ليت كل الذين كتبوا عن الأزمة الطارئة بين السعودية ومصر كانوا كما الصديق الرائع عبد الوهاب الطريري حين كتب:
"عن بلدي مصر وأخوالي المصريين أتحدث"
فاستعرض
السيرة والتاريخ والهجرات إلى مصر، والشخصيات الطارئة على مصر، والتي جعلت
منها منصة انطلاق نحو المجد والعمل والتأثير والخلود.
الكلمات الحكيمة المنصفة ماء نقي يصب على نار الغضب والانفعال فيحيلها برداً وسلاماً.
ثمَّ من يراهن على توتير العلاقة بين مصر ودول الخليج، وقد تتمظهر بعض هذه الأصوات بـ "الوطنية"، لكنها وطنية مغشوشة مصطنعة.
أمن الوطنية أن يشتم سفيه ملايين المصريين أو يتهمهم دون مبالاة؟
أم من الوطنية أن يرسم سفيه آخر نجمة داوود على سفارة عربية إسلامية؟
المسؤول
والكاتب والمتحدث، الخليجي أو المصري، حين يصب الزيت على النار، ويستغل
حدثاً عابراً متكرراً لتسميم العلاقة فهو يُعبِّر عن دخيلة سوء، كانت تتربص
حتى وافتها فرصتها فاندفعت تُعبِّر عن مكنونها المريض، وتتمنى أن تتطور
الأمور إلى الأسوأ.
تعليقات
ومقالات وتغريدات تحريضية تعقّد المشكلة وتستجيب لنزعات الانغلاق والتعصب
والأنانية، والجاهزية للمضي في الاختلاف إلى أقصى مداه بجاهلية، وتتجاهل
فكرة التهدئة والحلم وطول النفس.
وقد مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- أشج عبد القيس بخصلتين يحبهما الله «الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ».
أيّ
حِلْم وأي أَنَاة لواضع يده على الزناد منذ زمن ليس بالقصير يتربَّص حدثاً
ليُجْهز على علاقة إستراتيجية تاريخية بين بلدين عربيين مسلمين متجاورين
متكاملين.
في
السعودية أكثر من مليوني مصري يعملون في شتى المجالات، أما الذين مرّوا ثم
انصرفوا فأكثر من أن يأتي عليهم العدّ، وبصمات المصريين على دول الخليج
خاصة، ودول العرب والإسلام عامة في التعليم والإعلام والطب والإدارة واضحة
وضوح الشمس.
واستقبال أهل البلاد لهم بالحب والترحاب والثقة هو أنموذج حسن من كرم الضيافة وحق الأخوة.
استحضار الصورة بهذا الشكل هو الذي يذيب التوتر ويعيد النفس إلى اتزانها.
تحية
وشكر لبناتي وأبنائي الذين أفلحوا في التقاط الفكرة ووصفوا "وسماً"
تويترياً يتحدث عن مصريين أثروا في حياتهم، أو العكس، وكان هذا الصوت
العاقل المنتمي للمستقبل بإصرار.
حين وقع في نفوس الأنصار ما وقع من تفضيل غيرهم بالعطاء يوم حنين، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
« أَلَمْ
آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ
وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ». قَالُوا بَلِ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. قَالَ « أَلاَ تُجِيبُونَنِى يَا
مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ». قَالُوا وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ. قَالَ « أَمَا
وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ
أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ
وَطَرِيداً فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ.. ».
ليس من العدل أن يتحدَّث طرف عن جهده وعمله وإنجازه ويتجاهل دور الآخر في بذله وعطائه، وهكذا هي الحياة.. تشارك وتفاعل.. وأخذ وعطاء.
"مصر الثورة" غير.. في تعاملها مع العالم كله، مع أمريكا وإسرائيل وسواها.
فهي لم تعد "عزبة مبارك" بل صارت تتجه إلى المؤسسية والاحترام والشفافية.
وفي الإطار ذاته فمصر الثورة تعرف أن في داخل الصف من يحاول تسميم الأجواء، واستغلال حركة التغيير لمشروعه الشخصي أو لمشروعه المضاد.
إن
أيّ أزمة بين البلدين هي ضرر بليغ وخدمة لأعداء الإسلام والعروبة، والفراغ
الذي يحدث سيجد من يسارع لتقديم بديل يسده سواء كان بديلاً إسرائيلياً أو
إيرانياً أو .. أو ..
الحوادث
الفردية وقعت وسوف تقع مستقبلاً، لكن التصعيد الشعبي أو السياسي أو
الإعلامي لا يخدم الحقيقة غالباً، ولا يخدم مصلحة الطرفين، والشرارة تبدأ
عادة من أفراد ينغمسون في لحظتهم الراهنة ولا يفكرون أين سيخفون وجوههم بعد
هدوء الأزمة!
العلاقة
بين الطرفين صلة تاريخ طويل، وجغرافيا ممتدة، ومشترك ثقافي عريق، ومستقبل
واحد، وتأثُّر وتأثير متبادل، حاجة، بل مصلحة، بل ضرورة لا بديل عنها.
أتمنى
أن يكون ما نشرته الجارديان من أن العلاقة بين البلدين هي الأسوأ منذ
توقيع السادات اتفاقية كامب ديفيد.. هو تحليل متسرع وغير واقعي.
وأن
يكون الاحتكام إلى الهدوء والحكمة والاستجابة لصوت العقل هو السائد، وأن
يكون الوضوح التام أساساً للعلاقة لا يدع مجالاً للبس أو نشر الشائعات أو
الاحتمالات والظنون والتفسيرات.
عرفنا
في خصومات سابقة كيف تلعب أصابع السياسة بعواطف الجماهير وتقودها إلى حيث
تريد، فهل يحق لنا أن نحلم بمرحلة جديدة تسمح للدول أن تحقق ذاتها، وأن
تنهمك في بناء مشروعها الوطني عبر شبكة من العلاقات الإيجابية، وليس
التشاغل بصناعة المعارك تعبيراً عن الحضور، أو تعويضاً عن غياب المشروع؟
ليكن إغلاق السفارة إجراءً مؤقتاً لتجنُّب مواجهة المتظاهرين ثم تعود المياه إلى مجاريها.
وليكن
ما حدث صوت نذير يدعو العقلاء من الطرفين إلى عزل الأصوات النشاز، ومعالجة
الملفات بصراحة ووضوح، واستعداد لفتح صفحات جديدة من التعاطي الإيجابي
والاحترام المتبادل والمتكئ على المشترك الهائل، والقائم على كسب من تظنهم
أعداء، وليس خسارة من هم في الحقيقة أصدقاء.
الكاتب:
د. سلمان بن فهد العودة