من قصائد شوقي ذات الشهرة الواسعة والمعروفة على نطاق واسع قصيدة "نهج البردة" التي يقول في اولها :
ريم على القاع بين البان والعلم
احل سفك دمي في الاشهر الحرم
ومعلوم ان شوقي كان قد عارض بهذه القصيدة قصيدة البردة للامام البوصيري التي يقول في اولها
امن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
والمعارضة في الشعر معناها كما لا يخفى ان يقرا شاعر قصيدة معينة لشاعر ءاخر فيعجب بها ثم ينظم قصيدة اخرى على وزنها وقافيتها وفي موضوعها في الغالب.
وبعض الشعراء لا يقصدون من وراء ذلك الى اكثر من اظهار براعتهم في النظم وقدرتهم على مسايرة الشعراء السابقين لهم والنسج على منوالهم.
وفي هذه الحالة فان المعارضة قد تكتسي صبغة التكلف ويظهر فيها التقليد وتنعدم فيها الاصالة وغالبا ما يعجز الشاعر المعارض عن ان ياتي بقصيدة في قوة القصيدة التي يعارضها ويحاول النسج على منوالها وحتى عندما تسعفه مقدرته اللغوية فان الاحساس والانفعال وهما عنصران اساسيان في الشعر يكونان دون المستوى المطلوب اذ لم يكن منعدمين بالمرة.
لكن بعض الشعراء الاخرين على العكس من ذلك يعمدون لمعارضة بعض القصائد لشعراء ءاخرين لانهم انفعلوا بها كثيرا وبلغ منهم ذلك ان اصبحوا يعيشون في نفس الاجواء التي اوحت بها الى الحد الذي يدفعهم للتعبير عن ذوات نفوسهم فتنطلق القصيدة على لسان الواحد منهم من وزن القصيدة التي يعارضها وعلى قافيتها وفي نفس موضوعها في الغالب
وقد يبدو هنا ايضا تاثر الشاعر اللاحق بالشاعر السابق ولكنه تاثر لا يخل بقيمه عمله الادبي ولا ينقص منه ما دامت الاصالة متوفرة والطابع الشخصي للشاعر المعارض واضحا.
وقد كان شوقي رحمه الله من هذا الصنف الاخير كان يقرا لفحول الشعراء السابقين عليه باعجاب كبير وتاثر بالغ وتستهويه قصيدة معينة فيقف عندها ويطيل الوقوف ويكثر من ترديدها حتى تتتشربها نفسه وينفعل بها كيانه فاذا هو ينطلق بقصيدة اخرى على وزنها وقافيتها وفي مثل قوتها ان لم نقفها في بعض الاحيان.
وهكذا عارض شوقي قصيدة ابن زيدون المشهورة التي يقول فيها
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا اليكم ولا جفت ماقينا
بقصيدته التي يقول في اولها
يا نائح الطلح اشباه عوادينا
ناسى لواديك ام نشجى لوادينا
وعارض قصيدة البحتري في رثاء ايواء كسرى التي يقول في اولها
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جدي كل جبس
بقصيدته التي يقول في اولها
اختلاف النهار والليل ينسى
ذكراني الصبا وايام انسى
وعارض قصيدة ابي نواس التي يقول فيها
حامل الهوى تعب
يستخفه الطرب
بقصيدته التي يقول في اولها
حف كاسها الحبب
فهي فضة ذهب
الى غير ذلك من القصائد الكثيرة بل والموشحات التي عارضها شوقي فاتى من عنده بقصائد في مستواها وفي نفس روعتها وجمالها.
وقد كان من القصائد التي اعجب بها شوقي كثيرا وجرب شاعريته في معارضتها القصيدة الهمزية للامام البصيري التي يقول في اولها
كيف ترقى رقيك الانبياء
يا سماء ما طاولتها سماء
وقد عارضها شوقي بقصيدته المعروفة التي يقول في اولها
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
وكذلك قصيدة البردة التي نتخذها مع معارضة شوقي لها مدارا لهذا الحديث وقد تقدمت الاشارة اليهما في بداية هذا الكلام.
والامام البوصيري هو الشيخ شرف الدين ابو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال البوصيري نسبة الى بوصير بالصعيد المصري.
وقد ولد الامام البوصيري في اوائل القرن السابع الهجري سنة ثمان وستمائة وتوفي سنة اربع وتسعين وستمائة أي عاش اثنين وثمانين سنة.
وكان سبب نظمه لقصيدة البردة انه مرض مرضا طويلا واصيب بالشلل وعجز الاطباء عن علاجه وبلغ به الالم منتهاه فاتجه بقلبه كله الى الله واكثر من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي غمرة هذا الجو الديني العظيم وهذا الانفعال النفسي الغامر نظم هذه القصيدة يمدح فيها الرسول ويثني عليه ويمجده ويذكر صفاته واخلاقه وعظيم مزاياه.
ويقال انه بعد ان اتم نظم هذه القصيدة راى صلى الله عليه وسلم في منامه يمسح عليه بيده الكريمة ويلفه في بردته فلما افاق من نومه وجد نفسه سليما معافى ومن ثم سميت هذه القصيدة باسم البردة أي بردة النبي التي رءاه البوصيري يلفه بها في منامه.
