مقيم في أوروبا ولا يستطيع غض بصره
أنا شاب أدرس في بلد أوروبي , لقد تعرفت على السنَّة ، وأهلها في هذه البلاد , ومنَّ الله عليَّ بالاستقامة فيها ، فبعدما بدأتُ بداية قوية في أول الالتزام : بدأت الآن أتراجع , وأصبحتُ أقترف ذنوباً لم أقترفها حتى في أيام جهلي بالدين ، لكن رغم ذلك ما زلت - والحمد لله - أواظب على الصلوات الخمس في المسجد ، وعلى بعض النوافل , وألقي درساً أسبوعيّاً في شرح بعض الأحاديث النبوية المهمة ، استناداً على شرح أهل العلم لها , ولا ألقي هذا الدرس لأني عندي علم بالأحاديث , وإنما لعدم وجود من يلقي الدروس ، وإصرار الإخوة على ذلك ؛ فأنا صراحة لا أستحق هذا الفضل ، والله أعلم . المهم : أني أشعر بنفاق في قلبي ؛ لأني ألقي الدرس فأحث المستمعين على مجاهدة النفس ، والصبر , وأنا أخالف ذلك ، لأني - مثلاً - لا أستطيع غض بصري عن النساء ، وهذه هي مشكلتي الكبرى ، فعند ذهابي إلى المسجد - مثلاً - أمرُّ بمئات النساء عاريات كأنهن في الشاطئ ، وخصوصاً في الصيف ، فلا أصِلْ إلى المسجد إلا وقد جمعتُ ذنوباً كثيرةً ، وأصلي وقلبي مريض ، فلا أخشع في الصلاة ، وأشعر بأني لم أصلِّ , وهذا هو الذي جعلني في حالة نفسية سيئة , فأتوب إلى الله من هذه الذنوب ، فأتحسن ، ثم بعد مدة تتفاوت كل مرة أرجع لهذه المعاصي ، وأولها : إطلاق البصر إلى النساء ، ثم أتوب بعد ذلك ، وهكذا فأشعر أن توبتي لم تُتقبل . لقد قرأتُ حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة ، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا ، إن المؤمن خلق مفتَناً تواباً نسَّاء ، إذا ذُكِّر ذَكَر) . وقرأتُ عليه تعليقاً أعجبني لكن لا أدري صحته ، وهو أنّ النّاظر إلى النّصوص يدرك بجلاء أنّ مراد الله تعالى من العبد ليس مجرّد السّلامة من المخالفة ، بل المراد : بقاء العلاقة بين العبد وربّه ، بمعنى : أن يطيعه العبد فيُؤجر ، ويذنب فيستغفر ، وينعم عليه فيشكر ، ويقتّر عليه فيدعوه ويطلب منه ، ويضيّق أكثر فيلجأ ويضطر ، وهكذا ، ولذلك ورد في بعض الآثار أنّ العبد الصّالح يغفل ، أو ينسى فيضيّق الله عليه ببلاء ، حتّى يسمع صوته بالدّعاء والالتجاء ، وورد أنّ العبد المؤمن يكثر من الذّكر ولا يستغفر ، فيقدّر الله عليه الذّنب ليسمع صوته في الاستغفار ، فصراحة : ارتحت قليلاً منه ، ولكن عندما أقرأ الحديث الآخر يصيبني الإحباط الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً) ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ : (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا) . فهذا الحديث ينطبق عليَّ كاملاً ، والله المستعان . الآن أنا أفكر في أن أنتهي عن إلقاء الدرس إلى أن تتحسن نفسي ، فما هو الحل يا ترى ؟ . أفتوني مأجورين .
الحمد لله
نسأل الله العظيم بمنِّه وكرمه أن يثبتك على الاستقامة , وأن يصرف عنك الفتن ، ما ظهر منها وما بطن .
