إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهدِ الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً)).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)).
* أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهَديِ هَديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأُمورِ مُحدَثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بِدعةٌ، وكل بِدعة ضلالة، وكل ضلالةِ في النار.
* أيها الناس!
لنستمع المنقذ العظيم، الرسول الكريم، والمعلم النبيل، والهادي الجليل، في كلماته المعطاة، وأحاديثه النيرة، وأسلوبه العذب، عليه أفضل الصلاة والسلام.
ففي صحيح البخاري ومسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة). (1)
لم يتكلم في زمن الرضاعة والطفولة إلا ثلاثة أطفال، يرضعون اللبن من ثدي أمهاتهم، ولكنهم تكلموا، فمن الذي أنطقهم؟
ومن الذي أعطاهم القدرة على الكلام ؟
أنطقهم الله الذي أنطق كل شيء، الذي ينطق الحجارة فتتكلم، والجلود ينطقها يوم القيامة فتتحدث، والأعضاء يستشهدها لتشهد، ويختم على الأفواه التي طالما تكلمت وحاربت ربها فلا تتكلم.
أرأيتم الذئب، إنه حيوان كسائر الحيوانات، لا يتلكم، ولا يعقل؛ ولكن الله عز وجل أنطقه وجعله يتكلم بلسان فصيح، وأسلوب واضح.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا راع في غنمه، عدا عليه الذئب، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي، حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يو السبع، (1)
يوم ليس لها راع غيري؟
فقال الناس: سبحان الله!! ذئب يتكلم) (1)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر و عمر)
تكلم الذئب، أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، وهو على كل شيء قدير.
وقد أنطَقَ الله الجماد، ففي صحيح البخاري ، عن جابر رضي الله عنه، قال: (كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسقوفاً على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم على جذع منها، فلما صُنِعَ له المنبر، وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار (1) حتى جاء صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها، فسكنت) (1) .
وعند أحمد في المسند: (فخار الجذع كما تخور البقرة جزعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتزمه ومسحه حتى سَكَن) (1) .
إن جذع النخلة وهو جماد، لم يستطع مُفارَقَة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحَن إليه، وبكى على فِراقه وخارَ كما تخور البقرة.
فكيف استطاع الإنسان أن يبتعد عن سُنته صلى الله عليه وسلم؟
كيف استطاع أن يُفارق هَديه صلى الله عليه وسلم؟
كيف استطاع أن يسير على غير طريقه صلى الله عليه وسلم؟
وهذه نملة، لا تكاد تُرى، يمر سليمان وجيشه بجوار وادِ النمل، فتتكلم النملة وتقول: ((يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)).
فمَن الذي أنطَقَها؟
أنطقها الله الذي أنطَقَ كل شيء.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لم يتكلم في المَهد إلا ثلاثة؟
عيسى عليه السلام، وقد أتت به أمه بلا أب، والله خَلَقَ الخَلق على أصناف أربعة:
- خلق آدم من غير أب ولا أُم.
- وخلق حواء من أب بلا أُم؟
لأنها خُلِقَت من ضلع آدم .
- وخلق عيسى عليه السلام من أُم بلا أب.
- وخلق سائر الخَلق من أب وأُم.
- ((هَذَا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)).
فأتت مريم تحمل عيسى عليه السلام، قال بنو إسرائيل: ((يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)).
فلم تتكلم، ((فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ))، فتضاحكوا وقالوا: ((كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا))، فتكلم عيسى بإذن الله، ولم يمضِ عليه إلا ساعات، وقيل: ثلاثة أيام، فتكلم بلسان فصيح، نصيح، مليح، قال: ((قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)).
وثانيهم صاحب جريج ، وكان جريج رجلاً عابداً من عباد بني إسرائيل، كان دائماً في صلاة، وذِكر، ودعاء لله تبارك وتعالى، وقد اتخذ صومعة يعبد فيها ربّه- عزّ وجل.
وفي ذات يوم أتته أُمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج ، فقال: يا رب أُمّي وصلاتي، أي ماذا أفعل أأقطع الصلاة لأُجيب أُمي، أم أستمر في الصلاة ولا أقطعها؟
ثم أقبل على صلاته.
