عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ ( أَبي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ) رَضيَ اللهُ عنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَة يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" .
رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رضي الله عنهما في صحيحيهما، اللذين هما أصح الكتب المصنفة.
الشرح:
هذا الحديث الأول؛ حديث عمر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا الحديث حديث عظيم، حتى قال طائفة من السلف، ومن علماء الملة: (ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كل كتاب من كتب العلم)؛ ولهذا بدأ به البخاري -رحمه الله- صحيحه، فجعله أول حديث.
وهذا الحديث أصل من أصول الدين، وقد قال الإمام أحمد: ثلاثة أحاديث يدور عليها الإسلام:
حديث عمر رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات).
وحديث عائشة رضي الله عنها: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين).
وهذا الكلام من إمام أهل السنة متين للغاية؛ وذلك: أنّ عمل المكلف دائر على امتثال الأمر، واجتناب النهي، وامتثال الأمر، واجتناب النهي هذا هو الحلال والحرام، وهناك بين الحلال والحرام مشبَّهات، وهو القسم الثالث، وهذه الثلاث هي التي وردت في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: "إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات"، وفي رواية: "مشبّهات".
ومن أراد فعل الأمر واجتناب النهي لا بد أن يكون عمله بنية حتى يكون صالحًا، فرجع تصحيح ذلك العمل -وهو الإتيان بما فرض الله، أو الانتهاء عما حرم الله- إلى وجود النية التي تجعل هذا العمل صالحًا مقبولًا، ثم إن ما فرض الله -جل جلاله- من الواجبات، أو شرع من المستحبات، لا بد فيه من ميزان ظاهر حتى يصلح العمل، وهذا يحكمه حديث: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" كما في رواية مسلم للحديث.
فإذًا هذا الحديث -حديث "إنما الأعمال بالنيات"- يُحتاج إليه في كل شيء؛ يحتاج إليه في امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وترك المشتبهات، وبهذا يعظم وقع هذا الحديث؛ لأن المرء المكلف في أي حالة يكون عليها ما بين أمر يأتيه: إما أمر إيجاب، أو استحباب، وما بين نهي ينتهي عنه: نهي تحريم، أو نهي كراهة، أو يكون الأمر مشتبهًا فيتركه، وكل ذلك لا يكون صالحًا إلا بإرادة وجه الله جل جلاله به، وهي النية.
قوله –صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات" روي أيضًا في الصحيح: (العمل بالنية)، وروي: (إنما الأعمال بالنية)، فالألفاظ مختلفة والمعنى واحد، فإذا أُفرد العمل أو النية أريد بها الجنس، فتتفق رواية الإفراد مع رواية الجمع.
وقوله: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" هذا فيه حصر؛ لأن لفظ "إنما" من ألفاظ الحصر عند علماء المعاني، وهذا يقتضي أن تكون الأعمال محصورة في النيات، فما المقصود بقوله: "إنما الأعمال بالنيات"؟ للعلماء في ذلك أقوال:
القول الأول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، يعني: إنما الأعمال وقوعها مقبولة، أو صحيحة بالنية، وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، يعني: وإنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه. فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل، والجملة الثانية يراد بها الثواب على العمل، ففي قوله: "بالنيات" الباء هنا للسببية، يعني: إنما الأعمال تقبل، أو تقع صحيحة بسبب النية، فيكون تأصيلًا لقاعدة عامة، وفي قوله: "لكل امرئ" اللام هذه لام الملكية، يعني مثل التي جاءت في قوله تعالى: ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ) (النجم: 39 )
القول الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" هذا راجع إلى أن الباء سببية أيضًا، والمقصود بها سبب العمل لا سبب قبوله، قالوا: لأننا لا نحتاج مع هذا إلى تقدير، فقوله: "إنما الأعمال بالنيات" يعني: إنما الأعمال بسبب النيات، فما من عمل يعمله أحد إلا وله إرادة وقصد فيه، وهي النية، فمنشأ الأعمال -سواء كانت صالحة أو فاسدة، طاعة أو غير طاعة- هو إرادة القلب لهذا العمل، وإذا أراد القلب عملًا، وكانت القدرة على إنفاذه تامة، فإن العمل يقع، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم على هذا: "إنما الأعمال بالنيات" يعني إنما الأعمال صدورها وحصولها بسبب نية من أصدرها، أي: بسبب إرادة قلبه وقصده لهذا العمل. وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" هذا فيه أن ما يحصل للمرء من عمله ما نواه نية صحيحة، يعني: إذا كانت النية صالحة صار ذلك العمل صالحًا، فصار له ذلك العمل.
