفتح الشاعر الكلام على الموت والدهر والعدم.
لم يقل ناقد ـ في حدود اطلاعي ـ: إنّ كلام زهير على الموت غير صحيح، مع أنّه غير صحيح حقاً إذا ما قيس بما جاءت به الشريعة، والسبب فيما أرى أنّ الصحة هنا تراجعت أمام الصدق، فقول زهير صادق غير صحيح، فهو صادق من الجهة التي تهيأ لزهير وكأنه يصف حقيقة الموت كما كان يعيها، وهنا شفع لـه صدقه حين صور المسألة للسامع وكأنها حقيقة، وأما مخالفته الصحة في هذا الباب فظلت هامشية، لأن قضية الأدب لا تنتصر لشيء مثلما تنتصر لصدق التجارب كما يقول النقد الحديث اليوم، ومعناها أن يمثل القائل تجربته للسامع كما لو أنها حدثت بالفعل.
لقد وجه زهير فيما أرى هذا المعنى، المتصل بالتأمل الكوني إزاء الموت، أذهان الشعراء إلى قيمة الانفعال في هذا الصدد، لهذا قلّما نجد شاعراً ظهر في الطور الأول للإسلام قد انحاز إلى التعاليم في هذا الباب، وربما كان أبو ذؤيب الهذلي الذي امتُحن بفقد جماعة من أولاده مرّة واحدة مشدوداً إلى ذلك المعنى الذي أصّله زهير في زمن الجاهلية، حتّى لكأنّ الزّمن في الفن لا يتحرك، وصحيح أنّ أبا ذؤيب لم يقل إنّ الموت قوة عشوائية كما قال زهير، إلا أنه قدم صورة أشد وأقوى من صورة سابقه حين قال( [2] ):
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارَها
ألفيتَ كلّ تميمة لا تنفعُ
وقد يكون أبو ذؤيب هنا أكثر احترازاً من زهير لأنّه من الشعراء المخضرمين، وقد قال ما قال عن الموت في عهد الإسلام، إلا أنّ الموت الذي صوره في قولـه لا يُردّ ولا يُواجه ولا ينتفع المخلوق منه بالحذر والحيطة والتمائم وغير ذلك، وهذه المقالة مع أنّ ظاهرها يشي بأن الشاعر لم يهاجم الموت مهاجمة علنية، إلا أن موقفه من الدهر لم يكن يختلف اختلافاً كبيراً عن موقف زهير، ولو أراد غير ما قصده زهير لقال إنّ الموت قضاء عادل وسلم أمره لله كما أمرنا الإسلام.
إنّ ما أثير حول الشعر الجاهلي من شبهات كالتي حاول تثبيتها مرجليوث وطه حسين وغيرهما في مسألة الانتحال يجعل الدارس يحجم عن عرض المزيد من المعاني الجاهلية التي تشبه قول أبي ذؤيب, من أجل ذلك نسوق قولاً واحداً لعنترة العبسي قريباً من قول أبي ذؤيب ونحن نعلم في قرارة أنفسنا كم ادعى عليه قوم من النقاد لتجريده مثل ذلك المعنى, ولا سيما قوله( [3] ):
ومن ذا يردُّ الموتَ أو يدفع القَضَا
وضربتُهُ محتومةٌ ليس تَعْثَرُ
يقول المهتمون بمسائل الوضع والانتحال هذا المعنى موضوع على لسان عنترة, لا بل إن القصيدة التي انطوت عليه لم تذكر في الطبعة العلمية المحققة لديوانه, وقد يقولون أكثر من ذلك كله, لأنّ شخصية عنترة بكاملها موضع خلاف, فكيف شعره, لأنه كان أشبه بقشة يسلط الرواة عليها رياحهم, وسيرته الشعبية شاهدة على مثل هذه الأقوال. ولكن المعنى الشعري المنسوب لعنترة ليس فيه رؤية إسلامية على الإطلاق, ذلك لأن تعبيره عن بعض الأفكار التي أقرها الإسلام هو ما ثبت عليها شبهة الوضع أساساً, ومعلوم أنه إذا غاب هذا السبب ضعفت دوافع القول بوضعها.
