( إن المتقين في جنات ونهر )
ثم قال تعالى :
( إن المتقين في جنات ونهر ) قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها : ( والطور ) وأما النهر ففيه قراءات [ منها ] فتح النون والهاء كحجر ، وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار . وهذا هو الظاهر الأصح . وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا شك أن كمال اللذة بالبستان أن يكون الإنسان فيه ، وليس من اللذة بالنهر أن يكون الإنسان فيه ، بل لذته أن يكون في الجنة عند النهر ، فما معنى قوله تعالى : ( ونهر ) ؟ نقول : قد أجبنا عن هذا في تفسير قوله تعالى : ( إن المتقين في جنات وعيون ) في سورة الذاريات ، وقلنا : المراد في خلال العيون ، وفيما بينها من المكان وكذلك في جنات ، لأن الجنة هي الأشجار التي تستر شعاع الشمس ، ولهذا قال تعالى : ( في ظلال وعيون ) [ المرسلات : 41 ] . وإذا كانت الجنة هي الأشجار الساترة فالإنسان لا يكون في الأشجار ، وإنما يكون بينها أو خلالها ، فكذلك النهر ، ونزيد ههنا وجها آخر : وهو أن المراد في جنات وعند نهر لكون المجاورة تحسن إطلاق اللفظ الذي لا يحسن إطلاقه عند عدم المجاورة كما قال :
علفتها تبنا وماء باردا
وقالوا : تقلدت سيفا ورمحا ، والماء لا يعلف ، والرمح لا يتقلد ، ولكن لمجاورة التبن والسيف حسن الإطلاق ، فكذلك هنا لم يأت في الثاني بما أتى به في الأول من كلمة في .
[ ص: 70 ] المسألة الثانية : وحد النهر مع جمع الجنات ، وجمع الأنهار في كثير من المواضع كما في قوله تعالى : ( تجري من تحتها الأنهار ) إلى غيره من المواضع فما الحكمة فيه ؟ نقول : أما على الجواب الأول فنقول : لما بين أن معنى في نهر في خلال فلم يكن للسامع حاجة إلى سماع الأنهار ، لعلمه بأن النهر الواحد لا يكون له خلال . وأما في قوله تعالى : ( تجري من تحتها الأنهار ) فلو لم يجمع الأنهار لجاز أن يفهم أن في الجنات كلها نهرا واحدا كما في الدنيا ، فقد يكون نهر واحد ممتد جار في جنات كثيرة ، وأما على الثاني فنقول : الإنسان يكون في جنات لأنا بينا أن الجمع في جنات إشارة إلى سعتها وكثرة أشجارها وتنوعها ، والتوحيد عندما قال : ( مثل الجنة ) [ محمد : 15 ] وقال : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) [ التوبة : 111 ] لاتصال أشجارها ولعدم وقوع القيعان الخربة بينها ، وإذا علمت هذا فالإنسان في الدنيا إذا كان في بيت في دار وتلك الدار في محلة ، وتلك المحلة في مدينة ، يقال إنه في بلدة كذا ، وأما القرب فإذا كان الإنسان في الدنيا بين نهرين بحيث يكون قربه منهما على السواء يقال إنه جالس عند نهرين ، فإذا قرب من أحدهما يقال من عند أحد نهرين دون الآخر ، لكن في دار الدنيا لا يمكن أن يكون عند ثلاثة أنهار ، وإنما يمكن أن يكون عند نهرين ، والثالث منه أبعد من النهرين ، فهو في الحقيقة ليس يكون في زمان واحد عند ثلاثة أنهار ، والله تعالى يذكر أمر الآخرة على ما نفهمه في الدنيا ، فقال : عند نهر لما بينا أن قوله : ( ونهر ) وإن كان يقتضي في نهر لكن ذلك للمجاورة كما في : تقلدت سيفا ورمحا ، وأما قوله : ( تجري من تحتها الأنهار ) فحقيقته مفهومة عندنا لأن الجنة الواحدة قد يجري فيها أنهار كثيرة أكثر من ثلاثة وأربعة ، فهذا ما فيه مع أن أواخر الآيات يحسن فيها التوحيد دون الجمع ، ويحتمل أن يقال و ( ونهر ) التنكير للتعظيم . وفي الجنة نهر وهو أعظم الأنهر وأحسنها ، وهو الذي من الكوثر ، ومن عين الرضوان ، وكان الحصول عنده شرفا وغبطة ، وكل أحد يكون له مقعد عنده ، وسائر الأنهار تجري في الجنة ويراها أهلها ، ولا يرون القاعد عندها فقال : ( في جنات ونهر ) أي ذلك النهر الذي عنده مقاعد المؤمنين ، وفي قوله تعالى : ( إن الله مبتليكم بنهر ) [ البقرة : 249 ] لكونه غير معلوم لهم ، وفي هذا وجه حسن أيضا ، ولا يحتاج على الوجهين أن نقول : نهر في معنى الجمع لكونه اسم جنس .
المسألة الثالثة : قال ههنا في : ( ونهر ) وقال في الذاريات : ( وعيون ) [ الذاريات : 15 ] فما الفرق بينهما ؟ نقول : إنا إن قلنا في نهر معناه في خلال فالإنسان يمكن أن يكون في الدنيا في خلال عيون كثيرة تحيط به إذا كان على موضع مرتفع من الأرض ، والعيون تنفجر منه وتجري فتصير أنهارا عند الامتداد ، ولا يمكن أن يكون في خلال أنهار ، وإنما هي نهران فحسب ، وأما إن قلنا : إن المراد عند نهر فكذلك وإن قلنا : مرأى عظيم عليه مقاعد ، فنقول : يكون ذلك النهر ممتدا واصلا إلى كل واحد وله عنده مقعد وعيون كثيرة تابعة ، فالنهر للتشريف والعيون للتفرج والتنزه ، مع أن النهر العظيم يجتمع مع العيون الكثيرة ، فكان النهر مع وحدته يقوم مقام العيون مع كثرتها ، وهذا كله مع النظر إلى أواخر الآيات ههنا وهناك ، يحسن ذكر لفظ الواحد ههنا والجمع هناك .
المسألة الرابعة : قرئ : " في جنات ونهر " على أنها جمع نهار إذ لا ليل هناك ، وعلى هذا فكلمة " في " حقيقة فيه فقوله : ( في جنات ) ظرف مكان ، وقوله : ( ونهر ) أي وفي نهر إشارة إلى ظرف زمان ، وقرئ " نهر " بسكون الهاء وضم النون على أنه جمع نهر كأسد في جمع أسد نقله الزمخشري ، ويحتمل أن يقال : نهر بضم الهاء جمع نهر كثمر في جمع ثمر .
للافاده
ثم قال تعالى :
( إن المتقين في جنات ونهر ) قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها : ( والطور ) وأما النهر ففيه قراءات [ منها ] فتح النون والهاء كحجر ، وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار . وهذا هو الظاهر الأصح . وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا شك أن كمال اللذة بالبستان أن يكون الإنسان فيه ، وليس من اللذة بالنهر أن يكون الإنسان فيه ، بل لذته أن يكون في الجنة عند النهر ، فما معنى قوله تعالى : ( ونهر ) ؟ نقول : قد أجبنا عن هذا في تفسير قوله تعالى : ( إن المتقين في جنات وعيون ) في سورة الذاريات ، وقلنا : المراد في خلال العيون ، وفيما بينها من المكان وكذلك في جنات ، لأن الجنة هي الأشجار التي تستر شعاع الشمس ، ولهذا قال تعالى : ( في ظلال وعيون ) [ المرسلات : 41 ] . وإذا كانت الجنة هي الأشجار الساترة فالإنسان لا يكون في الأشجار ، وإنما يكون بينها أو خلالها ، فكذلك النهر ، ونزيد ههنا وجها آخر : وهو أن المراد في جنات وعند نهر لكون المجاورة تحسن إطلاق اللفظ الذي لا يحسن إطلاقه عند عدم المجاورة كما قال :
علفتها تبنا وماء باردا
وقالوا : تقلدت سيفا ورمحا ، والماء لا يعلف ، والرمح لا يتقلد ، ولكن لمجاورة التبن والسيف حسن الإطلاق ، فكذلك هنا لم يأت في الثاني بما أتى به في الأول من كلمة في .
[ ص: 70 ] المسألة الثانية : وحد النهر مع جمع الجنات ، وجمع الأنهار في كثير من المواضع كما في قوله تعالى : ( تجري من تحتها الأنهار ) إلى غيره من المواضع فما الحكمة فيه ؟ نقول : أما على الجواب الأول فنقول : لما بين أن معنى في نهر في خلال فلم يكن للسامع حاجة إلى سماع الأنهار ، لعلمه بأن النهر الواحد لا يكون له خلال . وأما في قوله تعالى : ( تجري من تحتها الأنهار ) فلو لم يجمع الأنهار لجاز أن يفهم أن في الجنات كلها نهرا واحدا كما في الدنيا ، فقد يكون نهر واحد ممتد جار في جنات كثيرة ، وأما على الثاني فنقول : الإنسان يكون في جنات لأنا بينا أن الجمع في جنات إشارة إلى سعتها وكثرة أشجارها وتنوعها ، والتوحيد عندما قال : ( مثل الجنة ) [ محمد : 15 ] وقال : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) [ التوبة : 111 ] لاتصال أشجارها ولعدم وقوع القيعان الخربة بينها ، وإذا علمت هذا فالإنسان في الدنيا إذا كان في بيت في دار وتلك الدار في محلة ، وتلك المحلة في مدينة ، يقال إنه في بلدة كذا ، وأما القرب فإذا كان الإنسان في الدنيا بين نهرين بحيث يكون قربه منهما على السواء يقال إنه جالس عند نهرين ، فإذا قرب من أحدهما يقال من عند أحد نهرين دون الآخر ، لكن في دار الدنيا لا يمكن أن يكون عند ثلاثة أنهار ، وإنما يمكن أن يكون عند نهرين ، والثالث منه أبعد من النهرين ، فهو في الحقيقة ليس يكون في زمان واحد عند ثلاثة أنهار ، والله تعالى يذكر أمر الآخرة على ما نفهمه في الدنيا ، فقال : عند نهر لما بينا أن قوله : ( ونهر ) وإن كان يقتضي في نهر لكن ذلك للمجاورة كما في : تقلدت سيفا ورمحا ، وأما قوله : ( تجري من تحتها الأنهار ) فحقيقته مفهومة عندنا لأن الجنة الواحدة قد يجري فيها أنهار كثيرة أكثر من ثلاثة وأربعة ، فهذا ما فيه مع أن أواخر الآيات يحسن فيها التوحيد دون الجمع ، ويحتمل أن يقال و ( ونهر ) التنكير للتعظيم . وفي الجنة نهر وهو أعظم الأنهر وأحسنها ، وهو الذي من الكوثر ، ومن عين الرضوان ، وكان الحصول عنده شرفا وغبطة ، وكل أحد يكون له مقعد عنده ، وسائر الأنهار تجري في الجنة ويراها أهلها ، ولا يرون القاعد عندها فقال : ( في جنات ونهر ) أي ذلك النهر الذي عنده مقاعد المؤمنين ، وفي قوله تعالى : ( إن الله مبتليكم بنهر ) [ البقرة : 249 ] لكونه غير معلوم لهم ، وفي هذا وجه حسن أيضا ، ولا يحتاج على الوجهين أن نقول : نهر في معنى الجمع لكونه اسم جنس .
المسألة الثالثة : قال ههنا في : ( ونهر ) وقال في الذاريات : ( وعيون ) [ الذاريات : 15 ] فما الفرق بينهما ؟ نقول : إنا إن قلنا في نهر معناه في خلال فالإنسان يمكن أن يكون في الدنيا في خلال عيون كثيرة تحيط به إذا كان على موضع مرتفع من الأرض ، والعيون تنفجر منه وتجري فتصير أنهارا عند الامتداد ، ولا يمكن أن يكون في خلال أنهار ، وإنما هي نهران فحسب ، وأما إن قلنا : إن المراد عند نهر فكذلك وإن قلنا : مرأى عظيم عليه مقاعد ، فنقول : يكون ذلك النهر ممتدا واصلا إلى كل واحد وله عنده مقعد وعيون كثيرة تابعة ، فالنهر للتشريف والعيون للتفرج والتنزه ، مع أن النهر العظيم يجتمع مع العيون الكثيرة ، فكان النهر مع وحدته يقوم مقام العيون مع كثرتها ، وهذا كله مع النظر إلى أواخر الآيات ههنا وهناك ، يحسن ذكر لفظ الواحد ههنا والجمع هناك .
المسألة الرابعة : قرئ : " في جنات ونهر " على أنها جمع نهار إذ لا ليل هناك ، وعلى هذا فكلمة " في " حقيقة فيه فقوله : ( في جنات ) ظرف مكان ، وقوله : ( ونهر ) أي وفي نهر إشارة إلى ظرف زمان ، وقرئ " نهر " بسكون الهاء وضم النون على أنه جمع نهر كأسد في جمع أسد نقله الزمخشري ، ويحتمل أن يقال : نهر بضم الهاء جمع نهر كثمر في جمع ثمر .
للافاده