ملخص الخطبة
1- أماني الأحياء. 2- الحديث عن الأموات. 3- ما يتمناه الميت في قبره. 4- الغفلة عن الموت. 5- التذكير بالموت. 7- الحث على اغتنام الأوقات.
الخطبة الأولى أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنجوى، فتقوى ربِّكم عدّتُكم للشدائد، وذخرٌ لكم يومَ القيامة، يوم لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئًا ولا يقبَل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصَرون.
لكل إنسان في هذه الحياة أمان كثيرة ومتعدّدة، وتتفاوت هذه الأماني وتتباين وفقا لاعتبارات عديدة، منها البيئة التي يعيش فيها الفرد، والفكر الذي تربى عليه، والأقران الذين يحيطون به. فلو سألتَ إنسانا: ما أمنيتك في هذه الحياة؟ فإن كان من وسط فقير وعاين الفقر وأحسّ بألمه واكتوى به لتمنى أن يعيش غنيا وأن يملك العقارات والسيارات ليعيش منعمًا كما يتنعّم غالب الناس. ولو قابلتَ مريضا طرحَه المرض على الفراش فشلّ حركته وقيّد حريته ومنعه حتى من لذة الطعام والمنام وسألته عن أمنيته لرأيتَه يتمنى أن يعافى من مرضه ولو افتدى بماله كله. ولو سألت طالبا جامعيا عن أمنيته لرأيته يتمنى وظيفةً مرموقة تكفيه وزوجةً حسناء تغريه ومنزلا واسعا يؤويه. ولو سألت بعض الأغنياء عن أمنياتهم لرأيتهم يتمنّون مزيدا من الغنى ليكونوا أغنى من فلان وعلان. وهكذا فالمقلّ لا يقنع والمكثر لا يشبع، وأماني الدنيا لا تنتهي، وصدق رسول الله حينما قال: ((لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى مثله، ثم تمنى مثلَه، حتى يتمنى أوديةً، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب)) رواه الإمام أحمد وابن حبان عن أنس رضي الله عنه، أي: لا يزال ابن آدم حريصًا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره.
أيها الإخوة في الله، ومع هذه الأماني المتباينة فإنّ الجميع تراهم يسعَون ويكدحون طوال حياتهم لتحويل أحلامهم وأمنياتهم إلى واقع، وقد يوفقهم الله تعالى إلى تحقيقها متى بذلوا أسباب ذلك، ولكن هناك فئة من الناس لا يمكنهم تحقيق أمنياتهم، ولا ينظَر في طلباتهم، فمن هم؟ ولماذا لا تحقَّق أمنياتهم؟ وهل يمكننا مساعدتهم أو تخفيفُ لوعاتهم؟ هذا ما سنعرفه في هذه الخطبة إن شاء الله.
أما عن هذه الفئة التي لا يمكنها تحقيق أمنياتهم فهم ممن أصبحوا رهائن ذنوب لا يطلَقون، وغرباء سفر لا ينتَظرون، إنهم الأموات يا عباد الله.
فماذا يتمنى الأموات يا ترى وقد انقطع عنا خبرهم واندرس ذكرهم؟ ومن يا ترى يستطيع أن يحدّثنا عن أمنياتهم؟ تعالوا لنتحدّث قليلا عن هذه الفئة المنسيّة، لنعرف أمنيات أناس بعد أن عاينوا الجنة والنار، ورأوا ملائكة الله، وأصبح الغيب لديهم شهادة، وعرفوا حقيقة الدنيا والآخرة، وأيقنوا وهم في برزخهم أنهم سيبعثون ليوم النشور، فهل يتمنون العودة إلى هذه الدنيا ليتمتعوا بالحياة ويحسّوا بلذتها وطعمها، أو ليملكوا مزيدا من العقارات ويجوبوا الأرض سياحة ولهوا؟!
إن أمنية الكثير من الناس في هذه الحياة لا يزيد على وظيفةٍ وزوجة ومركبٍ هنيءٍ وبيتٍ واسعٍ وأملاكٍ وعقاراتٍ وتمشياتٍ وسهراتٍ وحضورٍ ولائم وحفلات، أما الأموات فماذا يريدون من دنيا رحلوا عنها واغتروا بها وعرفوا حقيقتها وخلفوها وراء ظهورهم؟!