فالمعنى الآنف كما أشرت معنى شعري, فيه طاقة من الانفعال ليس غير, ولا سيما إذا فهمنا من قوله (ضربته محتومة) أنها قاضية ولا سبيل للنجاة منها, بدليل قوله (ليس تعثر), وأما ما يؤول بخصوص ذلك أن الموت هنا قضاء لا يتقدم ولا يتأخر فهذا خارج عن المعنى الذي ينطوي عليه البيت, من أجل ذلك نرى أن أبا ذؤيب لم يجز المعنى الذي طرقه عنترة في بيته السابق على أية حال. وإذا تركنا شعراء الجاهلية وصدر الإسلام ونظرنا إلى الشعراء العباسيين, الذين قل حول شعرهم الخلاف, من ناحية الانتحال على الأقل, نجد شاعراً كأبي نواس يعود إلى معنى زهير ليحييه بكليته في قوله( [4] ):
هو الدّهرُ إمّا عابطٌ ذا شبيبة
بإحدى المنايا أو مميتٌ أخا هرم
أراد أنّ الموت يخترم الكبير والصغير على حد سواء, دون أدنى احتراز يوحي بتقييد هذا الكلام من جهة الشريعة, فهل يعبط الدهر الشاب والهرم اعتباطاً ودون غاية؟ ألم يقل زهير في الشاهد الآنف (تمته ومن تخطىء يعمر فيهرم) بمعنى أن الموت يأتي على كل شيء، فمن أفلت منه في لحظة ما سيقع ضحيته ولو امتد به العمر لحظات أخرى, وهو المعنى الذي رمى إليه النواسي أن الموت لا يدخر أحداً فيهلك الشاب والهرم.
قد يكون أبو تمام الطائي في بعض شعره عن الدهر من الشعراء القلائل الذين قدموا صورة مختلفة عن الصور المألوفة عند سائر الشعراء, ذلك أنه امتنع عن ذم الدهر وشتمه, مما يشي بتقيده بالتعاليم في هذا الباب حيث يقول( [5] ):
شرقنا بذمِّ الدهرِ يا سَلْم إنّه
يُسيءُ فما يَألو وليسَ بِظَالِمِ
ويقول:
متى ترعَ هذا الموتَ عيناً بصيرةً
تجدْ عادلاً منهُ شبيهاً بظالمِ
بمعنى أن الموت قضاء عادل, ولا سبيل إلى ذمه, وفي ذلك موافقة للتعاليم.
2 ـــ الموت عند المتنبي:
لم يكن المتنبي في سائر شعره قد انفرد بالكلام على الموت عن غيره, ويدل شعره إلى أنه تابع رؤى الشعراء في هذا الباب وقد اشتهر قوله وهو يقدم فيه صورة وهمية للموت([6] ):
وما الموتُ إلا سارقٌ دقَّ شخصُهُ
يَصُولُ بلا كفِّ ويسعى بلا رِجْلِ
إذن الموت عند سائر الشعراء لا هيئة له, وإنما أحسوا به من خلال أثره في الموجودات, ولهذا كان إحساسهم إزاء الدهر ينطوي على قدر كبير من الحقد والكراهية والبغضاء, ومن هنا كان شتمه وذمه أمراً مألوفاً ليس عند الجاهليين فحسب بل عند نفر من شعراء الإسلام, مع أن شتم الدهر لا يجوز كما جاء في الحديث, وقلما نجد شاعراً من شعراء الإسلام يتقيد بالتعاليم في هذه الناحية.
لقد أسرف المتنبي في سائر شعره بذم الدهر, ومحاربة الزمن, وكان ذلك مما يؤخذ عليه حيث يقول( [7] ):
من خصّ بالذّم والفراقَ فإنّني
من لا يرى في الدّهر شيئاً يُحمدُ
غير أن المتنبي انفرد من بين الشعراء بتصوير الدهر منافساً أو حاقداً أو عدواً يبرز لـه كلما حمت لـه حاجة, فيقف الدهر عائقاً دون بلوغها, والصورة الفريدة عند أبي الطيب أنه غالب الدهر فغلبه بما يمتاز من كرم الطباع وقوة الشكيمة وشدة البأس, وهاهو ذا يشخّص الدّهر بصورة فارس فينازلـه وجهاً لوجه, وليس معه سلاح سوى الصبر فيغلبه ويظفر بسلامته يقول( [8] ):
أطاعنُ خيلاً من فوارسها الدّهرُ
وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كلّ يوم سلامتي
وما ثبتتْ إلا وفي نفسها أمرُ
تمرست في الآفات حتّى تركتُها
تقول أمات الموت أم ذُعِرَ الذّعر
وأقدمت إقدام الأتيِّ كأن لي
سوى مهجتي أو كان لي عندها وِتر
دعِ النّفسَ تأخذ وسعَهَا قَبْل بَيْنها
فمفترقٌ جارانِ دارهما العُمر
هذه الأبيات من عجائب أبي الطيب؛ لانطوائها على مواطن الصلابة في شعره, وقد بدا ذلك من خلال التصاوير المتتابعة التي تفضي إلى شعرية تنجم عن تثبيت العلاقات المجازية, وقلما تترى تلك الصور بمثل هذا التتابع الغريب حيث تشتد لحمة الكلام لتنتقل المعاني من قوي باهر إلى عجيب مدهش, وقد يكون المتنبي قد تعقب بعض الشعراء السابقين فاستأنس ببعض معانيهم في هذا الباب إلا أن هذا السياق الشعري الصلب لا يكون إلا للمتنبي, وعليه تبرز طوابع الذات التي تعلو كل شيء هنا, والكلام الذي أورده في وصف نفسه وعزمه دونه كل مدح, لقد كان الدهر فارساً, وهو قد نصب نفسه فارساً آخر, ومن فرط فروسيته واجهه وليس معه سوى الصبر, فقال: (وحيداً), وقد لامه الشّراح على ذلك لأنّه ومعه الصبر أي ليس بوحيد, والمتنبي لا يقصد أن الصبر سلاح, لأن الصبر ليس شيئاً غير ذاته, فهو والصبر شيء واحد لذا فهو أمام مطاعنة الدهر وحيد بالفعل.
إن المتنبي قد اعتاد على مقارعة الخطوب حتى بلغ من أمر نفسه ما يحملها على التساؤل: أمات الموت أم ذعر الذعر؟
والحق أنّ مخلوقاً لا يقدم إقدامه إلا إذا كانت لديه مهجة ثانية, أو أنه يريد أن يلقي بنفسه في الهلاك ليثأر منها, وهذه كلها تساؤلات تنبعث من جراء مواجهة لا تنجز إلا شعرياً, والسلاح الحقيقي الذي يتسلح به المتنبي هنا إنما هو الخيال ليس غير, ومن عجب أن يخترق المتنبي خيالاته التي تجعل من اللغة ميداناً تسبح فيه شاعريته, ليرجع بقوة إلى المعنى الحكمي الذي استطاع أن ينهي به الموقف ليقول:
دعِ النَّفسَ تأخذ وسعَها قَبْل بينها
فمفترق جارانِ دارهما العمر
لم يكن الشّعر العربي، حتّى وهو في مرحلة المخاض بمنأى عن الفكر، وليس ذلك فحسب، بل إنّ الشّعر العربي في أقدم صوره ما هو في الواقع إلا صورة من صور التأمل الكوني، وبغض النّظر عمّا إذا كانت تلك التأملات قد وافقت منطق الشريعة أو العلم أم لا، فإنّ الحقيقة الشاخصة في هذه المسألة أنّ الإبداع الشعري هو في الأصل موقف فكري، وتعبير عن حاجة وجودية.
لقد كانت أغلب الرؤى حول تأويل الشعر العربي في طوره المتقدم، أعني زمن الجاهلية تتجاوز هذا المسألة تجاوزاً مقصوداً، خوفاً من التعمّق الذي قد يحيل تلك الرؤى إلى ضرب من التفلسف الفارغ، والواقع أنّ توجيه البحث إلى تلك الناحية فيه نظر؛ ذلك لأنّ الشاعر الجاهلي منذ القدم وعى موقعه في الوجود، وبناء على ذلك عبّر عن نفسه تعبيراً صادقاً يتفق مع ما توافر لـه من معارف، ولعلّ أهمّ مشكلة واجهها الإحساس بأنّه زائل، إذ هو لا محالة سيؤول في نهاية أمره إلى العدم، من أجل ذلك كان شعره نشيداً لندب مصيره، وما احتفاله الشديد بذكر الطلل، ورسمه البارع مصائر الموجودات من حوله إلا تأملات عميقة استهدفت تصوير أثر الزّمن في واقعه ونفسه على حد سواء.