الآن والداك ما يطالبانك بأن تقطع الصلاة؟
بل يدعوانك إلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فتجد مَن يعق الوالدين، ويلعن الوالدين ويهجر الوالدين، والله تبارك وتعالى يقول: ((فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا))، ويقول سبحانه وتعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ))
أهذا جزاء الإحسان؟
أهكذا شُكر الوالدين؟
.
لقد وجدنا في مجتمعنا مَن فعل لابنه كل شيء، بنى له بيتاً، وزوجه، وأعطاه سيارة، وجعل له أملاكاً، ومع ذلك فتجد هذا الابن، من أفجَر الناس في معاملة أبيه وأُمه!! قلبه أشد قسوة من قلوب اليهود و النصارى ، يخالف والدَيه، يتنقص أباه في المجالس ويستهزىء به، وربما سبه وشتمه أمام الناس، والله تعالى يقول: ((أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)).
فجعل منزلة شكر الوالدين بعد منزلة شكره سبحانه وتعالى، وما ذاك إلا لعِظَم فضل الوالدين، وأكد حقوقهما على الأبناء.
أما جريج فلم يعصِ أُمه، ولكنه رأى أن طاعة الله تُقَدم، فاشتغل بصلاته، ولم يُجِب أُمه، فانصرفت أُمه، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج . فقال: يا رب أُمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج ، فقال: أي رب، أُمي وصلاتي، فأقبل على صلاته. فقالت أُمه: اللهم لا تُمِته حتى ينظر إلى وجوه المومسات!!.
أي لا تحكم عليه بالموت والفناء قبل أن يرى وجوه الزواني والبغايا المُجاهِرات بذلك.
ولكن هل رأيتم إنساناً يحافظ على الصلوات الخمس، ثم يشرب الخمر؟
لا.
هل رأيتم إنساناً يحفظ القرآن في صدره، ويتقي الله عز وجلّ في عمله، ثم هو يسرق ويزني؟
لا.
إن عبداً يحافظ على صلاة الفجر في الجماعة كل يوم، لا يتردى في الكبائر أبداً، وهذا في الغالب، وأكثر الذين يدخلون السجون الآن، مَن لا يعرفون طريق المسجد، ولا طريق المصحف، فلما جهلوا أو تجاهلوا طريق
المسجد والطاعة، عرفهم الله طريق الحبس والسجن والإهانة.
دَعَت أُم جريج عليه وانصرفت، فتذاكَر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وحسدوه على ذلك، لأنهم لا يريدون إلا الفجور والفسق والعُهر.
تركوا الحجاب، واختلط النساء بالرجال، ففشي فيهم الزّنا والبغاء، فلعنهم الله، وجعل منهم القِرَدَة والخنازير ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ))،
ولذلك كانوا يحاربون كل أحد يدعو إلى فضيلة أو يلتزم بها في نفسه.
فهذا موسى عليه السلام، وليس هناك أطهر من الأنبياء، ولكن بنو إسرائيل اتهموا الأنبياء بالزنا، حتى قالوا -قبحهم الله- إن لوطاً عليه السلام، شرب حتى سكر، ولما سكر وقع على ابنتيه.
هذا نبي الله لوط عند اليهود !!.
أتى قارون إلى امرأة زانية، وأعطاها قنطاراً من ذهب، وقال: إن رأيت موسى أتى إلينا ليدعونا، فقومي وسط الناس، واصرخي فيهم وادعي أن موسى زَنَا بك.
سبحان الله! موسى عليه السلام يزني!!
إنه الافتراء على الدعاة إلى الله، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا على مرّ العصور والأزمان.
فلما اجتمع قارون والأغنياء، والأمراء، والوُجهاء، وجاءهم موسى عليه السلام يدعوهم، قامت هذه المرأة البغي تصرخ وتضرب وجهها، وتدعي أن موسى عليه السلام فعل بها الفاحشة !!.
فقام موسى عليه السلام وقال: يا أمَة الله، أسألك بمَن شق البحر لي وأنزل على التوراة ، فعلت؟
قالت: لا والله.
فقال موسى : اللهم خُذ قارون ، فخسف الله به وبداره الأرض فأخذ يصيح: يا موسى . يا موسى . يا موسى ...
حتى اختفى صوته وماله، وجسمه، وداره في الأرض، وفي بعض الآثار الإسرائيلية، قال الله لـموسى : يا موسى ، استغاث بك فلم ترحمه، وعزّتي وجلالي، لو أنه استغاث بي لرحمته!!.