فلنسمع ما نقله لنا كتاب ربنا وسنة نبينا محمد عن أمنيات الموتى:
أولا: يتمنى الميت لو تعاد له الحياة ليصلّي ولو ركعتين، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله مر بقبرٍ فقال: ((من صاحب هذا القبر؟)) فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وفي رواية قال : ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم)).
فغاية أمنية الميت المقصر أن يُمدَّ له في أجله ليركع ركعتين يزيد فيها من حسناته ويتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة. ألم تسمعوا وصية رسولنا وهو يقول لنا معشرَ الأحياء: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليكثر))؟!
لقد عاين ذلك الميت وهو في قبره ثوابَ الصلاة، ورأى بأمّ عينه فائدة الصلاة، فتأسف على أيام أمضاها في غير طاعة، على ساعات مضت أمام شاشات اللهو والمجون، لم يجن منها سوى الحسرة والندامة، وها نحن نرى رسول الله يترجم لنا أمنية ذلك الميت وهو في قبره، يتمنى أن يصلي، يتمنى أن يعود إلى الدنيا لدقائق معدودة ليركع ركعتين فقط لا غير، لا يريد من الدنيا إلا ركعتين، لأنهما الآن أصبحتا عنده تعدل الدنيا بما فيها، وماذا عسى أن تساوي الدنيا عنده وقد خلّفها وراء ظهره وارتهن بعمله؟!
اغتنم في الفراغ فضل ركوع…فعسى أن يكونَ موتك بغتة
كم صحيح رأيتَ من غير سُقم…ذهبتْ نفسه الصحيحة فلتة
فغاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة، بل دقيقة، يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، أما نحن أهل الدنيا فمفرّطون في أوقاتنا بل في حياتنا، نبحث عما يقتل أوقاتنا لتذهب أعمارنا سدى في غير طاعة، ومنا من يقطعها بالمعاصي، ولا ندري ماذا تخبئ لنا قبورنا من نعيم أو مآسي، نسمع المنادي ينادي إلى الصلاة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
أيها الإخوة في الله، أما الأمنية الثانية التي يتمناها الموتى فهي الرجوع إلى الدنيا ولو لدقائق معدودة ليتصدّقوا، ليقدّموا صدقة لله، ولقد نقل الله لنا أمنيتهم هذه في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11]. لقد اقتنعوا ـ ولكن بعد فواتِ الأوان ـ أن الصدقة من أحبّ الأعمال إلى الله، وأن العبدَ سيسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ فتمنّوا الرجعة ليقدموا صدقتهم بعد أن منعوها الفقير وصرفوها على شهواتهم وسياحتهم، فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ، إنها أمنية مليئة بالحسرة والأسف، ولكنها جاءت متأخرة.
أيها الإخوة في الله، أما الأمنية الثالثة التي يتمناها الموتى فهي العودة إلى الدنيا ولو للحظات معدودة ليكونوا صالحين، ليعملوا أيَّ عمل صالح، ليصلِحوا ما أفسدوا، ويطيعوا الله في كل ما عصوا، ليذكروا الله تعالى ولو مرة، يتمنّون النطق ولو بتسبيحة واحدة، ولو بتهليلة واحدة، فلا يؤذن لهم، ولا تحقّق أمنياتهم، قال الله عز وجل في شأنهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]، هذا هو حال المقصّر مع الله تعالى، يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، يقول: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58].
أما المؤمن ـ يا عباد الله ـ فإنه إذا أدخل قبره وبشر بالجنة ورأى منزلته فيها فإنه لا يتمنى أن يعود إلى الدنيا، بل يتمنى أن تقوم الساعة ليدخل في ذلك النعيم المقيم الذي ينتظره. لقد ذكر لنا رسول الله أن العبد المؤمن إذا أجاب على أسئلة الملكين وهو في قبره ((نادى مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة ربّ أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي و مالي)). هذه أمنية الرجل الصالح ـ يا عباد الله ـ في قبره أن تقوم الساعة.