أولاً :
عندما ينظر المسلم إلى مثل هذه الأسئلة : يزداد يقيناً وإيماناً بالتسليم للشرع ، وأنه جاء بالحكمة والمصلحة ، ودفع المفسدة .
فلم يأمر إلا بما فيه مصلحة ، ولم ينه إلا عما فيه مفسدة ، ومن ذلك : نهيه عن إقامة المسلم في بلاد الكفر ، فإنها من أخطر الأشياء على دين المسلم وأخلاقه .
وانظر جواب السؤالين : (47672) و (10175) .
ثانياً:
كلماتك – أخي السائل - تدل على أنك متضايق من نفسك ، وأنك تشعر بالخطأ تجاه نفسك ، وتجاه ربك , ولا شك أن هذا علامة صدق ، ودليل خير , وأن وازع الإيمان في قلبك لا يزال حيّاً , ولتعلم أن طريق الجنَّة محفوف بالشهوات , وهو طريق يحتاج في سلوكه إلى صبر ، ومجاهدة ، وتحمل ، ولذا لزم الاستعانة بالله , واللجوء إليه ، والذل بين يديه ؛ ليأخذ بيدك إلى برِّ الأمان ، فتصل إلى رضاه من غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة .
وإن من أعظم ما يضر المسلم في حياته ، ومن أكثر ما يكون سبباً لفتنة قلبه ، ودينه : هو معصية إطلاق البصر في المحرمات ، وقد صحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : "الإثم حَوَازُّ القلوب ، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع" رواه البيهقي في "شُعَب الإيمان" (4/367) .
قال الشيخ محمد السفاريني رحمه الله :
ومعنى " حَوَّاز " بفتح الحاء وتشديد الواو ، وهو : ما يحوزها ، ويغلب عليها حتى ترتكب ما لا يحسن .
وقيل : بتخفيف الواو وتشديد الزاي – أي : " حَوَازّ " - جمع حازَّة ، وهي الأمور التي تحزُّ في القلوب ، وتحك ، وتؤثر ، وتتخالج في القلوب ، فتكون معاصي ، وهذا أشهر .
"غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" ( ص 65 ) .
ولهذا كان لهذه المعصية نصيب وافر من التحذير منها ، والكلام عليها .
فانظر جوابيْ السؤالين : ( 22917 ) و ( 20229 ) للوقوف على السبل ، والوسائل المعينة على غض البصر .
وانظر جواب السؤال رقم ( 22917 ) للوقوف على فوائد غض البصر .
وجواب السؤال رقم : ( 23425 ) للوقوف على آثار هذه المعصية .
ثالثاً :
أما حديث ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ ، أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ لا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفْتَنًا تَوَّابًا نَسِيًّا إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ) : فقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (11/304) ، وصححه الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (2276) ، ولكن تعقبه الشيخ محمد عمرو بن عبد اللطيف رحمه الله في جزئه "حديث (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة) في الميزان" ، وبيَّن أن الحديث ضعيف .
ثم ـ إن صح الحديث ـ فليس فيه التشجيع على فعل المعصية ، ولا الإقدام عليها ، بل هو لتطمين التائبين بأنه من فعل ذنباً فإنه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة ربه ، أو يعتقد أن ذنبه أعظم من عفو الله ورحمته ، فما على المذنب سوى التوبة الصادقة ، والعزم على عدم العود إلى ذنبه مرة أخرى .
وقد قال الشيخ محمد عبد الرحمن المباركفوري رحمه الله عند شرحه لحديث : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُم) قال :
"قال الطِّيبي : ليس الحديث تسلية للمنهمكين في الذنوب كما يتوهمه أهل الغرة بالله ؛ فإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس عن غشيان الذنوب ، بل بيان لعفو الله تعالى ، وتجاوزه عن المذنبين ؛ ليرغبوا في التوبة .
