الحمد لله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ، ويصطفي من الأماكن والأزمان ما يشاء ، وهو العلي العظيم ، والصلاة والسلام على من بعثه ربه بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجا منيراً اختاره الله خيارة من خيار من خيار ، هو سيد ولد آدم وأكرم الرسل ، وأفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه ، واختار الله له من الناس خيرهم وأفضلهم ؛ فاختار له أصحابه رضوان الله عليهم ؛ فهم خير الناس بعد الأنبياء رضي الله عنهم وعن تابعيهم ومن تبعهم واهتدى بهم ، واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أمــــــا بعد :
فأوصيكم أيه الناس ونفسي بما أوصى الله به الأولين الآخرين، وكرر ذكره في كتابه المبين "تقوى الله" "ولقد وصينا الذين آتوا الكتاب من قبلكمكم وإياكم أن اتقوا الله" (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
عباد الله:-
القران كلام الله المجيد، تكلم به سبحانه، وأوحاه إلي نبيه، وأنزله جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو النور المبين ، والصراط المستقيم ، والهدى التام ، والشفاء من كل الأسقام ، هو الحق ليس بالهزل ؛ من تمسك به هدي ، ومن حكم به عدل ، ومن تكلم به وقرأه وحفظه سعد في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة في الله:-
وبعض القرآن أفضل من بعض ، وشىء منه أعظم من شىء ، وكله عظيم ؛ لأنه كلام العظيم جل جلاله.
فسورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن.
وسورة البقرة وآل عمران لهما من الفضائل الشيء الكثير..وللمعوذتين ما ليس لغيرهما من الفضل والميزة.
وهكذا بعض آيات من القرآن الكريم أخبر عنها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصح الخبر بذلك.
ومعنا اليوم: آيه هي أعظم آيه في كاب الله في سورة من أعظم سور القرآن بعد الفاتحة "إنها آيه الكرسي".
•( اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) صدق الله العظيم.
فقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنها افضل آيه في كتاب الله ؛ ففي مسند الأمام أحمد عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: " أي آية في كتاب الله أعظم؟ " فقال أبي: الله ورسوله أعلم، فرددها مراراً، ثم قال أبي: آيه الكرسي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ليهنك العلم أبا المنذر ، والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش " أشار أحمد شاكر لصحته .
ومن فضائلها العظيمة: أن الشياطين لا تقرب من يقرؤها إذا دخل بيته ، وإذا أوى إلى فراشه لينام.
فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة، قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته وقلت : والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة ، قال : فخليت عنه ، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ) . قال : قلت : يا رسول الله ، شكا حاجة شديدة ، وعيالا فرحمته فخليت سبيله ، قال : ( أما إنه قد كذبك ، وسيعود ) . فعرفت أنه سيعود ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه سيعود ) . فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال ، لا أعود ، فرحمته فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أباهريرة ما فعل أسيرك ) . قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته فخليت سبيله ، قال : ( أما إنه كذبك ، وسيعود ) . فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله ، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ، ثم تعود ، قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قلت ما هو ؟ قال : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما فعل أسيرك البارحة ) . قلت : يا رسول الله ، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله ، قال : ( ما هي ) . قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ) . قال : لا ، قال : ( ذاك شيطان ) .
وروى الإمام أحمد في مسند القبائل عن أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) و(ألم الله لا اله إلا هو الحي القيوم) : " أن فيهما اسم الله الأعظم".
وروي ابن مردويه عن أبى إمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة وأخرجه ابن حبان في صحيحة وإسناده على شرط البخاري.
قال الإمام ابن كثير رحمة الله في تفسيره:-
وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة :
فقول : " اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ" إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق .
وقوله :"الْحَيُّ الْقَيُّومُ" أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً ، القيم لغيره ، وكان عمر يقرأ "القيام" فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ، ولا قوام لها بدون أمره ؛كقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ) .
