قبسات من سورة النساء
(وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ (2) النساء) حقيقة الأكل أن تتناول طعاماً فتدخله في جوفك فكيف أتى النهي عن أكل المال؟ وهل يستطيع الإنسان أن يأكل الدراهم؟ نهيُ المؤمن عن أكل مال اليتيم ولم يأت النهي عن الأخذ لأن الأكل هو أشد دلالة وأقوى تعبيراً من حالة الأخذ فهذه الكلمة (تأكلوا) توحي بأن الشخص قد أحرز ما أكله في داخل جسده وعندها لا مطمع في إرجاعه ولا دليل على أنه أخذ هذا المال.
(وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (4) النساء) ما وجه عطف إيتاء النساء مهرهنّ على الأمر بإعطاء اليتامى حقهم أي في الآية السابقة حيث يقول تعالى (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ (2)) والآية بعدها يقول (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) ما حكم العطف هنا؟ هذان الضعيفان المرأة واليتيم مستضعفان من المجتمع وحقهما مغبون فكان غي تعاقبهما حراسة لحقهما أشد حراسة. وبنفس الآية قوله تعالى (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) ما معنى كلمة (نحلة)؟ ولِمَ قيّد الصدقات بقوله (نحلة)؟ النِحلة هي العطيّة بلا قصد العِوَض وقد سمى ربنا تعالى الصدقات نِحلة ليكون المهر الذي تدفعه منزّهاً عن العِوَض بل هو أقرب إلى الهدية فليست الصدقات عوضاً عن منافع المرأة ولو كان عوضاً لكان عوضها جزيلاً ومتجدداً بتجدد المنافع وامتداد الزمن. فعقد النكاح بينك وبين زوجك غايته إيجاد آصرة محبة وتبادل الحقوق والتعاون على إنشاء جيل وهذا أغلى من أن يكون له عِوَض مالي.
(فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4) النساء) لِمَ قال ربنا (طبن لكم عن شيء منه نفساً) ولم يقل فإن طابت نفوسهن عن شيء لكم؟ أخّر ربنا تعالى النفس عن شيء ونصبها على التمييز ليبين لنا مقدار قوة هذا الطيب وليؤكد لنا أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإكراه. وتأمل لِمَ قال ربنا (فكلوه) ولم يقل فخذوه؟ عندما قال (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) ذلك ليطمئن المؤمن يجواز الانتفاع بمال زوجه انتفاعاً لا رجوع فيه فهو تملّك لمالها تملّكاً تاماً ولكنه تملّك عن طيب نفس منها لا إرغام فيه.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ (9) النساء) الفعل يخشى متعدي يأخذ مفعولاً به فتقول أخشى الله فالله لفظ الجلالة هو المفعول به فأين مفعول (وليخشى) في الآية؟ حذف ربنا تعالى مفعول (وليخشى) لتذهب نفس السامع في تقدير المفعول به مذاهب عدة وليقدر كل واحد منا تقديراً يفهمه هو فينظر كل سامع بحسب الأهمّ عنده مما يخشى أن يصيب ذريته فيكون رادعاً له عن ظلم اليتامى.
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) النساء) أراد ربنا بقوله (إنما يأكلون في بطونهم ناراً) تبيان شدة الألم والعذاب في الدنيا بدليل قوله (وسيصلون سعيراً) أي في الآخرة. فكيف يأكل آخذ مال اليتيم في النار في الدنيا مع أن العذاب بالنار يكون في الآخرة؟ في هذه العبارة (يأكلون في بطونهم ناراً) استعارة فقد عبّر الله تعالى عن المصائب بأكل النار لأن شأن النار أن تلتهم ما تقع عليه كآكل مال اليتيم ربما تصيبه مصائب في ذاته أو ماله مثل النار إذا ذنت من أحد لا بد أن تؤلمه وتتلف متاعه.
(يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (11) النساء) أمعِن التأمل في هذا اللطف الإلهي فقد جعل الله تعالى حظ الانثيين هو المقدار الذي يقدّر به حظ الذكر ولم يجعل حظ الذكر هو المقياس كأن يقول للأنثى نصف حظّ الذكر. فلِمَ آثر ربنا تعالى هذا التعبير؟ آثر ربنا تعالى هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء والإيحاء للناس بأن حظّ الأنثى هو الأهم في نظر الشرع وهو مقدّم على حق الرجل لأن المرأة كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية. أما في الاسلام فقد أصبحتِ يا أختاه ينادى بحظّك وقسمتك ونصيبك هو المقياس.
(تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ (13) النساء) مشهد ملموس ومحسوس ترسمه عبارة حدود الله فكل منا يعرف حدّه في منزله مثلاً فلا يجرؤ على دخول حدّ جاره وإن دخل فهو موقن أنه مخالف ومتجاوز حقّه وقد استعمل ربنا تعالى الحدود ليقرّب الفكرة لأذهاننا فشرع الله حدٌّ لا ينبغي لنا أن نتجاوزه.
(وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14) النساء) إن تهديد المرء بالنار وعيد وعذاب فإذا أشيف إليه الخلود فهذا من أشد ألوان العذاب. فما فائدة ختم الآية بقوله تعالى (وله عذاب مهين)؟ أراد الله تبارك وتعالى أن يهدد الخارجين عن حدوده بألفاظ ترجف القلوب وتقع في قلوبهم موقع الخوف ليتأمل الإنسان سوء مصيره ولذلك ختمت الآية بوصف العذاب المهين لأن من العرب من لا يخشى كلمة النار ولكنه يأبى الضيم والإهانة فقد يحذر الإهانة أكثر مما يحذر عذاب النار ولذا قال العرب في أمثالهم "النار ولا العار".
