مناسبة القصيدة:
كان أبو الطيب وصل إلى مرحلة اليأس والقنوط والإحباط في مصر ، ودخل في مرحلة نفسية معتمةٍ ، فلا هو في العير ولا هو في النفير .. أهمل مجالسَ كافور ، فما عاد يتردد عليها ، وحين كان يطلب منه قصيدة مادحة كان الشاعر الحزين يرفض القول والنشيد فلا ينقاد للطلب .. وهجَر عِشرةَ الناس ، ولقاءَهم ، وصار ينفرد بذاته ، ويخلو بنفسه، ويجتر آلامه ، ويرسم الخطط التي تنقذه من هذا الشَّرَك الذي أوقعه به كافور .
وبدأ المرجل النفسي يغلي شيئاً فشيئاً ، ويضطرب ويزداد اضطراباً ، ثم راح يقذف بالزبد ، ويتعالى صوت جَيَشانه .. وقبل أن يطفح الكيل ، جاء إلى كافور وسأله صراحة عن وعده بحكم ضيعة أو ولاية أو أي مكان .. وبَيَّن له أنه ما قدِم إلى مصر إلا بعد أن اطمأنّ إلى وعوده البراقة . فأجابه كافور :
" أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سَمَتْ نفسك إلى النبوة ، فإن أصبتَ ولاية صار لك أتباع ، فمن يطيقك ؟ " .
وسواء أكان رد كافور عنيفاً أم لا ، فهذا لا أهمية له ، فلن يخدع الشاعر بعد الآن لقد كانت نقمته على الرجل الملوّن المخادع ، وخيبة أمله في انهيار مشاريعه عظيمتين .
ولم يخطئ كافور في تعرف نوايا أبي الطيب ، فقد أدرك حقيقة مشاعره نحوه ، وكان يعلم أنه سيفرُّ من الفسطاط عند سنوح أول فرصة ، وأنه سيعقب فراره بشعر هجائي وسخرية لاذعة ، فنشر الجواسيس يراقبون أبا الطيب ؛ وعرف المتنبي كل هذا ، فكظم غيظه وأخفى عواطفه وخططه
ويبدو أنه أتخذ لنفسه حراساً انتقاهم من عبيده الأشداء لمقاومة كل هجوم محتمل ، وكانت خطته زيادة في إمكانية نجاحها أن يغتنم فرصة احتفالات الناس بعيد الأضحى للخروج من الفسطاط ، وكان التاسع من شهر ذي الحجة ، وهو مناسبة تجري فيها مراسم واستعراضات ، تجلب جمهوراً كبيراً من الناس ، وهي خير فرصة للهرب والتخفي .
في اليوم التاسع من الشهر المذكور ، خرج المتنبي سراً من الفسطاط ، تتقدمه الإبل المحملة بالسلاح والأمتعة والزاد لعدة أيام ، وأغذَّ السير ، فاجتاز برزخ السويس ، ثمّ أوغل في صحراء التيه شمالي سيناء .
وتنبه القوم بسرعة إلى فراره ، فلم يستطيعوا اللحاق به ؛ وكان غيظ كافور شديداً جداً ، وأراد المتنبي بعد أن أصبح بعيداً وآمناً أن يشهَد الناس مرة واحدة– على الأقل ـ على الازدراء الذي يكنّه لسيده القديم ، وتولت أيدٍ أمينةٌ إيصالَ قصيدة هجائية مقذعة إلى الخصيِّ كافور ، ولكن العملية لم تنجح ، لأن كافوراً شكّ في محتواها ، فأمر بإحراقها ، ولم يقف على ما فيها .
القصيدة
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ" = "بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ" = "فَلَيتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيدُ
لَولا العُلا لَم تَجُب بي ما أَجوبُ بِها" = "وَجناءُ حَرفٌ وَلا جَرداءُ قَيدودُ
وَكانَ أَطيَبَ مِن سَيفي مُضاجَعَةً" = "أَشباهُ رَونَقِهِ الغيدُ الأَماليدُ
لَم يَترُكِ الدَهرُ مِن قَلبي وَلا كَبِدي" = "شَيئًا تُتَيِّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ
يا ساقِيَيَّ أَخَمرٌ في كُؤوسِكُما" = "أَم في كُؤوسِكُما هَمٌّ وَتَسهيدُ
أَصَخرَةٌ أَنا مالي لا تُحَرِّكُني" = "هَذي المُدامُ وَلا هَذي الأَغاريدُ
إِذا أَرَدتُ كُمَيتَ اللَونِ صافِيَةً" = "وَجَدتُها وَحَبيبُ النَفسِ مَفقودُ
ماذا لَقيتُ مِنَ الدُنيا وَأَعجَبُهُا" = "أَنّي بِما أَنا باكٍ مِنهُ مَحسودُ
أَمسَيتُ أَروَحَ مُثرٍ خازِنًا وَيَدًا" = "أَنا الغَنِيُّ وَأَموالي المَواعيدُ
إِنّي نَزَلتُ بِكَذّابينَ ضَيفُهُمُ" = "عَنِ القِرى وَعَنِ التَرحالِ مَحدودُ
جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ" = "مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ
ما يَقبِضُ المَوتُ نَفسًا مِن نُفوسِهِمُ" = "إِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُ
مِن كُلِّ رِخوِ وِكاءِ البَطنِ مُنفَتِقٍ" = "لا في الرِجالِ وَلا النِسوانِ مَعدودُ
أَكُلَّما اغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ" = "أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ
صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها" = "فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ
نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها" = "فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ
العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ" = "لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ
لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ" = "إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ
ما كُنتُ أَحسَبُني أبقى إِلى زَمَنٍ" = "يُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُ
وَلا تَوَهَّمتُ أَنَّ الناسَ قَد فُقِدوا" = "وَأَنَّ مِثلَ أَبي البَيضاءِ مَوجودُ
وَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُهُ" = "تُطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُ
جَوعانُ يَأكُلُ مِن زادي وَيُمسِكُني" = "لِكَي يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقصودُ
إِنَّ امرأً أَمَةٌ حُبلى تُدَبِّرُهُ" = "لَمُستَضامٌ سَخينُ العَينِ مَفؤودُ
وَيلُمِّها خُطَّةً وَيلُمِّ قابِلِها" = "لِمِثلِها خُلِقَ المَهرِيَّةُ القُودُ
وَعِندَها لَذَّ طَعمَ المَوتِ شارِبُهُ" = "إِنَّ المَنِيَّةَ عِندَ الذُلِّ قِنديدُ
مَن عَلَّمَ الأَسوَدَ المَخصِيَّ مَكرُمَةً" = "أَقَومُهُ البيضُ أَم آبائُهُ الصيدُ
أَم أُذنُهُ في يَدِ النَخّاسِ دامِيَةً" = "أَم قَدرُهُ وَهوَ بِالفَلسَينِ مَردودُ
أَولى اللِئامِ كُوَيفيرٌ بِمَعذِرَةٍ" = "في كُلِّ لُؤمٍ وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ
وَذاكَ أَنَّ الفُحولَ البيضَ عاجِزَةٌ" = "عَنِ الجَميلِ فَكَيفَ الخِصيَةُ السودُ