ومهما يكن فاننا لا نجد في قصيدة البردة للبوصيري اية اشارة لذلك حتى في الاقسام الاخيرة منها التي يناجي فيها الله او يتوسل اليه برسوله وان كنا نجد في البيت قبل الاخير منها ينص على تسميتها بالبردة وذلك حيث يقول
وهذه بردة المختار قد ختمت
والحمد لله في بدء وفي ختم
على ان البعض لا ينظر بارتياح الى تسمية هذه القصيدة باسم البردة ويرى ان هذا الاسم يجب ان يظل مقصورا على قصيدة كعب بن زهير التي مدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي يقول في اولها
بانت سعاد فقلبي مثبول
منيم اثرها لم يجز مكبول
والتي يقول فيها
ان الرسول لنور يستضاء به
مهتد من سيوف الله مسلول
ومعلوم ان الرسول صلى الله عليه وسلم طرب لهذه القصيدة وانه خلع بردته على كعب بن زهير وكان ذلك حقيقة لا خيالا وعيانا لا مناما فكانت هذه القصيدة عند هؤلاء احق ان تسمى وحدها بالبردة الا يطلق هذا الاسم على قصيدة اخرى غيرها.
ومهما يكن فقد اشتهرت قصيدة الامام البويصري هذه باسم البردة حتى كاد هذا الاسم يصبح علما عليها.
تقع قصيدة البردة للامام البوصيري في مائة وسبعة وستين بيتا بداها بالتسبيب على العادة التقليدية المتبعة ثم تخلص من ذلك الى التحذير من هوى النفس ثم الى مدح ال رسول صلى الله عليه وسلم والاشادة بمعجزاته وعلى راسها القرءان الكريم بطبيعة الحال وختمها بمناجاة الله والتوسل اليه.
وكل ذلك في احكام ومتانة ربط بحيث لا تكاد تحس الانتقال من جزء من اجزاء القصيدة الى جزء ءاخر غيره.
وليس ذلك فيما نرى راجعا فقط الى براعة الشاعر في التخلص من موضوع الى موضوع بل انه يعود الى وحدة الشعور الذي ينتظم القصيدة كلها من اولها الى ءاخرها فيجعلها منها سبيكة واحدة بالرغم من تعدد اقسامها واغراضها.
ورغم ان هذه القصيدة معروفة جدا وتكاد تكون على كمل لسان فاننا لا نرى باسا من ان نورد هنا مقاطع مختلفة منها
يقول الامام البوصيري
لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل
ولا ارقت لذكر البان والعلم
فكيف تنكر حاب بعدما شهدت
به يعود عليك عدول الدمع والسقم
يالائمي في الهوى العذري معذرة
مني اليك ولو انصفت لم تلم
عدتك حالي لا سري بمستنتر
عن الوشاة ولا دائي بمنجم
محضتني النصح لكن لست اسمعه
ان المحب عن العذال في صمم
ويقول متحدثا عن نفسه
فان امارتي بالسوء ما اتعظت
من جهلها بنذير الشيب والهرم
من لي يرد جماح من غوايتها
كما يرد جماح الخيل باللجم
والنفس كالطفل ان تهمله شب على
حب الرضاع وان تفطمه ينفطم
ويقول في مدح الرسول
دع ما ادعته النصارى
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
وانسب الى ذاته ما شلت من شرف
وانسب الى قدره ما شئت من عظم
فان فضل رسول الله ليس له
حد فيعرب عنه ناطق بفم
فمبلغ العلم فيه انه بشر
وانه خير خلق الله كلهم
ويقول في المناجاة والتوسل
ان ات ذنبا فما عهدي بمنتقص
من النبي ولا حبلي بمنصرم
فان لي ذمة مني بتسميتي
محمدا وهو اوفى الخلق بالذمم
ومنذ الزمت افكاري مدائحه
وجدته لخلاصي خير ملتزم
ولم ارد زهرة الدنيا التي اقتطفت
بدا زهير بما انني على هرم
وننتقل الان الى قصيدة شوقي التي قالها في معارضة قصيدة البردة للبوصيري وسماها "نهج البردة" وهو اسم يدل على مبلغ تادب شوقي وتواضعه فهو لا يعارض قصيدة البردة وانما يقول قصيدة على نهجها كانه يقتفي خطاها وينظر اليها علة انها الاصل الذي لا يجاري ولا يعارض وانما يريد ان يسير على نهجه ويقتفي اثره ويستوحيه ويتتبع خطاه.
ويصرح شوقي في قصيدته نهج البردة بكل ذلك فهو يذكر (صاحب البردة) فيقر له بالفضل والسبق ويعلن انه وهو ينشد هذه القصيدة لا يعارضه لانه فوق مستوى المعارضة وانما هو يغبطه على ما سبق اليه من الفضل وذلك حيث يقول شوقي مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم
المادحون وارباب الهوى تبع
لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
مديحه فيك حب خالص وهوى
وصادق الحب يملي صادق الكلم
الله يشهد اني لا اعارضه
من ذا يعارض صوب العارض العرم
وانما انا بعض الغابطين ومن
يغبط وليك لا تذمم ولا يلم
تقع قصيدة نهج البردة لشوقي في مائة وواحد وتسعين بيتا وهي تدل على نفس طويل في الشعر كان يتمتع به شوقي وقد امدته في هذه القصيدة شاعريته الخصبة واحساسه الديني العميق كما يبدو انه عاش زمنا طويلا في قصيدة البردة للبويصري فتشربتها نفسه واندمج في معانيها واخيلتها وصورها وجوها الديني.
