خطبة منبرية اتقــوا فتنـــة المـــال
يقول الله تعالى : { ان قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ، وآتيناه من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ، اذ قال له قومه لا تفرح ، ان الله لا يحب الفرحين ، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، ان الله لا يحب المفسدين ، قال انما أوتيته على علم عندي ..} القصص 76ـ77
مشهد واقعي ، ومثال حي لفتنة المال ، يقصه القرآن الكريم علينا للتذكر والاعتبار ، والتحذير من عبودية شهوة المال التي فتن بها قارون فطغى وبغى ، وجحد آلاء الله تعالى ونعمه عليه ، وهو يقول كفرا واغترارا :{ انما أوتيته على علم عندي }مستكبرا على الله وعلى العباد بمال الله، فكان من الهالكين ، وعبرة للناس أجمعين .
وفي مقابل هذا المثال المهين ، تحضر قصة سليمان عليه السلام ، الذي آتاه الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، سلطانا من جنود الانس والجن والطير والريح والثروات ، ومع كل ذلك ، ما طغى ولا بغى ، وما ينبغي له ، بل كان معترفا بفضل الله عليه ،شاكرا لأنعمه، وهو يقول :{ هذا من فضل ربي ليبلوني آشكر أم أكفر، ومن شكر فانما يشكر لنفسه ، ومن كفر فان ربي غني كريم } ويقول : {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين }.
نموذجان واقعيان متناقضان في كل شئ أمام المال ، ـ أحدهما يعمل فيه بدوافع الطمع والشره والاستكثار والطغيان والاستكبار ، فوقع بذلك في فتنته الشديدة ، وباء بالكفر والجحود وسوء المصير :{فخسفنا به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين }. ـ والثاني يعمل في المال بعلم بحقيقته واعتراف بفضل الله عليه، يؤدي حقه ويلتزم حدوده فنعم بخيره وسلم من فتنته . ولما بعثت اليه ملكة سبأ بهدايا افتخارا واختبارا ،قال : { قال أتمدونني بمال ، فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون }.
ان عناصر الفتنة في دنيا الابتلاء والاختبار كثيرة ، ولا ريب ، ولكن المال أعظمها اختبارا وأشدها فتنة للانسان ، لما أودع الله فيه من سحر الجاذبية و الاغراء . فبوجوده ووفرته قد يحصل الغرور والطغيان ، وذلك طريق الهلاك و الخسران { كلا ان الانسان ليطغى أن رآه استغنى } . وبفقده أو قلته يحصل الفقر والحرمان و ( كاد الفقر أن يكون كفرا ) . فكم كانت فتنة المال وراء ضياع الدين وفساد الاخلاق ،وانتشار الانحرافات والمنكرات، وضياع الأخوة ، واندثار أسر ، واشتعال نيران العداوة والشقاق والافتراق ، بل كانت من أسباب الحروب والدمار و ابادة الامن والاستقرار .و انما يفتن بالمال من لا يعلم حقيقته، ولا يدرك نعمته،ولا يلتزم حدوده الشرعية وضوابطه العقلية والخلقية في الكسب والتدبير و الانفاق . من أجل ذلك أعتنى الاسلام بشأن المال عناية كبيرة فجعله من كليات مقاصده الخمس الكبرى ،وأحاطه بقواعد حكيمة وضوابط دقيقة ، تجعله وسيلة خير وبركة ونماء واستقرار،وبناء و اعمار، وتعفف للفرد والمجتمع بغير افتتان . واليكم بعض الحقائق التي يجب على المسلم معرفتها والتزامها في أمر المال ووظيفته وضوابط معاملاته ، حتى يؤدي أم انته ويسلم من فتنته :
1 ـ فالمال نعمة من الله تعالى عظيمة ، يجب أن تقدر وتشكر : { وما بكم من نعمة فمن الله }.