وأما الكافر أو المنافق فعلى الرغم من شدّة العذاب الذي يلاقيه في قبره فإنه يدعو: ربّ لا تقم الساعة ربّ لا تقم الساعة؛ لأنه يعلم أن ما بعد القبر هو أشدّ وأفظع، كما صح عن النبي أن المؤمن إذا بشر في قبره بالجنة يتمنى أن يعودَ إلى أهله ليبشرهم بنجاته من النار وفوزه بالجنة، إذ روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا رأى المؤمن ما فسح له في قبره فيقول: دعوني أبشر أهلي))، وفي رواية: ((يقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن)) رواه الإمام أحمد.
ولقد قصّ الله عز وجل علينا قصة صاحب يس الذي كان حريصا على هداية قومه إلا أنهم قتلوه وهو يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسله، فلما عاين كرامة الله عز وجل له وفوزه بالجنة تمنى أن يعلم قومه بذلك كي يؤمنوا، فقال تعالى في شأنه: قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ [يس:26، 27]، أي: تمنى أن قومه الذين حاربوا دين الله ورفضوا الاستجابة لأوامر الله أن يعلموا ماذا أعطاه الله من نعيم وثواب جزيل. هذا ما يتمناه المؤمن في قبره. أما الشهيد فبالرغم من عظم منزلته الرفيعة التي يراها أعدّت له في أعلى درجات الجنة فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا ولكن ليستمرّ في جهاد أعداء الله، فيقاتل ويُقتل ولو عشر مرات، لما يرى من ثواب الجهاد وكرامة المجاهدين عند الله عز وجل.
اسمعوا ما نقله لنا الصادق المصدوق عن أمنية كلّ شهيد، حيث روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا وأن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى قال : ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)).
أيها الإخوة في الله، إن الميت العاصي إذا هجمت عليه منيته وأحاطت به خطيئته وانكشف له الغطاء صاح: وا منيّتاه، وا سوء منقلباه، رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت. هذه هي أمنيته الوحيدة.
فالموتى قد انتهت فرصتهم في الحياة، وعاينوا الآخرة، وعرفوا ما لهم وما عليهم. أدركوا أنهم كانوا يضيعون أوقاتهم فيما لم يكن ينفعهم في آخرتهم، أدركوا أن الوقت الذي ضاع من بين أيديهم كان لا يقدّر بثمن، أدركوا أنهم كانوا في نعمة ولكن لم يستغلوها، وأصبحوا يتمنون عمل حسنة واحدة لعلها تثقل ميزانهم، فلا يستطيعون.
إن أكثر ما يكون الإنسان غفلة عن نعم الله عليه حينما يكون مغمورا بتلك النعم، ولا يعرف فضلها إلا بعد زوالها. فنحن ـ معشر الأحياء ـ في أكبر نعمة طالما أن أرواحنا في أجسادنا لنستكثر من ذكر الله وطاعته، ألا تعلم ـ أخي المسلم ـ بأن رسولنا محمدا أمرنا عند الاستيقاظ من النوم أن نحمد الله تعالى لأنه أحيانا بعد أن أماتنا وأذن لنا بذكره؟! لأن النوم هو الموتة الصغرى، فقد روى ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره)).
نحن نملك الآن نعمة الحياة لنزيد من حسناتنا ونكفّر عن سيئاتنا، فإذا متنا ندمنا على كل دقيقة ضاعت ليس فيها ذكر لله وليست في طاعة الله، فاغتنموا ساعات العمر ودقائقه قبل أن تندموا فتتمنوا ما يتمناه بعض الموتى الآن.
قال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق، انطلق بنا إلى أهل الآخرة نُحدثُ بقربهم عهدا، فانطلقت معه فأتى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق، ما ترى هذا متمنّيا لو مُنَّ؟ ـ أي: لو قيل: له تمنَّ ـ قلت: أن يُردَّ والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويُصلح، قال: ها نحن في الدنيا فلنطع الله ولنصلِح، ثم نهض فجدّ واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات رحمه الله تعالى [إيقاظ أولي الهمم (ص357)].