ورغم ما هو واضح من ان شوقي كان في هذه القصيدة هو شوقي بكل قوته وبكل شاعريته وبكل قدرته على التصرف في المعاني وتوليدها زابتكارها واخضاعها للقوالب الشعرية فان اثر البويصري ظل واضحا بصورة او باخرى في نهج البردة لشوقي كمت سيبدو لنا بعد حين.
وكما بدا البوصيري قصيدته بالنسيب فقد بدا شوقي قصيدته بالنسيب ايضا وقد استغرق ذلك من نهج البردة اربعة وعشرين بيتا نذكر كنموذج لها الابيات التالية :
ريم على القاع بين البان والعلم
احل سفك دمي في الاشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر اسدا
يا ساكن القاع ادرك ساكن الاجم
لما رمى حدثتتني التفس قائلة
يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
جحدتها وكتمت السهم في كبدي
جرح الاحبة عندي غير ذي الم
رزقت اسمح ما في الناس من خلق
اذا رزقت التماس العذر في النسيم
يا لائمي في هواه والهوى قدر
ولو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
لقد انلتك اذنا غير واعية
ورب منتصب والقلب في صمم
يا ناعس الطرف لا ذقت الهوى ابدا
اسهرت مضناك في حفظ الهوى فنسم
الى ءاخر الابيات الاربعة والعشرين التي خصصها شوقي للنسيب في قصيدته هذه.
ونلاحظ من الابيات التي قدمناها كنموذج لهذا القسم عدة ملاحظات
اولاها : انها جاءت في اخليتها ملائمة لموضوع القصيدة ونهجها وجوها وطبيعتها التاريخية فالغزل فيها غزل قديم لا يكاد يمت بصلة الى طابع العصر الذي نعيش فيه وانما يمت بصلة قوية الى حياة البداوة التي تطبع الشعر العربي القديم فهو يذكر الريم والقاع والبان والاسد والجؤذر والاجم وما الى ذلك مما اضفى على القصيدة لونا بدويا خالصا لعل شوقي قد اختاره عن قصد او لعله تاثر فيه بالقصيدة التي يعارضها وهي قصيدة البردة للامام البوصيري.
ثانيا : نلاحظ ان شوقي قد جرته هنا ايضا طبيعته المبالة الى شعر الحكمة فنحن نجده في كل قصائده او جلها يطلق بين الحين والحين بيتا من الشعر يضمنه حكمة من حكمه وذلك كقوله هنا :
رزقت اسمح ما في الناس من خلق
اذا رزقت التماس العذر في الشيم
وننتقل الان الى القسم الثاني من قصيدة نهج البردة وهو الذي يتخذه شوقي توظئة وتمهيدا للدخول في الغرض المقصود منها وهو مدح الرسول صلى الله عايه وسلم والثناء عليه.
في هذا القسم يتحدث شوقي عن الدنيا او عن الحياة منددا بتفاهتها وبالمتكالبين عليها الغافلين بها عن تقوى الله وعمل الخير والسعي لما فيه نفع الناس عامة.
ينتقل شوقي الى هذا القسم من قصيدته انتقالا مفاجئئا وبدون تمهيد او ربط له بما قبله فيقول :
يا نفس دنياك كل مبكية
وان بدا لك منها حسن مبتسم
ثم يقول
يا وليتاه لنفسي راعها ودهي
مسودة الصحف في مبيضة اللمم
ركضتها في مربع المعصيات وما
اخذت من حمية الطاعات للتخم
صلاح امرك اللاخلاق مرجعه
فقوم النفس بالاخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خير عافية
والنفس من شرها في مرتع وخك
تطغى اذا مكنت من لذة وهوى
طغي الجياد اذا عضت على الشكم
ان جل ذنبي عن الغفران لي امل
في الله يجعلني في خير معتصم
وان تقدم ذو تقوى بصالحة
قدمت بين يديه عبرة الندم
ويقول بعد هذا البيت مباشرة
لزمت باب امير الانبياء ومن
يمسك بمفتاح باب الله يغتنم
وهكذا ينتقل من القسم الثاني الذي يتحدث فيه عن الحياة ويحذر نفسه من اشراكها ويغريها بالطاعة الى القسم الثالث والاخير والمقصود بالذات وهو مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
يستغرق هذا القسم من القصيدة مائة وثمانية واربعين بيتا من الشعر الجيد المتناهي في الجودة المعبر عما تكنه نفوس المسلمين جميعا من محبة للرسول وتعظيم لشانه واجلال لقدره مع دعوة في نفس الوقت الى الاقتداء به واتخاذه مثلا عاليا في تقواه واخلاقه وشيمه وحسن سياسته.
ويتمالك شوقي الاعجاب بقصيدته هذه الى مدح الرسول بل يحس انه كلما تصدى لمدحه واتاه التوفيق ونال السبق فيقول مغبرا عن ذلك :
يزري قريض زهيرا حين امدحه
ولا يقاس الى جودي لدي هرم
واية غرابة في ذلك وشوقي هو شوقي والممدوح هو الرسول ودوافع المدح لا تتعلق باي غرض دنيوي وانما هو الايمان الصادق والمحبة الخالصة ورجاء الثواب من عند الله.
وبما ان المقام لا يتسع هنا لايراد هذا القسم كله من نهج البردة وبما ان الاختيار منه من الصعوبة بمكان كبير لانه كله جيد فلنكتف بان نورد بعض ابياته كنموذج فقط لا على انها المختارة او الاحسن.