وقوله تعالى (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)" أي: لا يعتريه نقص ، ولا غفلة ، ولا ذهول عن خلقه ، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت ، شهيد على كل شيء ، لا يغيب عنه شيء ، ولا يخفى عليه خافية !
ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم ؛ فقوله ( لا تأخذه ) أي : لا تغلبه سنة ، وهي : الوسن والنعاس ؛ ولهذا قال : ( ولا نوم ) لأنه أقوى من السنة ، وفي الصحيح عن أبى موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل ، وعمل الليل قبل عمل النهار ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه ؛ لأ حرقت سُبُحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه ".
وقوله تعالى: ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) إخبار بأن الجميع عبيده ، وفي ملكه ، وتحت قهره وسلطانه ؛ كقوله: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ? لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ? وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً).
وقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه ) كقوله: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى) وكقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة ، كما في حديث الشفاعة: ".. فيأتونني فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال لي : ارفع محمد ، وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأحمد ربي بمحامد علمنيها ، ثم أشفع ، فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة.." رواه البخاري .
وقوله : ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) "دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، كقوله مخبراً عن الملائكة: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً).
وقوله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) أي : لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه ، ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله: ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).
وقوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) قال ابن جرير: وقال آخرون الكرسي موضع القدمين ، وروى شجاع بن مخلد في تفسيره عن ابن عباس قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله الله عزو وجل: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)؟ قال: كرسيه موضع قدميه ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل ، وهذا هو الصحيح الثابت عن ابن عباس: أي الكرسي ، وهو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى ؛ فربنا جل جلاله في السماء ، وفوق السماء السابعة الكرسي ، وفوق الكرسي العرش ، والله مستوٍ على العرش لا تخف عليه خافية!
قال تعالي: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) صدق الله العظيم، وقال تعالى: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى".
وروى البيهقي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:"ما بين السماء والأرض مسيرة خمس مائة عام ، وما بين كل سماء مسيرة خمس مائة عام ، وغلظ كل سماء مسيرة خمس مائه عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمس مائة عام ، وما بين الكرسي والماء خمس مائة عام ، والعرش فوق الماء ، والله سبحانه فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".
قال الله تعالي: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ).
فالكرسي غير العرش، والعرش أعظم وأكبر من الكرسي ، بل ومع عظيم الكرسي الذي وسع السموات والأرض ، وإلا أن العرش أكبر منه أعظم ، بل أعظم وأكبر خلق الله على الإطلاق عرش الرحمن.
والعرش في اللغة العربية: سرير الملك، كما قال الله تعالى عن يوسف: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) ، وقال عن ملكة سبأ: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، وأما عرش الرحمن الذي استوى عليه ؛ فهو عرش عظيم محيط بالمخلوقات، وهو أعلاها وأكبرها.
ففي حديث عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة !!" قال عنه ابن حجر في الفتح : له شاهد سند صحيح ، وقال الألباني : هذا القدر فقط صح مرفوعاً .
فلا إله إلا الله ما أعظم عرش الرحمن وما أكبره؟!
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ).
فالكرسي موضع قدمي الرب جل جلاله ، والله مستو على عرشه ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل (قول بن عباس) هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة وهو المحفوظ عنهم.
وقوله "وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا" أي: لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض ، ومن فيهما ومن بينهما ، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه ، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه ، محتاجة فقيرة ، وهو الغني الحميد ، الفعال لما يريد ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء ، الرقيب العلي العظيم ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، فقوله ( وهو العلي العظيم ) كقوله: وهو الكبير المتعال.
أيها الإخوة المؤمنون :
هذه أعظم وأفضل آية في كتاب الله ، وهذا معناها ؛ فاحرصوا على حفظهما وتعلمها وتعليمها أولادكم ونساءكم ، وأكثروا من قراءتها ، وخاصة عند دخول المنزل ، وعند النوم ، وبعد الصلوات ،وفي الرقية وغيرها ..اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يارب العالمين.