فإذا زرت المقبرة قف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك. فماذا تتمنى يا ترى في هذه اللحظة؟ ألا تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتعمل صالحا، لتركع ركعة، لتسبّح تسبيحة، لتذكر الله تعالى ولو مرة؟! ها أنت على ظهر الأرض حيًّا معافى فاعمل صالحا قبل أن تعضَّ على أصابع الندم وتصبح في عداد الموتى، تتمنى ولا مجيب لك. فإذا وسدت في قبرك فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة. قال إبراهيم التيمي: مثَّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا، قال: فقلت: أنت في الأمنية فاعملي. [حلية الأولياء (4/211)].
فيا عباد الله، نحن في دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فمن لم يعمل هنا ندم هناك، وكل يوم تعيشه هو غنيمة، فإياك والتهاون فيه، فإن غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من عمل صالح، ولا سبيل لهم إلى ذلك البتة.
لو قيل لقوم: ما مُناكمو؟…طلبوا حياةَ يومٍ ليتوبوا
فاعلمِ ويحكِ يا نفس ألا تيقظ…ينفع قبل أن تزلّ قدمي
مضى الزمان في توانٍ وهوى…فاستدركي ما قد بقيَ واغتنمي
فيا أُخيَّ المسلم، إذا زرتَ المقبرة أو شيّعت جنازة لا تكن عندها من الغافلين، ولا تكثر الحديث مع أحد، وإنما تذكّر أمنيات هؤلاء الأموات الذين من حولك المرتهنين بأعمالهم، واغتنم فرصتك في الحياة لتذكر الله كثيرا، لئلا تكون غدا مع الموتى فتصبح تتمنى كما بعضهم يتمنى. إذا هممتَ بمعصية تذكّر أماني الموتى، تذكّر أنهم يتمنّون لو عاشوا ليطيعوا الله، فكيف أنت تعصي الله؟! إذا رأيتَ نفسك فارغا فتذكّر أمنية الموتى، إذا هممتَ بمعصية فاذكر أمنية الموتى, إذا فترت عن طاعة الله فاذكر أمنية الموتى.
أيها الإخوة في الله، أما كيف نخفّف من لوعات الموتى فبالدعاء والاستغفار لهم والصدقة عنهم، فتلك أفضل هدية يتمنون وصولها منكم.
يا عباد الله، اجعلوا عبارة أمنيات الموتى على ألسنتكم، ودائما في مخيلتكم، فإنها خير معين لكم على فعل الخير، على الترحم على أموات المسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.**الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.*أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واصرفوا أعماركم في طاعة الله، واعلموا أن كل ميت قصر في جنب الله قد عضّ على أصابع الندم، وأصبح يتمنى لو تعود له الحياة ليطيع الله ليرد حقّ إنسان. إن تسبيحة واحدة عندهم خير من الدنيا وما فيها. لقد أدركوا يقينا أنه لا ينفعهم إلا طاعة الله.
إن الذي يضيع وقته أمام وسائل اللهو، لو يعلم ماذا يتمنى الموتى لما ضيّع دقيقة واحدة. لو علمتَ ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، فاحذر زلل قدمك، وخف طول ندمك، واغتنم وجودك قبل عدمك. إنها قد تكون لحظات، فما ترى نفسك إلا في عداد الأموات، فانهل ـ يرحمك الله ـ من الحسنات قبل الممات. بادر إلى التوبة ما دمت في مرحلة الإمهال، قبل حلول ساعة لا تستطيع فيها التوبة إلى ربك، قبل أن يأتيك الموت بغتة فيحال بينك وبين العمل فتقول: يا ليتني قدمت لحياتي. اعلم أن الدقيقة التي تمر من حياتك يتمنى مثلها ملايين الموتى ليستثمروها في طاعة الله، ليحدثوا لله توبة، ليذكروا الله فيها ولو مرة، فلا تصرف دقائق عمرك في غير طاعة، لئلا تتحسر في يوم لا ينفع فيه الندم.أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:56-61].
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا للاستعداد ليوم الرحيل، ولا يجعلنا في قبورنا من النادمين.