والمعنى المراد من الحديث : هو أن الله كما أحب أن يعطي المحسنين أحب أن يتجاوز عن المسيئين , وقد دل على ذلك غير واحد أسمائه : الغفار ، الحليم ، التواب ، العفو , ولم يكن ليجعلَ العباد شأناً واحداً كالملائكة ، مجبولين على التنزه من الذنوب ، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميَّالاًَ إلى الهوى ، متلبساً بما يقتضيه ، ثم يكلفه التوقي عنه ، ويحذره من مُدَاناته ، ويعرِّفه التوبة بعد الابتلاء ، فإن وفَّى : فأجره على الله , وإن أخطأ الطريق : فالتوبة بين يديه ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم به : أنكم لو كنتم مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة : لجاء الله بقوم يتأتى منهم الذنب ، فيتجلى عليهم بتلك الصفات ، على مقتضى الحكمة ؛ فإن الغفَّار يستدعي مغفوراً ، كما أن الرزَّاق يستدعي مرزوقاً .
"تحفة الأحوذي" (7/193) .
وأما حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه المذكور في السؤال : فقد رواه ابن ماجه في "سننه" (4245) ، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" ، فللعلماء حوله كلام كثير ، وأحسن ما قيل فيه : أنه في الذين يتكرر منهم انتهاك محارم الله باستمرار ، وأن من صفاتهم الاستخفاف بما حرَّم الله ، وأنهم لا تنكسر قلوبهم عند فعلهم لتلك المعاصي ، بل يتجرأون على فعلها ، بل انتهاكها .
قال الشيخ الألباني - رحمه الله - :
هؤلاء ( إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ) لا يعني خلوا مرة واحدة ، وإنما هذا ديْدُنهم ، وشأنُهم ، وهِجِّيراهم ، دائماً ، فلذلك تطغى هذه المحرمات على تلك الحسنات.
" سلسلة الهدى والنور " شريط رقم ( 226 ) .
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي - حفظه الله - :
أي : أن عندهم استهتاراً ، واستخفافاً بالله عز وجل ، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار ، والمعصية التي تأتي بغير انكسار ، بين شخص يعصي الله في ستر ، وبين شخص عنده جرأة على الله عز وجل ، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء ، وإن كانت أمثال الجبال ، فإذا كان بين الصالحين : أَحْسَنَ أيما إحسانٍ ؛ لأنه يرجو الناس ولا يرجو الله ، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال ، فظاهرها حسنات ، ( لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ) فهم في السر لا يرجون لله وقاراً ، ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى ، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر ، ويكره هذه المعصية ، ويمقتها ، ويرزقه الله الندم ، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر وعنده الندم ، والحرقة ، ويتألم : فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل ؛ لأنه - في الأصل - معظم لشعائر الله ، لكن غلبته شهوته ، فينكسر لها ، أما الآخر : فيتسم بالوقاحة ، والجرأة على الله ؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص ، أو شخصين ، ولا يتحدث عن نص محدد ، إنما يعطي الأوصاف كاملة .
" شرح زاد المستقنع " ( رقم الدرس 332 ) .
وكل مسلم حي القلب يخشى أن يكون من هؤلاء الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان ، وتزداد هذه الخشية إذا اتصف ببعض صفاتهم ، فينبغي أن تحذر أشد الحذر أن تكون من أولئك الأقوام ، أو قريباً من صفاتهم ، فانج بنفسك من مستنقعات الرذيلة ، وطهِّر بدنك نفسك بالتوبة ، واحذر أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) النساء/108 .
قال ابن رجب رحمه الله :
قال بعض العارفين : اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك .
"جامع العلوم والحَِكم" ( ص 162 ) .
فالنصيحة لك :
1. أن تقطع سبل التعرض للفتن ، بتعجيل الانتهاء من تلك البلاد .
2. الزواج ، فهو الحصن الحصين لك إن شاء الله - , وخصوصاً في مثل تلك البلاد التي يكثر فيها الفتن .
3. الالتجاء إلى الله تعالى , والتضرع إليه ، بأن يصرف عنك تلك الذنوب ، قال تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة/ 186 .