- الثانية :
الحمد لله رب العاملين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين له الملك وله الحمد وهو أسرع الحاسبين ، حكيم خبير ، علي كبير ، جبار متكبر ،قوي مهيمن ، عزيز حكيم ، غفور رحيم ، يحب المدح ، ويستحقه ، لانعبد إلا إياه ولا نتوكل إلا عليه.
كل نعمة جلت أو دقت كبرت أو صغرت ظهرت أو خفيت فمنه سبحانه لا إله إلا هو ...
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي ما من خير إلا ودلنا عليه ، وما من شر إلا وحذرنا منه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه إلى يوم الدين.
أمـــــــا بعد :
فلقد تضمنت آية الكرسي صفات لله عزو جل ، وصفات الله كلها صفات كمال ومدح وجمال ، والواجب أن يؤمن المسلم بها ، ويمررها كما جاءت ، من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تشبيه ، ولا تمثيل ، ولا تكييف ؛ فلا نحرفها عن معناها ، ولا ننفيها ، ولا نمثلها ، ولا نشبهها بصفات المخلوقين ، بل ولا نسأل عن كيفيتها ؛ لأن علم ذلك مرده إلي الله وحده ، القائل عن نفسه ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ؛ فلله وجه ليس كوجه المخلوقين "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" وله يدان حقيقتان مبوسطتان ، ينفق كيف يشاء سبحانه ، وله سمع ، وبصر ، وعينان ، وله قدمان ، هو مستوي على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته ، وهو سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته إذا بقي ثلث الليل الأخير ؛ فيستجيب دعوة داع ، ويعطي سؤل سائل ، ويغفر لمستغفر ، نؤمن بهذا من غير : تأويل ، ولا تحريف ، ولا تشبيه ، ولا تمثيل ، ولا تكييف ، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة تجاه صفات الله العليا ؛ ولما سئل الإمام مالك عن قوله الله تعالي: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟
قال: الاستواء معلوم ( أي ثابت ) والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه ( أي عن كيفيته بدعه ) .ثم أمر بالسائل فأخرج من المسجد حتى لا يفتن الناس في عقيدتهم.
عبــــــــاد الله:-
ومن الواجب تجاه صفات الله ، ومن الإيمان بها : أن تقودنا إلى تعظيم الله جل جلاله إذ العبرة من ذكرها هو أن نعظم ربنا تعالى وتمتلئ قلوبنا من خشيته وعظمته ، وينعكس ذلك على أعمالنا وأحوالنا ؛ فتكون كما يرضي هذا الرب الجليل العظيم سبحانه وتعالى ، ونحذر من أن نعصيه ونخالف أمره ، أو أن نرتكب نهيه جل وعلا ؛ لأن في ذلك التعرض للعقاب وعذابه وسخطه ومن يقوى على غضب الله وسخطه؟!
وتأملوا معي أيها الإخوة الكرام لأزداد وإياكم إيماناً وخشيةً وتعظيماً لله رب العاملين يقول الله تعالى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) وقد علمنا ما هو العرش ؟ وكم هي عظمة العرش؟ يوم القيامة ..اليوم العصيب الرهيب ، يحمل عرش الرحمن ثمانية من ملائكة الرحمن سبحانه وتعالى !
وقيل ثمانية صفوف من الملائكة ، والأول أصح ؛ فكم هي – أيضا – عظمة هؤلاء الملائكة الذين يحملون عرش الرحمن ؟! اسمعوا معي الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بعضهم فيقول: "أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ، رجلاه في الأرض السفلى ، و على قرنه العرش ، و بين شحمة أذنيه و عاتقه خفقان الطير سبعمائة عام ، يقول ذلك : الملك سبحانك حيث كنت " صححه الألباني في صحيح الجامع .
فتباركت يا ربنا ما أعظمك وما أكبرك؟ وما أجلك وما أحلمك على من عصاك لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين ما قدرناك حق قدرك ، وما عبدناك حق عبادتك ؛ فاللهم لا تخيب رجاءنا فيك ، اللهم واملأ قلوبنا إيماناً بك وإجلالا لك ، وخوفاً وخشية منك ، اللهم وفقنا لما تحب وترضى واعصمنا من الشيطان والهوى ، وخذ بنواصينا للبر والتقوى ، فإن أقدامنا وأجسادنا على عذابك ونارك لا تقوى، اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله ؛ فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ? وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ? فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ? وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ? وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ? يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) صدق الله العظيم.