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ (17) النساء) تأمل هذا التعبير الإلهي البديع فقد قيّد الله سبحانه وتعالى عمل السوء بجهالة فقال (يعملون السوء بجهالة) فلِمَ عدل ربنا تعالى عن وصفه بالجهل فلم يقل يعملون السوء عن جهل؟ الجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويّة في حين أن الجهل يعني عدم العلم بالشيء فلو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنها معصية فليس يأثم وإنما يجب أن يتعلم ويبتعد عن المعاصي ولذلك حصر الله تعالى السوء بالجهالة دون الجهل لأن هذا الفعل هو الذي يحب أن يتوب الإنسان عن فعله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا (19) النساء) لا شك أن وقع النهي علة أذن السامع أشد من الإخبار فقولك لولدك لا تفعل هذا فيه من الوعيد والأثر أشد من قولك أمنعك من هذا.
(وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا (20) النساء) انظر قوله تعالى (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا) فقد ضرب الله تعالى مثلاً للمهر بالقنطار فلِمَ قال قنطاراً ولم يسمِّه على الأصل: وآتيتم إحداهن مهراً؟ أو نِحلة؟ المهر يطلق على القليل والكثير فلو حدّده بالمهر ثم أتبعه (فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا) لربما تبادر إلى أذهاننا أن المهر إن كان كثيراً يحق لنا أن نأخذ نصيباً ولكن عندما مثّل للمهر بالقنطار وهو كثير جداً ثم نهانا عن الأخذ منه علمنا أن المهر مهما قل أو كثر لا يحق لنا أن نقتطع منه لأنفسنا.
(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ (21) النساء) تأمل أسرار البلاغة القرآنية في كلام الله عز وجل، ألم يلف نظرك هذا الاستفهام أي في قوله تعالى (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ)؟ إنه استفهام خرج إلى معنى آخر وهو التعجب من فعل ذلك الرجل الذي يريد أن يأخذ من صداق زوجه فهذا ليس من المروءة ولذلك ابتدأه الله تعالى باستفهام تعجبي.
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23) النساء) في الآية السابقة التي حرّم الله تعالى بها نكاح زوجات الأب عبّر عن التحريم بالنهي فقال تعالى (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ (22)) فلِمَ عدل عنه إلى الماضي فقال (حُرِّمت) ولم يقل ولا تنكحوا أمهاتكم؟ إن أسلوب النهي كقولك لابنك لا تلعب الكرة فيه إيحاء بأنه كان يلعب بالماضي ولذلك نهيته عن المستقبل بخلاف قولك نُهينا عن لعب النرد فهذا يدل على تحريمه سابقاً ولاحقاً ولذلك عبّر عن نكاح زوجات الأب بالنهي لأن هذا الفعل كان شائعاً عند العرب ثم حرّمه الإسلام. أما نكاح المحارم من الأمهات والبنات والأخوات فهذا لم يكن لدى العرب قبل الاسلام ولذلك عبّر عنه بقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ليبين لنا أن هذا التحريم أمر مقرر سابقاً وأتى القرآن ليثبته وهذا ما عبّر عنه ابن عباس بقوله: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الإسلام إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ولذلك عبّر عنه بالمضارع (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ).
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (24) النساء) المحصَنات هي المرأة المتزوجة وسميت محصنة من أحصنها الرجل إذا حفظها واستقل بها عن غيره. ويقال محصنة إذا أحصنت نفسها بالعفاف. في هذه الآية قُرِئت المحصَنات بالفتح أي التي أُحصِنت من زوجها ولم يُقرأ بالكسر المحصِنات وفي سائر المواضع تقرأ بالفتح والكسر فلِم لم تُقرأ والمحصِنات من النساء؟ هذه الآية معطوفة على الآية التي قبلها (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) أي وحُرِّمت المحصَنات المتزوجات ولذلك قُرئت الفتح فقط أن اللولتي حرم التزوج بهن هن المتزوجات أما المحصِنات أي العفيفات فليس الزواج بهن محرّماً بل يُندر أن تبحث عنهن.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (29) النساء) تأمل هذا التعبير والتصوير الإلهي في سلب أموال الناس بعضهم بعضاً فقد جعل الله تعالى المال كالطعام يلتهمه الظالم ليبين لنا شدة حرصهم على أخذه دون ترك شيء منه ودون إرجاعه أربابه. ألا ترى أن الطعام قبل أن يأكله المرء يمكن أن يُعيده إلى أهله وإذا ما أكله فقد قرر عدم الإذعان وإرجاعه وكذلكم آكِل المال.
(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) النساء) إن الإنسان لا يحتاج إلى النهي عن قتل نفسه حتى يحفظها فلِمَ جاء النهي عن قتل الإنسان نفسه؟ انظر إلى هذا البيان الإلهي فالله تعالى يريد منا أن نصون أرواح الناس وأن لا نعتدي عليها فعبّر عن ذلك بالكفّ والنهي عن قتل المرء نفسه لأن المؤمنين جسد واحد وروح واحدة فمن قتل أخاه فقد قتل نفسه وذلك لأمرين: الأول بتفكيك المجتمع وخلق العداوة بين أفراده والثاني أنه حكم على نفسه بالقتل قصاصاً.
(وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) النساء) لاحظ كيف أتى النهي عن طلب حصول نصيب الآخرين بالتمني ولم يأت بالنهي عن الرغبة أو السؤال بينما قال (واسألوا الله من فضله) ولم يقل وتمنوا من الله فضله، فما سرُّ هذا الاستعمال؟ إن التمني هو طلب الحصول على شيء أقرب ما يكون من المستحيل لذلك عبّر الله تعالى عن تطلّع النفوس إلى ما ليس لها بالتمني لأن ذلك قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد ومن ثمّ ما كان لغيرك فلا يكون لك وأما الطلب من الله تعالى فعبّر عنه بالسؤال أن ذلك مما يمنّ الله تعالى به على عباده السائلين.
