الطريق إلى القلب السليم
قبل الحديث عن خطوات إصلاح القلب، هناك أمر مهم ينبغي الإشارة إليه، وهو: "القلب مهما بلغ مرضه، واشتدت قسوته فإنه يحمل إمكانية العودة للصحة"، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُو ﴾ [الحديد: 16، 17].
يعاتب الله المؤمنين، بقوله ﴿ أَلَمْ يَأْنِ ﴾ أي: ألم يجئ الوقت الذي تلين به قلوبهم، وتخشع لذكر الله الذي هو القرآن، وتنقاد لأوامره وزواجره، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟
وفيه هذا الحث على الاجتهاد على خشوع القلب لله تعالى، ولما أنزله من الكتاب والحكمة، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية والأحكام الشرعية كل وقت، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك.
﴿ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ﴾ أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه ولا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم.
﴿ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل الله وتناطق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإن ذلك سبب قسوة القلب وجمود العين[1].
﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا..... ﴾ فيه إشارة إلى أنه عز وجل، يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويُفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد ما كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل[2].
أولاً: مفتاح الطريق:
ألا وهو "قوة الرغبة وشدة الحاجة إلى وجود القلب السليم، واليقين بأن الله وحده هو القادر على ذلك".
التطبيق:قال تعالى ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].
فعلينا أن نستغيث بالله وأن ندخل في جلباب الذل، ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9].
• قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ. ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي. اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي. اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ" فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ.
فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9]، فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ[3].
• ولا يكفي الدعاء مرة أو مرتين ثم الانصراف، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي"[4].
هذا هو المفتاح الذي من فقده ضل الطريق .... قال ابن رجب في شرح حديث لبيك اللهم لبيك:
"كان رجل من أصحاب ذي النون يطوف في السكك يبكي، وينادي: أين قلبي؟ أين قلبي؟ من وجد قلبي؟! فدخل يومًا بعض السكك فوجد صبيًا يبكي وأمه تضربه، ثم أخرجته من الدار وأغلقت الباب دون.
فجعل الصبي يلتفت يمينًا وشمالاً، ولا يدري أين يذهب، ولا أين يقصد فرجع إلى باب الدار، فوضع رأسه على عتبةٍ فنام. فلما استيقظ جعل يبكي ويقول: يا أماه من يفتح لي الباب إذا أغلقتٍ عني بابكٍ، ومن يُدنيني من نفسه إن طردتني، ومن الذي يؤويني إذا غبتٍ عليَّ. فرحمتهُ أمه، فقامت فنظرت عليه من خلل الباب فوجدت ولدها تجري الدموع على خده متمعكًا في التراب. ففتحت له الباب وأخذته حتى وضعته في حجرها. وجعلت تقبله وتقول: يا قرة عيني وعزيز نفسي، أنت الذي حملتني على نفسك وأنت الذي تعرضت لما حل بك، لو كنتَ أطعتني لم تلق مني مكروهًا.
فتواجد الرجل، ثم قام وصاح، وقال: قد وجدتُ قلبي، قد وجدتُ قلبي"[5].
ثانيًا: علاج الفتور وضعف الهمة:
قد يقول قائل: أنا مقتنع بكل ما سبق ولكنني أجد في نفسي فتورًا وأستشعر ضعف عزيمتي، وإرادتي، مما يجعلني غير قادر على الدعاء بهذا الإلحاح.
فالجواب، عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ"[6].
فهذا الحديث يضع نقطة البداية لمن ضعفت عزيمته -من أمثالنا- فمن استشعر أهمية ما يريد، وخاف ضياعه فإنه لا ينتظر إلى الصباح ليذهب إليه، بل يبادر بالسير ولو ليلاً، ومن كانت هذه همته وصل إلى مقصوده.
فكيف بأعظم وأغلى سلعة "الجنة" أليس من الحري المبادرة إلى تحصيلها مثل المبادرة على تحصيل السلع الأخرى إن لم يكن أشد؟!
تذكر دائمًا:
الذي يحول بيننا وبين السير إلى الله وإلى جنته ... إنه الموت، مفرق الجماعات، الذي يأتي بغتة دون سابق إنذار. إن أهل القبور يتمنون جميعًا العودة إلى الدنيا ولو للحظة ليسبحوا أو يركعوا أو يسجدوا لله عز وجل، فلنكثر إذن من ذكر الموت، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" يَعْنِي الْمَوْتَ[7].
قَوْلُهُ: (هَاذِمِ اللَّذَّاتِ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ قَاطِعَهَا. قَالَ مَيْرَكُ: صَحَّحَ الطِّيبِيُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ حَيْثُ قَالَ: شَبَّهَ اللَّذَّاتِ الْفَانِيَةَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةَ ثُمَّ زَوَالَهَا بِبِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ يَنْهَدِمُ بِصَدَمَاتٍ هَائِلَةٍ, ثُمَّ أَمَرَ الْمُنْهَمِكَ فِيهَا بِذِكْرِ الْهَادِمِ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهَا, يَشْتَغِلَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِرَارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ اِنْتَهَى كَلَامُهُ.
لَكِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ: الْهَاذِمُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الْقَاطِعُ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا, وَقَدْ صَرَّحَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ, ذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَتْلِ وَحْشِيٍّ لِحَمْزَةَ. ... وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُصَحِّحْ الْخَطَّابِيُّ غَيْرَهُ وَجَعَلَ الْأَوَّلَ مِنْ غَلَطِ الرُّوَاةِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ.