يقول شوقي
ونودي "اقرا" تعالى الله قائلها
لم تتصل قبل من قيلت له بفم
هناك اذن للرحمان فامتلات
اسماع مكة من قدسية النغم
فلا تسل عن قريش كيف حيرتها
وكيف نفرتها في السهل والعلم
تساءلوا عن عظيم قد الم بهم
رمى المشايخ والولدان باللمم
يا جاهلين على الهادي ودعوته
هل تجهلون مكان الصادق العلم؟
لقبتموه امين القوم في صغر
وما الامين على قول بمتهم
سرت بتائر بالهادي ومولده
في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم
تخطفت مهج الطاغين من عرب
وطيرت انفس الباعثين من عجم
اتيت والناس صرعى لا تمر بهم
الا على صنم قد هام في صنم
والارض مملوءة جورا مسخرة
لكل طاغبة في الخلق محتكم
والخلق بفتك اقواهم باضعفهم
كالليث بالبهم او كالحوت بالبلم
وبمضي شوقي الى ان يختم قصيدته بالدعاء للمسلمين ان يقبل الله عثرتهم وان يعود بهم الى سالف مجدهم وعزتهم فيقول :
يا رب هب شعوب من منيتها
واستيقظت امم من رقدة العدم
سعد ونحس وملك انت مالكه
تديل من نعم فيه ومن نقم
راى فضلوك فينا راي حكمته
اكرم بوجهك من قاض ومنتقم
فالطف لاجل رسول العالمين بنا
ولا تزد قومه خسفا ولا تسم
يارب احسنت بدء المسلمين به
فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
تلك لمحات خاطفة عن البردة للبوصيري وعن نهج البردة لشوقي وكلاهما قد بلغ الغاية وقد راينا شوقي يعترف للبوصيري بفضل السبق ويصرح انه لا يعارضه لانه يراه في بردته فوق مستوى المعارضة وانما هو يغبطه على ما سبق اليه من الفضل وما اوتيه من التوفيق ولا لوم اليه على الانسان ان يغبط في مثل هذا المقام كما اشار شوقي الى ذلك.
واذا كان من الانصاف للحقيقة ان تعترف لشوقي بانه هو ايضا ابدع واجاد في نهج البردة وانه لم يقصر عن شاو البوصيري ولا تخلف عن مستواه فان من الانصاف للحقيقة ايضا ان نقول ان ءاتار البردة واضحة في نهج البردة وضوحا لا تخطئه العين ليس ذلك فقط في الروح العامة التي تنتظم القصيدتين معا وانما ايضا في بعض الصور التعبيرية والاخيلة الادبية بل ان الامر يتعدى ذلك احيانا الى المفردات والتراكيب كما قد يتضح من الامثلة التالية :
يقول البوصيري
يا لائمي في الهوى العذري معذرة
مني اليك ولو انصفت لم تلم
محضتني النصح لكن لست اسمعه
ان المحب عن العذال في صمم
ويقول شوقي في نفس المعنى
يا لائمي في هواه والهوى قدر
لو شفك الوجد لم تعذل ولم تسل
لقد انلتك اذنا غير واعية
ورب منتصت والغلب في صمم
ويدعونا البصيري الى ان نلزم "حمية الندم" فيقول
واستفرغ الدمع من عين قد امتلات
من المحارم والزم حمية الندم
ولعل هذا الاستعمال اللغوي يعجب شوقي ولا يستطيع ان يلفت من اساره فيحدثنا عن نفسه قائلا :
ركضتها في مريع المعصيات وما
اخذت من حمية الطاعات للتخم
ويتحدث البوصيري عن نفسه فيقول
من لي برد جماح من غوايتها
كما يرد جماح الخيل باللجم
أما شوقي فيقول عن النفس ايضا :
تطغى اذا مكنت من لذة وهوى
طغي الجياد اذا عضت على الشكم
ويقول البوصيري ذاكرا زهير بن ابي سلمى ومدحه لهرم بن سنان
ولم ارد زهرة الدنيا التي اقتطفت
بدا زهير بما اثنى على هرم
ويقول شوقي متحدثا عن شعره في مدح الرسول :
يزري قريضي زهيرا حين امدحه
ولا يقاس الى جودته لدي هرم
واذا راينا شوقي يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم باسم (احمد) ويذكر انه يعتز بانه هو ايضا اسمه احمد فيقول
يا احمد الخير لي جاه بتسميتي
وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
فيجب ان نذكر قول البوصيري واسمه كما سلف هو (محمد)
فان لي ذمة منه بتسميتي
محمدا وهو اوفى الخلق بالذمم
والامثلة كثيرة ومحاولة استقصائها تخرج بنا عن القصد ولعل فيما قدمناه كفاية
واذا كان لذلك من دلالة فهو ان شوقي رغم قوة عارضته الشعرية واصالته التي لا سبيل الى الشك فيها لم يستطع وهو ينشد نهج البردة ان ينحذر من تاثير البردة او يلفت من اسارها لانه فيما قد عاش فيها طويلا وتملاها كثيرا وتشبع بها وجدانه وكيانه وانطبع بها لسانه فظهرت نتيجة لكل ذلك ءاثارها في عمله على نحو لا يقلل من قيمة هذا العمل ابدا لانه بالرغم من كل ذلك لا يفتقر الى الاصالة وصدق الانفعال وقوة الاحساس.