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ (34) النساء) انظر إلى البيان الإلهي وهذا التمثيل الرباني لحالة الرجل الذي وُكِلأ إليه الكسب والحفظ والدفاع عن زوجه. فقد شبه اهتمامه بحالة القائم لأن شأن القائم الذي يهتم بالأمر ويعتني به أن يقف ليدير أمره.
(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (36) النساء) انظر إلى قوله تعالى (وبالوالدين إحساناً) ألا ترى في الفعل أحسن ومصدره الإحسان أن يتعدّى بحرف الجر (إلى) فنقول أحسن إلى فلان، فلِمَ عبّر هنا بالاء في قوله (وبالوالدين إحسانا)؟ الإحسان إذا عُدّي بالباء كان متعلقاً بمعاملة الذات أي ذات الأبوين روحاً وجسداً وتوقيرهما واحترامهما والنزول عند رغبتهما وامتثال أمرهما وكأنه يقول: بِرّ بوالديك، وهذا ما نوّهت له الآية (وبالوالدين إحساناً). أما تعديته بـ (إلى) فذاك يكون عند قصد إيصضال النفع المالي ولذلك قال تعالى لقارون (وأحسن كما أحسن الله إليك).
(وَابْنِ السَّبِيلِ (36) النساء) إذا عرفت أن السبيل هو الطريق فكيف أُطلٌِ على المسافر البعيد عن منزله إبن السبيل؟ سمي المسافر البعيد عن منزله الذي ضاقت به السبل إبن السبيل لأنه لازم الطريق سائراً مسافراً فنُسب إليه وإذا ما دخل قبيلة عرفوه أنه ابن السبيل لأن الطريق رمى به إليهم.
(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ (42) النساء) انظر إلى هذه الصورة التي تشخِّص لك هيئة نفوس الكافرين التي امتلأت خزياً قاتلاً وخجلاً مميتاً في موقف المواجهة حين يُستدعى الشهود فهي لا تتمنى الموت بل تذهب إلى أشد منه، تتمنى لو تضاءلت الأجساد حتى تصير على سوية الأرض. لا شك أن هذا التصوير فيه رصد لعمق المعاناة النفسية والشعورية ورصد لبواطن النفس وخلجات الحِسّ أكثر من التعبير المباشر عن الشعور بالخزي.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ (43) النساء) ليست الصلاة مكاناً يُقصد حتى يؤمر الإنسان أن لا يقربه فلِمَ عبّر عن عدم جواز الصلاة للسكران بقوله (لا تقربوا الصلاة) ولم يقل لا تصلّوا؟ اختير هذا الفعل دون أن تصلّوا ونحوه للإشارة أن تلك حالة منافية للصلاة وصاحبها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام وهو الصلاة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ (44) النساء) لِمَ قيّد ربنا سبحانه وتعالى الإيتاء بالنصيب؟ أي قال (أُوتوا نصيباً من الكتاب) ولم يجعله مطلقاً (أوتوا الكتاب)؟ في هذا التقييد لغة بلاغية، ألا ترى أن ثمة فرقاً واضحاً بين من أوتي الكتاب ومن أوتي نصيباً من الكتاب ففي اختيار كلمة نصيباً من الكتاب إيحاء بقلة أثر الكتاب في نفوس السامعين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم (47) النساء) انظر إلى تناسب اللفظ مع المعنى في القرآن فهنا قال (أوتوا الكتاب) بينما قال في آية أخرى (أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة) فما الحكمة من هذا الإختلاف بين الآيتين؟ لعلك أدركت أن قوله تعالى (أوتوا نصيباً من الكتاب) جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبه كلمة (نصيباً) للإشارة إلى قلة علمهم الذي أخذوه من الكتاب بينما في قوله تعالى (أوتوا الكتاب) صيغت هذه الآية في مقام الترغيب فناسبه لفظ (أوتوا الكتاب) الذي يؤذن بأنهم شُرّفوا بإيتاء التوراة وما ذاك إلا ليثير اهتمامهم وهمتهم للتخلق بسمات الراسخين منهم.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء (49) النساء) انظر إلى هذا الأسلوب في إبطال معتقدهم فلم يقل ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم وهم كاذبون ليبيّن حالة التزكية بل قال (بل الله يزكي من يشاء) فقد أبطل معتقدهم في التزكية بإثبات التزكية لله تعالى وقد أفاد تصوير الجملة بـ (بل) حتمية إبطال تزكيتهم خلافاً لحذفها فلو قال والله يزكي من يشاء لكن لهم طمع أن يكونوا ممن زكّاه الله تعالى.
(انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ (50) النساء) الكلام المختلق المكذوب تسمعه الآذان فكيف قال تعالى (انظر كيف) ولم يقل إسمع؟ جعل الله تعالى الكذب والافتراء الذي تسمعه الأذن كأنه أمر مرئي يراه الناس يأعينهم ليصف شدة تحقق وقوع ذلك منهم فهو أمر محتّم.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ (56) النساء) انظر إلى هذا التصوير لمشهد العذاب إنه مشهد مادي محسوس تتألم منه الأجساد وتتلظى به الجوارح والأبدان وهو مشهد لا يكاد ينتهي، مشهد يشخص له الخيال ولا ينصرف عنه. ألا ترى أنك تكاد ترى مشهد الجلود الناضجة من شدة قوة التصوير في قوله تعالى (كلما نضجت جلودهم) وتأمل هذا الاختيار المفزع لأداة الشرط (كلما) جون استعمال الأداة (إذا) لأن (كلما) ترسم مشهد نضوج الجلود متكرراً خلافاً لـ (إذا) وهذا يناسب قوله تعالى (كلما نضجت جلودهم بدلناهم غيرها).