فإن وجدنا صعوبة أو انشغالاً يحول بيننا وبين كثرة ذكر الموت فلننتهز فرصة مواسم الطاعات، ففيها يزداد الإيمان، ويذهب الفتور، ويسهل قيادة النفس.
ثالثًا: دليلنا وسائقنا القرآن:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 174، 175].
يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة، والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجة، ويوضح لهم المحجة، فقال: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ أي: حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه، وتبين ضده.
وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية، الآيات الأفقية والنفسية ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].
وفي قوله: ﴿ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته، حيث كان من ربكم الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية، فمن تربيته لكم التي يحمد عليها ويشكر، أن أوصل إليكم البينات، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم، والوصول إلى جنات النعيم.
﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ وهو هذا القرآن العظيم، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره، وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره.
ولكن انقسم الناس -بحسب الإيمان بالقرآن والانتفاع به- قسمين:
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ﴾ [النساء: 175] أي: اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل، وتنزيهه من كل نقص وعيب.
﴿ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ﴾ [النساء: 175] أي: لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرأوا من حولهم وقوتهم واستعانوا بربهم.
﴿ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ ﴾ [النساء: 175] أي: فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة، فيوفقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات، ويدفع عنهم البليات والمكروهات.
﴿ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 175] أي: يوفقهم للعلم والعمل، معرفة الحق والعمل به.
أي: ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسك بكتابه، منعهم من رحمته، وحرمهم من فضله، وخلى بينهم وبين أنفسهم، فلم يهتدوا، بل ضلوا ضلالا مبينا، عقوبة لهم على تركهم الإيمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان، نسأله تعالى العفو والعافية والمعافاة[8].
كيف ننتفع بالقرآن:
(1) القراءة البطيئة المترسلة:
قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106].
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ. فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى. فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى. فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا.
ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا. يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ. ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ" فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى" فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ[9].
(2) حضور الذهن عند القراءة:
فنقاوم الشرود والسرحان في أودية الدنيا، وإذا حدث فنعيد الآية التي شرد الذهن فيها، وليكن نُصبَّ أعيننا قوله صلى الله عليه وسلم: "وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ"[10].
فكل آية نقرأها تحمل توجيهًا جديدًا، وقد يكون فيها دواء لداء من أدواء قلوبنا أو حل لمشكلة نعاني منها، فينبغي علينا أن نجتهد في حضور العقل وقت القراءة.
(3) تدبر الآيات:
والتدبر هو التفكر في الآيات وفهم المراد منها؛ قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
وليكن المعنى الإجمالي هو المقصود من تدبر الآية، لا سبر أغوارها، وإلا فلن نكاد ننتهي من عدة آيات إلا ونستصعب هذه الطريقة ونمل منها.
مثال تطبيقي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ عَلَيَّ" قُلْتُ: أقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: "فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي" فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغْتُ ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41] قَالَ: "أَمْسِكْ"، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ[11].
(4) البحث عن جوانب الهداية:
القرآن ملئ بشتى أنواع العلوم، فمن بحث عن البلاغة أو التاريخ أو القصة أو الأدب ... إلخ وجدها، ولكن ليس هذا هو المقصود الأساسي من نزوله والأمر بتدبره، فالقرآن كتاب هداية قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
قد يجد البعض منا صعوبة في ذلك لعدم معرفته بجوانب الهداية التي ينبغي أن يبحث عنها في القرآن، ويمكن أن نضرب أمثلة يقاس عليهما:
• من هو الله؟ قال تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 50].
• من هو الإنسان؟ ثال تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: 128]، و قال تعالى: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20].
• من هو الشيطان وما هي مداخله وكيف نتقيه؟ قال تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ [البقرة: 268].
• لماذا وُجدنا في هذه الحياة الدنيا؟﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]. والله يختبرنا في هذه الحياة من يثبت على هذا العهد؟ قال تعالى ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2].
• ما السنن الربانية التي يحكم الله بها الحياة؟ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
• لماذا يقص الله علينا القصص؟ ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
(5) المداومة على القراءة اليومية:
وتخصيص أكبر وقت ممكن له، وجعله في أعلى سُلم الأولويات، ولا يكن همنا ونحنُ نقرأ آخر السورة أو نهاية الورد، ولكن علينا بالتدبر كما تقدم في العنصر السابق.
(6) ترديد الآية التي تؤثر في القلب:
فمعنى تأثر القلب بآية من الآيات هو دخول نور الآية إلى القلب، وتفاعله معه وإحلاله محل الظلمة، وهذا قلما يحدث للواحد منا وبخاصة في البداية فلنغتنم الفرصة.
مثال: كان تميم الداري رضي الله عنه كثير التهجد: "قام ليلة بآية حتى أصبح وهي ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21] [12].
(7) تصحيح النطق:
فالقراءة الصحيحة بلا شك لها دور كبير في فهم القرآن، قال الغزالي: " فتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزعاج والائتمار، فاللسان يرتل، والعقل يترجم، والقلب يتعظ" ا.هـ[13].
(8) عدم اليأس:
علينا أن نوقن بأننا نقدر على فهم القرآن وتدبره، وإلا ما طالبنا الله بذلك. قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحًا وحُزنًا وشوقًا إلى الجنة، أو خوفًا من النار" اهـ[14].
هذا هو السبيل للقلب السليم، فلنقبل عليه، ولنترك أنفسنا له، ولنتخذه دليلاً إلى الله، وإلى صراطه المستقيم، والحمد لله أولاً وآخرًا ... الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.