2 ـ والمال مال الله تعالى ، وانما الانسان فيه مستخلف ، لا فضل له فيه الا بالسعي النزيه والكسب المشروع : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } ، { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه }
3 ـ ـ والمال من الكليات والضرورات الخمس الكبرى المحفوظة بمقاصد الاسلام ( الدين والنفس والعقل والنسل والمال ).
4 ـ والمال عصب الحياة وقوامها الضروري لكل وجود اجتماعي وعمراني وحضاري ، ولكل مستلزمات العيش والحماية والجهاد والاقتصاد .. بل هو المحرك الحيوي في العلاقات وتبادل المنافع والمصالح بين الناس :{ المال والبنون زينة الحياة الدنيا }.
5 ـ والمال محبوب عند الناس بالفطرة،حبا شديدا ،بما جبلوا عليه من شهوة المتاع الدنيوي الذي يرغبهم في الحياة : { وتحبون المال حبا جما }. { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث }.
6ـ والمال ليس علامة امتياز ولا مقياس تفاضل في الاقدار عند الله تعالى، مهما بلغ امتلاكه وادخاره ،{ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} بل هو عنصر ابتلاء واختبار في وجوده وانعدامه،وعامل فتنة ، ليس في ذاته ، وانما في سوء تصرف الناس فيه { انما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم }
تلكم حقائق يجدر بالمسلم أن يفقهها في نظرته للمال ومعاملاته، لمعرفة طبيعته وقدره ومكانته في الاسلام . فالمال ليس مذموما في ذاته ولا في امتلاكه ، وانما يذم فعل الانسان الذي يجاوز فيه حدود التصرف المشروع والتدبير المعقول. لذلك فالاسلام لا يحارب المال ولا يمنع كسبه و لا اكثاره ، لأنه قوام الحياة وضرورة الدين والدنيا والآخرة جميعا ، بل يدعو الى السعي في طلابه:{فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله..} والنبي صلى الله عليه وسلم اتبعه الفقراء والأغنياء على السواء ، وكان يحضهم على العمل و كسب المال ،وينهاهم عن التقاعس والكسل ، و يتبرؤ في دعائه من العجز والكسل والبخل والفقر، ويؤكد ان المؤمن القوي بعمله وكسبه خير وأحب الى الله تعالى من المؤمن الضعيف. وان كسب المال مصدر قوة مادية حيوية ضرورية في كل مجال : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) .
لكن كل ذلك مشروط بمراعاة الحقائق المذكورة والتزام الضوابط الشرعية التي يكون بها المال طيبا في كسبه، طيبا في انفاقه ، فيصبح بذلك وسيلة لبناء الحياة الطيبة في الدنيا ونيل ثواب الآخرة. ذلك هو المال الصالح الذي يصلح به حال الأفراد والجماعات والمجتمعات. وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم :( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) رواه أحمد .
ـ فالمال محمود صالح عند الانسان الصالح الذي يجعله في يده وليس في قلبه ، ويتقي الله فيه، ويبتغي رضاه ورضوانه،حين يسعى في طلبه وفي تدبيره و انفاقه ومعاملاته ، لا يطغيه ولا يشغله عن أداء حقوق الله تعالى وحقوق العباد :{ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة و ايتاء الزكاة ، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار }
ـ والمال في يد الفاسق الفاجر ، وسيلة فساد و افساد، وتكبر واستبداد ، تتولاه الأهواء والأطماع والجشع، دون اعتبار لحدود الدين وضوابط العقل و المروءة ،فهو في طلبه معتد أثيم ، وفي انفاقه مبذر متلاف ، وفي معاملاته متكبر جبار . كذلك يصفه القرآن الكريم : {ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده، يحسب أن ماله أخلده، كلا، لينبذن في الحطمة }(سورة الهمزة) .ولكم في صاحب الجنتين في سورة الكهف شاهد افتتان ببريق المال ،حين اغتر بوفرة ثمار الجنتين ويباهي بها صاحبه جحودا واستكبارا :{ وكان له ثمر ، فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ، ودخل جنته وهو ظالم لنفسه ،قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ، وما أظن الساعة قائمة..} الكهف 33ـ34. . وتلك حال عابد المال ،لا يرضيه دونه حق ولا عدل ولا احسان ، انما يرضيه الدرهم والدينار . يقول الصادق الأمين : ( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة ، ان أعطي رضي وان لم يعط لم يرض ) (رواه البخاري).