والقول الأول أصح؛ وذلك لأن تقرير مبعث الأعمال، وأنها راجعة لعمل القلب، هذا ليس هو المراد بالحديث، كما هو ظاهر من سياقه، وإنما المراد اشتراط النية للعمل، وأن النية هي المصححة للعمل، وهذا فيه وضوح؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" بيان لما تطلبه الشريعة، لا لما هو موجود في الواقع.
فلهذا نقول: الراجح من التفسيرين أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" يعني: إنما الأعمال صحة وقبولًا أو فسادًا بسبب النيات، وإنما لامرئ من عمله ثوابًا وأجرًا لما نواه.
إذا تقرر هذا، فما هي الأعمال؟
الأعمال جمع عمل، والمقصود به هنا ما يصدر عن المكلف، ويدخل فيه الأقوال، فليس المقصود بالعمل قسيم القول والاعتقاد، وإنما الأعمال هنا كل ما يصدر عن المكلف من أقوال وأعمال: قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فيدخل في قوله: "إنما الأعمال بالنيات" كل ما يتعلق بالإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل: قول اللسان، وقول القلب، وعمل القلب وعمل الجوارح، فقوله: "إنما الأعمال بالنيات" يدخل فيه جميع أنواع ما يصدر من المكلف، وهذا عموم يراد به الخصوص؛ لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة أقسام:
عام باق على عمومه.
وعام دخله التخصيص.
وعام يراد به الخصوص، يعني: أن يكون اللفظ عامًا، ويراد به بعض الأفراد.
وفي قوله: "إنما الأعمال بالنيات" الأعمال هنا لا يدخل فيها الأعمال التي لا تشترط لها النية مثل: أنواع التروك، وإرجاع المظالم، وتطهير النجاسة، وأشباه ذلك.
والنية التي عليها مدار هذا الحديث هي: قصد القلب وإرادته، فهي إذا متعلقة بالقلب، فليس محلها اللسان ولا الجوارح، وإنما محلها القلب، نوى يعني: قصد بقلبه وأراد بقلبه هذا الشيء، فالأعمال مشروطة بإرادة القلب وقصده، فأي إرادة وقصد هذه؟
الجواب: تأتي النية في النصوص ويقصد بها:
أولا: الإرادة: إرادة وجه الله –جل جلاله- بذلك؛ كما في قوله: ( يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ) (الروم: 38 ) وقوله: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) (الكهف: 28)، وقوله: ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) (الشورى: 20)، وقوله: ( وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ) (الإسراء: 19)، يريد يعني: ينوي، ويطلب، ويقصد، هذه هي النية.
ثانيًا: الابتغاء: كما في قوله جل جلاله: ( إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى ) (الليل: 20) وقوله: ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) (النساء: 114)
ثالثًا: الإسلام: إسلام القلب والوجه لله جل جلاله، كما في قوله سبحانه وتعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) (النساء: 125)، وقوله: ( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ ) (آل عمران: 20)
والنية في الشريعة بعامة يراد بها أحد معنيين:
الأول: نية متجهة للعبادة، وهي التي يستعملها الفقهاء في الأحكام حين يشترطون في العبادات النية، ويقصدون بذلك النية المتوجهة للعبادة، وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض: تمييز الصلاة عن الصيام، تمييز الصلاة المفروضة عن النفل، يعني: أن يميز القلب فيما يأتي ما بين عبادة وعبادة، أتى المسجد وأراد أن يركع ركعتين، ميز قلبه هاتين الركعتين، هل هي ركعتا تحية المسجد، أو راتبة، أو استخارة؟ إلى آخره.
الثاني: نية متجهة للمعبود، وهذه هي التي يتحدث عنها باسم الإخلاص: إخلاص القصد، إخلاص النية، إخلاص العمل لله -جل جلاله- وهي التي تستعمل كثيرًا بلفظ النية والإخلاص والقصد.
إذًا هذا الحديث شمل نوعي النية: النية التي توجهت للمعبود، والنية التي توجهت للعبادة.