(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا (56) النساء) لِمَ خصّ الله تعالى الجلود بالتغيير دون الأعضاء مع أنها تنضج في النار أيضاً؟ هذا من إعجاز القرآن فالجلد هو الذي يوصل إحساس العذاب إلى النفس فلو لم يبدّل الجلد بعد إحتراقه لما وصل عذاب النار إلى النفس.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ (60) النساء) لو رجعت إلى سبب نزول هذه الآية لعلمت أنها نزلت بمنافق فلِمَ صيغت بأسلوب الجمع ولم تكن مفردة؟ ورد في الآية قوله تعالى (يزعمون) بصيغة الجمع مع أن المراد بها واحد لأن المقام مقام توبيخ ليشمل المنافق المقصود ومن كان على شاكلته وفعلته.
(وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60) النساء) وصف الله تعالى الضلال بالبعيد والبعد مسافة فلِمَ لم يصفه بالضلال الكبير مثلاً؟ إن الشيطان يسعى ليُغرق الإنسان في الضلال وليوغل في مسار الفسق حتى يصعب عليه الرجوع عنه أما الضلال الكبير فيمكن أن يتخلى الإنسان عنه ولذلك خصّ الله تعالى الضلال من الشيطان بالبعيد لتعرف بأن الشيطان لن يهدأ حتى يبلغ الواحد منا أقصى غاية في الضلال.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ (61) النساء) لِمَ خصّ الله تعالى نداء المنافقين بـ (تعالوا) ولم يقل لهم احضروا أو إيتوا؟ إن غايته في الآية رفع المنافقين وإخراجهم من سفاسف الأمور ودنو التفكير ولذلك استعمل فعلاً مأخوذاً من العلو ليحضّهم على الارتفاع عن معتقدهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة وهو تحكيم كتاب الله تعالى ورسوله r.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ (71) النساء) الأخذ هو أن تتناول شيئاً في يدك فكيف يأخذ الإنسان حذره؟ ولِمَ عدل عن أصل الفعل "يا أيها الذين آمنوا إحذروا"؟ في استعمال العقل خذوا حذركم استعارة لتوضيح شدة الحذر وملازمته لأن حقيقة الأخذ تناول الشيء الذي كان بعيداً عنك وكما كانت الغفلة والنسيان يشبهان البعد والإلقاء كان التذكّر والتيقّظ يشبهان أخذ الشيء بعد إلقائه.
(وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ (72) النساء) انظر إلى هذا اللفظ الذي اختاره ربنا سبحانه وتعالى ليعبّر عن المتقاعسين عن الجهاد والمثبّطين للهِمم أي لفظ (ليبطّئن) هذا اللفظ رسم بمفرده صورة تناسق فيها المضمون مع التعبير والمعنى من خلال إيقاعه وجرسه الذي يلقيه في الأذن حيث رسم جرس (ليبطئن) صورة واضحة للتبطئة فهذه اللفظة مختارة لما فيها من ثقل يتعثّر اللسان في حروفها وجرسها حتى تأتي على آخرها وهو يشدّها شداً وهذا يصور الحركة النفسية لأولئك المتقاعسين وما يعتريهم من تعثّر وتثاقل عن المضي قُدُماً في المعركة.
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً (77) النساء) إذا علمت أن (إذا) في قوله تعالى (إذا فريق منهم) تسمى الفجائية فما صلتها بالآية؟ ولِمَ عدل عن أصل التركيب وهو: فلما كتب عليهم القتال خشي فريق منهم الناس؟ إن (إذا) لها دلالة لا يمكن الاستغناء عنها فقد دلّت على أن الفريق لم يكن متوقعاً منه هذا الموقف لأنه كان يظهر حرصاً شديداً على القتال.
(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (82) النساء) التدبر مشتق من الدَبَر أي الظهر فكيف يراد به التأمل؟ جعلوا الفعل تدبر بمعنى تأمل وتفكر لأننا إذا قلنا تدبر المسألة أردنا نظر في غائبها وعاقبتها وتدبر الأمر نظر في ما وراءه من حِكَم ومعانٍ.
(مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا (85) النساء) لِمَ خصّ الله تعالى الشفاعة الحسنة بالنصيب والشفاعة السيئة بالكِفل؟ النصيب هو الحظ من كل شيء خيراً كان أم شراً وبما أنه اقترن بالشفاعة الحسنة فهو جزاء بالخير وقد اختير النصيب دون الجزاء إشارة إلى أنه قد يكون للشافع أجر أكثر من ثواب من شفع عنده أما شافع السوء فقد خص الله جزاءه بالكفل بمعنى المثل إيذاناً بأن مرتكب السيئة لا يجزى إلا مثلها واختيرت كلمة الكفل لشافع السوء دون الجزاء أو النصيب لأنها لا تختص إلا بالشر والشدة.
(وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا (86) النساء) انظر كيف يعلّم الله تعالى الناس التسابق إلى الخيرات ويخلّقهم بأخلاق الإسلام فقال فحيوا بأحسن منها فقدم الرد بالأحسن وعطف عليه ما يماثله ليعلمنا أن رد السلام بالأفضل هو المقدم ألا ترى أنك تقول لمن سلم عليك (وعليكم السلام) فقدمت عليكم على المبتدأ السلام وهذا تقديم يفيد التخصيص للمخاطب فكان أحسن من السلام عليكم.
(وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء (89) النساء) انظر إلى هذه البلاغة في التعبير فقد عبّر الله تعالى عن رغبة المنافقين في تكفير المؤمنين بالفعل (ودّ) بينما عبّر عن فعل المؤمنين بإدخال الإيمان إلى قلوب المنافقين بالفعل (أتريدون) وذلك في قوله تعالى (أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ (88)) فما وجه البلاغة في هذا الإختيار؟ عبّر الله تعالى عن محاولة المؤمنين بالإرادة لأنه ينشأ عنها الفعل فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين لأن الإيمان قريب من فطرة الإنسان بينما عبّر عن محاولة المنافقين بالودّ لأن المنافقين يعلمون أن المؤمنين لا يرتدون عن دينهم فلم يكن طلبهم تكفير المؤمنين إلا تمنّياً ووداً ولذلك عبّر عنه بقوله (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء).
منقول للافاده
(وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ (2) النساء) حقيقة الأكل أن تتناول طعاماً فتدخله في جوفك فكيف أتى النهي عن أكل المال؟ وهل يستطيع الإنسان أن يأكل الدراهم؟ نهيُ المؤمن عن أكل مال اليتيم ولم يأت النهي عن الأخذ لأن الأكل هو أشد دلالة وأقوى تعبيراً من حالة الأخذ فهذه الكلمة (تأكلوا) توحي بأن الشخص قد أحرز ما أكله في داخل جسده وعندها لا مطمع في إرجاعه ولا دليل على أنه أخذ هذا المال.
(وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (4) النساء) ما وجه عطف إيتاء النساء مهرهنّ على الأمر بإعطاء اليتامى حقهم أي في الآية السابقة حيث يقول تعالى (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ (2)) والآية بعدها يقول (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) ما حكم العطف هنا؟ هذان الضعيفان المرأة واليتيم مستضعفان من المجتمع وحقهما مغبون فكان غي تعاقبهما حراسة لحقهما أشد حراسة. وبنفس الآية قوله تعالى (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) ما معنى كلمة (نحلة)؟ ولِمَ قيّد الصدقات بقوله (نحلة)؟ النِحلة هي العطيّة بلا قصد العِوَض وقد سمى ربنا تعالى الصدقات نِحلة ليكون المهر الذي تدفعه منزّهاً عن العِوَض بل هو أقرب إلى الهدية فليست الصدقات عوضاً عن منافع المرأة ولو كان عوضاً لكان عوضها جزيلاً ومتجدداً بتجدد المنافع وامتداد الزمن. فعقد النكاح بينك وبين زوجك غايته إيجاد آصرة محبة وتبادل الحقوق والتعاون على إنشاء جيل وهذا أغلى من أن يكون له عِوَض مالي.
(فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4) النساء) لِمَ قال ربنا (طبن لكم عن شيء منه نفساً) ولم يقل فإن طابت نفوسهن عن شيء لكم؟ أخّر ربنا تعالى النفس عن شيء ونصبها على التمييز ليبين لنا مقدار قوة هذا الطيب وليؤكد لنا أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإكراه. وتأمل لِمَ قال ربنا (فكلوه) ولم يقل فخذوه؟ عندما قال (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) ذلك ليطمئن المؤمن يجواز الانتفاع بمال زوجه انتفاعاً لا رجوع فيه فهو تملّك لمالها تملّكاً تاماً ولكنه تملّك عن طيب نفس منها لا إرغام فيه.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ (9) النساء) الفعل يخشى متعدي يأخذ مفعولاً به فتقول أخشى الله فالله لفظ الجلالة هو المفعول به فأين مفعول (وليخشى) في الآية؟ حذف ربنا تعالى مفعول (وليخشى) لتذهب نفس السامع في تقدير المفعول به مذاهب عدة وليقدر كل واحد منا تقديراً يفهمه هو فينظر كل سامع بحسب الأهمّ عنده مما يخشى أن يصيب ذريته فيكون رادعاً له عن ظلم اليتامى.
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) النساء) أراد ربنا بقوله (إنما يأكلون في بطونهم ناراً) تبيان شدة الألم والعذاب في الدنيا بدليل قوله (وسيصلون سعيراً) أي في الآخرة. فكيف يأكل آخذ مال اليتيم في النار في الدنيا مع أن العذاب بالنار يكون في الآخرة؟ في هذه العبارة (يأكلون في بطونهم ناراً) استعارة فقد عبّر الله تعالى عن المصائب بأكل النار لأن شأن النار أن تلتهم ما تقع عليه كآكل مال اليتيم ربما تصيبه مصائب في ذاته أو ماله مثل النار إذا ذنت من أحد لا بد أن تؤلمه وتتلف متاعه.
(يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (11) النساء) أمعِن التأمل في هذا اللطف الإلهي فقد جعل الله تعالى حظ الانثيين هو المقدار الذي يقدّر به حظ الذكر ولم يجعل حظ الذكر هو المقياس كأن يقول للأنثى نصف حظّ الذكر. فلِمَ آثر ربنا تعالى هذا التعبير؟ آثر ربنا تعالى هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء والإيحاء للناس بأن حظّ الأنثى هو الأهم في نظر الشرع وهو مقدّم على حق الرجل لأن المرأة كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية. أما في الاسلام فقد أصبحتِ يا أختاه ينادى بحظّك وقسمتك ونصيبك هو المقياس.
(تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ (13) النساء) مشهد ملموس ومحسوس ترسمه عبارة حدود الله فكل منا يعرف حدّه في منزله مثلاً فلا يجرؤ على دخول حدّ جاره وإن دخل فهو موقن أنه مخالف ومتجاوز حقّه وقد استعمل ربنا تعالى الحدود ليقرّب الفكرة لأذهاننا فشرع الله حدٌّ لا ينبغي لنا أن نتجاوزه.
(وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14) النساء) إن تهديد المرء بالنار وعيد وعذاب فإذا أشيف إليه الخلود فهذا من أشد ألوان العذاب. فما فائدة ختم الآية بقوله تعالى (وله عذاب مهين)؟ أراد الله تبارك وتعالى أن يهدد الخارجين عن حدوده بألفاظ ترجف القلوب وتقع في قلوبهم موقع الخوف ليتأمل الإنسان سوء مصيره ولذلك ختمت الآية بوصف العذاب المهين لأن من العرب من لا يخشى كلمة النار ولكنه يأبى الضيم والإهانة فقد يحذر الإهانة أكثر مما يحذر عذاب النار ولذا قال العرب في أمثالهم "النار ولا العار".
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ (17) النساء) تأمل هذا التعبير الإلهي البديع فقد قيّد الله سبحانه وتعالى عمل السوء بجهالة فقال (يعملون السوء بجهالة) فلِمَ عدل ربنا تعالى عن وصفه بالجهل فلم يقل يعملون السوء عن جهل؟ الجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويّة في حين أن الجهل يعني عدم العلم بالشيء فلو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنها معصية فليس يأثم وإنما يجب أن يتعلم ويبتعد عن المعاصي ولذلك حصر الله تعالى السوء بالجهالة دون الجهل لأن هذا الفعل هو الذي يحب أن يتوب الإنسان عن فعله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا (19) النساء) لا شك أن وقع النهي علة أذن السامع أشد من الإخبار فقولك لولدك لا تفعل هذا فيه من الوعيد والأثر أشد من قولك أمنعك من هذا.
(وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا (20) النساء) انظر قوله تعالى (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا) فقد ضرب الله تعالى مثلاً للمهر بالقنطار فلِمَ قال قنطاراً ولم يسمِّه على الأصل: وآتيتم إحداهن مهراً؟ أو نِحلة؟ المهر يطلق على القليل والكثير فلو حدّده بالمهر ثم أتبعه (فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا) لربما تبادر إلى أذهاننا أن المهر إن كان كثيراً يحق لنا أن نأخذ نصيباً ولكن عندما مثّل للمهر بالقنطار وهو كثير جداً ثم نهانا عن الأخذ منه علمنا أن المهر مهما قل أو كثر لا يحق لنا أن نقتطع منه لأنفسنا.
(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ (21) النساء) تأمل أسرار البلاغة القرآنية في كلام الله عز وجل، ألم يلف نظرك هذا الاستفهام أي في قوله تعالى (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ)؟ إنه استفهام خرج إلى معنى آخر وهو التعجب من فعل ذلك الرجل الذي يريد أن يأخذ من صداق زوجه فهذا ليس من المروءة ولذلك ابتدأه الله تعالى باستفهام تعجبي.
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23) النساء) في الآية السابقة التي حرّم الله تعالى بها نكاح زوجات الأب عبّر عن التحريم بالنهي فقال تعالى (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ (22)) فلِمَ عدل عنه إلى الماضي فقال (حُرِّمت) ولم يقل ولا تنكحوا أمهاتكم؟ إن أسلوب النهي كقولك لابنك لا تلعب الكرة فيه إيحاء بأنه كان يلعب بالماضي ولذلك نهيته عن المستقبل بخلاف قولك نُهينا عن لعب النرد فهذا يدل على تحريمه سابقاً ولاحقاً ولذلك عبّر عن نكاح زوجات الأب بالنهي لأن هذا الفعل كان شائعاً عند العرب ثم حرّمه الإسلام. أما نكاح المحارم من الأمهات والبنات والأخوات فهذا لم يكن لدى العرب قبل الاسلام ولذلك عبّر عنه بقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ليبين لنا أن هذا التحريم أمر مقرر سابقاً وأتى القرآن ليثبته وهذا ما عبّر عنه ابن عباس بقوله: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الإسلام إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ولذلك عبّر عنه بالمضارع (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ).
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (24) النساء) المحصَنات هي المرأة المتزوجة وسميت محصنة من أحصنها الرجل إذا حفظها واستقل بها عن غيره. ويقال محصنة إذا أحصنت نفسها بالعفاف. في هذه الآية قُرِئت المحصَنات بالفتح أي التي أُحصِنت من زوجها ولم يُقرأ بالكسر المحصِنات وفي سائر المواضع تقرأ بالفتح والكسر فلِم لم تُقرأ والمحصِنات من النساء؟ هذه الآية معطوفة على الآية التي قبلها (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) أي وحُرِّمت المحصَنات المتزوجات ولذلك قُرئت الفتح فقط أن اللولتي حرم التزوج بهن هن المتزوجات أما المحصِنات أي العفيفات فليس الزواج بهن محرّماً بل يُندر أن تبحث عنهن.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (29) النساء) تأمل هذا التعبير والتصوير الإلهي في سلب أموال الناس بعضهم بعضاً فقد جعل الله تعالى المال كالطعام يلتهمه الظالم ليبين لنا شدة حرصهم على أخذه دون ترك شيء منه ودون إرجاعه أربابه. ألا ترى أن الطعام قبل أن يأكله المرء يمكن أن يُعيده إلى أهله وإذا ما أكله فقد قرر عدم الإذعان وإرجاعه وكذلكم آكِل المال.
(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) النساء) إن الإنسان لا يحتاج إلى النهي عن قتل نفسه حتى يحفظها فلِمَ جاء النهي عن قتل الإنسان نفسه؟ انظر إلى هذا البيان الإلهي فالله تعالى يريد منا أن نصون أرواح الناس وأن لا نعتدي عليها فعبّر عن ذلك بالكفّ والنهي عن قتل المرء نفسه لأن المؤمنين جسد واحد وروح واحدة فمن قتل أخاه فقد قتل نفسه وذلك لأمرين: الأول بتفكيك المجتمع وخلق العداوة بين أفراده والثاني أنه حكم على نفسه بالقتل قصاصاً.
(وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) النساء) لاحظ كيف أتى النهي عن طلب حصول نصيب الآخرين بالتمني ولم يأت بالنهي عن الرغبة أو السؤال بينما قال (واسألوا الله من فضله) ولم يقل وتمنوا من الله فضله، فما سرُّ هذا الاستعمال؟ إن التمني هو طلب الحصول على شيء أقرب ما يكون من المستحيل لذلك عبّر الله تعالى عن تطلّع النفوس إلى ما ليس لها بالتمني لأن ذلك قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد ومن ثمّ ما كان لغيرك فلا يكون لك وأما الطلب من الله تعالى فعبّر عنه بالسؤال أن ذلك مما يمنّ الله تعالى به على عباده السائلين.
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ (34) النساء) انظر إلى البيان الإلهي وهذا التمثيل الرباني لحالة الرجل الذي وُكِلأ إليه الكسب والحفظ والدفاع عن زوجه. فقد شبه اهتمامه بحالة القائم لأن شأن القائم الذي يهتم بالأمر ويعتني به أن يقف ليدير أمره.
(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (36) النساء) انظر إلى قوله تعالى (وبالوالدين إحساناً) ألا ترى في الفعل أحسن ومصدره الإحسان أن يتعدّى بحرف الجر (إلى) فنقول أحسن إلى فلان، فلِمَ عبّر هنا بالاء في قوله (وبالوالدين إحسانا)؟ الإحسان إذا عُدّي بالباء كان متعلقاً بمعاملة الذات أي ذات الأبوين روحاً وجسداً وتوقيرهما واحترامهما والنزول عند رغبتهما وامتثال أمرهما وكأنه يقول: بِرّ بوالديك، وهذا ما نوّهت له الآية (وبالوالدين إحساناً). أما تعديته بـ (إلى) فذاك يكون عند قصد إيصضال النفع المالي ولذلك قال تعالى لقارون (وأحسن كما أحسن الله إليك).
(وَابْنِ السَّبِيلِ (36) النساء) إذا عرفت أن السبيل هو الطريق فكيف أُطلٌِ على المسافر البعيد عن منزله إبن السبيل؟ سمي المسافر البعيد عن منزله الذي ضاقت به السبل إبن السبيل لأنه لازم الطريق سائراً مسافراً فنُسب إليه وإذا ما دخل قبيلة عرفوه أنه ابن السبيل لأن الطريق رمى به إليهم.
(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ (42) النساء) انظر إلى هذه الصورة التي تشخِّص لك هيئة نفوس الكافرين التي امتلأت خزياً قاتلاً وخجلاً مميتاً في موقف المواجهة حين يُستدعى الشهود فهي لا تتمنى الموت بل تذهب إلى أشد منه، تتمنى لو تضاءلت الأجساد حتى تصير على سوية الأرض. لا شك أن هذا التصوير فيه رصد لعمق المعاناة النفسية والشعورية ورصد لبواطن النفس وخلجات الحِسّ أكثر من التعبير المباشر عن الشعور بالخزي.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ (43) النساء) ليست الصلاة مكاناً يُقصد حتى يؤمر الإنسان أن لا يقربه فلِمَ عبّر عن عدم جواز الصلاة للسكران بقوله (لا تقربوا الصلاة) ولم يقل لا تصلّوا؟ اختير هذا الفعل دون أن تصلّوا ونحوه للإشارة أن تلك حالة منافية للصلاة وصاحبها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام وهو الصلاة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ (44) النساء) لِمَ قيّد ربنا سبحانه وتعالى الإيتاء بالنصيب؟ أي قال (أُوتوا نصيباً من الكتاب) ولم يجعله مطلقاً (أوتوا الكتاب)؟ في هذا التقييد لغة بلاغية، ألا ترى أن ثمة فرقاً واضحاً بين من أوتي الكتاب ومن أوتي نصيباً من الكتاب ففي اختيار كلمة نصيباً من الكتاب إيحاء بقلة أثر الكتاب في نفوس السامعين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم (47) النساء) انظر إلى تناسب اللفظ مع المعنى في القرآن فهنا قال (أوتوا الكتاب) بينما قال في آية أخرى (أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة) فما الحكمة من هذا الإختلاف بين الآيتين؟ لعلك أدركت أن قوله تعالى (أوتوا نصيباً من الكتاب) جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبه كلمة (نصيباً) للإشارة إلى قلة علمهم الذي أخذوه من الكتاب بينما في قوله تعالى (أوتوا الكتاب) صيغت هذه الآية في مقام الترغيب فناسبه لفظ (أوتوا الكتاب) الذي يؤذن بأنهم شُرّفوا بإيتاء التوراة وما ذاك إلا ليثير اهتمامهم وهمتهم للتخلق بسمات الراسخين منهم.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء (49) النساء) انظر إلى هذا الأسلوب في إبطال معتقدهم فلم يقل ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم وهم كاذبون ليبيّن حالة التزكية بل قال (بل الله يزكي من يشاء) فقد أبطل معتقدهم في التزكية بإثبات التزكية لله تعالى وقد أفاد تصوير الجملة بـ (بل) حتمية إبطال تزكيتهم خلافاً لحذفها فلو قال والله يزكي من يشاء لكن لهم طمع أن يكونوا ممن زكّاه الله تعالى.
(انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ (50) النساء) الكلام المختلق المكذوب تسمعه الآذان فكيف قال تعالى (انظر كيف) ولم يقل إسمع؟ جعل الله تعالى الكذب والافتراء الذي تسمعه الأذن كأنه أمر مرئي يراه الناس يأعينهم ليصف شدة تحقق وقوع ذلك منهم فهو أمر محتّم.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ (56) النساء) انظر إلى هذا التصوير لمشهد العذاب إنه مشهد مادي محسوس تتألم منه الأجساد وتتلظى به الجوارح والأبدان وهو مشهد لا يكاد ينتهي، مشهد يشخص له الخيال ولا ينصرف عنه. ألا ترى أنك تكاد ترى مشهد الجلود الناضجة من شدة قوة التصوير في قوله تعالى (كلما نضجت جلودهم) وتأمل هذا الاختيار المفزع لأداة الشرط (كلما) جون استعمال الأداة (إذا) لأن (كلما) ترسم مشهد نضوج الجلود متكرراً خلافاً لـ (إذا) وهذا يناسب قوله تعالى (كلما نضجت جلودهم بدلناهم غيرها).
