بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن المسلم يحتاج كثيراً في هذا الزمان إلى الثقة بالله سبحانه وتعالى، الثقة بالله يا عباد الله، الثقة بالله والتوكل على الله، فلماذا يثق المؤمن بربه ويتوكل عليه؟ لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ولأن الأمر كله لله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران: 154]، وقال: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82].
فالله تعالى يورث الأرض من يشاء من عباده،كما قال: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [الأعراف: 128]، لأن الأمور عنده سبحانه كما قال تعالى: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة: 210]، وليس إلى غيره، لأنه شديد المحال، فهو عزيز لا يُغلب، كما قال تعالى: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 13]، لأنه سبحانه وتعالى له جنود السموات والأرض قال عز وجل: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الفتح: 4]، جمع القوة والعزة: وهو سبحانه وتعالى الذي يضُر وينفع: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام: 17].
ولذلك لما قام أعداء الله على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأجمعوا مكرهم وأمرهم، فإن الله عز وجل أذهب ذلك فقال: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، وقال: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) [النحل: 26]، فإذن المكر بمن مكر بالله فالله يمكر به، وهو يخادع عز وجل: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [النساء: 142]، وهو الذي يرد بأس المشركين؛ ولذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما واجه الأعداء في القتال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة: 253]، فهو الذي يقدّر الاقتتال وعدم الاقتتال: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائد: 52].
وقد أخبر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأنه القادر على إمضاء القتال أو وقفه: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة: 64]، ولذلك فإنه -عليه الصلاة والسلام- لا يخاف إلا الله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [الزمر: 36].
والله عز وجل سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويقدر ما يشاء، ولذلك كانت الثقة به والتوكل عليه واجباً، فترى موسى -عليه السلام- لما جاء فرعون وجنوده وأجمعوا كيدهم وبغيهم وظلمهم وعدوانهم، فأسقط في يد ضعفاء النفوس وقال بعض من مع موسى -عليه السلام-: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 61]، لا محالة هالكون، لا فائدة، لا نجاة، محاط بنا، ستقع الكارثة، سيدركنا فرعون، سيأخذنا، سيقتلنا، سننتهي، قال موسى الواثق بربه: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
الثقة بالله عز وجل: "يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد"، وهي التي قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الحديبية: "إني رسول الله ولن يضيعني"، وهي التي قالها الصحابة: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]، ولذلك قال تعالى بعدها: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].
لقد لفت علماء الإسلام ومنهم ابن القيم -رحمه الله- إلى قضية خطيرة يقع فيها كثير من المسلمين وهي سوء الظن بالرب عز وجل، يظنون أن الله لا ينصر شريعته ولا ينصر دينه، وأن الله كتب الهزيمة على المسلمين أبد الدهر، وأنه لا قيام لهم، إذن فلماذا أنزل الله الكتاب؟ لماذا أرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ لماذا شرع الدين؟ لماذا جعل الإسلام مهيمناً على كل الأديان؟ لماذا نسخت كل الأديان السابقة بالإسلام إذا كان الإسلام لن ينتصر؛ ولذلك قال عز وجل: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) [الحج: 15]، أي: بحبل، إِلَى السماء إلى سقف بيته، ثُمَّ لِيَقْطَعْ يعني: يختنق به يقتل نفسه: (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) [الحج: 15]، قال العلماء في تفسير هذه الآية (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ) محمداً -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل يخنق به نفسه، يتوصل إلى هذا الحبل الذي يشنق به نفسه إن كان ذلك غائظة؛ لأن الله ناصر نبيه لا محالة.
قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر: 51 ، 52]، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171 - 173]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 20 ، 21]، فإذن إذا تحققت شروط النصر فلا بد أن ينصر الله الذين حققوا الشروط، وإذا هزموا فإنما يهزمون لتخلف تحقق الشروط، وهذه الأمة تتربى بأقدار الله التي يجريها عليها.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد علمنا من سيرته كيف ينصر ربه فينصره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160]، والله عز وجل فعال لما يريد، والله سبحانه وتعالى كتب المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ولذلك فإن كل ما يقع ويحدث مكتوب عنده سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
وقد يظن المسلمون بشيء شراً فإذا هو خير، لقصر النظر وعدم معرفة الغيب: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران: 179]، وقال تعالى: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور: 11] ، وقال سبحانه وتعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216]، وهذه القاعدة العظيمة التي جرت عبر التاريخ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، ولذلك فإنه لا بد من الثقة بالله، ولا بد من اعتقاد أن القوة جميعاً لله سبحانه وتعالى، ولا يجري في الكون إلا ما يريد، ولا يجري شيء ولا يقع إلا لحكم يريدها سبحانه، ولا يدري الإنسان ماذا يترتب على الأمور.