ونعود إلى جريج العابِد، وقد تآمر عليه بنو إسرائيل، فأتت امرأة بغي يتمثّل بحُسنها، فقالت: إن شئتم لأفتنه لكم، فتعرّضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج !! فأتوه، فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه.
فقال: ما شأنكم؟
قالوا: زَنَيتَ بهذه البغي، فولَدَت منك، فقال: أين الصبي؟
فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أُصلّي، فصلى، فلما انصرف، أتى الصبي، فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، مَن أبوك؟
قال الصبي الرضيع: أبي فلان الراعي. فأقبلوا على جريج يُقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب.
قال: لا. أعيدوها من طِين كما كانت، ففعلوا (1) وهذا الثاني.
والثالث صبي كان يرضع من أُمّه، فمر رجل راكب على دابة فارِهة (1) وشارة (1) حسنة، فقالت أُمه: اللهمَّ اجعل ابني مثل هذا.
فترك الثدي، وأقبل إليه، فنظر إليه، فقال: اللهمَّ لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع!!.
ثم مرّوا بجارية، وهم يضربونها، ويقولون: زَنَيتِ سَرَقتِ، وهي تقول: ((حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فقالت أُمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرّضاع، ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها.
وقالت: مر رجل حَسَن الهيئة، فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله.
ومروا بهذه الأَمَة، وهم يضربونها، ويقولون: زَنَيتِ، سَرَقتِ، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها!!.
فقال الرضيع: إن ذاك الرجل كان جباراً، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زَنَيتِ، ولم تَزنِ، وسَرَقتِ ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها (1) .
والشاهد من هذا القصص- أيها المسلمون- أمور:
أولاً: أن الله على كل شيء قدير، يجعل الذئب يتكلم، ويجعل البقرة تتكلم، ويجعل الجذع يبكي، ويجعل الصبي الرضيع يتكلم ويشهد شهادة الحق. ثانياً: أن الله عز وجل يدافع عن أوليائه، وينصر رُسُلَه وأحبابه ويبرئ ساحة المُصلِحين والدُّعاة إلى الله عزّ وجلّ.
ثالثاً: أن الله يفضح أعداءه، وَيكِلهم إلى أنفسهم، وينزع عنهم ستره وحفظه، فكلما سلكوا وادياً هلكوا ولم يوفقوا.
رابعاً: أن العبرة بالأعمال، لا بالأموال ولا المناصب ولا الأنساب، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) (1) .
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: (احتجت الجنة والنار، فقالت النار: ما لي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون؟
وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس، وسقطهم (1) وعجزهم (1) ؟
فقال الله عز وجل للنار: أنتِ عذابي، أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها) (1)
فتقربوا ـ رحمكم الله إلى ربكم بالإعمال الصالحة، وراقبوه تبارك وتعالى في السر والعلانية، وطهروا قلوبكم، وزكوا نفوسكم، فلا ينفع عند الله عز وجل إلا التقوى والعمل الصالح ((يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)).
أسأل الله تبارك وتعالى أن يصلحن وإياكم، ظاهراً وباطناً، وسراً وعلانية، وأن يجعلنا من المتقين المهتدين، الذين سلك بهم صراطه المستقيم، وهداهم إلى البر العميم، والأجر العظيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية: اللهمَّ لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد عدد الكائنات، وملء الأرض والسموات.
اللهم صَل وسلم وبارك على النعمة المُهداة، والمِنّة المُسداة، على مَن بعثته رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، وإماماً للمتقين، وخاتماً للمرسلين، وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً.
* أما بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)).
يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأن يتواضع لله مع المتواضعين، وأن يجلس في مجالس الفقراء والمساكين، وألّا يقوم الناس بأموالهم ولا بأحسابهم وأنسابهم، وإنما يقومهم بما عندهم من الإيمان والعمل الصالح.
كان البراء بن مالك رجلاً فقيراً زاهداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك من الدنيا إلا بيتاً من طين، وثوبين بالِيَين، وسيفه الذي طالما قاتل به أعداء الله تعالى.