ورحم الله شوقي م ا كان ابره وهو يقول :
المادحون وارباب الهوى تبع
لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
مديحه فيك خالص وهوى
وصادق الحب يملي صادق الكلم
الله يشهد اني لا اعارضه
من ذا يعارض صوب العارض العرم
وانما انا بعض الغابطين ومن
يغبط وليك لا يذمم ولا يلم
ريم على القاع بين البان والعلم
احل سفك دمي في الاشهر الحرم
ومعلوم ان شوقي كان قد عارض بهذه القصيدة قصيدة البردة للامام البوصيري التي يقول في اولها
امن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
والمعارضة في الشعر معناها كما لا يخفى ان يقرا شاعر قصيدة معينة لشاعر ءاخر فيعجب بها ثم ينظم قصيدة اخرى على وزنها وقافيتها وفي موضوعها في الغالب.
وبعض الشعراء لا يقصدون من وراء ذلك الى اكثر من اظهار براعتهم في النظم وقدرتهم على مسايرة الشعراء السابقين لهم والنسج على منوالهم.
وفي هذه الحالة فان المعارضة قد تكتسي صبغة التكلف ويظهر فيها التقليد وتنعدم فيها الاصالة وغالبا ما يعجز الشاعر المعارض عن ان ياتي بقصيدة في قوة القصيدة التي يعارضها ويحاول النسج على منوالها وحتى عندما تسعفه مقدرته اللغوية فان الاحساس والانفعال وهما عنصران اساسيان في الشعر يكونان دون المستوى المطلوب اذ لم يكن منعدمين بالمرة.
لكن بعض الشعراء الاخرين على العكس من ذلك يعمدون لمعارضة بعض القصائد لشعراء ءاخرين لانهم انفعلوا بها كثيرا وبلغ منهم ذلك ان اصبحوا يعيشون في نفس الاجواء التي اوحت بها الى الحد الذي يدفعهم للتعبير عن ذوات نفوسهم فتنطلق القصيدة على لسان الواحد منهم من وزن القصيدة التي يعارضها وعلى قافيتها وفي نفس موضوعها في الغالب
وقد يبدو هنا ايضا تاثر الشاعر اللاحق بالشاعر السابق ولكنه تاثر لا يخل بقيمه عمله الادبي ولا ينقص منه ما دامت الاصالة متوفرة والطابع الشخصي للشاعر المعارض واضحا.
وقد كان شوقي رحمه الله من هذا الصنف الاخير كان يقرا لفحول الشعراء السابقين عليه باعجاب كبير وتاثر بالغ وتستهويه قصيدة معينة فيقف عندها ويطيل الوقوف ويكثر من ترديدها حتى تتتشربها نفسه وينفعل بها كيانه فاذا هو ينطلق بقصيدة اخرى على وزنها وقافيتها وفي مثل قوتها ان لم نقفها في بعض الاحيان.
وهكذا عارض شوقي قصيدة ابن زيدون المشهورة التي يقول فيها
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا اليكم ولا جفت ماقينا
بقصيدته التي يقول في اولها
يا نائح الطلح اشباه عوادينا
ناسى لواديك ام نشجى لوادينا
وعارض قصيدة البحتري في رثاء ايواء كسرى التي يقول في اولها
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جدي كل جبس
بقصيدته التي يقول في اولها
اختلاف النهار والليل ينسى
ذكراني الصبا وايام انسى
وعارض قصيدة ابي نواس التي يقول فيها
حامل الهوى تعب
يستخفه الطرب
بقصيدته التي يقول في اولها
حف كاسها الحبب
فهي فضة ذهب
الى غير ذلك من القصائد الكثيرة بل والموشحات التي عارضها شوقي فاتى من عنده بقصائد في مستواها وفي نفس روعتها وجمالها.
وقد كان من القصائد التي اعجب بها شوقي كثيرا وجرب شاعريته في معارضتها القصيدة الهمزية للامام البصيري التي يقول في اولها
كيف ترقى رقيك الانبياء
يا سماء ما طاولتها سماء
وقد عارضها شوقي بقصيدته المعروفة التي يقول في اولها
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
وكذلك قصيدة البردة التي نتخذها مع معارضة شوقي لها مدارا لهذا الحديث وقد تقدمت الاشارة اليهما في بداية هذا الكلام.
والامام البوصيري هو الشيخ شرف الدين ابو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال البوصيري نسبة الى بوصير بالصعيد المصري.
وقد ولد الامام البوصيري في اوائل القرن السابع الهجري سنة ثمان وستمائة وتوفي سنة اربع وتسعين وستمائة أي عاش اثنين وثمانين سنة.
وكان سبب نظمه لقصيدة البردة انه مرض مرضا طويلا واصيب بالشلل وعجز الاطباء عن علاجه وبلغ به الالم منتهاه فاتجه بقلبه كله الى الله واكثر من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي غمرة هذا الجو الديني العظيم وهذا الانفعال النفسي الغامر نظم هذه القصيدة يمدح فيها الرسول ويثني عليه ويمجده ويذكر صفاته واخلاقه وعظيم مزاياه.
ويقال انه بعد ان اتم نظم هذه القصيدة راى صلى الله عليه وسلم في منامه يمسح عليه بيده الكريمة ويلفه في بردته فلما افاق من نومه وجد نفسه سليما معافى ومن ثم سميت هذه القصيدة باسم البردة أي بردة النبي التي رءاه البوصيري يلفه بها في منامه.