منقول للافاده
أمــــــا بعد :
فأوصيكم أيه الناس ونفسي بما أوصى الله به الأولين الآخرين، وكرر ذكره في كتابه المبين "تقوى الله" "ولقد وصينا الذين آتوا الكتاب من قبلكمكم وإياكم أن اتقوا الله" (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
عباد الله:-
القران كلام الله المجيد، تكلم به سبحانه، وأوحاه إلي نبيه، وأنزله جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو النور المبين ، والصراط المستقيم ، والهدى التام ، والشفاء من كل الأسقام ، هو الحق ليس بالهزل ؛ من تمسك به هدي ، ومن حكم به عدل ، ومن تكلم به وقرأه وحفظه سعد في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة في الله:-
وبعض القرآن أفضل من بعض ، وشىء منه أعظم من شىء ، وكله عظيم ؛ لأنه كلام العظيم جل جلاله.
فسورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن.
وسورة البقرة وآل عمران لهما من الفضائل الشيء الكثير..وللمعوذتين ما ليس لغيرهما من الفضل والميزة.
وهكذا بعض آيات من القرآن الكريم أخبر عنها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصح الخبر بذلك.
ومعنا اليوم: آيه هي أعظم آيه في كاب الله في سورة من أعظم سور القرآن بعد الفاتحة "إنها آيه الكرسي".
•( اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) صدق الله العظيم.
فقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنها افضل آيه في كتاب الله ؛ ففي مسند الأمام أحمد عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: " أي آية في كتاب الله أعظم؟ " فقال أبي: الله ورسوله أعلم، فرددها مراراً، ثم قال أبي: آيه الكرسي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ليهنك العلم أبا المنذر ، والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش " أشار أحمد شاكر لصحته .
ومن فضائلها العظيمة: أن الشياطين لا تقرب من يقرؤها إذا دخل بيته ، وإذا أوى إلى فراشه لينام.
فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة، قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته وقلت : والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة ، قال : فخليت عنه ، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ) . قال : قلت : يا رسول الله ، شكا حاجة شديدة ، وعيالا فرحمته فخليت سبيله ، قال : ( أما إنه قد كذبك ، وسيعود ) . فعرفت أنه سيعود ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه سيعود ) . فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال ، لا أعود ، فرحمته فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أباهريرة ما فعل أسيرك ) . قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته فخليت سبيله ، قال : ( أما إنه كذبك ، وسيعود ) . فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله ، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ، ثم تعود ، قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قلت ما هو ؟ قال : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما فعل أسيرك البارحة ) . قلت : يا رسول الله ، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله ، قال : ( ما هي ) . قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ) . قال : لا ، قال : ( ذاك شيطان ) .
وروى الإمام أحمد في مسند القبائل عن أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) و(ألم الله لا اله إلا هو الحي القيوم) : " أن فيهما اسم الله الأعظم".
وروي ابن مردويه عن أبى إمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة وأخرجه ابن حبان في صحيحة وإسناده على شرط البخاري.
قال الإمام ابن كثير رحمة الله في تفسيره:-
وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة :
فقول : " اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ" إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق .
وقوله :"الْحَيُّ الْقَيُّومُ" أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً ، القيم لغيره ، وكان عمر يقرأ "القيام" فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ، ولا قوام لها بدون أمره ؛كقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ) .
وقوله تعالى (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)" أي: لا يعتريه نقص ، ولا غفلة ، ولا ذهول عن خلقه ، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت ، شهيد على كل شيء ، لا يغيب عنه شيء ، ولا يخفى عليه خافية !
ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم ؛ فقوله ( لا تأخذه ) أي : لا تغلبه سنة ، وهي : الوسن والنعاس ؛ ولهذا قال : ( ولا نوم ) لأنه أقوى من السنة ، وفي الصحيح عن أبى موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل ، وعمل الليل قبل عمل النهار ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه ؛ لأ حرقت سُبُحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه ".
وقوله تعالى: ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) إخبار بأن الجميع عبيده ، وفي ملكه ، وتحت قهره وسلطانه ؛ كقوله: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ? لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ? وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً).
وقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه ) كقوله: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى) وكقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة ، كما في حديث الشفاعة: ".. فيأتونني فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال لي : ارفع محمد ، وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأحمد ربي بمحامد علمنيها ، ثم أشفع ، فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة.." رواه البخاري .
وقوله : ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) "دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، كقوله مخبراً عن الملائكة: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً).
وقوله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) أي : لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه ، ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله: ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).
وقوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) قال ابن جرير: وقال آخرون الكرسي موضع القدمين ، وروى شجاع بن مخلد في تفسيره عن ابن عباس قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله الله عزو وجل: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)؟ قال: كرسيه موضع قدميه ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل ، وهذا هو الصحيح الثابت عن ابن عباس: أي الكرسي ، وهو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى ؛ فربنا جل جلاله في السماء ، وفوق السماء السابعة الكرسي ، وفوق الكرسي العرش ، والله مستوٍ على العرش لا تخف عليه خافية!
قال تعالي: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) صدق الله العظيم، وقال تعالى: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى".
وروى البيهقي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:"ما بين السماء والأرض مسيرة خمس مائة عام ، وما بين كل سماء مسيرة خمس مائة عام ، وغلظ كل سماء مسيرة خمس مائه عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمس مائة عام ، وما بين الكرسي والماء خمس مائة عام ، والعرش فوق الماء ، والله سبحانه فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".
قال الله تعالي: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ).
فالكرسي غير العرش، والعرش أعظم وأكبر من الكرسي ، بل ومع عظيم الكرسي الذي وسع السموات والأرض ، وإلا أن العرش أكبر منه أعظم ، بل أعظم وأكبر خلق الله على الإطلاق عرش الرحمن.
والعرش في اللغة العربية: سرير الملك، كما قال الله تعالى عن يوسف: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) ، وقال عن ملكة سبأ: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، وأما عرش الرحمن الذي استوى عليه ؛ فهو عرش عظيم محيط بالمخلوقات، وهو أعلاها وأكبرها.
ففي حديث عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة !!" قال عنه ابن حجر في الفتح : له شاهد سند صحيح ، وقال الألباني : هذا القدر فقط صح مرفوعاً .
فلا إله إلا الله ما أعظم عرش الرحمن وما أكبره؟!
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ).
فالكرسي موضع قدمي الرب جل جلاله ، والله مستو على عرشه ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل (قول بن عباس) هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة وهو المحفوظ عنهم.
وقوله "وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا" أي: لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض ، ومن فيهما ومن بينهما ، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه ، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه ، محتاجة فقيرة ، وهو الغني الحميد ، الفعال لما يريد ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء ، الرقيب العلي العظيم ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، فقوله ( وهو العلي العظيم ) كقوله: وهو الكبير المتعال.
أيها الإخوة المؤمنون :
هذه أعظم وأفضل آية في كتاب الله ، وهذا معناها ؛ فاحرصوا على حفظهما وتعلمها وتعليمها أولادكم ونساءكم ، وأكثروا من قراءتها ، وخاصة عند دخول المنزل ، وعند النوم ، وبعد الصلوات ،وفي الرقية وغيرها ..اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يارب العالمين.
- الثانية :
الحمد لله رب العاملين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين له الملك وله الحمد وهو أسرع الحاسبين ، حكيم خبير ، علي كبير ، جبار متكبر ،قوي مهيمن ، عزيز حكيم ، غفور رحيم ، يحب المدح ، ويستحقه ، لانعبد إلا إياه ولا نتوكل إلا عليه.
كل نعمة جلت أو دقت كبرت أو صغرت ظهرت أو خفيت فمنه سبحانه لا إله إلا هو ...
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي ما من خير إلا ودلنا عليه ، وما من شر إلا وحذرنا منه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه إلى يوم الدين.
أمـــــــا بعد :
فلقد تضمنت آية الكرسي صفات لله عزو جل ، وصفات الله كلها صفات كمال ومدح وجمال ، والواجب أن يؤمن المسلم بها ، ويمررها كما جاءت ، من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تشبيه ، ولا تمثيل ، ولا تكييف ؛ فلا نحرفها عن معناها ، ولا ننفيها ، ولا نمثلها ، ولا نشبهها بصفات المخلوقين ، بل ولا نسأل عن كيفيتها ؛ لأن علم ذلك مرده إلي الله وحده ، القائل عن نفسه ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ؛ فلله وجه ليس كوجه المخلوقين "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" وله يدان حقيقتان مبوسطتان ، ينفق كيف يشاء سبحانه ، وله سمع ، وبصر ، وعينان ، وله قدمان ، هو مستوي على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته ، وهو سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته إذا بقي ثلث الليل الأخير ؛ فيستجيب دعوة داع ، ويعطي سؤل سائل ، ويغفر لمستغفر ، نؤمن بهذا من غير : تأويل ، ولا تحريف ، ولا تشبيه ، ولا تمثيل ، ولا تكييف ، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة تجاه صفات الله العليا ؛ ولما سئل الإمام مالك عن قوله الله تعالي: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟
قال: الاستواء معلوم ( أي ثابت ) والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه ( أي عن كيفيته بدعه ) .ثم أمر بالسائل فأخرج من المسجد حتى لا يفتن الناس في عقيدتهم.
عبــــــــاد الله:-
ومن الواجب تجاه صفات الله ، ومن الإيمان بها : أن تقودنا إلى تعظيم الله جل جلاله إذ العبرة من ذكرها هو أن نعظم ربنا تعالى وتمتلئ قلوبنا من خشيته وعظمته ، وينعكس ذلك على أعمالنا وأحوالنا ؛ فتكون كما يرضي هذا الرب الجليل العظيم سبحانه وتعالى ، ونحذر من أن نعصيه ونخالف أمره ، أو أن نرتكب نهيه جل وعلا ؛ لأن في ذلك التعرض للعقاب وعذابه وسخطه ومن يقوى على غضب الله وسخطه؟!
وتأملوا معي أيها الإخوة الكرام لأزداد وإياكم إيماناً وخشيةً وتعظيماً لله رب العاملين يقول الله تعالى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) وقد علمنا ما هو العرش ؟ وكم هي عظمة العرش؟ يوم القيامة ..اليوم العصيب الرهيب ، يحمل عرش الرحمن ثمانية من ملائكة الرحمن سبحانه وتعالى !
وقيل ثمانية صفوف من الملائكة ، والأول أصح ؛ فكم هي – أيضا – عظمة هؤلاء الملائكة الذين يحملون عرش الرحمن ؟! اسمعوا معي الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بعضهم فيقول: "أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ، رجلاه في الأرض السفلى ، و على قرنه العرش ، و بين شحمة أذنيه و عاتقه خفقان الطير سبعمائة عام ، يقول ذلك : الملك سبحانك حيث كنت " صححه الألباني في صحيح الجامع .
فتباركت يا ربنا ما أعظمك وما أكبرك؟ وما أجلك وما أحلمك على من عصاك لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين ما قدرناك حق قدرك ، وما عبدناك حق عبادتك ؛ فاللهم لا تخيب رجاءنا فيك ، اللهم واملأ قلوبنا إيماناً بك وإجلالا لك ، وخوفاً وخشية منك ، اللهم وفقنا لما تحب وترضى واعصمنا من الشيطان والهوى ، وخذ بنواصينا للبر والتقوى ، فإن أقدامنا وأجسادنا على عذابك ونارك لا تقوى، اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله ؛ فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ? وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ? فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ? وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ? وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ? يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) صدق الله العظيم.
منقول للافاده