فقال صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (كم من أشعث أغبر، ذي طمرين، (1) لا يؤبه له (1) لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك) (1)
أشعث: متغير الشعر، أغبر: متغير الوجه واللون، ذي طمرين: ثوبين باليين، لو أقسم على الله لأبره: أي لو حلف على وقوع شيء أوقعه الله إكراماً له، بإجابة سؤاله، وصيانته من الحنث في يمينه، وهذا لعظم منزلته عند الله، وإن كان حقيراً عند الناس، لا يلتفتون إليه، ولا يجعلون له أي اهتمام.
حضر المسلمون معركة تستر ، فنادوا البراء بن مالك ، وقالول له: [يا براء ، قم فقد أثنى عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، نسألك الله أن تقسم على الله أن ينصرنا هذا اليوم!.
قال: انتظروني قليلاً، فذهب واغتسل، ولبس أكفانه، وتحنظ، وأتى، ثم وقف أمام الجيش وقال: اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم، أن تجعلني أول قتيل في سبيلك، وأن تنصر المسلمين].
فبدأت المعركة، والتحمت الصفوف، وتساقطت الرؤوس، واستجاب الله دعاءه، فكان أو قتيل، وكان النصر حليفاً للمسلمين، وهذا لأنه أخلص الدعاء لوجه الله تبارك وتعالى، وقدم روحه ونفسه في سبيل الله وكان الجيش المسلم على مستوى عظيم من التضحية والفداء.
نصرهم الله عز وجل، وهم حفاة عراة، فقراء لأنه سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الصور والأجسام، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.
وفي صحيح مسلم ، عن عمر بن الخطاب قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل، يقال له أويس، وله والده، وكان به بياض (1) فمروه فليستغفر لكم) (1)
وفي رواية: (أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر ، وفيهم رجل ممن كان يسخر (1) بـأويس ، فقال عمر : هل هاهنا أحد من القرنيين؟
فجاء ذلك الرجل، فقال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: إن رجلاً يأتيكم من أهل اليمن ، يقال له أويس ، لا يدع بـاليمن غير أم له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه، إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم) (1) .
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن (1) ، سألهم: (أفيكم أويس بن عامر ؟
حتى أتى على أويس بن عامر ؟
قال: نعم.
قال: ومن مراد ثم من قرن؟
قال: نعم.
قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟
قال: نعم.
قال: لك والدة؟
قال: نعم.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن ، من مراد، ثم قرن، كان به برص، فبرأ منه، إلا موضع درهم، له والده، هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استعطت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي. فاستغفر له.
فقال له عمر: أين تريد؟
قال: الكوفة.
قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟
قال: أكون في غبراء الناس (1) .
أحب إلي) (1)
فهذا أُيس القرني ، رجل فقير، لا يعرفه أحد، بل يستهزىء به بعض أهله، لهَوانه عليهم، وعدم اعتدادهم به، لا يملك مالًا، وليس عنده متاع ومع ذلك يبشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحثّ الصحابة إذا رأوه أن يطلبوا منه أن يستغفر لهم، فكان عمر رضي الله عنه يبحث عنه في وفود أهل اليمن ، ويسأل عنه في المواسم، حتى إذا أدركه وعرفه بصفته التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب منه الاستغفار مع أن عمر رضي الله عنه أفضل منه بلا شك، وأرفع منه بلا ريب إلا أنه لما رأى هذا العبد الصالح وعرف أنه هو الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يستغفر له.
فهؤلاء هم الصلحاء، وهؤلاء هم الأتقياء، وهؤلاء هم المقربون من الواحد الأحد، إذا غابوا لم يفتقدوا، واذا حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة ومن كل فتنة مهلكة.
فيا من قرب مَن شاء من عباده قربنا. ويا مَن أسبَلَ الستر على مَن شاء من عباده أسبِل الستر علينا.
اللهم إنا بحاجة إلى رحمتك فارحمنا.
اللهم لا تحجب عنا دعاء الصالحين، واحشرنا في زُمرة المتقين، واجعلنا من أتباع سيّد المُرسَلين.
* عباد الله:
صلوا وسلموا على مَن أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في كتابه حيث قال: ((إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))
فاللهم صَل وسلم وبارِك على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، صلاةَ وسلاماً دائمين مُتلازمين إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابِعِيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومَنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.