لقد كانت فكرة الموت أو الدهر أو الفناء ما يستأثر بكامل تأملات الشعراء القدامى، إذ كان وعيهم منصباً حول فكرة فحواها أن دهرهم سيطويهم آجلاً أو عاجلاً، ولهذا وقفوا موقفاً عدائياً منه، وهذا ما تشف عنه تصاويرهم الخاصة بالموت، ولعل أبرز من ألحت عليه صورة الموت في سياق التأمل الكوني زهير بن أبي سلمى حين صوره على هيئة ناقة عمياء تتخبط بمصائر الأحياء فقال( [1] ):
رأيتُ المنايا خَِبْطَ عشواء مَنْ تُصِبْ
تُمتْهُ ومَنْ تُخطئ يُعمر فيهرمِ
إنّ صورة زهير هنا وإن كانت أدخل في باب التأمل الكوني إلا أنّ حظها من الحكمة قليل، والسبب أنّ تصويره الموت على هيئة ناقة عمياء لا تدرك هدفها، ولا تنتقي ضحاياها لم تؤكده الشريعة الإسلامية فيما بعد، لأنّ الموت في الإسلام قوّة واعية وأجل محتوم ومحدد. غير أنّ ذلك لا يعني أنّه لا قيمة لصورة زهير التي تناقلتها الألسنة عبر العصور، وصار قوله في هذا الباب من سوائر الأشعار، وإنّما يعنى أنّ العقل الشعري لا يعنى بالمطابقة بين المعاني الشعرية والمنطق، لأنّ للشعر منطقاً خاصاً، بدليل أنّ معنى زهير هذا ظلّ موضع احتذاء حتّى عند الشعراء الذين جاؤوا بعد الإسلام كما سنرى. وقيمة قول زهير تتجسد في الجانب الانفعالي والعاطفي ومن ثم الإنساني. وهذا كما نفهم اليوم موقف شعري من الدّهر، أو هو ضرب من التأمل الذاتي الذي تتحدد فيه العلاقة بين الشاعر والموضوع بالجانب العاطفي الوجداني، وليس بالجانب العقلي التأملي، أو إن شئتَ القول: إنّ الشاعر لا يتأمل بعقله، وإنّما يتأمل بوجدانه، فمن هذا الباب تخرج المعاني الشعرية بمعزل عن سلطة العقل، وعليه فإنّ المتلقي لا يحمل المعنى الشعري على محمل الصواب في الأغلب الأعم، مع أنّ النقد الأدبي بعد ذلك طالب الشعراء بصحة المعنى، كما هو الشأن في أقوال المرزوقي عن فكرة عمود الشعر، غير أنّ هذا المطلب ظلّ بعيداً عن الواقع، ولا سيما حين يفتح الشاعر الكلام على الموت والدهر والعدم.
لم يقل ناقد ـ في حدود اطلاعي ـ: إنّ كلام زهير على الموت غير صحيح، مع أنّه غير صحيح حقاً إذا ما قيس بما جاءت به الشريعة، والسبب فيما أرى أنّ الصحة هنا تراجعت أمام الصدق، فقول زهير صادق غير صحيح، فهو صادق من الجهة التي تهيأ لزهير وكأنه يصف حقيقة الموت كما كان يعيها، وهنا شفع لـه صدقه حين صور المسألة للسامع وكأنها حقيقة، وأما مخالفته الصحة في هذا الباب فظلت هامشية، لأن قضية الأدب لا تنتصر لشيء مثلما تنتصر لصدق التجارب كما يقول النقد الحديث اليوم، ومعناها أن يمثل القائل تجربته للسامع كما لو أنها حدثت بالفعل.
لقد وجه زهير فيما أرى هذا المعنى، المتصل بالتأمل الكوني إزاء الموت، أذهان الشعراء إلى قيمة الانفعال في هذا الصدد، لهذا قلّما نجد شاعراً ظهر في الطور الأول للإسلام قد انحاز إلى التعاليم في هذا الباب، وربما كان أبو ذؤيب الهذلي الذي امتُحن بفقد جماعة من أولاده مرّة واحدة مشدوداً إلى ذلك المعنى الذي أصّله زهير في زمن الجاهلية، حتّى لكأنّ الزّمن في الفن لا يتحرك، وصحيح أنّ أبا ذؤيب لم يقل إنّ الموت قوة عشوائية كما قال زهير، إلا أنه قدم صورة أشد وأقوى من صورة سابقه حين قال( [2] ):
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارَها
ألفيتَ كلّ تميمة لا تنفعُ
وقد يكون أبو ذؤيب هنا أكثر احترازاً من زهير لأنّه من الشعراء المخضرمين، وقد قال ما قال عن الموت في عهد الإسلام، إلا أنّ الموت الذي صوره في قولـه لا يُردّ ولا يُواجه ولا ينتفع المخلوق منه بالحذر والحيطة والتمائم وغير ذلك، وهذه المقالة مع أنّ ظاهرها يشي بأن الشاعر لم يهاجم الموت مهاجمة علنية، إلا أن موقفه من الدهر لم يكن يختلف اختلافاً كبيراً عن موقف زهير، ولو أراد غير ما قصده زهير لقال إنّ الموت قضاء عادل وسلم أمره لله كما أمرنا الإسلام.