4. مجاهدة النفس ، ودفع وسوستها ، وشرورها ، والعناية بتزكيتها بطاعة الله ، قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس/ 8 – 11 ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69 ، فاحرص على قراءة القرآن ومداومة الذكر ، وقيام الليل ، وصيام النوافل ... إلخ ، فبها يزداد الإيمان وينير الطريق لك .
ومما يعينك على ذلك : أن تكثر من صحبة الصالحين , وأن لا تتعرض للفتن ؛ وذلك بالابتعاد عن أماكنها .
5. وعليك أن تستمر في إعطاء الدروس ، واحذر من الشيطان أن يزيد عليك المعاصي بتركها ، أو يوهمك أن تركها هو علاج ما أنت فيه من حال .
وقد حذر السلف من مثل ذلك .
قال الحسن البصري رحمه الله لمطرف بن عبد الله : " عِظ أصحابك " ، فقال : " إني أخاف أن أقول ما لا أفعل " ! قال : " يرحمك الله ، وأيُّنا يفعل ما يقول ! ودَّ الشيطان أنه قد ظفر بهذا ، فلم يأمر أحدٌ بمعروف ، ولم ينه عن منكر " .
وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخه : سمعت سعيد بن جبير يقول : " لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء : ما أمر أحدٌ بمعروف ، ولا نهى عن منكر " .
قال مالك : " وصدق ، مَن ذا الذي ليس فيه شيء " ! .
وقد أحسن القائل :
لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمـد
فكُن أول المستفيدين من دروسك ، وكن أول المستجيبين لوعظك ، واستعن بالله تعالى ربك أن يعينك على نفسك ، وأن يخلصك من شرورها .
ونسأل الله تعالى أن يوفقك لكل خير ، ويعينك على طاعته ونيل رضاه ، ويثبتك على الإسلام والسنَّة ، وأن يصرف عنك الفتن ما ظهر منها وما بطن .
والله أعلم
أنا شاب أدرس في بلد أوروبي , لقد تعرفت على السنَّة ، وأهلها في هذه البلاد , ومنَّ الله عليَّ بالاستقامة فيها ، فبعدما بدأتُ بداية قوية في أول الالتزام : بدأت الآن أتراجع , وأصبحتُ أقترف ذنوباً لم أقترفها حتى في أيام جهلي بالدين ، لكن رغم ذلك ما زلت - والحمد لله - أواظب على الصلوات الخمس في المسجد ، وعلى بعض النوافل , وألقي درساً أسبوعيّاً في شرح بعض الأحاديث النبوية المهمة ، استناداً على شرح أهل العلم لها , ولا ألقي هذا الدرس لأني عندي علم بالأحاديث , وإنما لعدم وجود من يلقي الدروس ، وإصرار الإخوة على ذلك ؛ فأنا صراحة لا أستحق هذا الفضل ، والله أعلم . المهم : أني أشعر بنفاق في قلبي ؛ لأني ألقي الدرس فأحث المستمعين على مجاهدة النفس ، والصبر , وأنا أخالف ذلك ، لأني - مثلاً - لا أستطيع غض بصري عن النساء ، وهذه هي مشكلتي الكبرى ، فعند ذهابي إلى المسجد - مثلاً - أمرُّ بمئات النساء عاريات كأنهن في الشاطئ ، وخصوصاً في الصيف ، فلا أصِلْ إلى المسجد إلا وقد جمعتُ ذنوباً كثيرةً ، وأصلي وقلبي مريض ، فلا أخشع في الصلاة ، وأشعر بأني لم أصلِّ , وهذا هو الذي جعلني في حالة نفسية سيئة , فأتوب إلى الله من هذه الذنوب ، فأتحسن ، ثم بعد مدة تتفاوت كل مرة أرجع لهذه المعاصي ، وأولها : إطلاق البصر إلى النساء ، ثم أتوب بعد ذلك ، وهكذا فأشعر أن توبتي لم تُتقبل . لقد قرأتُ حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة ، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا ، إن المؤمن خلق مفتَناً تواباً نسَّاء ، إذا ذُكِّر ذَكَر) . وقرأتُ عليه تعليقاً أعجبني لكن لا أدري صحته ، وهو أنّ النّاظر إلى النّصوص يدرك بجلاء أنّ مراد الله تعالى من العبد ليس مجرّد السّلامة من المخالفة ، بل المراد : بقاء العلاقة بين العبد وربّه ، بمعنى : أن يطيعه العبد فيُؤجر ، ويذنب فيستغفر ، وينعم عليه فيشكر ، ويقتّر عليه فيدعوه ويطلب منه ، ويضيّق أكثر فيلجأ ويضطر ، وهكذا ، ولذلك ورد في بعض الآثار أنّ العبد الصّالح يغفل ، أو ينسى فيضيّق الله عليه ببلاء ، حتّى يسمع صوته بالدّعاء والالتجاء ، وورد أنّ العبد المؤمن يكثر من الذّكر ولا يستغفر ، فيقدّر الله عليه الذّنب ليسمع صوته في الاستغفار ، فصراحة : ارتحت قليلاً منه ، ولكن عندما أقرأ الحديث الآخر يصيبني الإحباط الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً) ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ : (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا) . فهذا الحديث ينطبق عليَّ كاملاً ، والله المستعان . الآن أنا أفكر في أن أنتهي عن إلقاء الدرس إلى أن تتحسن نفسي ، فما هو الحل يا ترى ؟ . أفتوني مأجورين .
الحمد لله
نسأل الله العظيم بمنِّه وكرمه أن يثبتك على الاستقامة , وأن يصرف عنك الفتن ، ما ظهر منها وما بطن .
أولاً :
عندما ينظر المسلم إلى مثل هذه الأسئلة : يزداد يقيناً وإيماناً بالتسليم للشرع ، وأنه جاء بالحكمة والمصلحة ، ودفع المفسدة .
فلم يأمر إلا بما فيه مصلحة ، ولم ينه إلا عما فيه مفسدة ، ومن ذلك : نهيه عن إقامة المسلم في بلاد الكفر ، فإنها من أخطر الأشياء على دين المسلم وأخلاقه .
وانظر جواب السؤالين : (47672) و (10175) .
ثانياً:
كلماتك – أخي السائل - تدل على أنك متضايق من نفسك ، وأنك تشعر بالخطأ تجاه نفسك ، وتجاه ربك , ولا شك أن هذا علامة صدق ، ودليل خير , وأن وازع الإيمان في قلبك لا يزال حيّاً , ولتعلم أن طريق الجنَّة محفوف بالشهوات , وهو طريق يحتاج في سلوكه إلى صبر ، ومجاهدة ، وتحمل ، ولذا لزم الاستعانة بالله , واللجوء إليه ، والذل بين يديه ؛ ليأخذ بيدك إلى برِّ الأمان ، فتصل إلى رضاه من غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة .
وإن من أعظم ما يضر المسلم في حياته ، ومن أكثر ما يكون سبباً لفتنة قلبه ، ودينه : هو معصية إطلاق البصر في المحرمات ، وقد صحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : "الإثم حَوَازُّ القلوب ، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع" رواه البيهقي في "شُعَب الإيمان" (4/367) .
قال الشيخ محمد السفاريني رحمه الله :
ومعنى " حَوَّاز " بفتح الحاء وتشديد الواو ، وهو : ما يحوزها ، ويغلب عليها حتى ترتكب ما لا يحسن .
وقيل : بتخفيف الواو وتشديد الزاي – أي : " حَوَازّ " - جمع حازَّة ، وهي الأمور التي تحزُّ في القلوب ، وتحك ، وتؤثر ، وتتخالج في القلوب ، فتكون معاصي ، وهذا أشهر .
"غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" ( ص 65 ) .
ولهذا كان لهذه المعصية نصيب وافر من التحذير منها ، والكلام عليها .
فانظر جوابيْ السؤالين : ( 22917 ) و ( 20229 ) للوقوف على السبل ، والوسائل المعينة على غض البصر .
وانظر جواب السؤال رقم ( 22917 ) للوقوف على فوائد غض البصر .
وجواب السؤال رقم : ( 23425 ) للوقوف على آثار هذه المعصية .
ثالثاً :
أما حديث ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ ، أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ لا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفْتَنًا تَوَّابًا نَسِيًّا إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ) : فقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (11/304) ، وصححه الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (2276) ، ولكن تعقبه الشيخ محمد عمرو بن عبد اللطيف رحمه الله في جزئه "حديث (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة) في الميزان" ، وبيَّن أن الحديث ضعيف .
ثم ـ إن صح الحديث ـ فليس فيه التشجيع على فعل المعصية ، ولا الإقدام عليها ، بل هو لتطمين التائبين بأنه من فعل ذنباً فإنه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة ربه ، أو يعتقد أن ذنبه أعظم من عفو الله ورحمته ، فما على المذنب سوى التوبة الصادقة ، والعزم على عدم العود إلى ذنبه مرة أخرى .
وقد قال الشيخ محمد عبد الرحمن المباركفوري رحمه الله عند شرحه لحديث : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُم) قال :
"قال الطِّيبي : ليس الحديث تسلية للمنهمكين في الذنوب كما يتوهمه أهل الغرة بالله ؛ فإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس عن غشيان الذنوب ، بل بيان لعفو الله تعالى ، وتجاوزه عن المذنبين ؛ ليرغبوا في التوبة .
والمعنى المراد من الحديث : هو أن الله كما أحب أن يعطي المحسنين أحب أن يتجاوز عن المسيئين , وقد دل على ذلك غير واحد أسمائه : الغفار ، الحليم ، التواب ، العفو , ولم يكن ليجعلَ العباد شأناً واحداً كالملائكة ، مجبولين على التنزه من الذنوب ، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميَّالاًَ إلى الهوى ، متلبساً بما يقتضيه ، ثم يكلفه التوقي عنه ، ويحذره من مُدَاناته ، ويعرِّفه التوبة بعد الابتلاء ، فإن وفَّى : فأجره على الله , وإن أخطأ الطريق : فالتوبة بين يديه ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم به : أنكم لو كنتم مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة : لجاء الله بقوم يتأتى منهم الذنب ، فيتجلى عليهم بتلك الصفات ، على مقتضى الحكمة ؛ فإن الغفَّار يستدعي مغفوراً ، كما أن الرزَّاق يستدعي مرزوقاً .
"تحفة الأحوذي" (7/193) .
وأما حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه المذكور في السؤال : فقد رواه ابن ماجه في "سننه" (4245) ، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" ، فللعلماء حوله كلام كثير ، وأحسن ما قيل فيه : أنه في الذين يتكرر منهم انتهاك محارم الله باستمرار ، وأن من صفاتهم الاستخفاف بما حرَّم الله ، وأنهم لا تنكسر قلوبهم عند فعلهم لتلك المعاصي ، بل يتجرأون على فعلها ، بل انتهاكها .
قال الشيخ الألباني - رحمه الله - :
هؤلاء ( إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ) لا يعني خلوا مرة واحدة ، وإنما هذا ديْدُنهم ، وشأنُهم ، وهِجِّيراهم ، دائماً ، فلذلك تطغى هذه المحرمات على تلك الحسنات.
" سلسلة الهدى والنور " شريط رقم ( 226 ) .
