بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ثمّ الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا برُبوبيَّته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر، وما سمعت أذنٌ بِخَبر
اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:
((ليس كل مصل يصلي))
لو أنّ هؤلاء الذين يصلون في مشارق الأرض ومغاربها لو أنّهم يصلّون كما أراد الله الصلاة أن تكون، قال تعالى:
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾
[ سورة العنكبوت ]
لو أنّهم يصلون كذلك لكان المسلمون في حال غير هذا الحال، لو كان المسلمون كذلك يصلّون كما أراد الله الصلاة أن تكون، لكانتْ كلمتهم هي العليا، في مشارق الأرض ومغاربها، لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
[ سورة النور ]
عليهم أن يعبدونني، وعليّ أن أستخلفهم في الأرض، وأن أُمكِّنَ لهم دينهم الذي ارْتضَيْتهُ لهم، وأن أبدّلهم من بعد خوفهم أمنًا، سيّدنا عمر رضي الله عنه قال مرّة لرجل: من شاء صام، ومن شاء صلّى، ولكنّها الاستقامة ما أهْوَنَ الصلاة، توضّأ وصلّ، ارْكعْ واسْجد، ولكنّها الاستقامة، لذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي:
((ليس كلّ مصلّ يصلي ))
الصلاة وفق ما أراده الله تعالى لا وفق ما أردتموها أنتم أيها المسلمون، يصلّي المسلم ويكذب، ويظلم، ويخلف وعدهُ، هذه ليسَتْ بصلاة، هذه الصلاة لا تزيدهُ من الله إلا بعدًا.
(( ليس كلّ مصلٍّ يصلّي.))
((إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي))
هل فكّرْتَ في آلاء الكون ؟ هل فكّرتَ في جسمك الذي بين جنبيك ؟ وهل فكّرت في طعامك وشرابك ؟ هل فكّرت في ابنك الذي تعلم علْم اليقين أنّه كان نقطة من ماء مهين، هل فكّرت فيمن حولك ؟ وفي الشمس وشروقها ؟ وفي القمر ومنزله ؟ وفي السماوات وما فيها من مجرّات ؟ إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي.
((وكف شهواته عن محارمي))
ضبط نفسه، قال تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ﴾
[ سورة النازعات ]
يا ربّ مالي عندك ؟ قال: يا عبدي ما ليَ عندك، هل أنت عند الحلال والحرام ؟ هل يراك الله حيثما أمرك ؟ ويفتقدك حيث نهاك ؟ أم العكس فإذا أردت أن تعرف ما لك عند الله فانظر ما لله عندك.
((ولم يصر على معصيتي))
المؤمن مُذنبٌ توّاب، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135)﴾
[ سورة آل عمران ]
((وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب وآوى الغريب كل ذلك لي))
لا قيمة لإيمان من دون عمل صالح، في أكثر من ثلاث مئة آية اقترن العمل الصالح بالإيمان، قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) ﴾
[ سورة فصّلت ]
وكلّ ذلك لي ؛ لي وحدي، لا يبتغي سمعةً، ولا شهرةً، وثناءً، ولا حمْدًا ولا تقريظًا، ولا مدْحًا، كلّ ذلك لي، دقّقوا أيها الإخوة في تتِمّة هذا الحديث القدسي:
وعزتي وجلالي أي أنّ هذا الذي يصلّي كما أريد، وقد تواضع لعظمتي، وكفّ شهواته عن محارمي، ولم يصرّ على معصيتي، ورحم المُصاب وأطعم الجائع وكسا العريان، وآوى الغريب، هذه الأفعال كلّها لي خالصة من دون الناس.
(( وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوء عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلما))
المصلّي يتحلّى بِمَكارم الأخلاق والصلاة تتناقض مع مساوئ الأخلاق، لن تجِدَ مصلِّيًا تقبّل الله منه صلاته إلا أخلاقيًّا حليما في موطن الحلم، عفوًّا في موطن العفو، شجاعًا في موطن الشجاعة، منصِفًا في موطن الإنصاف، الصلاة صِلَةٌ بِمَنبع القِيَم، إنّ محاسن الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبدًا منحهُ خلقًا حسنًا، وإنّك لعلى خلق عظيم
((وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوء عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلما، والظلمة نورا))
من فوائد الصلاة أنّها تُكسبهُ رؤيةً صحيحة، قال عليه الصلاة والسلام
((الصلاة نور ))
ترى بها الخير خيرًا والشرّ شرًّا، والحق حقًا والباطل باطلاً وخبايا الأمور وخلفياتها، وما في المعصية من خطرٍ وبيل، وما في الطاعة من خيرٍ كثير، هذا هو النور الذي يتأتّى من الصلاة، إنّ نور وجهه لأضْوَءُ عندي من نور الشمس،، على أن أجعل الجهالة له حلمًا فيتحلّى بمكارم الأخلاق.
(( والظلمة نورا يرى الحقائق يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها ولا يتغير حالها. ))
[ رواه الديلمي ]
سُقْتُ هذا الحديث القدسي المتعلّق بالصلاة لِشَيئين ؛ لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((الصلاة معراج المؤمن ))
ولأنّنا في أسبوع كانتْ فيه مناسبةٌ وذِكرى عزيزة على قلب كلّ مسلم ألا وهي الإسراء والمعراج، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) ﴾
[ سورة الإسراء ]
هذه الهاء تعود إلى النبي عليه الصلاة والسلام، رؤيةٌ خاصّة بِرَسول الله عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة المؤمنون، قبل الإسراء والمعراج تتالتْ المِحَن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، واشْتدّ تكذيب قريش له، وتصاعدَتْ حملاتهم ضدّه وكثُرتْ المِحَن والمصائب، كأنّ النبي عليه الصلاة والسلام، وكأنّ الله سبحانه وتعالى أراد بهذا الإسراء والمعراج أي يُسيّر عن نبيّه الكريم، وأن يكشف له طرفًا من جلاله، وأن يُرِيَه من آياته الكبرى، وأن ينْسيَهُ التكذيب والمعارضة، ومتاعب الحياة، فأسرى به، وفي الإسراء والمعراج عرف النبي عليه الصلاة والسلام أنّه سيّد الخلق، وحبيب الحقّ وفيه عرف عليه الصلاة والسلام أنّه سيّد ولد آدن، وأنّه صلى الله عليه وسلّم سيّد الأنبياء والرّسل والعابد الأوّل، والأوّل رتبة، وفي سورة النجم ربّنا سبحانه وتعالى يحدّثنا عن الإسراء والمعراج، ولكن بِطَريقةٍ أخرى فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾
[ سورة النجم ]
الضلال صفةٌ في العقل، والغوايةُ صفةٌ في النفس، ما ضلّ وما غوى وأنت أيّها الأخ الكريم، ما نصيبك من هذه الآية ؟ نصيبك آيةٌ أخرى تشابهها، قال تعالى:
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
[ سورة طه ]
لا يضِلّ عقله، ولا يقع في الخطأ، ولا في الضلال، لا يقع في التوهّم ولا يشتغل بما لا يجزي، لا يضيّع عمره الثمين في شيءٍ تافهٍ لا قيمة له، قدّس الله هذا المؤمن، فقدَّس الله عمره، الله سبحانه وتعالى أقسم بِعُمر النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال تعالى:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
[ سورة الحجر ]
هذا العمر الثمين جاء النبي الكريم إلى الدنيا ورحل عنها، فأرسى قواعد الحق في الأرض، وعمّ هداه البشريّة، رفرفَتْ رايات الحق في مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى:
﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾
[ سورة النجم ]
العلماء بين من يقول: إنّه القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووحيٌ يوحى، وبين من يقول: إنّ كلّ ما نطق به النبي عليه الصلاة والسلام لمْ ينطق في حياته كلّها كلمةً واحدة عن الهوى، لماذا ؟ لأنّ الله هو الذي علّمه، ما هذا الأدبُ يا رسول الله ؟ أدّبني ربّي فأحسن تأديبي، قال تعالى:
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)﴾
[ سورة النجم ]
أقفُ هنا ؛ كان في الأُفق الأعلى، وأنت أيها الأخ الكريم في أيّ أُفق أنت ؟ كان في الأُفق الأعلى، دُعِيَ إلى اللّعب حينما كان صغيرًا فقال: لمْ أُخلق لهذا ! ففي أيّ أفق أنت ؟ في أفق المال، أم في أفق الملذّات ؟ أم في أفق البيوت، أم في أفق البساتين ؟ ما الذي يشغلك ؟ وما الذي يقلقك ؟ ما الذي يحزنك ؟
((من كانت نيته طلب الدنيا شتت الله عليه أمره وجعل الفقر بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت نيته طلب الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.))
[ رواه ابن أبي حاتم ]
وهو بالأفق الأعلى، ما الذي يهمّك ؟ أقِلَّة الدّخْل ؟ أم ضيق البيت ؟ أم سوء الزوجة ؟ أم يهمّك أنّك لسْتَ في مستوى صفات المؤمنين التي وردَت في القرآن الكريم ؟ هل يقلقك أمر دنياك أم آخرتك ؟ هل يقلقك قلّة المال أم ضعف القيَم ؟ هل تقلقك حاجاتك أم تقلقك مبادئك ؟ هل تسعى إلى بحبوحة الدنيا أم إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر ؟ ما الذي يقلقك ؟ كأنّه بالأفق الأعلى علّمه شديد القوى، لأنّه بالأفق الأعلى قال تعالى:
﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)﴾
ما الذي يرفعك عند الله تعالى ؟ همومك الرفيعة، أنا لسْتُ كلام الحكيم، ولكن عند هَمِّه وهِمَّتِهِ، ابتغوا الرِّفعة عند الله، ولأنْ يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنكسرَ أضلاعه، أهْوَنُ من أن يسقط من عين الله تعالى، قال تعالى:
﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)﴾