إنّ ما أثير حول الشعر الجاهلي من شبهات كالتي حاول تثبيتها مرجليوث وطه حسين وغيرهما في مسألة الانتحال يجعل الدارس يحجم عن عرض المزيد من المعاني الجاهلية التي تشبه قول أبي ذؤيب, من أجل ذلك نسوق قولاً واحداً لعنترة العبسي قريباً من قول أبي ذؤيب ونحن نعلم في قرارة أنفسنا كم ادعى عليه قوم من النقاد لتجريده مثل ذلك المعنى, ولا سيما قوله( [3] ):
ومن ذا يردُّ الموتَ أو يدفع القَضَا
وضربتُهُ محتومةٌ ليس تَعْثَرُ
يقول المهتمون بمسائل الوضع والانتحال هذا المعنى موضوع على لسان عنترة, لا بل إن القصيدة التي انطوت عليه لم تذكر في الطبعة العلمية المحققة لديوانه, وقد يقولون أكثر من ذلك كله, لأنّ شخصية عنترة بكاملها موضع خلاف, فكيف شعره, لأنه كان أشبه بقشة يسلط الرواة عليها رياحهم, وسيرته الشعبية شاهدة على مثل هذه الأقوال. ولكن المعنى الشعري المنسوب لعنترة ليس فيه رؤية إسلامية على الإطلاق, ذلك لأن تعبيره عن بعض الأفكار التي أقرها الإسلام هو ما ثبت عليها شبهة الوضع أساساً, ومعلوم أنه إذا غاب هذا السبب ضعفت دوافع القول بوضعها.
فالمعنى الآنف كما أشرت معنى شعري, فيه طاقة من الانفعال ليس غير, ولا سيما إذا فهمنا من قوله (ضربته محتومة) أنها قاضية ولا سبيل للنجاة منها, بدليل قوله (ليس تعثر), وأما ما يؤول بخصوص ذلك أن الموت هنا قضاء لا يتقدم ولا يتأخر فهذا خارج عن المعنى الذي ينطوي عليه البيت, من أجل ذلك نرى أن أبا ذؤيب لم يجز المعنى الذي طرقه عنترة في بيته السابق على أية حال. وإذا تركنا شعراء الجاهلية وصدر الإسلام ونظرنا إلى الشعراء العباسيين, الذين قل حول شعرهم الخلاف, من ناحية الانتحال على الأقل, نجد شاعراً كأبي نواس يعود إلى معنى زهير ليحييه بكليته في قوله( [4] ):
هو الدّهرُ إمّا عابطٌ ذا شبيبة
بإحدى المنايا أو مميتٌ أخا هرم
أراد أنّ الموت يخترم الكبير والصغير على حد سواء, دون أدنى احتراز يوحي بتقييد هذا الكلام من جهة الشريعة, فهل يعبط الدهر الشاب والهرم اعتباطاً ودون غاية؟ ألم يقل زهير في الشاهد الآنف (تمته ومن تخطىء يعمر فيهرم) بمعنى أن الموت يأتي على كل شيء، فمن أفلت منه في لحظة ما سيقع ضحيته ولو امتد به العمر لحظات أخرى, وهو المعنى الذي رمى إليه النواسي أن الموت لا يدخر أحداً فيهلك الشاب والهرم.
قد يكون أبو تمام الطائي في بعض شعره عن الدهر من الشعراء القلائل الذين قدموا صورة مختلفة عن الصور المألوفة عند سائر الشعراء, ذلك أنه امتنع عن ذم الدهر وشتمه, مما يشي بتقيده بالتعاليم في هذا الباب حيث يقول( [5] ):
شرقنا بذمِّ الدهرِ يا سَلْم إنّه
يُسيءُ فما يَألو وليسَ بِظَالِمِ
ويقول:
متى ترعَ هذا الموتَ عيناً بصيرةً
تجدْ عادلاً منهُ شبيهاً بظالمِ
بمعنى أن الموت قضاء عادل, ولا سبيل إلى ذمه, وفي ذلك موافقة للتعاليم.