لا بد من اعتقاد أن القوة جميعاً لله سبحانه وتعالى، ولا يجري في الكون إلا ما يريد، ولا يجري شيء ولا يقع إلا لحكم يريدها سبحانه، ولا يدري الإنسان ماذا يترتب على الأمور، ولذلك فلا بد أن يوقن المسلمون بربهم، لا بد أن يكونوا على صلة بربهم، معتمدين عليه متوكلين، يطلبون منه القوة والمدد؛ لأنه سبحانه وتعالى مالك القوة جميعاً، وهو الذي يمنح أسبابها من يشاء عز وجل.
إن المسلمين في زمن الضعف يجب عليهم أن يستحضروا دائماً الثقة بالله، والتوكل عليه، واستمداد القوة منه، والركون إليه، وأنه عز وجل ينصر من نصره، فإذا التجأ العبد إليه فقد أوى إلى ركن شديد.
اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، وأن تعلي كلمة الدين، ونسألك سبحانك وتعالى أن تجعل رجزك وعذابك على القوم الكافرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن الله القوي الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله -صلى الله عليه- وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: لقد كان من ثقة النبي -صلى الله عليه وسلم- بربه أنه كان دائماً يعتقد بنصرة الله له، وأنه لن يخذله ولن يتخلى عنه سبحانه وتعالى، وكان بعض الصحابة يصابون بإحباط ويأس من كثرة رؤيتهم لقوة الكفار، وقلة عدد المسلمين، فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يذكر أصحابه في أحلك المواقف بأن المستقبل للإسلام، ولذلك لما جاء خباب بن الأرت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشكو له الشدة التي أصابته وأصابت أصحابه المسلمين في مكة، لقد حرق ظهره، لقد كوته مولاته الكافرة بأسياخ الحديد المحماة فلم يطفئها إلا ودك شحم ظهره لما سال عليها، وهو يقول: ألا تدعوا لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت في ذلك الطريق الخطر المخوف لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"، أوردها في أحلك الظروف في مكة.
ولما ذهب هو وصاحبه في طريق الهجرة أدركهما سراقة بن مالك على فرس، إنهما مطاردان، إنهما في حال حرجة جداً، ويدركهما سراقة، ولكن تسيخ قدما أو يدا الفرس إلى الركبتين، فيقول النبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك الموقف الحرج والظرف الحالك لسراقة: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى"، ما قالها بعد انتصار بدر مثلاً، أو بعد فتح مكة، وإنما قالها وهو مطارد وسراقة وراءه في الظرف الحرج والكفار يتربصون: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، دم محمد -صلى الله عليه وسلم- ووضعوا الجائزة العظيمة، ثم يقول: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى" شيء بعيد جداً عن الذهن، شيء بعيد للغاية، لا يمكن أن يفكر فيه سراقة أبداً في تلك اللحظة، يقول: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى".
لما حاصر الأحزاب المدينة واجتمعوا عليها وتألبوا، جمعوا كيدهم بعشرة آلاف، المسلمون أقل عدداً وعُدداً، وفي ذلك الخوف، والليل المظلم، والريح الباردة الشديدة، يعملون بأيديهم، الجوع والظروف القاسية جداً، هذا الخوف المدلهم، ينزل ليكسر الصخرة ويقول بعد الضربة الأولى: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ضربة أخرى: أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، الضربة الثالثة: أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة" متى قالها؟ في أحلك الظروف وأسوأها، وقد بلغت القلوب الحناجر، ويظنون بالله الظنوناً، ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، سيأخذهم الكفار يعبرون الخندق سيحصرون سيموتون من الجوع تحت الحصار، ولكن يرد الله الذين كفروا بغيظهم بريح لم تتوقع وبملائكة تنزل.
أيها الإخوة: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أخبرنا في الأحاديث الصحيحة أن المستقبل للإسلام؛ يجب أن نؤمن بذلك، ولا يجوز إطلاقاً أن نشك فيه: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33]، وقال لأصحابه -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله زوى لي الأرض" أي: جمعها وضمها، فنظر إليها -عليه الصلاة والسلام- نظرة حقيقية بعينه الحقيقية "فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها"، فسيبلغ إذن ملك هذه الأمة الليل والنهار.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر" لا بيت حجر في البلد ولا بيت وبر وشعر في البادية، "إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر"(أحمد)، وهذا أمر لم يتحقق بعد، فلا بد أن يتحقق، كما جاء في الحديث الصحيح الآخر: أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: بينما نحن حول رسول -الله صلى الله عليه وسلم- نكتب أي: إذ سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية -روما-؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مدينة هرقل تفتح أولاً" يعني: القسطنطينية، (الإمام أحمد)، وهو حديث صحيح، فروما لم تفتح بعد، فلا بد أن تفتح؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر بذلك، وهو الذي قال -صلى الله عليه وسلم-: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، ثم سكت ( أحمد) -رحمه الله تعالى- وهو حديث صحيح، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً" (الحاكم).
فإذن هذه الأحاديث لا بد أن تتحقق؛ لأنها خبر من الغيب من الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن يعتقد المسلمون بأن المستقبل للإسلام قطعاً، كيف وقد أفلس الغرب والشرق من القيم والمفاهيم، كيف وقد صاروا في أمر مريج، ما هو الدين المرشح للانتشار والظهور وأن يكون هو الذي يقتنع به البشر ويأتون إليه؟ هو أسرع دين في العالم انتشاراً الآن في وقت ضعف المسلمين هو أسرع الأديان انتشاراً، فكيف بغيره من الأوقات.
ولكن يا عباد الله: يجب على المسلمين أن يكونوا دائماً وخصوصاً في وقت الفتن متعلقين بربهم، وأن يعرفوا أن الله يميز الأمور، يميز الناس، وأنه سبحانه وتعالى يجري من الأقدار ما يجعلهم ينقسمون في النهاية إلى قسمين، كما قال -عليه الصلاة والسلام- لما ذكر الفتن وأكثر من ذكرها، ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول الله وما فتنة الأحلاس؟ قال: "هي هرب وحرب" يعني: يفر بعضهم من بعض لما بينهم من العداوة والمحاربة، وكذلك نهب يأتي يأخذ مال الآخر ويتركه بلا شيء، قال: (ثم فتنة السراء) والمراد بالسراء النعماء التي تسر الناس من الصحة والرخاء والعافية من البلاء والوباء، وأضيفت إلى السراء لأنها سبب في وقوعها، فتحدث الفتنة بسبب السراء، والسبب في وقوعها كثرة التنعم، فهذه هي السراء.
ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع" أي: أنه هذا الرجل ليس بأهل في مظهره أن يجتمع عليه الناس وإنما هو مثل الضلع على الورك، فهو غير خليق أن يكون للناس رأساً ومع ذلك يجتمعون عليه.
[*]قال: "ثم فتنة الدهيماء، لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة" وهذه فتنة عظيمة وطامة عمياء ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- الدهيماء تدهم، فهي داهية لا تدع أحداً إلا لطمته لطمة، فأصيب بمحنة أو ببلية بسبب فتنة الدهيماء.
قال -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا قيل انقضت" أي: انتهت المشاكل، "تمادت فيصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين" تسلسل زمني وخبر غيبي من النبي -عليه الصلاة والسلام- فتنة لا تترك أحداً إلا مسته، كلما قال الناس انتهت تمادت، ماذا يحدث من جرائها؟ تبديل سريع في المواقف، تبديل سريع في العقائد، تغير فظيع جداً، انقلابات سريعة جداً في عقائد الناس، "يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً" في الصباح مؤمن وفي المساء كافر والعكس، حتى في النهاية يحدث التمايز، وهذا ما يريده الله: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال: 37]، لا بد من تمايز.
فقال: "حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذلكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده"، وإذا حصل التمايز وانقسموا إلى المعسكرين فانتظروا الدجال من يومه أو من غده.
إن هذه الأحاديث وهذه النصوص الشرعية يجب أن يكون لها في القلب موقع، يجب الاعتقاد بها، لماذا أخبرنا بها؟ لنستعد لنأخذ الأهبة، نستعد يا عباد الله بالعمل والإيمان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة وفي الآخرة، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم على الإيمان والدين ثابتين، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم نسألك النصر للإسلام وأهله يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين، انصر المجاهدين في سبيلك، إنك على كل شيء قدير، اللهم أذل اليهود والصليبيين، واقمعهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم اجعل فتح المسلمين قريباً ونصرهم عزيزاً، اللهم أخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، وأخرجهم من بيت المقدس أذلة صاغرين، واكتب لنا النصر العاجل عليهم يا رب العالمين.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
المصدر ملتقى الخطباء