ومهما يكن فاننا لا نجد في قصيدة البردة للبوصيري اية اشارة لذلك حتى في الاقسام الاخيرة منها التي يناجي فيها الله او يتوسل اليه برسوله وان كنا نجد في البيت قبل الاخير منها ينص على تسميتها بالبردة وذلك حيث يقول
وهذه بردة المختار قد ختمت
والحمد لله في بدء وفي ختم
على ان البعض لا ينظر بارتياح الى تسمية هذه القصيدة باسم البردة ويرى ان هذا الاسم يجب ان يظل مقصورا على قصيدة كعب بن زهير التي مدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي يقول في اولها
بانت سعاد فقلبي مثبول
منيم اثرها لم يجز مكبول
والتي يقول فيها
ان الرسول لنور يستضاء به
مهتد من سيوف الله مسلول
ومعلوم ان الرسول صلى الله عليه وسلم طرب لهذه القصيدة وانه خلع بردته على كعب بن زهير وكان ذلك حقيقة لا خيالا وعيانا لا مناما فكانت هذه القصيدة عند هؤلاء احق ان تسمى وحدها بالبردة الا يطلق هذا الاسم على قصيدة اخرى غيرها.
ومهما يكن فقد اشتهرت قصيدة الامام البويصري هذه باسم البردة حتى كاد هذا الاسم يصبح علما عليها.
تقع قصيدة البردة للامام البوصيري في مائة وسبعة وستين بيتا بداها بالتسبيب على العادة التقليدية المتبعة ثم تخلص من ذلك الى التحذير من هوى النفس ثم الى مدح ال رسول صلى الله عليه وسلم والاشادة بمعجزاته وعلى راسها القرءان الكريم بطبيعة الحال وختمها بمناجاة الله والتوسل اليه.
وكل ذلك في احكام ومتانة ربط بحيث لا تكاد تحس الانتقال من جزء من اجزاء القصيدة الى جزء ءاخر غيره.
وليس ذلك فيما نرى راجعا فقط الى براعة الشاعر في التخلص من موضوع الى موضوع بل انه يعود الى وحدة الشعور الذي ينتظم القصيدة كلها من اولها الى ءاخرها فيجعلها منها سبيكة واحدة بالرغم من تعدد اقسامها واغراضها.
ورغم ان هذه القصيدة معروفة جدا وتكاد تكون على كمل لسان فاننا لا نرى باسا من ان نورد هنا مقاطع مختلفة منها
يقول الامام البوصيري
لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل
ولا ارقت لذكر البان والعلم
فكيف تنكر حاب بعدما شهدت
به يعود عليك عدول الدمع والسقم
يالائمي في الهوى العذري معذرة
مني اليك ولو انصفت لم تلم
عدتك حالي لا سري بمستنتر
عن الوشاة ولا دائي بمنجم
محضتني النصح لكن لست اسمعه
ان المحب عن العذال في صمم
ويقول متحدثا عن نفسه
فان امارتي بالسوء ما اتعظت
من جهلها بنذير الشيب والهرم
من لي يرد جماح من غوايتها
كما يرد جماح الخيل باللجم
والنفس كالطفل ان تهمله شب على
حب الرضاع وان تفطمه ينفطم
ويقول في مدح الرسول
دع ما ادعته النصارى
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
وانسب الى ذاته ما شلت من شرف
وانسب الى قدره ما شئت من عظم
فان فضل رسول الله ليس له
حد فيعرب عنه ناطق بفم
فمبلغ العلم فيه انه بشر
وانه خير خلق الله كلهم
ويقول في المناجاة والتوسل
ان ات ذنبا فما عهدي بمنتقص
من النبي ولا حبلي بمنصرم
فان لي ذمة مني بتسميتي
محمدا وهو اوفى الخلق بالذمم
ومنذ الزمت افكاري مدائحه
وجدته لخلاصي خير ملتزم
ولم ارد زهرة الدنيا التي اقتطفت
بدا زهير بما انني على هرم
وننتقل الان الى قصيدة شوقي التي قالها في معارضة قصيدة البردة للبوصيري وسماها "نهج البردة" وهو اسم يدل على مبلغ تادب شوقي وتواضعه فهو لا يعارض قصيدة البردة وانما يقول قصيدة على نهجها كانه يقتفي خطاها وينظر اليها علة انها الاصل الذي لا يجاري ولا يعارض وانما يريد ان يسير على نهجه ويقتفي اثره ويستوحيه ويتتبع خطاه.
ويصرح شوقي في قصيدته نهج البردة بكل ذلك فهو يذكر (صاحب البردة) فيقر له بالفضل والسبق ويعلن انه وهو ينشد هذه القصيدة لا يعارضه لانه فوق مستوى المعارضة وانما هو يغبطه على ما سبق اليه من الفضل وذلك حيث يقول شوقي مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم
المادحون وارباب الهوى تبع
لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
مديحه فيك حب خالص وهوى
وصادق الحب يملي صادق الكلم
الله يشهد اني لا اعارضه
من ذا يعارض صوب العارض العرم
وانما انا بعض الغابطين ومن
يغبط وليك لا تذمم ولا يلم
تقع قصيدة نهج البردة لشوقي في مائة وواحد وتسعين بيتا وهي تدل على نفس طويل في الشعر كان يتمتع به شوقي وقد امدته في هذه القصيدة شاعريته الخصبة واحساسه الديني العميق كما يبدو انه عاش زمنا طويلا في قصيدة البردة للبويصري فتشربتها نفسه واندمج في معانيها واخيلتها وصورها وجوها الديني.
ورغم ما هو واضح من ان شوقي كان في هذه القصيدة هو شوقي بكل قوته وبكل شاعريته وبكل قدرته على التصرف في المعاني وتوليدها زابتكارها واخضاعها للقوالب الشعرية فان اثر البويصري ظل واضحا بصورة او باخرى في نهج البردة لشوقي كمت سيبدو لنا بعد حين.