منقول
1- أماني الأحياء. 2- الحديث عن الأموات. 3- ما يتمناه الميت في قبره. 4- الغفلة عن الموت. 5- التذكير بالموت. 7- الحث على اغتنام الأوقات.
الخطبة الأولى أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنجوى، فتقوى ربِّكم عدّتُكم للشدائد، وذخرٌ لكم يومَ القيامة، يوم لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئًا ولا يقبَل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصَرون.
لكل إنسان في هذه الحياة أمان كثيرة ومتعدّدة، وتتفاوت هذه الأماني وتتباين وفقا لاعتبارات عديدة، منها البيئة التي يعيش فيها الفرد، والفكر الذي تربى عليه، والأقران الذين يحيطون به. فلو سألتَ إنسانا: ما أمنيتك في هذه الحياة؟ فإن كان من وسط فقير وعاين الفقر وأحسّ بألمه واكتوى به لتمنى أن يعيش غنيا وأن يملك العقارات والسيارات ليعيش منعمًا كما يتنعّم غالب الناس. ولو قابلتَ مريضا طرحَه المرض على الفراش فشلّ حركته وقيّد حريته ومنعه حتى من لذة الطعام والمنام وسألته عن أمنيته لرأيتَه يتمنى أن يعافى من مرضه ولو افتدى بماله كله. ولو سألت طالبا جامعيا عن أمنيته لرأيته يتمنى وظيفةً مرموقة تكفيه وزوجةً حسناء تغريه ومنزلا واسعا يؤويه. ولو سألت بعض الأغنياء عن أمنياتهم لرأيتهم يتمنّون مزيدا من الغنى ليكونوا أغنى من فلان وعلان. وهكذا فالمقلّ لا يقنع والمكثر لا يشبع، وأماني الدنيا لا تنتهي، وصدق رسول الله حينما قال: ((لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى مثله، ثم تمنى مثلَه، حتى يتمنى أوديةً، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب)) رواه الإمام أحمد وابن حبان عن أنس رضي الله عنه، أي: لا يزال ابن آدم حريصًا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره.
أيها الإخوة في الله، ومع هذه الأماني المتباينة فإنّ الجميع تراهم يسعَون ويكدحون طوال حياتهم لتحويل أحلامهم وأمنياتهم إلى واقع، وقد يوفقهم الله تعالى إلى تحقيقها متى بذلوا أسباب ذلك، ولكن هناك فئة من الناس لا يمكنهم تحقيق أمنياتهم، ولا ينظَر في طلباتهم، فمن هم؟ ولماذا لا تحقَّق أمنياتهم؟ وهل يمكننا مساعدتهم أو تخفيفُ لوعاتهم؟ هذا ما سنعرفه في هذه الخطبة إن شاء الله.
أما عن هذه الفئة التي لا يمكنها تحقيق أمنياتهم فهم ممن أصبحوا رهائن ذنوب لا يطلَقون، وغرباء سفر لا ينتَظرون، إنهم الأموات يا عباد الله.
فماذا يتمنى الأموات يا ترى وقد انقطع عنا خبرهم واندرس ذكرهم؟ ومن يا ترى يستطيع أن يحدّثنا عن أمنياتهم؟ تعالوا لنتحدّث قليلا عن هذه الفئة المنسيّة، لنعرف أمنيات أناس بعد أن عاينوا الجنة والنار، ورأوا ملائكة الله، وأصبح الغيب لديهم شهادة، وعرفوا حقيقة الدنيا والآخرة، وأيقنوا وهم في برزخهم أنهم سيبعثون ليوم النشور، فهل يتمنون العودة إلى هذه الدنيا ليتمتعوا بالحياة ويحسّوا بلذتها وطعمها، أو ليملكوا مزيدا من العقارات ويجوبوا الأرض سياحة ولهوا؟!
إن أمنية الكثير من الناس في هذه الحياة لا يزيد على وظيفةٍ وزوجة ومركبٍ هنيءٍ وبيتٍ واسعٍ وأملاكٍ وعقاراتٍ وتمشياتٍ وسهراتٍ وحضورٍ ولائم وحفلات، أما الأموات فماذا يريدون من دنيا رحلوا عنها واغتروا بها وعرفوا حقيقتها وخلفوها وراء ظهورهم؟!
فلنسمع ما نقله لنا كتاب ربنا وسنة نبينا محمد عن أمنيات الموتى:
أولا: يتمنى الميت لو تعاد له الحياة ليصلّي ولو ركعتين، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله مر بقبرٍ فقال: ((من صاحب هذا القبر؟)) فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وفي رواية قال : ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم)).
فغاية أمنية الميت المقصر أن يُمدَّ له في أجله ليركع ركعتين يزيد فيها من حسناته ويتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة. ألم تسمعوا وصية رسولنا وهو يقول لنا معشرَ الأحياء: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليكثر))؟!
لقد عاين ذلك الميت وهو في قبره ثوابَ الصلاة، ورأى بأمّ عينه فائدة الصلاة، فتأسف على أيام أمضاها في غير طاعة، على ساعات مضت أمام شاشات اللهو والمجون، لم يجن منها سوى الحسرة والندامة، وها نحن نرى رسول الله يترجم لنا أمنية ذلك الميت وهو في قبره، يتمنى أن يصلي، يتمنى أن يعود إلى الدنيا لدقائق معدودة ليركع ركعتين فقط لا غير، لا يريد من الدنيا إلا ركعتين، لأنهما الآن أصبحتا عنده تعدل الدنيا بما فيها، وماذا عسى أن تساوي الدنيا عنده وقد خلّفها وراء ظهره وارتهن بعمله؟!
اغتنم في الفراغ فضل ركوع…فعسى أن يكونَ موتك بغتة
كم صحيح رأيتَ من غير سُقم…ذهبتْ نفسه الصحيحة فلتة
فغاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة، بل دقيقة، يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، أما نحن أهل الدنيا فمفرّطون في أوقاتنا بل في حياتنا، نبحث عما يقتل أوقاتنا لتذهب أعمارنا سدى في غير طاعة، ومنا من يقطعها بالمعاصي، ولا ندري ماذا تخبئ لنا قبورنا من نعيم أو مآسي، نسمع المنادي ينادي إلى الصلاة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
أيها الإخوة في الله، أما الأمنية الثانية التي يتمناها الموتى فهي الرجوع إلى الدنيا ولو لدقائق معدودة ليتصدّقوا، ليقدّموا صدقة لله، ولقد نقل الله لنا أمنيتهم هذه في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11]. لقد اقتنعوا ـ ولكن بعد فواتِ الأوان ـ أن الصدقة من أحبّ الأعمال إلى الله، وأن العبدَ سيسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ فتمنّوا الرجعة ليقدموا صدقتهم بعد أن منعوها الفقير وصرفوها على شهواتهم وسياحتهم، فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ، إنها أمنية مليئة بالحسرة والأسف، ولكنها جاءت متأخرة.
أيها الإخوة في الله، أما الأمنية الثالثة التي يتمناها الموتى فهي العودة إلى الدنيا ولو للحظات معدودة ليكونوا صالحين، ليعملوا أيَّ عمل صالح، ليصلِحوا ما أفسدوا، ويطيعوا الله في كل ما عصوا، ليذكروا الله تعالى ولو مرة، يتمنّون النطق ولو بتسبيحة واحدة، ولو بتهليلة واحدة، فلا يؤذن لهم، ولا تحقّق أمنياتهم، قال الله عز وجل في شأنهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]، هذا هو حال المقصّر مع الله تعالى، يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، يقول: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58].
أما المؤمن ـ يا عباد الله ـ فإنه إذا أدخل قبره وبشر بالجنة ورأى منزلته فيها فإنه لا يتمنى أن يعود إلى الدنيا، بل يتمنى أن تقوم الساعة ليدخل في ذلك النعيم المقيم الذي ينتظره. لقد ذكر لنا رسول الله أن العبد المؤمن إذا أجاب على أسئلة الملكين وهو في قبره ((نادى مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة ربّ أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي و مالي)). هذه أمنية الرجل الصالح ـ يا عباد الله ـ في قبره أن تقوم الساعة.