(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا (56) النساء) لِمَ خصّ الله تعالى الجلود بالتغيير دون الأعضاء مع أنها تنضج في النار أيضاً؟ هذا من إعجاز القرآن فالجلد هو الذي يوصل إحساس العذاب إلى النفس فلو لم يبدّل الجلد بعد إحتراقه لما وصل عذاب النار إلى النفس.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ (60) النساء) لو رجعت إلى سبب نزول هذه الآية لعلمت أنها نزلت بمنافق فلِمَ صيغت بأسلوب الجمع ولم تكن مفردة؟ ورد في الآية قوله تعالى (يزعمون) بصيغة الجمع مع أن المراد بها واحد لأن المقام مقام توبيخ ليشمل المنافق المقصود ومن كان على شاكلته وفعلته.
(وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60) النساء) وصف الله تعالى الضلال بالبعيد والبعد مسافة فلِمَ لم يصفه بالضلال الكبير مثلاً؟ إن الشيطان يسعى ليُغرق الإنسان في الضلال وليوغل في مسار الفسق حتى يصعب عليه الرجوع عنه أما الضلال الكبير فيمكن أن يتخلى الإنسان عنه ولذلك خصّ الله تعالى الضلال من الشيطان بالبعيد لتعرف بأن الشيطان لن يهدأ حتى يبلغ الواحد منا أقصى غاية في الضلال.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ (61) النساء) لِمَ خصّ الله تعالى نداء المنافقين بـ (تعالوا) ولم يقل لهم احضروا أو إيتوا؟ إن غايته في الآية رفع المنافقين وإخراجهم من سفاسف الأمور ودنو التفكير ولذلك استعمل فعلاً مأخوذاً من العلو ليحضّهم على الارتفاع عن معتقدهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة وهو تحكيم كتاب الله تعالى ورسوله r.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ (71) النساء) الأخذ هو أن تتناول شيئاً في يدك فكيف يأخذ الإنسان حذره؟ ولِمَ عدل عن أصل الفعل "يا أيها الذين آمنوا إحذروا"؟ في استعمال العقل خذوا حذركم استعارة لتوضيح شدة الحذر وملازمته لأن حقيقة الأخذ تناول الشيء الذي كان بعيداً عنك وكما كانت الغفلة والنسيان يشبهان البعد والإلقاء كان التذكّر والتيقّظ يشبهان أخذ الشيء بعد إلقائه.
(وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ (72) النساء) انظر إلى هذا اللفظ الذي اختاره ربنا سبحانه وتعالى ليعبّر عن المتقاعسين عن الجهاد والمثبّطين للهِمم أي لفظ (ليبطّئن) هذا اللفظ رسم بمفرده صورة تناسق فيها المضمون مع التعبير والمعنى من خلال إيقاعه وجرسه الذي يلقيه في الأذن حيث رسم جرس (ليبطئن) صورة واضحة للتبطئة فهذه اللفظة مختارة لما فيها من ثقل يتعثّر اللسان في حروفها وجرسها حتى تأتي على آخرها وهو يشدّها شداً وهذا يصور الحركة النفسية لأولئك المتقاعسين وما يعتريهم من تعثّر وتثاقل عن المضي قُدُماً في المعركة.
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً (77) النساء) إذا علمت أن (إذا) في قوله تعالى (إذا فريق منهم) تسمى الفجائية فما صلتها بالآية؟ ولِمَ عدل عن أصل التركيب وهو: فلما كتب عليهم القتال خشي فريق منهم الناس؟ إن (إذا) لها دلالة لا يمكن الاستغناء عنها فقد دلّت على أن الفريق لم يكن متوقعاً منه هذا الموقف لأنه كان يظهر حرصاً شديداً على القتال.
(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (82) النساء) التدبر مشتق من الدَبَر أي الظهر فكيف يراد به التأمل؟ جعلوا الفعل تدبر بمعنى تأمل وتفكر لأننا إذا قلنا تدبر المسألة أردنا نظر في غائبها وعاقبتها وتدبر الأمر نظر في ما وراءه من حِكَم ومعانٍ.
(مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا (85) النساء) لِمَ خصّ الله تعالى الشفاعة الحسنة بالنصيب والشفاعة السيئة بالكِفل؟ النصيب هو الحظ من كل شيء خيراً كان أم شراً وبما أنه اقترن بالشفاعة الحسنة فهو جزاء بالخير وقد اختير النصيب دون الجزاء إشارة إلى أنه قد يكون للشافع أجر أكثر من ثواب من شفع عنده أما شافع السوء فقد خص الله جزاءه بالكفل بمعنى المثل إيذاناً بأن مرتكب السيئة لا يجزى إلا مثلها واختيرت كلمة الكفل لشافع السوء دون الجزاء أو النصيب لأنها لا تختص إلا بالشر والشدة.
(وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا (86) النساء) انظر كيف يعلّم الله تعالى الناس التسابق إلى الخيرات ويخلّقهم بأخلاق الإسلام فقال فحيوا بأحسن منها فقدم الرد بالأحسن وعطف عليه ما يماثله ليعلمنا أن رد السلام بالأفضل هو المقدم ألا ترى أنك تقول لمن سلم عليك (وعليكم السلام) فقدمت عليكم على المبتدأ السلام وهذا تقديم يفيد التخصيص للمخاطب فكان أحسن من السلام عليكم.
(وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء (89) النساء) انظر إلى هذه البلاغة في التعبير فقد عبّر الله تعالى عن رغبة المنافقين في تكفير المؤمنين بالفعل (ودّ) بينما عبّر عن فعل المؤمنين بإدخال الإيمان إلى قلوب المنافقين بالفعل (أتريدون) وذلك في قوله تعالى (أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ (88)) فما وجه البلاغة في هذا الإختيار؟ عبّر الله تعالى عن محاولة المؤمنين بالإرادة لأنه ينشأ عنها الفعل فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين لأن الإيمان قريب من فطرة الإنسان بينما عبّر عن محاولة المنافقين بالودّ لأن المنافقين يعلمون أن المؤمنين لا يرتدون عن دينهم فلم يكن طلبهم تكفير المؤمنين إلا تمنّياً ووداً ولذلك عبّر عنه بقوله (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء).
منقول للافاده