وكما بدا البوصيري قصيدته بالنسيب فقد بدا شوقي قصيدته بالنسيب ايضا وقد استغرق ذلك من نهج البردة اربعة وعشرين بيتا نذكر كنموذج لها الابيات التالية :
ريم على القاع بين البان والعلم
احل سفك دمي في الاشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر اسدا
يا ساكن القاع ادرك ساكن الاجم
لما رمى حدثتتني التفس قائلة
يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
جحدتها وكتمت السهم في كبدي
جرح الاحبة عندي غير ذي الم
رزقت اسمح ما في الناس من خلق
اذا رزقت التماس العذر في النسيم
يا لائمي في هواه والهوى قدر
ولو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
لقد انلتك اذنا غير واعية
ورب منتصب والقلب في صمم
يا ناعس الطرف لا ذقت الهوى ابدا
اسهرت مضناك في حفظ الهوى فنسم
الى ءاخر الابيات الاربعة والعشرين التي خصصها شوقي للنسيب في قصيدته هذه.
ونلاحظ من الابيات التي قدمناها كنموذج لهذا القسم عدة ملاحظات
اولاها : انها جاءت في اخليتها ملائمة لموضوع القصيدة ونهجها وجوها وطبيعتها التاريخية فالغزل فيها غزل قديم لا يكاد يمت بصلة الى طابع العصر الذي نعيش فيه وانما يمت بصلة قوية الى حياة البداوة التي تطبع الشعر العربي القديم فهو يذكر الريم والقاع والبان والاسد والجؤذر والاجم وما الى ذلك مما اضفى على القصيدة لونا بدويا خالصا لعل شوقي قد اختاره عن قصد او لعله تاثر فيه بالقصيدة التي يعارضها وهي قصيدة البردة للامام البوصيري.
ثانيا : نلاحظ ان شوقي قد جرته هنا ايضا طبيعته المبالة الى شعر الحكمة فنحن نجده في كل قصائده او جلها يطلق بين الحين والحين بيتا من الشعر يضمنه حكمة من حكمه وذلك كقوله هنا :
رزقت اسمح ما في الناس من خلق
اذا رزقت التماس العذر في الشيم
وننتقل الان الى القسم الثاني من قصيدة نهج البردة وهو الذي يتخذه شوقي توظئة وتمهيدا للدخول في الغرض المقصود منها وهو مدح الرسول صلى الله عايه وسلم والثناء عليه.
في هذا القسم يتحدث شوقي عن الدنيا او عن الحياة منددا بتفاهتها وبالمتكالبين عليها الغافلين بها عن تقوى الله وعمل الخير والسعي لما فيه نفع الناس عامة.
ينتقل شوقي الى هذا القسم من قصيدته انتقالا مفاجئئا وبدون تمهيد او ربط له بما قبله فيقول :
يا نفس دنياك كل مبكية
وان بدا لك منها حسن مبتسم
ثم يقول
يا وليتاه لنفسي راعها ودهي
مسودة الصحف في مبيضة اللمم
ركضتها في مربع المعصيات وما
اخذت من حمية الطاعات للتخم
صلاح امرك اللاخلاق مرجعه
فقوم النفس بالاخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خير عافية
والنفس من شرها في مرتع وخك
تطغى اذا مكنت من لذة وهوى
طغي الجياد اذا عضت على الشكم
ان جل ذنبي عن الغفران لي امل
في الله يجعلني في خير معتصم
وان تقدم ذو تقوى بصالحة
قدمت بين يديه عبرة الندم
ويقول بعد هذا البيت مباشرة
لزمت باب امير الانبياء ومن
يمسك بمفتاح باب الله يغتنم
وهكذا ينتقل من القسم الثاني الذي يتحدث فيه عن الحياة ويحذر نفسه من اشراكها ويغريها بالطاعة الى القسم الثالث والاخير والمقصود بالذات وهو مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
يستغرق هذا القسم من القصيدة مائة وثمانية واربعين بيتا من الشعر الجيد المتناهي في الجودة المعبر عما تكنه نفوس المسلمين جميعا من محبة للرسول وتعظيم لشانه واجلال لقدره مع دعوة في نفس الوقت الى الاقتداء به واتخاذه مثلا عاليا في تقواه واخلاقه وشيمه وحسن سياسته.
ويتمالك شوقي الاعجاب بقصيدته هذه الى مدح الرسول بل يحس انه كلما تصدى لمدحه واتاه التوفيق ونال السبق فيقول مغبرا عن ذلك :
يزري قريض زهيرا حين امدحه
ولا يقاس الى جودي لدي هرم
واية غرابة في ذلك وشوقي هو شوقي والممدوح هو الرسول ودوافع المدح لا تتعلق باي غرض دنيوي وانما هو الايمان الصادق والمحبة الخالصة ورجاء الثواب من عند الله.
وبما ان المقام لا يتسع هنا لايراد هذا القسم كله من نهج البردة وبما ان الاختيار منه من الصعوبة بمكان كبير لانه كله جيد فلنكتف بان نورد بعض ابياته كنموذج فقط لا على انها المختارة او الاحسن.