وأما الكافر أو المنافق فعلى الرغم من شدّة العذاب الذي يلاقيه في قبره فإنه يدعو: ربّ لا تقم الساعة ربّ لا تقم الساعة؛ لأنه يعلم أن ما بعد القبر هو أشدّ وأفظع، كما صح عن النبي أن المؤمن إذا بشر في قبره بالجنة يتمنى أن يعودَ إلى أهله ليبشرهم بنجاته من النار وفوزه بالجنة، إذ روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا رأى المؤمن ما فسح له في قبره فيقول: دعوني أبشر أهلي))، وفي رواية: ((يقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن)) رواه الإمام أحمد.
ولقد قصّ الله عز وجل علينا قصة صاحب يس الذي كان حريصا على هداية قومه إلا أنهم قتلوه وهو يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسله، فلما عاين كرامة الله عز وجل له وفوزه بالجنة تمنى أن يعلم قومه بذلك كي يؤمنوا، فقال تعالى في شأنه: قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ [يس:26، 27]، أي: تمنى أن قومه الذين حاربوا دين الله ورفضوا الاستجابة لأوامر الله أن يعلموا ماذا أعطاه الله من نعيم وثواب جزيل. هذا ما يتمناه المؤمن في قبره. أما الشهيد فبالرغم من عظم منزلته الرفيعة التي يراها أعدّت له في أعلى درجات الجنة فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا ولكن ليستمرّ في جهاد أعداء الله، فيقاتل ويُقتل ولو عشر مرات، لما يرى من ثواب الجهاد وكرامة المجاهدين عند الله عز وجل.
اسمعوا ما نقله لنا الصادق المصدوق عن أمنية كلّ شهيد، حيث روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا وأن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى قال : ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)).
أيها الإخوة في الله، إن الميت العاصي إذا هجمت عليه منيته وأحاطت به خطيئته وانكشف له الغطاء صاح: وا منيّتاه، وا سوء منقلباه، رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت. هذه هي أمنيته الوحيدة.
فالموتى قد انتهت فرصتهم في الحياة، وعاينوا الآخرة، وعرفوا ما لهم وما عليهم. أدركوا أنهم كانوا يضيعون أوقاتهم فيما لم يكن ينفعهم في آخرتهم، أدركوا أن الوقت الذي ضاع من بين أيديهم كان لا يقدّر بثمن، أدركوا أنهم كانوا في نعمة ولكن لم يستغلوها، وأصبحوا يتمنون عمل حسنة واحدة لعلها تثقل ميزانهم، فلا يستطيعون.
إن أكثر ما يكون الإنسان غفلة عن نعم الله عليه حينما يكون مغمورا بتلك النعم، ولا يعرف فضلها إلا بعد زوالها. فنحن ـ معشر الأحياء ـ في أكبر نعمة طالما أن أرواحنا في أجسادنا لنستكثر من ذكر الله وطاعته، ألا تعلم ـ أخي المسلم ـ بأن رسولنا محمدا أمرنا عند الاستيقاظ من النوم أن نحمد الله تعالى لأنه أحيانا بعد أن أماتنا وأذن لنا بذكره؟! لأن النوم هو الموتة الصغرى، فقد روى ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره)).
نحن نملك الآن نعمة الحياة لنزيد من حسناتنا ونكفّر عن سيئاتنا، فإذا متنا ندمنا على كل دقيقة ضاعت ليس فيها ذكر لله وليست في طاعة الله، فاغتنموا ساعات العمر ودقائقه قبل أن تندموا فتتمنوا ما يتمناه بعض الموتى الآن.
قال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق، انطلق بنا إلى أهل الآخرة نُحدثُ بقربهم عهدا، فانطلقت معه فأتى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق، ما ترى هذا متمنّيا لو مُنَّ؟ ـ أي: لو قيل: له تمنَّ ـ قلت: أن يُردَّ والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويُصلح، قال: ها نحن في الدنيا فلنطع الله ولنصلِح، ثم نهض فجدّ واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات رحمه الله تعالى [إيقاظ أولي الهمم (ص357)].