هل أنت من الله قريب ؟ هل تصلّي ولا تدري ماذا قرأت في الصلاة ؟! هل تحِسّ أنّ قلبك معلّق بالله عز وجل ؟ هل يقشعِرّ جلدك إذا تلوْت آيات الله تعالى ؟ هل تفيض عيناك من الدمع ؟ قال تعالى:
﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)﴾
قال بعض العارفين:
لو شاهدَتْ عيناك من حُسننا الذي رأوهُ لما ولَّيْتَ عنّا لِغَيرنـــا
و لو سمِعَت أُذناك حُسن خطابنا خلعْتَ عنك ثياب العُجب وجئتنا
ولو نسمَتْ لك من قربنا نسْمةٌ لَمُتّ غريبًا و اشتياقًا لقُربــنا
ولو ذقْت من طعم المحبّة ذرّة عذرْت الذي أضحى قتيلاً بحُبِّنا
ولو لاحَ لك من أنوارنا لائحٌ تركْتَ جميع اللائحات لأجلـنا
***
ما الذي يملأ قلب الإنسان ؟ أتملؤُه الدنيا ؟ أم امرأة ؟ أو مسكنٌ فخمٌ ؟ أو وظيفةٌ مرموقة ؟ أو دخل كبير ؟ أم يملؤُه حبُّ العليّ القدير ؟ ما الذي يملؤُه؟
أيها الإخوة المؤمنون، بيت القصيد في الإسراء والمعراج أنّ الصلاة معراج المؤمن، الذي رآه النبي رآه النبي أصدَّقْت به أم كذّبْت سيّان، الذي رآه قد رآه، والذي أكرم الله به النبي قد أكرمه، والله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يكرم النبي لا ينتظر شهادة أحدٍ من خلقه، ولا تصديق أحد ولا تكذيبه، فأنت صدِّقْ أو لا تصدِّق، فالذي رآه قد رآه، والذي بلغهُ قد بلغهُ، والذي قد أُكرم به قد أكرم به، ولكنّ المشكلة أنت، ما علاقتك بالإسراء والمعراج ؟ إن كان لك قريبٌ غنيّ، وبقيتَ تحدِّثُ الناس عن غناه وأنت فقير معدم، ما جدوى الحديث عنه ؟ أما إذا سلكْت الطريق التي سلكَها، واتَّبعْت الخطوات التي اتّبعها فأنت في طريق صحيح، والنبي عليه الصلاة والسلام سيّد ولد آدم ولا فخْر، مهما تغنَّيْت بالنبي وأنت لسْت من أُمّته، ولا على سنّته، فما قيمة هذا التغنّي ؟ كلامٌ لا معنى له، علاقتنا بالإسراء والمعراج، أنّ الصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام:
((الصلاة معراج المؤمن ))
((والصلاة طهور ))
ولا ينبغي للمصلي أن تكون فيه خصال خسيسة، لأنّ الصلاة نور، ونور الله يمحو كلّ هذه الخصال الذميمة، والصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام طهور، ونور، فبالصلاة تزْكو نفسك، ويرْشُد عقلك، ما ضلّ وما غوى، قال تعالى:
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
[ سورة طه ]
((والصلاة ميزان))
كما قال سيّد الأنام، فمن وفّى استوفى، من وفّى الصلاة باستقامتها التي أُمرت بها اسْتوفيْت من الصلاة ثمراتها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
((من قال لا إله إلا الله بحقّها دخل الجنّة، قيل: وما حقّها ؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله.))
من صلى الصلاة على وجهها، تقبّل الله صلاته، ما وجهها ؟ أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر.
أحاديث كثيرة للنبي عليه الصلاة والسلام عن الصلاة، قال:
((لا خير في دين لا صلاة، وبين الرجل والصلاة ترك الصلاة ))
قال:
((الصلاة عماد الدّين من أقامها فقد أقام الدّين، ومن هدمها فقد هدم الدِّين ))
قال عليه الصلاة والسلام:
((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا: لا يبقى من درنه شيء؛ قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا.))
[ أخرجه الترمذي]
أيها الإخوة المؤمنون، الطريق الأمثل للاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج أنّ نلتفت إلى صلاتنا فنُتقِنَها ؛ أن نتْقن ركوعها وسُجودها، وأن نكون في ركوعها راكعين لله عز وجل، وأن نكون في سُجودها ساجدين لله عز وجل، أن نتّصل بالله حقيقة، ولكنّ النفس لا تتّصل بالله إن كانتْ خجلة والذي يخجلها المخالفات والمعاصي، وإنّ الشيطان يئس أن يُعبد في أرضكم، ولكنّه رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم، وإيّاك ومحقّرات الذنوب، فإنّهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكْنهُ، وأخْوَفُ ما أخاف على أمّتي الشّرك الخفيّ، أما إنّي لسْتُ أقول إنّكم تعبدون صنمًا ولا حجرًا، ولكنْ شهوةٌ خفيّة، وأعمال لغير الله تعالى، أي لو أنّ المسلم تهاوَنَ في الصغائر لاجتمعَت هذه الصغائر وفعلَتْ فعل الكبائر في حجْبه عن الله عز وجل، إذًا ليْسَت إقامة الصلاة أن تقيم الصلاة، ولكن من إقامة الصلاة أن تستقيم على أمر الله قبل الصلاة، وليس من المحافظة على الصلاة أن تحافظ على صلاتها في وقتها وأدائها، ولكنْ فوق ذلك أن تحافظ على طهارتك النفسيّة فيما بين الصلاتين.
علاقتنا بالإسراء والمعراج الصلاة، الصلاة معراج المؤمن، ومهما تغنَّيْت بالإسراء والمعراج، النبي هو هو، وأنت أنت، ولكنّك إذا اقْتفيْت سنّته واتَّبعْتَ هدْيهُ سرْت في طريق الصلاة، وفي طريق المعراج.