2 ـــ الموت عند المتنبي:
لم يكن المتنبي في سائر شعره قد انفرد بالكلام على الموت عن غيره, ويدل شعره إلى أنه تابع رؤى الشعراء في هذا الباب وقد اشتهر قوله وهو يقدم فيه صورة وهمية للموت([6] ):
وما الموتُ إلا سارقٌ دقَّ شخصُهُ
يَصُولُ بلا كفِّ ويسعى بلا رِجْلِ
إذن الموت عند سائر الشعراء لا هيئة له, وإنما أحسوا به من خلال أثره في الموجودات, ولهذا كان إحساسهم إزاء الدهر ينطوي على قدر كبير من الحقد والكراهية والبغضاء, ومن هنا كان شتمه وذمه أمراً مألوفاً ليس عند الجاهليين فحسب بل عند نفر من شعراء الإسلام, مع أن شتم الدهر لا يجوز كما جاء في الحديث, وقلما نجد شاعراً من شعراء الإسلام يتقيد بالتعاليم في هذه الناحية.
لقد أسرف المتنبي في سائر شعره بذم الدهر, ومحاربة الزمن, وكان ذلك مما يؤخذ عليه حيث يقول( [7] ):
من خصّ بالذّم والفراقَ فإنّني
من لا يرى في الدّهر شيئاً يُحمدُ
غير أن المتنبي انفرد من بين الشعراء بتصوير الدهر منافساً أو حاقداً أو عدواً يبرز لـه كلما حمت لـه حاجة, فيقف الدهر عائقاً دون بلوغها, والصورة الفريدة عند أبي الطيب أنه غالب الدهر فغلبه بما يمتاز من كرم الطباع وقوة الشكيمة وشدة البأس, وهاهو ذا يشخّص الدّهر بصورة فارس فينازلـه وجهاً لوجه, وليس معه سلاح سوى الصبر فيغلبه ويظفر بسلامته يقول( [8] ):
أطاعنُ خيلاً من فوارسها الدّهرُ
وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كلّ يوم سلامتي
وما ثبتتْ إلا وفي نفسها أمرُ
تمرست في الآفات حتّى تركتُها
تقول أمات الموت أم ذُعِرَ الذّعر
وأقدمت إقدام الأتيِّ كأن لي
سوى مهجتي أو كان لي عندها وِتر
دعِ النّفسَ تأخذ وسعَهَا قَبْل بَيْنها
فمفترقٌ جارانِ دارهما العُمر
هذه الأبيات من عجائب أبي الطيب؛ لانطوائها على مواطن الصلابة في شعره, وقد بدا ذلك من خلال التصاوير المتتابعة التي تفضي إلى شعرية تنجم عن تثبيت العلاقات المجازية, وقلما تترى تلك الصور بمثل هذا التتابع الغريب حيث تشتد لحمة الكلام لتنتقل المعاني من قوي باهر إلى عجيب مدهش, وقد يكون المتنبي قد تعقب بعض الشعراء السابقين فاستأنس ببعض معانيهم في هذا الباب إلا أن هذا السياق الشعري الصلب لا يكون إلا للمتنبي, وعليه تبرز طوابع الذات التي تعلو كل شيء هنا, والكلام الذي أورده في وصف نفسه وعزمه دونه كل مدح, لقد كان الدهر فارساً, وهو قد نصب نفسه فارساً آخر, ومن فرط فروسيته واجهه وليس معه سوى الصبر, فقال: (وحيداً), وقد لامه الشّراح على ذلك لأنّه ومعه الصبر أي ليس بوحيد, والمتنبي لا يقصد أن الصبر سلاح, لأن الصبر ليس شيئاً غير ذاته, فهو والصبر شيء واحد لذا فهو أمام مطاعنة الدهر وحيد بالفعل.
إن المتنبي قد اعتاد على مقارعة الخطوب حتى بلغ من أمر نفسه ما يحملها على التساؤل: أمات الموت أم ذعر الذعر؟
والحق أنّ مخلوقاً لا يقدم إقدامه إلا إذا كانت لديه مهجة ثانية, أو أنه يريد أن يلقي بنفسه في الهلاك ليثأر منها, وهذه كلها تساؤلات تنبعث من جراء مواجهة لا تنجز إلا شعرياً, والسلاح الحقيقي الذي يتسلح به المتنبي هنا إنما هو الخيال ليس غير, ومن عجب أن يخترق المتنبي خيالاته التي تجعل من اللغة ميداناً تسبح فيه شاعريته, ليرجع بقوة إلى المعنى الحكمي الذي استطاع أن ينهي به الموقف ليقول:
دعِ النَّفسَ تأخذ وسعَها قَبْل بينها
فمفترق جارانِ دارهما العمر