فإذا زرت المقبرة قف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك. فماذا تتمنى يا ترى في هذه اللحظة؟ ألا تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتعمل صالحا، لتركع ركعة، لتسبّح تسبيحة، لتذكر الله تعالى ولو مرة؟! ها أنت على ظهر الأرض حيًّا معافى فاعمل صالحا قبل أن تعضَّ على أصابع الندم وتصبح في عداد الموتى، تتمنى ولا مجيب لك. فإذا وسدت في قبرك فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة. قال إبراهيم التيمي: مثَّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا، قال: فقلت: أنت في الأمنية فاعملي. [حلية الأولياء (4/211)].
فيا عباد الله، نحن في دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فمن لم يعمل هنا ندم هناك، وكل يوم تعيشه هو غنيمة، فإياك والتهاون فيه، فإن غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من عمل صالح، ولا سبيل لهم إلى ذلك البتة.
لو قيل لقوم: ما مُناكمو؟…طلبوا حياةَ يومٍ ليتوبوا
فاعلمِ ويحكِ يا نفس ألا تيقظ…ينفع قبل أن تزلّ قدمي
مضى الزمان في توانٍ وهوى…فاستدركي ما قد بقيَ واغتنمي
فيا أُخيَّ المسلم، إذا زرتَ المقبرة أو شيّعت جنازة لا تكن عندها من الغافلين، ولا تكثر الحديث مع أحد، وإنما تذكّر أمنيات هؤلاء الأموات الذين من حولك المرتهنين بأعمالهم، واغتنم فرصتك في الحياة لتذكر الله كثيرا، لئلا تكون غدا مع الموتى فتصبح تتمنى كما بعضهم يتمنى. إذا هممتَ بمعصية تذكّر أماني الموتى، تذكّر أنهم يتمنّون لو عاشوا ليطيعوا الله، فكيف أنت تعصي الله؟! إذا رأيتَ نفسك فارغا فتذكّر أمنية الموتى، إذا هممتَ بمعصية فاذكر أمنية الموتى, إذا فترت عن طاعة الله فاذكر أمنية الموتى.
أيها الإخوة في الله، أما كيف نخفّف من لوعات الموتى فبالدعاء والاستغفار لهم والصدقة عنهم، فتلك أفضل هدية يتمنون وصولها منكم.
يا عباد الله، اجعلوا عبارة أمنيات الموتى على ألسنتكم، ودائما في مخيلتكم، فإنها خير معين لكم على فعل الخير، على الترحم على أموات المسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.**الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.*أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واصرفوا أعماركم في طاعة الله، واعلموا أن كل ميت قصر في جنب الله قد عضّ على أصابع الندم، وأصبح يتمنى لو تعود له الحياة ليطيع الله ليرد حقّ إنسان. إن تسبيحة واحدة عندهم خير من الدنيا وما فيها. لقد أدركوا يقينا أنه لا ينفعهم إلا طاعة الله.
إن الذي يضيع وقته أمام وسائل اللهو، لو يعلم ماذا يتمنى الموتى لما ضيّع دقيقة واحدة. لو علمتَ ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، فاحذر زلل قدمك، وخف طول ندمك، واغتنم وجودك قبل عدمك. إنها قد تكون لحظات، فما ترى نفسك إلا في عداد الأموات، فانهل ـ يرحمك الله ـ من الحسنات قبل الممات. بادر إلى التوبة ما دمت في مرحلة الإمهال، قبل حلول ساعة لا تستطيع فيها التوبة إلى ربك، قبل أن يأتيك الموت بغتة فيحال بينك وبين العمل فتقول: يا ليتني قدمت لحياتي. اعلم أن الدقيقة التي تمر من حياتك يتمنى مثلها ملايين الموتى ليستثمروها في طاعة الله، ليحدثوا لله توبة، ليذكروا الله فيها ولو مرة، فلا تصرف دقائق عمرك في غير طاعة، لئلا تتحسر في يوم لا ينفع فيه الندم.أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:56-61].
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا للاستعداد ليوم الرحيل، ولا يجعلنا في قبورنا من النادمين.
منقول