فقوله: "إنما الأعمال بالنيات" يعني: إنما العبادات تقع صحيحة، أو مقبولة بسبب النية، يعني: النية التي تميز العبادة بعضها عن بعض، والنية التي هي إخلاص العبادة للمعبود، وهو الله -جل جلاله.
فلهذا لا يصلح أن نحصر النية في معنى الإخلاص، لأن كلام الفقهاء في النيات لم يدخل فيه الإخلاص، وتحقيق المقام هو: انقسام النية إلى هذين النوعين السالف ذكرهما.
قال صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" هذا حصر أيضًا، وإنما لكل امرئ من عمله ثوابًا وأجرًا لما نواه بعمله، فإن كان نوى بعمله الله والدار الآخرة- يعني: أخلص لله وأراد وجه الله جل جلاله فعمله صالح، وإن كان عمله للدنيا فعمله فاسد؛ لأنه للدنيا.
وقد جاء في آيات كثيرة إخلاص الدين لله –عز وجل، كما في قوله جل جلاله: ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (البينة: 5) يعني: الدين يقع على نية الإخلاص، وكما في قوله: ( أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) (الزمر: 3)، وجاء في أحاديث كثيرة بيان إخلاص العمل لله -جل جلاله- كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه مسلم في الصحيح: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"، وفي لفظ آخر: "فأنا منه بريء وهو للذي أشرك".
وهذا يدل على أن العمل لا بد أن يكون خالصًا لله جل جلاله حتى يكون مقبولًا، ويؤجر عليه العبد، فمن عمل عملاً، ودخل في ذلك العمل نية غير الله جل جلاله بذلك العمل، فإنه عمل باطل، لقوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: "من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"، وقوله: "وهو للذي أشرك"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". ويحتمل أن يكون المراد بذلك العملِ: العملَ الذي يكون في أصل العبادة، أو في أثناء العبادة، أو غيَّر نيته بعد العبادة، ويحتمل أيضاً أن تكون العبادة في بعضها لله، وفي بعضها لغير الله، ولتحقيق هذا المقام قال العلماء: إن العمل إذا خالطته نية فاسدة - يعني: رياء أو سمعة – فإنه يبطل، ويكون ذلك على قسمين:
القسم الأول: أن ينشئ العبادة للخلق، يعني: دخل في الصلاة – مثلاً- لا لإرادة الصلاة؛ ولكن يريد أن يراه فلان، فهذه الصلاة باطلة، وهو مشرك، كما جاء في الحديث: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك"، يعني: حين أنشأ الصلاة الواحدة أنشأها يرائي، وإلا فإن إنشاء المسلم عباداته جميعًا على الرياء هذا غير متصور، وإنما يقع الرياء ربما في بعض عبادات المسلم: إما في أولها، أو في أثنائها.
وأما الرياء التام في جميع الأعمال فإن هذا لا يتصور من مسلم، وإنما يكون من الكفار والمنافقين، كما قال جل جلاله في وصفهم: ( يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (النساء: 142)، وقوله في وصف الكفار: ( رِئَاءَ النَّاسِ ) (البقرة: 264)، فإذا ابتدأ العبد الصلاة، أو الصيام، أو الصدقة، أو غير ذلك من العبادات بنية أراد بها غير الله، فهذه العبادة تكون باطلة، لأنه نوى بالعمل غير وجه الله عز وجل.
القسم الثاني: أن يحدث تغيير النية في أثناء العبادة، وهذا له أحوال:
الأولى: أن يُبطل نيته الأصلية، ويجعل العبادة لهذا المخلوق، فهذا حكمه كالأول من أن العبادة فسدت؛ لأنه أبطل نيتها، وجعلها للمخلوق، كأن ينوي في أثناء الصلاة أن الصلاة هذه لفلان، فتبطل الصلاة.
الثانية: أن يزيد في الصلاة لأجل رؤية أحد الناس، يعني: يراه أحد طلبة العلم، أو والده، أو كبير القوم، أو إمام المسجد، فبدل أن يسبح ثلاث تسبيحات أطال في الركوع، والركوع عبادة لله جل جلاله فأطال على خلاف عادته لأجل رؤية هذا الرائي، فهذا العمل الزائد الذي نوى به المخلوق يبطل؛ لأن نيته فيه لغير الله، و(إنما الأعمال بالنيات) لكن أصل العمل صالح؛ لأن هذه النية ما عرضت لأصل العمل، وإنما عرضت لزيادة في بعضه، ويكون فيما زاد فيه لأجل الخلق مشركًا الشرك الأصغر، وهو الرياء والعياذ بالله.