أيها الإخوة المؤمنون، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة المؤمنون، من آيات الله الدالة على عظمته، ومن تطابق القرآن مع خلق الإنسان، ما الذي يؤكّد لك أنّ هذا القرآن من عند الله تعالى ؟ وأنّ هناك تطابقًا عجيبًا، وأبديًّا، وسرْمدِيًّا بين ما جاء في القرآن وبين ما جاء في معطيات العلم، فربّنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)﴾
[ سورة الإنسان ]
في كلام الله دقّة بالغة في الصّياغة، ما دامَ سميعا بصيرًا، فَلِمَ قدَّم السَّمْع على البصر ؟ قال تعالى:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾
[ سورة الأنعام ]
هناك حكمتان ؛ بعض العلماء قالوا: السّمع أخطر لحياة الإنسان من البصر ؛ لأنّ الإنسان يتلقّى الأصوات من الجهات الستّ، عن يمينه وعن شماله، ومن أمامه، ومن ورائه، ومن فوقه، ومن تحته، في الظلام والنور، وفي الليل والنهار، على الرّغم من الحواجز الكتيمة يصل السمع إلى أُذنك، فكأنّ السّمع تُغطّي البيت كلّه، إن كنت نائمًا تسمعُ حركةً في غرفة الضّيوف، تنتقل إليها، أما عيْنُك فلا تريك إلا أطراف غرفة النوم، وإن كنت تقود سيارة فلا ترى إلا الذي أمامك، أما إن كان خلل في المحرّك، أو العجلات، فالصوت يصل إلى أُذنك فتقف في الوقت المناسب هذا بعض توجيهات العلماء في أنّ السمع أخطر للإنسان من البصر.
شيءٌ آخر، قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾
[ سورة الملك ]
لماذا اختار الله سبحانه وتعالى السّمع وحدهُ ؟ لأنّه من كان أصمّا كان أبكم، فالذي لا يسمع لا ينطق، والذي لا يسمع ولا ينطق متخلّفٌ عقليًّا ويصنّف مع المعوّقين عقليًّا، ومع البُله، كم من الذين فقدوا بصرهم كانوا قمّة في العلم والأدب، وأعلامًا، ولكنّ الذي لا يسمع لا ينطق ولا يفهم، هذا بعض التوجيهات.
مع أنّ دِقّة خلق السمع كدِقّة خلق البصر، لقول الله تعالى:
﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾
[ سورة الملك ]
بعض الشركات تنتجُ بضاعةً من الدرجة الثانية يُقال لها بضاعة تجاريّة وقد تنتجُ بضاعةً من الدرجة الأولى ولها أسعارًا خاصّة، ولكنّ صُنع الله تعالى لا تفاوُت فيه، وكلّه متْقن إلى درجة مطلقة، لكنّ للسمع وظائف، وللبصر وظائف، بالسمع تسمع الحق وتعقل الحقائق، وبالبصر تشاهد الجماليات والأشياء، وأشكالها وحجومها، وصفاتها، لكنّك بالسمع تدرك حقائقها، على كلٍّ اكتشف العلماء أنّ الجنين في بطن أمّه في اليوم الثاني والعشرين من تلقيح البويضة يتوضّح أماكن السمع والبصر، ولكنّ الطّفل لا يرى إلا بعد الشهر الثالث منذ الولادة، وإلى الشهر الثالث لا يتأثّر إلا بالضوء فقط، ولكن لا يرى الشيء فيسْعى إليه إلا بعد الشهر الثالث، ولا يرى الأشياء ملوّنة إلا بعد الشهر الرابع، ولكنّه في الأسبوع السادس والعشرين، أي في الشهر السادس والنصف وهو في الرحم يستمع إلى الأصوات، يسمع دقّات قلب الأم، ويسمع حفيف المشيمة، وقرقرة الأمعاء وقد أجرى بعض العلماء تجارب، سجّلوا أصوات ضربات القلب، وحثيث المشيمة، وقرقرات الأمعاء، وأسمعوها للطّفل قبل الولادة، كان يبكي فسكَتَ ! إذًا تنشأ حاسّة السمع في الشهر السادس والنصف، ولا تنشأ حاسّة البصر إلا بعد الشهر الثالث والرابع من الولادة، هذا الذي ذكره العلماء من أنّ سبعة عشرة آيةً في كتاب الله تعالى قدّم الله فيها السمع على البصر تقديم أهميّة، وسبْقٍ في الخلْق، إلا في آية واحدة قال الله سبحانه وتعالى:
﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)﴾
[ سورة السجدة ]
قال العلماء: لأنّ سرعة انتقال الصورة تزيد عن سرعة انتقال الصوت فالصورة تنتقل بسُرعة ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، أما الصوت فلا ينتقل إلا بسرعة ثلاثمئة وثلاثين مترًا في الثانية، في آية واحدة قال تعالى:
﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)﴾
[ سورة السجدة ]
ما دام الإنشاء أنشأ لكم السمع والأبصار، أما ما دام الفعل إبصارًا فالصُّوَر تراها العين قبل الصوت، وأصدق شاهد على ذلك زمجرة الرعد ترى البرق وبعد حينٍ تستمع إليه، لو رأيْتَ حجّارًا من بعيد ينْحتُ حجرًا تراه قد هوى بالمطرقة على الحجر، وبعد حينٍ تسمع صوت وقْع المطرقة على البصر، إلا في آية واحدة، قال تعالى:
﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)﴾
[ سورة السجدة ]
اللّهم لنا فيما أعْطيت، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يذلّ من واليْت، ولا يعزّ من عادَيْت، تباركْت ربّنا وتعاليْت، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارضَ عنَّا، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، مولانا ربّ العالمين، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك، ولا تهتِك عنَّا سترَك، ولا تنسنا ذكرك، يا رب العالمين، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء، ومن السَّلْب بعد العطاء، يا أكرم الأكرمين، نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذلّ إلا لك، ومن الفقر إلا إليك، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
منقول
الحمد لله ثمّ الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا برُبوبيَّته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر، وما سمعت أذنٌ بِخَبر
اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:
((ليس كل مصل يصلي))
لو أنّ هؤلاء الذين يصلون في مشارق الأرض ومغاربها لو أنّهم يصلّون كما أراد الله الصلاة أن تكون، قال تعالى:
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾
[ سورة العنكبوت ]
لو أنّهم يصلون كذلك لكان المسلمون في حال غير هذا الحال، لو كان المسلمون كذلك يصلّون كما أراد الله الصلاة أن تكون، لكانتْ كلمتهم هي العليا، في مشارق الأرض ومغاربها، لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
[ سورة النور ]
عليهم أن يعبدونني، وعليّ أن أستخلفهم في الأرض، وأن أُمكِّنَ لهم دينهم الذي ارْتضَيْتهُ لهم، وأن أبدّلهم من بعد خوفهم أمنًا، سيّدنا عمر رضي الله عنه قال مرّة لرجل: من شاء صام، ومن شاء صلّى، ولكنّها الاستقامة ما أهْوَنَ الصلاة، توضّأ وصلّ، ارْكعْ واسْجد، ولكنّها الاستقامة، لذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي:
((ليس كلّ مصلّ يصلي ))
الصلاة وفق ما أراده الله تعالى لا وفق ما أردتموها أنتم أيها المسلمون، يصلّي المسلم ويكذب، ويظلم، ويخلف وعدهُ، هذه ليسَتْ بصلاة، هذه الصلاة لا تزيدهُ من الله إلا بعدًا.
(( ليس كلّ مصلٍّ يصلّي.))
((إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي))
هل فكّرْتَ في آلاء الكون ؟ هل فكّرتَ في جسمك الذي بين جنبيك ؟ وهل فكّرت في طعامك وشرابك ؟ هل فكّرت في ابنك الذي تعلم علْم اليقين أنّه كان نقطة من ماء مهين، هل فكّرت فيمن حولك ؟ وفي الشمس وشروقها ؟ وفي القمر ومنزله ؟ وفي السماوات وما فيها من مجرّات ؟ إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي.
((وكف شهواته عن محارمي))
ضبط نفسه، قال تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ﴾
[ سورة النازعات ]
يا ربّ مالي عندك ؟ قال: يا عبدي ما ليَ عندك، هل أنت عند الحلال والحرام ؟ هل يراك الله حيثما أمرك ؟ ويفتقدك حيث نهاك ؟ أم العكس فإذا أردت أن تعرف ما لك عند الله فانظر ما لله عندك.
((ولم يصر على معصيتي))
المؤمن مُذنبٌ توّاب، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135)﴾
[ سورة آل عمران ]
((وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب وآوى الغريب كل ذلك لي))
لا قيمة لإيمان من دون عمل صالح، في أكثر من ثلاث مئة آية اقترن العمل الصالح بالإيمان، قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) ﴾
[ سورة فصّلت ]
وكلّ ذلك لي ؛ لي وحدي، لا يبتغي سمعةً، ولا شهرةً، وثناءً، ولا حمْدًا ولا تقريظًا، ولا مدْحًا، كلّ ذلك لي، دقّقوا أيها الإخوة في تتِمّة هذا الحديث القدسي:
وعزتي وجلالي أي أنّ هذا الذي يصلّي كما أريد، وقد تواضع لعظمتي، وكفّ شهواته عن محارمي، ولم يصرّ على معصيتي، ورحم المُصاب وأطعم الجائع وكسا العريان، وآوى الغريب، هذه الأفعال كلّها لي خالصة من دون الناس.
(( وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوء عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلما))
المصلّي يتحلّى بِمَكارم الأخلاق والصلاة تتناقض مع مساوئ الأخلاق، لن تجِدَ مصلِّيًا تقبّل الله منه صلاته إلا أخلاقيًّا حليما في موطن الحلم، عفوًّا في موطن العفو، شجاعًا في موطن الشجاعة، منصِفًا في موطن الإنصاف، الصلاة صِلَةٌ بِمَنبع القِيَم، إنّ محاسن الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبدًا منحهُ خلقًا حسنًا، وإنّك لعلى خلق عظيم
((وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوء عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلما، والظلمة نورا))
من فوائد الصلاة أنّها تُكسبهُ رؤيةً صحيحة، قال عليه الصلاة والسلام
((الصلاة نور ))
ترى بها الخير خيرًا والشرّ شرًّا، والحق حقًا والباطل باطلاً وخبايا الأمور وخلفياتها، وما في المعصية من خطرٍ وبيل، وما في الطاعة من خيرٍ كثير، هذا هو النور الذي يتأتّى من الصلاة، إنّ نور وجهه لأضْوَءُ عندي من نور الشمس،، على أن أجعل الجهالة له حلمًا فيتحلّى بمكارم الأخلاق.