نسأل الله تعالى ان يعصمنا من فتنة المال وعبوديته ، وأن يلهمنا سبيل الرشاد في أداء أمانته على الوجه الذي يرضيه ، انه ولي التوفيق . أقول هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولجميع المسلمين .
الخطبــــة الثــانيــــــة
في حديث رواه أحمد والترمذي عن كعب بن عياض ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
( ان لكل أمة فتنة ، وان فتنة أمتي المال )
صدقت يا رسول الله ، فما أكثر أحوال ومظاهر الافتتان بالمال الذي يقود العابدين له الى الاستكبار والطغيان ،و خرق الحدود و ابطال الحقوق ، وارتياد الفواحش والمنكرات . وقد قال الحسن البصري: (لكل أمة صنم يعبدونه وصنم هذه الأمة الدينار والدرهم ). وما ذلك الا بدوافع جمع المال أو انفاقه بغير حق ولا وازع من دين ولا خلق ولا ضمير .وليس ذلك من شيم المؤمنين الذين يزنون الأموال وكل أمور حياتهم بميزان شرع الله تعالى ، ويعبدون الله فيه بالتزام حدوده وابتغاء مرضاته. ومن أجل الوقاية من فتنة المال ، ننبه اخوتنا الكرام الى أهم وجوه الانحراف السائدة في تداوله ،عملا بواجب التذكير { وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين } :
1ـ الاشتغال والانشغال بالمال ولو كان حلالا عن طاعة الله تعالى وذكره وشكره ، فهو من نعم الله تعالى ، يجب ان يستعان به على طاعته وشكره :{ يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } .
2ـ الامتناع عن أداء واجب انفاقه ، كمنع الزكاة المفروضة وهي من أركان الاسلام : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }.
3ـ المكاسب المحرمة ، كالربا والسرقة والغصب وكل أشكال أكل أموال الناس بالباطل ،بالغش والتدليس والرشوة وغيرها : { ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالآثم وأنتم تعلمون }.
4ـ أكل أموال اليتامى والأجراء وأموال الدولة بأي وجه كان { ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، انما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا }.
5ـ انفاق المال في المحرمات والمنكرات ، كالخمر والميسر والفواحش ، و كل ما يصد عن ذكر الله تعالى وعبادته :{ انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون }.
6ـ الشح والتقتير في النفقات الواجبة على الأهل والعيال ، وفي وجوه البر والاحسان الضرورية . ففي الحديث( كفى بالمرء اثما أن يضيع من يعول ) مسلم والترمذي .
7ـ الاسراف والتبذير للمال في غيرما نفع ولا بر ولا اصلاح :{ ولا تبذر تبذيرا ، ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين ،وكان الشيطان لربه كفورا }.
أما الذين يسخرون الأموال عنوة لافساد الامة الاسلامية وصد الناس عن دين الله تعالى ، فلهم الوعيد الشديد في الدنيا والاخرة :{ ان الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ، ثم الى جهنم يحشرون }.
فاتقوا الله ، عباد الله ، في مال الله، فانما أنتم فيه مستخلفون ، مؤتمنون ومختبرون، واذكروا قول الله تعالى واعتبروا :{ فأما من أ عطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ، وما يغني عنه ماله اذا تردى }سورة الليل.
جعلني الله واياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اولئك الذين هداهم الله واولئك هم أولو الألباب . فصلوا على رسول الله .
منقول للافاده
يقول الله تعالى : { ان قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ، وآتيناه من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ، اذ قال له قومه لا تفرح ، ان الله لا يحب الفرحين ، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، ان الله لا يحب المفسدين ، قال انما أوتيته على علم عندي ..} القصص 76ـ77
مشهد واقعي ، ومثال حي لفتنة المال ، يقصه القرآن الكريم علينا للتذكر والاعتبار ، والتحذير من عبودية شهوة المال التي فتن بها قارون فطغى وبغى ، وجحد آلاء الله تعالى ونعمه عليه ، وهو يقول كفرا واغترارا :{ انما أوتيته على علم عندي }مستكبرا على الله وعلى العباد بمال الله، فكان من الهالكين ، وعبرة للناس أجمعين .
وفي مقابل هذا المثال المهين ، تحضر قصة سليمان عليه السلام ، الذي آتاه الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، سلطانا من جنود الانس والجن والطير والريح والثروات ، ومع كل ذلك ، ما طغى ولا بغى ، وما ينبغي له ، بل كان معترفا بفضل الله عليه ،شاكرا لأنعمه، وهو يقول :{ هذا من فضل ربي ليبلوني آشكر أم أكفر، ومن شكر فانما يشكر لنفسه ، ومن كفر فان ربي غني كريم } ويقول : {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين }.
نموذجان واقعيان متناقضان في كل شئ أمام المال ، ـ أحدهما يعمل فيه بدوافع الطمع والشره والاستكثار والطغيان والاستكبار ، فوقع بذلك في فتنته الشديدة ، وباء بالكفر والجحود وسوء المصير :{فخسفنا به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين }. ـ والثاني يعمل في المال بعلم بحقيقته واعتراف بفضل الله عليه، يؤدي حقه ويلتزم حدوده فنعم بخيره وسلم من فتنته . ولما بعثت اليه ملكة سبأ بهدايا افتخارا واختبارا ،قال : { قال أتمدونني بمال ، فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون }.
ان عناصر الفتنة في دنيا الابتلاء والاختبار كثيرة ، ولا ريب ، ولكن المال أعظمها اختبارا وأشدها فتنة للانسان ، لما أودع الله فيه من سحر الجاذبية و الاغراء . فبوجوده ووفرته قد يحصل الغرور والطغيان ، وذلك طريق الهلاك و الخسران { كلا ان الانسان ليطغى أن رآه استغنى } . وبفقده أو قلته يحصل الفقر والحرمان و ( كاد الفقر أن يكون كفرا ) . فكم كانت فتنة المال وراء ضياع الدين وفساد الاخلاق ،وانتشار الانحرافات والمنكرات، وضياع الأخوة ، واندثار أسر ، واشتعال نيران العداوة والشقاق والافتراق ، بل كانت من أسباب الحروب والدمار و ابادة الامن والاستقرار .و انما يفتن بالمال من لا يعلم حقيقته، ولا يدرك نعمته،ولا يلتزم حدوده الشرعية وضوابطه العقلية والخلقية في الكسب والتدبير و الانفاق . من أجل ذلك أعتنى الاسلام بشأن المال عناية كبيرة فجعله من كليات مقاصده الخمس الكبرى ،وأحاطه بقواعد حكيمة وضوابط دقيقة ، تجعله وسيلة خير وبركة ونماء واستقرار،وبناء و اعمار، وتعفف للفرد والمجتمع بغير افتتان . واليكم بعض الحقائق التي يجب على المسلم معرفتها والتزامها في أمر المال ووظيفته وضوابط معاملاته ، حتى يؤدي أم انته ويسلم من فتنته :
1 ـ فالمال نعمة من الله تعالى عظيمة ، يجب أن تقدر وتشكر : { وما بكم من نعمة فمن الله }.
2 ـ والمال مال الله تعالى ، وانما الانسان فيه مستخلف ، لا فضل له فيه الا بالسعي النزيه والكسب المشروع : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } ، { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه }
3 ـ ـ والمال من الكليات والضرورات الخمس الكبرى المحفوظة بمقاصد الاسلام ( الدين والنفس والعقل والنسل والمال ).
4 ـ والمال عصب الحياة وقوامها الضروري لكل وجود اجتماعي وعمراني وحضاري ، ولكل مستلزمات العيش والحماية والجهاد والاقتصاد .. بل هو المحرك الحيوي في العلاقات وتبادل المنافع والمصالح بين الناس :{ المال والبنون زينة الحياة الدنيا }.
5 ـ والمال محبوب عند الناس بالفطرة،حبا شديدا ،بما جبلوا عليه من شهوة المتاع الدنيوي الذي يرغبهم في الحياة : { وتحبون المال حبا جما }. { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث }.
6ـ والمال ليس علامة امتياز ولا مقياس تفاضل في الاقدار عند الله تعالى، مهما بلغ امتلاكه وادخاره ،{ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} بل هو عنصر ابتلاء واختبار في وجوده وانعدامه،وعامل فتنة ، ليس في ذاته ، وانما في سوء تصرف الناس فيه { انما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم }
تلكم حقائق يجدر بالمسلم أن يفقهها في نظرته للمال ومعاملاته، لمعرفة طبيعته وقدره ومكانته في الاسلام . فالمال ليس مذموما في ذاته ولا في امتلاكه ، وانما يذم فعل الانسان الذي يجاوز فيه حدود التصرف المشروع والتدبير المعقول. لذلك فالاسلام لا يحارب المال ولا يمنع كسبه و لا اكثاره ، لأنه قوام الحياة وضرورة الدين والدنيا والآخرة جميعا ، بل يدعو الى السعي في طلابه:{فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله..} والنبي صلى الله عليه وسلم اتبعه الفقراء والأغنياء على السواء ، وكان يحضهم على العمل و كسب المال ،وينهاهم عن التقاعس والكسل ، و يتبرؤ في دعائه من العجز والكسل والبخل والفقر، ويؤكد ان المؤمن القوي بعمله وكسبه خير وأحب الى الله تعالى من المؤمن الضعيف. وان كسب المال مصدر قوة مادية حيوية ضرورية في كل مجال : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) .
لكن كل ذلك مشروط بمراعاة الحقائق المذكورة والتزام الضوابط الشرعية التي يكون بها المال طيبا في كسبه، طيبا في انفاقه ، فيصبح بذلك وسيلة لبناء الحياة الطيبة في الدنيا ونيل ثواب الآخرة. ذلك هو المال الصالح الذي يصلح به حال الأفراد والجماعات والمجتمعات. وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم :( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) رواه أحمد .
ـ فالمال محمود صالح عند الانسان الصالح الذي يجعله في يده وليس في قلبه ، ويتقي الله فيه، ويبتغي رضاه ورضوانه،حين يسعى في طلبه وفي تدبيره و انفاقه ومعاملاته ، لا يطغيه ولا يشغله عن أداء حقوق الله تعالى وحقوق العباد :{ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة و ايتاء الزكاة ، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار }
ـ والمال في يد الفاسق الفاجر ، وسيلة فساد و افساد، وتكبر واستبداد ، تتولاه الأهواء والأطماع والجشع، دون اعتبار لحدود الدين وضوابط العقل و المروءة ،فهو في طلبه معتد أثيم ، وفي انفاقه مبذر متلاف ، وفي معاملاته متكبر جبار . كذلك يصفه القرآن الكريم : {ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده، يحسب أن ماله أخلده، كلا، لينبذن في الحطمة }(سورة الهمزة) .ولكم في صاحب الجنتين في سورة الكهف شاهد افتتان ببريق المال ،حين اغتر بوفرة ثمار الجنتين ويباهي بها صاحبه جحودا واستكبارا :{ وكان له ثمر ، فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ، ودخل جنته وهو ظالم لنفسه ،قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ، وما أظن الساعة قائمة..} الكهف 33ـ34. . وتلك حال عابد المال ،لا يرضيه دونه حق ولا عدل ولا احسان ، انما يرضيه الدرهم والدينار . يقول الصادق الأمين : ( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة ، ان أعطي رضي وان لم يعط لم يرض ) (رواه البخاري).
نسأل الله تعالى ان يعصمنا من فتنة المال وعبوديته ، وأن يلهمنا سبيل الرشاد في أداء أمانته على الوجه الذي يرضيه ، انه ولي التوفيق . أقول هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولجميع المسلمين .
الخطبــــة الثــانيــــــة
في حديث رواه أحمد والترمذي عن كعب بن عياض ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
( ان لكل أمة فتنة ، وان فتنة أمتي المال )
صدقت يا رسول الله ، فما أكثر أحوال ومظاهر الافتتان بالمال الذي يقود العابدين له الى الاستكبار والطغيان ،و خرق الحدود و ابطال الحقوق ، وارتياد الفواحش والمنكرات . وقد قال الحسن البصري: (لكل أمة صنم يعبدونه وصنم هذه الأمة الدينار والدرهم ). وما ذلك الا بدوافع جمع المال أو انفاقه بغير حق ولا وازع من دين ولا خلق ولا ضمير .وليس ذلك من شيم المؤمنين الذين يزنون الأموال وكل أمور حياتهم بميزان شرع الله تعالى ، ويعبدون الله فيه بالتزام حدوده وابتغاء مرضاته. ومن أجل الوقاية من فتنة المال ، ننبه اخوتنا الكرام الى أهم وجوه الانحراف السائدة في تداوله ،عملا بواجب التذكير { وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين } :
1ـ الاشتغال والانشغال بالمال ولو كان حلالا عن طاعة الله تعالى وذكره وشكره ، فهو من نعم الله تعالى ، يجب ان يستعان به على طاعته وشكره :{ يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } .
2ـ الامتناع عن أداء واجب انفاقه ، كمنع الزكاة المفروضة وهي من أركان الاسلام : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }.
3ـ المكاسب المحرمة ، كالربا والسرقة والغصب وكل أشكال أكل أموال الناس بالباطل ،بالغش والتدليس والرشوة وغيرها : { ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالآثم وأنتم تعلمون }.
4ـ أكل أموال اليتامى والأجراء وأموال الدولة بأي وجه كان { ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، انما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا }.
5ـ انفاق المال في المحرمات والمنكرات ، كالخمر والميسر والفواحش ، و كل ما يصد عن ذكر الله تعالى وعبادته :{ انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون }.
6ـ الشح والتقتير في النفقات الواجبة على الأهل والعيال ، وفي وجوه البر والاحسان الضرورية . ففي الحديث( كفى بالمرء اثما أن يضيع من يعول ) مسلم والترمذي .
7ـ الاسراف والتبذير للمال في غيرما نفع ولا بر ولا اصلاح :{ ولا تبذر تبذيرا ، ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين ،وكان الشيطان لربه كفورا }.
أما الذين يسخرون الأموال عنوة لافساد الامة الاسلامية وصد الناس عن دين الله تعالى ، فلهم الوعيد الشديد في الدنيا والاخرة :{ ان الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ، ثم الى جهنم يحشرون }.
فاتقوا الله ، عباد الله ، في مال الله، فانما أنتم فيه مستخلفون ، مؤتمنون ومختبرون، واذكروا قول الله تعالى واعتبروا :{ فأما من أ عطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ، وما يغني عنه ماله اذا تردى }سورة الليل.
جعلني الله واياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اولئك الذين هداهم الله واولئك هم أولو الألباب . فصلوا على رسول الله .
منقول للافاده