الثالثة: أن يعرض له حب الثناء، وحب الذكر بعد تمام العبادة، كما لو عمِل العبادة لله: صلى لله، أو حفظ القرآن لله، أو صام النوافل لله جل جلاله مخلصًا، وبعد ذلك رأى من يُثني عليه، فسرّه ذلك، ورغب في المزيد في داخله، فهذا لا يَخْرم أصل العمل؛ لأنه نواه لله، ولم يكن في أثنائه فيكون شركًا، إنما وقع بعد تمامه، فهذا كما جاء في الحديث أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن"، فهو لم يقصد في العمل الذي عمله أن يثني عليه الناس.
إذا تقرر هذا فالأعمال التي يتعلق بها نية مع نيتها لله جل جلاله على قسمين أيضا:
الأول: أعمال يجب ألا يريد بها، وألا يعرض لقلبه فيها ثواب الدنيا أصلا، وهذه أكثر العبادات، وأكثر الأعمال الشرعية.
الثاني: عبادات حض عليها الشارع بذكر ثوابها في الدنيا، مثل: صلة الرحم حض عليها الشارع بذكر ثواب الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه"، فحض على صلة الرحم بذكر ثواب الدنيا، وهو: النسء في الأثر، والبسط في الرزق، أو كقوله في الجهاد: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه"، يعني: ما عليه من السلاح، وما معه من المال، وما شابه ذلك، فيكون سلبه لهذا القاتل، وهذا حض على القتال بذكر ثواب دنيوي، فمن أراد الثواب الدنيوي هنا -في هذا القسم- مستحضرا ما حض الشارع من العمل - يعني: من هذه العبادة- وذكر فيه الثواب الدنيوي فإنه جائز له ذلك؛ لأن الشارع ما حض بذكر الدنيا إلا إذن منه بأن يكون ذلك مطلوبا.
فمن وصل الرحم يريد وجه الله -جل جلاله- ويريد أيضًا أن يثاب في الدنيا بكثرة الأرزاق، وبالنسء في الأثر -يعني: طول العمر- فهذا له ذلك، لأجل أن الشارع حض على ذلك.
ومن جاهد في سبيل الله ونيته خالصة لله -جل جلاله- لتكون كلمة الله هي العليا؛ ولكن يريد أيضًا مغنمًا، وهو شيء ذكره الشارع في ذلك، فهذا قصده ليس من الشرك في النية؛ لأن الشارع هو الذي ذكر الثواب الدنيوي في ذلك.
فإذًا تنقسم الأعمال إلى:
عبادات ذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها.
وعبادات لم يذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها.
وهذا كما جاء في قول الله جل جلاله: ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ) (هود: 15)
فتقرر أنه لا يكون مشركًا بذلك، فهل من نوى الدنيا بصلة الرحم –مثلاً- مع نيته لله مساوٍ لمن لم ينو الدنيا إنما جعلها خالصة لله؟
الجواب: لا يستويان، بل يختلف الأجر؛ لكن من أراد الثواب الدنيوي لا يكون مرائيًا، ولا مشركًا بذلك، ومن كانت نيته خالصة لله -جل جلاله- فأجره أعظم، لهذا لما سُئل عدد من الأئمة من السلف، والإمام أحمد، وجماعة، عن الرجل يجاهد للمغنم ونيته خالصة لله؟ قال: "أجره على قدر نيته"، فلم يبطل السلف العمل أصلاً، وإنما جعلوا التفاوت بقدر النيات، فالأعمال التي ذكر الشارع عليها ثواب الدنيا، كلما عظمت فيها نية العبد الخالصة عظم أجره عليها، وكلما نوى الدنيا مع صحة أصل نيته قل أجره، يعني: عن غيره.
وتفاصيل الكلام في النية، ودخول النية في أبواب كثيرة من العبادات، هذا يطول الكلام عليه جدًا، وقد صنفت مصنفات في هذا، وشروح كتب الأحاديث أطالت في شرح هذا الحديث، وإنما نذكر في شرحنا لهذه (الأربعين النووية) قواعد وتأصيلات متعلقة بشرح الحديث، كما هي العادة في مثل هذه الشروح المختصرة لهذه الكتب المهمة.
قال: "فمن كانت هجرته" الفاء هذه تفصيلية، تفصيل لمثال من الأعمال التي تكون لله وتكون لغير الله، فذكر مثالاً لهذه الأعمال وقال: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).
الهجرة معناها: الترك، هجر يعني ترك، وأصلها أن تكون إلى الله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وسلم:
* هجرة إلى الله -جل جلاله- بالإخلاص، وابتغاء ما عنده.
* وهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه والرغبة فيما جاء به.
ومن آثار ذلك، الهجرة الخاصة التي هي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، كهجرة الصحابة من مكة إلى الحبشة، وكهجرة الصحابة أيضاً من مكة إلى المدينة، وقد تكون هجرة من دار كفر قد ظهرت بعد زمن النبوة إلى دار يعلو فيها الإسلام، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"، فالمقصود منه لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح، لأنه بعد الفتح أصبحت مكة دار إسلام، فمن كان فيها بعد الفتح، فإنه يمكث فيها ولا يلزمه الهجرة إلى المدينة، ولا تزال مكة دار إسلام إلى أن يرث الله جل جلاله الأرض ومن عليها، حرسها الله وبلاد المسلمين.
وهذه الهجرة لها أحكام وشروط، وتفصيلها في مواضعه من كتب العلماء في العقيدة أو في التوحيد والفقه، ولا نطيل في بيانها في هذا الموطن، لكن ننبه إلى أن الهجرة هذه من دار الكفر إلى دار الإسلام هي واجبة بشروطها، وقد يكون ثم هجرة واجبة أخرى أيضًا، وهي من دار بدعة إلى دار سنة، أو من دار لا يستطيع فيها إظهار الدين إلى دار يستطيع فيها إظهار الدين، وهذه تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، ولها تفاصيل.
كذلك إذا كان لا يستطيع البقاء في دار بدعة أو تظهر فيها البدع، لأجل ما ينوب نفسه من الحزن أو من الضيق على ظهور البدع، ولكنه يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلي أمر السنة، لكن يريد بلادًا يأمن فيها أكثر ولا يعرض فيها دينه للفتن، فيكون حكم الهجرة في هذا الحال مستحبة، لأنه يستطيع أن يظهر دينه والبلد أو الدار ليست دار كفر، وإنما هي دار فيها السنة وفيها البدع.
قال صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته" يعني: من كان تركه لبلد الشرك إلى بلد الإسلام "إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله"، هذا فيه تكرير للجملة، والمتقرر في علوم العربية أن الجمل إذا تكررت في ترتب الفعل والجزاء، فإن شرط الفعل يختلف عن شرط الجزاء، فلهذا نقول: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" نية وقصدًا، "فهجرته إلى الله ورسوله" ثوابًا وأجرًا، فما تعلق بالفعل النية والقصد، وما تعلق بالجواب الأجر والثواب.
وهذا فيه نوع من أنواع البلاغة، وهو أن عمله جليل عظيم بحيث يُستغنى لبيان جلالته وعظمته عن ذكره؛ لأنه من الوضوح والبيان بحيث لا يُحتاج إلى ذكره، فقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله" هذا تعظيم ورفع لهذا العمل، وهو أن تكون الهجرة إلى الله ورسوله، يعني: نية، وقصدًا، وتعظيمًا للثواب والأجر بقوله: "فهجرته إلى الله ورسوله"، يعني: حدث عن ثوابه وعظم ذلك.
ثم بين الصنف الثاني فقال: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها"، قوله: "لدنيا يصيبها" هذا حال التاجر الذي هاجر لكي يكسب مالًا، "أو امرأة يتزوجها" أو هاجر ليكسب امرأة يتزوجها، فالعمل الظاهر يشارك فيه من هاجر إلى الله ورسوله، لكن نيته أنه في هجرته يريد التجارة، أو يريد أن يتزوج امرأة، فهي نية فاسدة، قال: "هجرته إلى ما هاجر إليه"، يعني: من حيث إنه لا ثواب له فيها ولا أجر، وقد يكون عليه فيها وزر.