يقول شوقي
ونودي "اقرا" تعالى الله قائلها
لم تتصل قبل من قيلت له بفم
هناك اذن للرحمان فامتلات
اسماع مكة من قدسية النغم
فلا تسل عن قريش كيف حيرتها
وكيف نفرتها في السهل والعلم
تساءلوا عن عظيم قد الم بهم
رمى المشايخ والولدان باللمم
يا جاهلين على الهادي ودعوته
هل تجهلون مكان الصادق العلم؟
لقبتموه امين القوم في صغر
وما الامين على قول بمتهم
سرت بتائر بالهادي ومولده
في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم
تخطفت مهج الطاغين من عرب
وطيرت انفس الباعثين من عجم
اتيت والناس صرعى لا تمر بهم
الا على صنم قد هام في صنم
والارض مملوءة جورا مسخرة
لكل طاغبة في الخلق محتكم
والخلق بفتك اقواهم باضعفهم
كالليث بالبهم او كالحوت بالبلم
وبمضي شوقي الى ان يختم قصيدته بالدعاء للمسلمين ان يقبل الله عثرتهم وان يعود بهم الى سالف مجدهم وعزتهم فيقول :
يا رب هب شعوب من منيتها
واستيقظت امم من رقدة العدم
سعد ونحس وملك انت مالكه
تديل من نعم فيه ومن نقم
راى فضلوك فينا راي حكمته
اكرم بوجهك من قاض ومنتقم
فالطف لاجل رسول العالمين بنا
ولا تزد قومه خسفا ولا تسم
يارب احسنت بدء المسلمين به
فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
تلك لمحات خاطفة عن البردة للبوصيري وعن نهج البردة لشوقي وكلاهما قد بلغ الغاية وقد راينا شوقي يعترف للبوصيري بفضل السبق ويصرح انه لا يعارضه لانه يراه في بردته فوق مستوى المعارضة وانما هو يغبطه على ما سبق اليه من الفضل وما اوتيه من التوفيق ولا لوم اليه على الانسان ان يغبط في مثل هذا المقام كما اشار شوقي الى ذلك.
واذا كان من الانصاف للحقيقة ان تعترف لشوقي بانه هو ايضا ابدع واجاد في نهج البردة وانه لم يقصر عن شاو البوصيري ولا تخلف عن مستواه فان من الانصاف للحقيقة ايضا ان نقول ان ءاتار البردة واضحة في نهج البردة وضوحا لا تخطئه العين ليس ذلك فقط في الروح العامة التي تنتظم القصيدتين معا وانما ايضا في بعض الصور التعبيرية والاخيلة الادبية بل ان الامر يتعدى ذلك احيانا الى المفردات والتراكيب كما قد يتضح من الامثلة التالية :
يقول البوصيري
يا لائمي في الهوى العذري معذرة
مني اليك ولو انصفت لم تلم
محضتني النصح لكن لست اسمعه
ان المحب عن العذال في صمم
ويقول شوقي في نفس المعنى
يا لائمي في هواه والهوى قدر
لو شفك الوجد لم تعذل ولم تسل
لقد انلتك اذنا غير واعية
ورب منتصت والغلب في صمم
ويدعونا البصيري الى ان نلزم "حمية الندم" فيقول
واستفرغ الدمع من عين قد امتلات
من المحارم والزم حمية الندم
ولعل هذا الاستعمال اللغوي يعجب شوقي ولا يستطيع ان يلفت من اساره فيحدثنا عن نفسه قائلا :
ركضتها في مريع المعصيات وما
اخذت من حمية الطاعات للتخم
ويتحدث البوصيري عن نفسه فيقول
من لي برد جماح من غوايتها
كما يرد جماح الخيل باللجم
أما شوقي فيقول عن النفس ايضا :
تطغى اذا مكنت من لذة وهوى
طغي الجياد اذا عضت على الشكم
ويقول البوصيري ذاكرا زهير بن ابي سلمى ومدحه لهرم بن سنان
ولم ارد زهرة الدنيا التي اقتطفت
بدا زهير بما اثنى على هرم
ويقول شوقي متحدثا عن شعره في مدح الرسول :
يزري قريضي زهيرا حين امدحه
ولا يقاس الى جودته لدي هرم
واذا راينا شوقي يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم باسم (احمد) ويذكر انه يعتز بانه هو ايضا اسمه احمد فيقول
يا احمد الخير لي جاه بتسميتي
وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
فيجب ان نذكر قول البوصيري واسمه كما سلف هو (محمد)
فان لي ذمة منه بتسميتي
محمدا وهو اوفى الخلق بالذمم
والامثلة كثيرة ومحاولة استقصائها تخرج بنا عن القصد ولعل فيما قدمناه كفاية
واذا كان لذلك من دلالة فهو ان شوقي رغم قوة عارضته الشعرية واصالته التي لا سبيل الى الشك فيها لم يستطع وهو ينشد نهج البردة ان ينحذر من تاثير البردة او يلفت من اسارها لانه فيما قد عاش فيها طويلا وتملاها كثيرا وتشبع بها وجدانه وكيانه وانطبع بها لسانه فظهرت نتيجة لكل ذلك ءاثارها في عمله على نحو لا يقلل من قيمة هذا العمل ابدا لانه بالرغم من كل ذلك لا يفتقر الى الاصالة وصدق الانفعال وقوة الاحساس.
ورحم الله شوقي م ا كان ابره وهو يقول :
المادحون وارباب الهوى تبع
لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
مديحه فيك خالص وهوى
وصادق الحب يملي صادق الكلم
الله يشهد اني لا اعارضه
من ذا يعارض صوب العارض العرم
وانما انا بعض الغابطين ومن
يغبط وليك لا يذمم ولا يلم