(( والظلمة نورا يرى الحقائق يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها ولا يتغير حالها. ))
[ رواه الديلمي ]
سُقْتُ هذا الحديث القدسي المتعلّق بالصلاة لِشَيئين ؛ لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((الصلاة معراج المؤمن ))
ولأنّنا في أسبوع كانتْ فيه مناسبةٌ وذِكرى عزيزة على قلب كلّ مسلم ألا وهي الإسراء والمعراج، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) ﴾
[ سورة الإسراء ]
هذه الهاء تعود إلى النبي عليه الصلاة والسلام، رؤيةٌ خاصّة بِرَسول الله عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة المؤمنون، قبل الإسراء والمعراج تتالتْ المِحَن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، واشْتدّ تكذيب قريش له، وتصاعدَتْ حملاتهم ضدّه وكثُرتْ المِحَن والمصائب، كأنّ النبي عليه الصلاة والسلام، وكأنّ الله سبحانه وتعالى أراد بهذا الإسراء والمعراج أي يُسيّر عن نبيّه الكريم، وأن يكشف له طرفًا من جلاله، وأن يُرِيَه من آياته الكبرى، وأن ينْسيَهُ التكذيب والمعارضة، ومتاعب الحياة، فأسرى به، وفي الإسراء والمعراج عرف النبي عليه الصلاة والسلام أنّه سيّد الخلق، وحبيب الحقّ وفيه عرف عليه الصلاة والسلام أنّه سيّد ولد آدن، وأنّه صلى الله عليه وسلّم سيّد الأنبياء والرّسل والعابد الأوّل، والأوّل رتبة، وفي سورة النجم ربّنا سبحانه وتعالى يحدّثنا عن الإسراء والمعراج، ولكن بِطَريقةٍ أخرى فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾
[ سورة النجم ]
الضلال صفةٌ في العقل، والغوايةُ صفةٌ في النفس، ما ضلّ وما غوى وأنت أيّها الأخ الكريم، ما نصيبك من هذه الآية ؟ نصيبك آيةٌ أخرى تشابهها، قال تعالى:
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
[ سورة طه ]
لا يضِلّ عقله، ولا يقع في الخطأ، ولا في الضلال، لا يقع في التوهّم ولا يشتغل بما لا يجزي، لا يضيّع عمره الثمين في شيءٍ تافهٍ لا قيمة له، قدّس الله هذا المؤمن، فقدَّس الله عمره، الله سبحانه وتعالى أقسم بِعُمر النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال تعالى:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
[ سورة الحجر ]
هذا العمر الثمين جاء النبي الكريم إلى الدنيا ورحل عنها، فأرسى قواعد الحق في الأرض، وعمّ هداه البشريّة، رفرفَتْ رايات الحق في مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى:
﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾
[ سورة النجم ]
العلماء بين من يقول: إنّه القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووحيٌ يوحى، وبين من يقول: إنّ كلّ ما نطق به النبي عليه الصلاة والسلام لمْ ينطق في حياته كلّها كلمةً واحدة عن الهوى، لماذا ؟ لأنّ الله هو الذي علّمه، ما هذا الأدبُ يا رسول الله ؟ أدّبني ربّي فأحسن تأديبي، قال تعالى:
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)﴾
[ سورة النجم ]
أقفُ هنا ؛ كان في الأُفق الأعلى، وأنت أيها الأخ الكريم في أيّ أُفق أنت ؟ كان في الأُفق الأعلى، دُعِيَ إلى اللّعب حينما كان صغيرًا فقال: لمْ أُخلق لهذا ! ففي أيّ أفق أنت ؟ في أفق المال، أم في أفق الملذّات ؟ أم في أفق البيوت، أم في أفق البساتين ؟ ما الذي يشغلك ؟ وما الذي يقلقك ؟ ما الذي يحزنك ؟
((من كانت نيته طلب الدنيا شتت الله عليه أمره وجعل الفقر بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت نيته طلب الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.))
[ رواه ابن أبي حاتم ]
وهو بالأفق الأعلى، ما الذي يهمّك ؟ أقِلَّة الدّخْل ؟ أم ضيق البيت ؟ أم سوء الزوجة ؟ أم يهمّك أنّك لسْتَ في مستوى صفات المؤمنين التي وردَت في القرآن الكريم ؟ هل يقلقك أمر دنياك أم آخرتك ؟ هل يقلقك قلّة المال أم ضعف القيَم ؟ هل تقلقك حاجاتك أم تقلقك مبادئك ؟ هل تسعى إلى بحبوحة الدنيا أم إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر ؟ ما الذي يقلقك ؟ كأنّه بالأفق الأعلى علّمه شديد القوى، لأنّه بالأفق الأعلى قال تعالى:
﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)﴾
ما الذي يرفعك عند الله تعالى ؟ همومك الرفيعة، أنا لسْتُ كلام الحكيم، ولكن عند هَمِّه وهِمَّتِهِ، ابتغوا الرِّفعة عند الله، ولأنْ يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنكسرَ أضلاعه، أهْوَنُ من أن يسقط من عين الله تعالى، قال تعالى:
﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)﴾
