إن من كرم الله سبحانه وتعالى على عباده، أنه يجازي على السيئة بمثلها، كما أنه يجازي الممتنع عن فعلها بحسنة. أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه (من همَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك ) { يعني بعد كل هذا الكرم من الله نجد من الناس من يأبى إلا طريق الهلاك}. ومِنْ كرَمِهِ كذلك أنه يجازي على الهم بالطاعة بحسنة حتى إذا فعلها العبد كتبت له عشر حسنات، كما أنه سبحانه جعل من الأعمال ما يوجب دخول الجنة كالشهادتين، ومن الأعمال ما يجازي عليه بسبع مئة ضعف كالنفقة في سبيل الله، ومنها ما لا يعلم جزاءَها إلا الله وذلك كالصوم. فما أعظم كرم الله سبحانه على عباده .

ونحن اليوم إذ نقف على أعتاب شهر رمضان المبارك فإننا سنسلط الضوء على بركات هذا الشهر الكريم، وجزيل العطاء فيه، وأخص بالذكر مضاعفة الأجر فيه .
فالله سبحانه قد خص بعضَ الأماكن وبعض الأزمان وبعض الناس بفضل الأجر والثواب على ما سواهم، وذلك لخصوصية هذه الثلاثة. كما أنه سبحانه قد جعل المعصية في هذه الأماكن وهذه الأوقات ومن هؤلاء الناس بأعيانهم، جعل المعصية تُضاعَف عن غيرها من الأماكن والأزمان والأشخاص.

فمثلا: خص الله بيته الحرام ومسجد نبيه عليه السلام والمسجد الأقصى بمضاعفة الأجر والثواب .
فقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاةٌ في مسجدي هذا كألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها، وصلاة الجمعة بالمدينة كألف جمعة فيما سواها) تصحيح السيوطي: حسن‏

قال العلماء: معنى ذلك أن عقوبة من اقترف ذنبا في أحد المساجد الثلاثة أعظمُ عقوبةً من اقترافه في غيرها لشرف هذه المساجد وفضلِها، والذنب الواحد في أحدها أعظم من ذنوب كثيرة في غيرها من المواضع ولذلك تضاعف فيه السيئات ومعناه تغليظ عقوبتها، لأن الإنسان يعمل ذنبا واحدا فيكتب عليه عشرة ذنوب، والله تعالى يقول في كتابه العزيز (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها)([15]) فقد غلظت الدية على من قتل في الحرم أو في الإحرام أو في الأشهر الحرم أو قتل ذا رحم محرماً، لحرمة هذه الأشياء وعظم محلها، فالتعدد في المعنى من حيث إنه انتهك حرمة بيوت الله .
وهذا ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم ، وهم إذ يخبرون بهذا إنما يقولون بما فهموه من رسول الله فقد أخرج الواسطي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال، وهو ببيت المقدس: {يا نافع، أخرج بنا من هذا البيت، فإن السيئات تضاعف فيه، كما تضاعف الحسنات} قال ابن عياش: سمعت جرير بن عثمان وصفوان ابن عمرو يقولان الحسنة في بيت المقدس والسيئة بألف ).

وأخرج سعيد بن منصور والطبراني، عن ابن مسعود في قوله {ومن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلمٍ نُذِقْهُ من عذاب أليم} قال من هم بخطيئة فلم يعملها في سوى البيت لم تكتب عليه حتى يعملها، ومن هم بخطيئة في البيت لم يُمِتْهُ الله من الدنيا حتى يذيقَه من عذاب أليم).

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك في قوله {ومن يرد فيه بإلحاد} قال إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى، فتكتب عليه وما عملها).
وعن مجاهد قال تضاعف السيئات بمكة كما تضاعَف الحسناتُ).
وعن مجاهد أيضا أنه قال: رأيت عبد الله بن عمرو بعرفة، ومنزلُه في الحِلّ ومسجده في الحرم فقلت له لِمَ تفعلُ هذا؟؟ قال: لأن العمل فيه أفضلُ والخطيئة فيه أعظم).

هذا عن المكان أما عن الزمان :

فمثلا: خص الله رمضان والأشهر الحرم بمضاعفة الأجر والثواب . فقد أخرج البيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نوم الصائم عبادة، وصَمْتُهُ تسبيح، وعمله مضاعف، ودعاؤه مستجاب، وذنبه مغفور). له طريق خالية عن كذاب أورده الزين العراقي في أماليه من حديث ابن عمر
وأخرج البيهقي عن كعب الأحبار قال: ينادي يوم القيامة مناد: {إن كل حارث يُعطَى بحرثه ويزاد غير أهل القرآن والصُيَّام، يعطون أجورهم بغير حساب }.
ومن كرمه سبحانه على الصائم أن الذي يأكل عنده في غير رمضان فإن الملائكة تدعو له. عن أم عمارة بنت كعب "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فقرّبت إليه طعاما فقال: كلي. فقالت: إني صائمة. فقال: إن الصائم إذا أكل عنده صَلَّت عليه الملائكة حتى يفرغوا أو ربما قال يقضوا .