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي - حفظه الله - :
أي : أن عندهم استهتاراً ، واستخفافاً بالله عز وجل ، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار ، والمعصية التي تأتي بغير انكسار ، بين شخص يعصي الله في ستر ، وبين شخص عنده جرأة على الله عز وجل ، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء ، وإن كانت أمثال الجبال ، فإذا كان بين الصالحين : أَحْسَنَ أيما إحسانٍ ؛ لأنه يرجو الناس ولا يرجو الله ، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال ، فظاهرها حسنات ، ( لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ) فهم في السر لا يرجون لله وقاراً ، ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى ، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر ، ويكره هذه المعصية ، ويمقتها ، ويرزقه الله الندم ، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر وعنده الندم ، والحرقة ، ويتألم : فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل ؛ لأنه - في الأصل - معظم لشعائر الله ، لكن غلبته شهوته ، فينكسر لها ، أما الآخر : فيتسم بالوقاحة ، والجرأة على الله ؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص ، أو شخصين ، ولا يتحدث عن نص محدد ، إنما يعطي الأوصاف كاملة .
" شرح زاد المستقنع " ( رقم الدرس 332 ) .
وكل مسلم حي القلب يخشى أن يكون من هؤلاء الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان ، وتزداد هذه الخشية إذا اتصف ببعض صفاتهم ، فينبغي أن تحذر أشد الحذر أن تكون من أولئك الأقوام ، أو قريباً من صفاتهم ، فانج بنفسك من مستنقعات الرذيلة ، وطهِّر بدنك نفسك بالتوبة ، واحذر أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) النساء/108 .
قال ابن رجب رحمه الله :
قال بعض العارفين : اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك .
"جامع العلوم والحَِكم" ( ص 162 ) .
فالنصيحة لك :
1. أن تقطع سبل التعرض للفتن ، بتعجيل الانتهاء من تلك البلاد .
2. الزواج ، فهو الحصن الحصين لك إن شاء الله - , وخصوصاً في مثل تلك البلاد التي يكثر فيها الفتن .
3. الالتجاء إلى الله تعالى , والتضرع إليه ، بأن يصرف عنك تلك الذنوب ، قال تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة/ 186 .
4. مجاهدة النفس ، ودفع وسوستها ، وشرورها ، والعناية بتزكيتها بطاعة الله ، قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس/ 8 – 11 ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69 ، فاحرص على قراءة القرآن ومداومة الذكر ، وقيام الليل ، وصيام النوافل ... إلخ ، فبها يزداد الإيمان وينير الطريق لك .
ومما يعينك على ذلك : أن تكثر من صحبة الصالحين , وأن لا تتعرض للفتن ؛ وذلك بالابتعاد عن أماكنها .
5. وعليك أن تستمر في إعطاء الدروس ، واحذر من الشيطان أن يزيد عليك المعاصي بتركها ، أو يوهمك أن تركها هو علاج ما أنت فيه من حال .
وقد حذر السلف من مثل ذلك .
قال الحسن البصري رحمه الله لمطرف بن عبد الله : " عِظ أصحابك " ، فقال : " إني أخاف أن أقول ما لا أفعل " ! قال : " يرحمك الله ، وأيُّنا يفعل ما يقول ! ودَّ الشيطان أنه قد ظفر بهذا ، فلم يأمر أحدٌ بمعروف ، ولم ينه عن منكر " .
وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخه : سمعت سعيد بن جبير يقول : " لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء : ما أمر أحدٌ بمعروف ، ولا نهى عن منكر " .
قال مالك : " وصدق ، مَن ذا الذي ليس فيه شيء " ! .
وقد أحسن القائل :
لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمـد
فكُن أول المستفيدين من دروسك ، وكن أول المستجيبين لوعظك ، واستعن بالله تعالى ربك أن يعينك على نفسك ، وأن يخلصك من شرورها .
ونسأل الله تعالى أن يوفقك لكل خير ، ويعينك على طاعته ونيل رضاه ، ويثبتك على الإسلام والسنَّة ، وأن يصرف عنك الفتن ما ظهر منها وما بطن .
والله أعلم