هل أنت من الله قريب ؟ هل تصلّي ولا تدري ماذا قرأت في الصلاة ؟! هل تحِسّ أنّ قلبك معلّق بالله عز وجل ؟ هل يقشعِرّ جلدك إذا تلوْت آيات الله تعالى ؟ هل تفيض عيناك من الدمع ؟ قال تعالى:
﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)﴾
قال بعض العارفين:
لو شاهدَتْ عيناك من حُسننا الذي رأوهُ لما ولَّيْتَ عنّا لِغَيرنـــا
و لو سمِعَت أُذناك حُسن خطابنا خلعْتَ عنك ثياب العُجب وجئتنا
ولو نسمَتْ لك من قربنا نسْمةٌ لَمُتّ غريبًا و اشتياقًا لقُربــنا
ولو ذقْت من طعم المحبّة ذرّة عذرْت الذي أضحى قتيلاً بحُبِّنا
ولو لاحَ لك من أنوارنا لائحٌ تركْتَ جميع اللائحات لأجلـنا
***
ما الذي يملأ قلب الإنسان ؟ أتملؤُه الدنيا ؟ أم امرأة ؟ أو مسكنٌ فخمٌ ؟ أو وظيفةٌ مرموقة ؟ أو دخل كبير ؟ أم يملؤُه حبُّ العليّ القدير ؟ ما الذي يملؤُه؟
أيها الإخوة المؤمنون، بيت القصيد في الإسراء والمعراج أنّ الصلاة معراج المؤمن، الذي رآه النبي رآه النبي أصدَّقْت به أم كذّبْت سيّان، الذي رآه قد رآه، والذي أكرم الله به النبي قد أكرمه، والله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يكرم النبي لا ينتظر شهادة أحدٍ من خلقه، ولا تصديق أحد ولا تكذيبه، فأنت صدِّقْ أو لا تصدِّق، فالذي رآه قد رآه، والذي بلغهُ قد بلغهُ، والذي قد أُكرم به قد أكرم به، ولكنّ المشكلة أنت، ما علاقتك بالإسراء والمعراج ؟ إن كان لك قريبٌ غنيّ، وبقيتَ تحدِّثُ الناس عن غناه وأنت فقير معدم، ما جدوى الحديث عنه ؟ أما إذا سلكْت الطريق التي سلكَها، واتَّبعْت الخطوات التي اتّبعها فأنت في طريق صحيح، والنبي عليه الصلاة والسلام سيّد ولد آدم ولا فخْر، مهما تغنَّيْت بالنبي وأنت لسْت من أُمّته، ولا على سنّته، فما قيمة هذا التغنّي ؟ كلامٌ لا معنى له، علاقتنا بالإسراء والمعراج، أنّ الصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام:
((الصلاة معراج المؤمن ))
((والصلاة طهور ))
ولا ينبغي للمصلي أن تكون فيه خصال خسيسة، لأنّ الصلاة نور، ونور الله يمحو كلّ هذه الخصال الذميمة، والصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام طهور، ونور، فبالصلاة تزْكو نفسك، ويرْشُد عقلك، ما ضلّ وما غوى، قال تعالى:
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
[ سورة طه ]
((والصلاة ميزان))
كما قال سيّد الأنام، فمن وفّى استوفى، من وفّى الصلاة باستقامتها التي أُمرت بها اسْتوفيْت من الصلاة ثمراتها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
((من قال لا إله إلا الله بحقّها دخل الجنّة، قيل: وما حقّها ؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله.))
من صلى الصلاة على وجهها، تقبّل الله صلاته، ما وجهها ؟ أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر.
أحاديث كثيرة للنبي عليه الصلاة والسلام عن الصلاة، قال:
((لا خير في دين لا صلاة، وبين الرجل والصلاة ترك الصلاة ))
قال:
((الصلاة عماد الدّين من أقامها فقد أقام الدّين، ومن هدمها فقد هدم الدِّين ))
قال عليه الصلاة والسلام:
((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا: لا يبقى من درنه شيء؛ قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا.))
[ أخرجه الترمذي]
أيها الإخوة المؤمنون، الطريق الأمثل للاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج أنّ نلتفت إلى صلاتنا فنُتقِنَها ؛ أن نتْقن ركوعها وسُجودها، وأن نكون في ركوعها راكعين لله عز وجل، وأن نكون في سُجودها ساجدين لله عز وجل، أن نتّصل بالله حقيقة، ولكنّ النفس لا تتّصل بالله إن كانتْ خجلة والذي يخجلها المخالفات والمعاصي، وإنّ الشيطان يئس أن يُعبد في أرضكم، ولكنّه رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم، وإيّاك ومحقّرات الذنوب، فإنّهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكْنهُ، وأخْوَفُ ما أخاف على أمّتي الشّرك الخفيّ، أما إنّي لسْتُ أقول إنّكم تعبدون صنمًا ولا حجرًا، ولكنْ شهوةٌ خفيّة، وأعمال لغير الله تعالى، أي لو أنّ المسلم تهاوَنَ في الصغائر لاجتمعَت هذه الصغائر وفعلَتْ فعل الكبائر في حجْبه عن الله عز وجل، إذًا ليْسَت إقامة الصلاة أن تقيم الصلاة، ولكن من إقامة الصلاة أن تستقيم على أمر الله قبل الصلاة، وليس من المحافظة على الصلاة أن تحافظ على صلاتها في وقتها وأدائها، ولكنْ فوق ذلك أن تحافظ على طهارتك النفسيّة فيما بين الصلاتين.
علاقتنا بالإسراء والمعراج الصلاة، الصلاة معراج المؤمن، ومهما تغنَّيْت بالإسراء والمعراج، النبي هو هو، وأنت أنت، ولكنّك إذا اقْتفيْت سنّته واتَّبعْتَ هدْيهُ سرْت في طريق الصلاة، وفي طريق المعراج.
أيها الإخوة المؤمنون، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة المؤمنون، من آيات الله الدالة على عظمته، ومن تطابق القرآن مع خلق الإنسان، ما الذي يؤكّد لك أنّ هذا القرآن من عند الله تعالى ؟ وأنّ هناك تطابقًا عجيبًا، وأبديًّا، وسرْمدِيًّا بين ما جاء في القرآن وبين ما جاء في معطيات العلم، فربّنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)﴾
[ سورة الإنسان ]
في كلام الله دقّة بالغة في الصّياغة، ما دامَ سميعا بصيرًا، فَلِمَ قدَّم السَّمْع على البصر ؟ قال تعالى:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾
[ سورة الأنعام ]
هناك حكمتان ؛ بعض العلماء قالوا: السّمع أخطر لحياة الإنسان من البصر ؛ لأنّ الإنسان يتلقّى الأصوات من الجهات الستّ، عن يمينه وعن شماله، ومن أمامه، ومن ورائه، ومن فوقه، ومن تحته، في الظلام والنور، وفي الليل والنهار، على الرّغم من الحواجز الكتيمة يصل السمع إلى أُذنك، فكأنّ السّمع تُغطّي البيت كلّه، إن كنت نائمًا تسمعُ حركةً في غرفة الضّيوف، تنتقل إليها، أما عيْنُك فلا تريك إلا أطراف غرفة النوم، وإن كنت تقود سيارة فلا ترى إلا الذي أمامك، أما إن كان خلل في المحرّك، أو العجلات، فالصوت يصل إلى أُذنك فتقف في الوقت المناسب هذا بعض توجيهات العلماء في أنّ السمع أخطر للإنسان من البصر.
شيءٌ آخر، قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾
[ سورة الملك ]
لماذا اختار الله سبحانه وتعالى السّمع وحدهُ ؟ لأنّه من كان أصمّا كان أبكم، فالذي لا يسمع لا ينطق، والذي لا يسمع ولا ينطق متخلّفٌ عقليًّا ويصنّف مع المعوّقين عقليًّا، ومع البُله، كم من الذين فقدوا بصرهم كانوا قمّة في العلم والأدب، وأعلامًا، ولكنّ الذي لا يسمع لا ينطق ولا يفهم، هذا بعض التوجيهات.
مع أنّ دِقّة خلق السمع كدِقّة خلق البصر، لقول الله تعالى:
﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾
[ سورة الملك ]
بعض الشركات تنتجُ بضاعةً من الدرجة الثانية يُقال لها بضاعة تجاريّة وقد تنتجُ بضاعةً من الدرجة الأولى ولها أسعارًا خاصّة، ولكنّ صُنع الله تعالى لا تفاوُت فيه، وكلّه متْقن إلى درجة مطلقة، لكنّ للسمع وظائف، وللبصر وظائف، بالسمع تسمع الحق وتعقل الحقائق، وبالبصر تشاهد الجماليات والأشياء، وأشكالها وحجومها، وصفاتها، لكنّك بالسمع تدرك حقائقها، على كلٍّ اكتشف العلماء أنّ الجنين في بطن أمّه في اليوم الثاني والعشرين من تلقيح البويضة يتوضّح أماكن السمع والبصر، ولكنّ الطّفل لا يرى إلا بعد الشهر الثالث منذ الولادة، وإلى الشهر الثالث لا يتأثّر إلا بالضوء فقط، ولكن لا يرى الشيء فيسْعى إليه إلا بعد الشهر الثالث، ولا يرى الأشياء ملوّنة إلا بعد الشهر الرابع، ولكنّه في الأسبوع السادس والعشرين، أي في الشهر السادس والنصف وهو في الرحم يستمع إلى الأصوات، يسمع دقّات قلب الأم، ويسمع حفيف المشيمة، وقرقرة الأمعاء وقد أجرى بعض العلماء تجارب، سجّلوا أصوات ضربات القلب، وحثيث المشيمة، وقرقرات الأمعاء، وأسمعوها للطّفل قبل الولادة، كان يبكي فسكَتَ ! إذًا تنشأ حاسّة السمع في الشهر السادس والنصف، ولا تنشأ حاسّة البصر إلا بعد الشهر الثالث والرابع من الولادة، هذا الذي ذكره العلماء من أنّ سبعة عشرة آيةً في كتاب الله تعالى قدّم الله فيها السمع على البصر تقديم أهميّة، وسبْقٍ في الخلْق، إلا في آية واحدة قال الله سبحانه وتعالى:
﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)﴾
[ سورة السجدة ]
قال العلماء: لأنّ سرعة انتقال الصورة تزيد عن سرعة انتقال الصوت فالصورة تنتقل بسُرعة ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، أما الصوت فلا ينتقل إلا بسرعة ثلاثمئة وثلاثين مترًا في الثانية، في آية واحدة قال تعالى:
﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)﴾
[ سورة السجدة ]
ما دام الإنشاء أنشأ لكم السمع والأبصار، أما ما دام الفعل إبصارًا فالصُّوَر تراها العين قبل الصوت، وأصدق شاهد على ذلك زمجرة الرعد ترى البرق وبعد حينٍ تستمع إليه، لو رأيْتَ حجّارًا من بعيد ينْحتُ حجرًا تراه قد هوى بالمطرقة على الحجر، وبعد حينٍ تسمع صوت وقْع المطرقة على البصر، إلا في آية واحدة، قال تعالى:
﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)﴾
[ سورة السجدة ]
اللّهم لنا فيما أعْطيت، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يذلّ من واليْت، ولا يعزّ من عادَيْت، تباركْت ربّنا وتعاليْت، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارضَ عنَّا، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، مولانا ربّ العالمين، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك، ولا تهتِك عنَّا سترَك، ولا تنسنا ذكرك، يا رب العالمين، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء، ومن السَّلْب بعد العطاء، يا أكرم الأكرمين، نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذلّ إلا لك، ومن الفقر إلا إليك، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
منقول