قَالَ رِسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ (أَلاَ إِنَّ أَخْرَمَ الأَيَّامِ يَوْمُكُمْ هذَا. ألاَ وَأِنَّ أَحْرَمَ الشُّهُورِ شَهْرُكُمْ هذَا. أَلاَ وَإِنَّ أَحْرَمَ الْبَلَدِ بَلَدُكُمْ هذَا. أَلاَ وَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمةِ يَوْمِكُمْ هذَا، فِي شَهْرِكُمْ هذَا، فِي بَلَدِكُمْ هذَا. أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟) قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ (اللّهُمَّ! اشْهَد). قال في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات.

أما عن الأشخاص ومضاعفة حسناتهم أو سيئاتهم :
فإن الله قد أكرم النبي عليه الصلاة والسلام بما يليق به من الكرم وحذّره من مقارفة المعاصي ، فقال ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركَن إليهم شيئا قليلا، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجدُ لك علينا نصيرا) قال القرطبي : كلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالفة أعظم، قال الله تعالى: "يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذابُ ضعفين"
وهكذا كان الصحابة الكرام يفهمون هذا الأمر. حيث يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى طلحة بن عبيد الله محرما في ثوب مصبوغ فقال له إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيد الله قد كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام ) . وعن ابن عمر قال: { كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله، لا أعلمن أحدا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفتُ له العقوبة }.

إن شهر رمضان لموسم عظيم من مواسم الخير ، وهو نفحة من النفحات الربانية التي ينبغي على المسلمين أن يغتنموها أيما اغتنام. عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في ذؤابة سيفه كتاباً: بسم اللّه الرحمن الرحيم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "إن لِربِّكم في بقية أيام دهركم نفحاتٍ فتعرضوا له، لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعدَ صاحبها سعادةً لا يخسر بعدها أبدا ً".

إنّ شهر رمضان شهر قوّة وعطاء، فيه غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، وكان يصوم هو والمسلمون، وفيه كانت غزوة بدر الكبرى، وفي تلك الغزوات انتصرت راية الإسلام وانتكست راية الوثنية والأصنام، وفيه وقع كثير من معارك المسلمين وحملات جهادهم وتضحياتهم ، ففي أول يوم من أيام رمضان كانت معركة بلاط الشهداء (114هجرية) وفي الثاني منه انتصر المسلمون على التتار في معركة شقحب عام(702هجري) وفي الثاني من رمضان فتح المسلمون قبرص عام 829هجري ، وفي الرابع من رمضان استرجع المسلمون أنطاكية من الصليبين عام666هجري ، وفي الخامس منه انتصر المسلمون على الكاهنة وفتحوا بلاد المغرب الأوسط عام 82هجري ، وفي التاسع منه انتصر نور الدين زنكي على الصليبين في معركة حارم عام 559هجري، وفي الحادي عشر منه انتصر المثنى بن حارثة على الفرس في معركة البويب في العراق عام 13هجري ، وفي السادس عشر منه فتح المعتصم عمورية عام 223هجري ، وفي العشرين منه تم فتح مكة عام 8هجري ،

وفي الخامس والعشرين من كانت معركة عين جالوت سنة658هجرية، وفي الخامس والعشرين كذلك تم فتح مدينة بلغراد عام 927هجري، وفي الثامن والعشرين من رمضان تم فتح الأندلس عام 92هجري ، والثلاثين من رمضان يفتح المسلمون مدينة ماردة في الأندلس عام 94هجري .

هكذا كان تاريخُ المسلمين في رمضان حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه أكثرَ ما يكونون قوةً وحيوية ومثابرة على الجهاد والعبادة ومضاعفة لهما. ونحن اليوم كأمة إسلامية وكحملة دعوة نتطلع إلى مستقبل قادم يحمل في ثناياه الخير للبشرية جمعاء . نرقب ميلاد فجر جديد ، نرقب قيام دولة الخلافة التي بشّر بعودتها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نفس الوقت فإننا إذ نرى هذه الهجمة المسعورة على هذا الدين وأهله ، للحيلولة دون عودة هذه الأمة إلى سابق عزها ، نجد من الواجب علينا كحملة دعوة وكأمة إسلامية أن نشمِّر عن سواعدنا ، ونشحذ هِممَنا في هذا الشهر أكثر مما في سواه ، ذلك أن الأجر فيه يضاعَف ، والدعاء فيه مستجاب ، والجنةَ فيه متزينةٌ للعباد ، والملائكة مشغولة بأعمالنا ، والرب سبحانه متجلٍ على عباده يأمر مناديه أن يقول كل ليلة حتى انفجار الصبح : ( هل من مستغفر نغفر له؟ هل من تائب نتوب عليه؟ هل من داع نستجيب له؟ هل من سائل نعطي سؤله؟ ). فيجب علينا في هذا الشهر الكريم أن نطرق قلوبَ الناس وبيوتهم نحمل لهم هذا الخير كما حمله لنا غيرُنا ، لنفوزَ بالأجر الجزيل . لعل الله سبحانه أن يرى منا ما يستحق أن ينزل علينا النصر من أجله .


فاللهم اجعلنا ممن يصومون رمضان ويقومونه إيمانا واحتسابا ، واجعلنا اللهم من يحسنون حمل دعوة ربهم ، وافتح اللهم بنا قلوب العباد ، وأكرمنا في هذا الشهر بفرجك يا كريم . وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .