لم يكن على المسلم -وخاصة العالم- إلا أن تكون حياته مورقة مثمرة، وعليه فلا يجب أن يُضيِّع عمره في فراغ، كما لا يجب أن يكون عمله عبثًا، بل لابد أن يكون كل عمله، وكل وقته وجهده فيما ينفعه وينفع الآخرين في الدنيا والآخرة.
ومن ثم فإنك لا تكاد تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر العلم أو حث عليه، إلا وأضاف إليه صفة "النفع"، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ (أي: ثلاثة أشياء، وفي الترمذي: ثلاث): إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" [1].
وروى زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا" [2].
وعليه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض على العلم النافع ويحث عليه فيقول: "سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا" [3].
أنواع العلوم
ومن هنا قسم العلماءُ العلومَ إلى ثلاثة أنواع:
1- علم نافع: ينفع الإنسان ويفيد البشرية في دينهم ودنياهم.
2- علم ضار: يضر الإنسان في دينه، أو دنياه.
3- علم لا هو بالنافع ولا هو بالضار: فهو يُعدُّ ضارًا؛ لأنه أضاع الأعمار وبدَّد الأوقات.
العلم النافع
وقد فقه الصحابة رضي الله عنهم هذا الأمر جيدًا، وكانوا حريصين تمام الحرص على قضية العلم النافع، وكيف يُطلب ويُحصَّل.
ففي قصة الدجال -على سبيل المثال- ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة صفاته وعلاماته، وعدَّدها، وكانت كل صفة من صفاته غريبة في حد ذاتها، تسترعي انتباه المتطلعين وتستثيرهم للسؤال عنها، ومعرفتها على وجه الحقيقة واليقين.
إلا أن كل ذلك لم يدفعهم إلى السؤال عن تفاصيل أكثر، ولكن عندما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة مكوثه في الأرض وهي: "أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ..".
قال الصحابة: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَلِكَ اليومُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لاَ، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ" [4] !!
إنها وفقط قضية العلم النافع، يريدون أن يتعلموا ما يعينهم على العمل، ولا يكترثون بالبحث عن قضايا لا ينبني عليها عمل، بل كل اهتمامهم مما ينفع دنياهم وآخرتهم.
لقد زرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحابته هذا النهج القويم في البحث عن النافع من العلوم، لذلك حين جاءه أعرابي ليسأله: "مَتَى السَّاعَةُ؟" قال له مباشرة: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" [5].
فهو بذلك نقله من طور النظريات، وما لا ينبني عليه كثير عمل، إلى طور العمل، والعمل النافع الذي ينفعه في الآخرة.
هذا هو العلم النافع الذي يؤتي ثمارًا وفيرة في الدنيا والآخرة.
أبناء موسى بن شاكر
ومثل هذا الكلام يقال أيضًا على العلوم الحياتية، فقد أدرك بنو موسى بن شاكر حقيقة هذا العلم النافع جيدًا، وهم أول وأشهر فريق علمي جماعي في التاريخ، ذاع صيتهم في علوم الرياضيات والفلك والعلوم التطبيقية والتقنية، وكانوا من علماء القرن الثالث الهجري، لقد أدرك هذا الفريق العظيم قيمة أن يكون العلم نافعًا، فاستفادوا من علمهم وأفادوا منه المسلمين، بل والبشرية جمعاء.
ففي كتابهم "الحيل" استحدثوا آلات لخدمة الزراعة والفلاحة، مثل المعالف الخاصة لحيوانات ذات أحجام معينة، تتمكن أن تصيب مأكلها ومشربها، فلا تنازعها غيرها الطعام والشراب، وعمل خزانات للحمامات، وآلات لتعيين كثافة السوائل، وآلات تثبت في الحقول لكيلا تضيع كميات الماء هدرًا، ويمكن بواسطتها السيطرة على عملية ري المزروعات.
وكان من جملة أعمالهم أيضًا عمل سراج إذا وضع في الريح العاصف لا ينطفئ، وعمل سراج يخرج الفتيلة لنفسه ويصب الزيت لنفسه، وكل من يراه يظن أن النار لا تأكل من الزيت ولا من الفتيلة شيئًا البتَّة، وأيضًا عمل نافورة يفور منها الماء مدة من الزمان كهيئة الترس، ومدة متماثلة كهيئة القناة، وكذلك لا تزال دهرها تتبدل !!
وكتابهم السابق يحتوي على مائة تركيب ميكانيكي، مع شروح تفصيلية ورسوم توضيحية لطرائق التركيب والتشغيل، وكان استخدامهم للصمامات التي تعمل تلقائيًّا، وللأنظمة التي تعمل بعد زمن معين، وغير ذلك مما من شأنه يحصل فيه التحكم الآلي، من أهم الإنجازات في تاريخ العلم والتقنية بشكل عام.
وقد كان لكل هذه الأفكار الإبداعية -كما يقول أحمد فؤاد باشا- أثرٌ كبير في دفع مسيرة تقنية "الحيل النافعة" أو الهندسة الميكانيكية قدمًا؛ حيث تميزت تصاميمها بالخيال الخصب والتوصيف الدقيق والمنهجية التجريبية الرائدة [6].
ولعل الإنسان يُدرك قيمة بحوث أبناء موسى بن شاكر عندما يرى القواعد النظرية الكثيرة التي ألفها الإغريق لكنهم لم يسقطوها على الواقع، وبالتالي لم يستفيدوا منها، ولم تستفد كذلك البشرية.
العلم الذي لا ينبني عليه عمل
أما العلم الذي لا ينبني عليه عمل، فلا منفعة منه، ولا طائل من ورائه، وما هو إلا مضيعة للوقت، ومثال ذلك من يبحث في طول سفينة نوح عليه السلام، أو في نوع الشجرة التي أكل منها آدم عليه السلام، أو المدة التي قضاها قابيل حاملاً هابيل حتى يدفنه .. وغيرها كثير !!
ولو كان العلم بهذه الأشياء فيه منفعة أو فائدة من قريب أو من بعيد، لذكرها لنا الله تعالى، أو قصها علينا رسوله صلى الله عليه وسلم.
العلم الضار
وأما العلم الضار، فقد عدّد ابن رجب طائفة منه، فقال: أصعب ذلك ما أُحدث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره؛ فكذب بذلك من كذب، وزعم أنه نزّه الله بذلك عن الظلم !
وأصعب منه ما أُحدث بعد ترجمة فلسفة اليونان، وذلك من الكلام أيضًا في ذات الله وصفاته، مما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون.
وقد تجلت مظاهر هذا العلم في كتابات بعض الصوفية، الذين كتبوا كتابات لا تُفهم بحال، ولا تدفع أبدًا إلى خيرٍ أو صلاح !!
ومن أمثلة هذا قول بعضهم عن الألف والباء في البسملة: "الألف في التحقيق لسان حل "النقطة" في فوت كنهها، والباء لسان حل تفصيلها، وقلم خطها في تشكيلها، ومبدأ بسطها في تنزيلها" !!
وأنا على يقين أن كاتب هذا الكلام لا يفقه معناه فضلاً عن قارئه !!
وقد قال الذهبي رحمه الله في سياق ذكر التصوّف الفلسفيِّ والقول بوحدةِ الوُجود: "والله لأن يعيشَ المسلمُ جاهلاً خلفَ البقر، لا يعرف من العلم شيئًا سِوى سُورةٍ من القرآن يصلِّي بها الصلواتِ، ويؤمن بالله واليوم الآخر، خيرٌ له بكثيرٍ من هذا العِرْفان وهذه الحقائقِ! ولو قرأ مائة كتابٍ أو عَمِلَ مائةَ خَلْوَة! " [7].
ومن أمثلة ذلك العلم الضار أيضًا علوم الفن والرقص وما يلحق بهما .. والعجيب في ذلك أن تجد حكومات مسلمة تخصص مدارس للرقص بأنواعه، وتنفق عليها من أموال المسلمين، بل وترعى الفرق الراقصة، وتنسبها إلى القومية، وتعطي الجوائز القيمة لمن أبدع في أغنية أو لحن، واصفة إياه بأنه من رهبان الفن وعلماء الموسيقى!!
ومثلهم من ظل يتعلم ويبذل جهده ووقته وعمره كي يضيف وترًا إلى العود!!
ومن أمثلة هذا العلم الضار كذلك علوم التنجيم، وعلوم السحر ..
وبالجملة فالعلم الضار هو العلم الذي يضر بالإنسان والبشرية، سواء كان هذا الضرر دنيويًّا أو أخرويًّا، فإذا كان لا ينبغي للمسلم أن يصرف أوقاته في علم لا يترتب عليه نفع له أو للمسلمين في الدين أو الدنيا، فما البال وما الخطب بمن يصرف أوقاته فيما يضر بالمسلمين !!
[1] مسلم: كتاب الوصية، ياي ما يلحق الإنسان بعد وفاته (1631)، وأبو داود (2880)، وأحمد (8831)، وأبو يعلي (6457).
[2] مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل (2722)، والنسائي (5470)، وابن ماجه (250)، وأحمد (13699)، وابن حبان 83).
[3] ابن ماجه: كتاب الدعاء، باب ما تعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم(3843)، وأبو يعلي (1927)، وابن أبي شيبة (26712)، وعبد بن حميد (1093)، وقال الألباني: حسن (3635) صحيح الجامع.
[4] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته (2937)، وأبو داود (4321)، وابن ماجه (4075)، وأحمد (17666)، وكل عن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه.
[5] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب (3485)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639)، وأحمد (12715).
[6] أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص30، 31.
[7] الذهبي: لسان الميزان 5/312.
ومن ثم فإنك لا تكاد تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر العلم أو حث عليه، إلا وأضاف إليه صفة "النفع"، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ (أي: ثلاثة أشياء، وفي الترمذي: ثلاث): إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" [1].
وروى زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا" [2].
وعليه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض على العلم النافع ويحث عليه فيقول: "سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا" [3].
أنواع العلوم
ومن هنا قسم العلماءُ العلومَ إلى ثلاثة أنواع:
1- علم نافع: ينفع الإنسان ويفيد البشرية في دينهم ودنياهم.
2- علم ضار: يضر الإنسان في دينه، أو دنياه.
3- علم لا هو بالنافع ولا هو بالضار: فهو يُعدُّ ضارًا؛ لأنه أضاع الأعمار وبدَّد الأوقات.
العلم النافع
وقد فقه الصحابة رضي الله عنهم هذا الأمر جيدًا، وكانوا حريصين تمام الحرص على قضية العلم النافع، وكيف يُطلب ويُحصَّل.
ففي قصة الدجال -على سبيل المثال- ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة صفاته وعلاماته، وعدَّدها، وكانت كل صفة من صفاته غريبة في حد ذاتها، تسترعي انتباه المتطلعين وتستثيرهم للسؤال عنها، ومعرفتها على وجه الحقيقة واليقين.
إلا أن كل ذلك لم يدفعهم إلى السؤال عن تفاصيل أكثر، ولكن عندما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة مكوثه في الأرض وهي: "أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ..".
قال الصحابة: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَلِكَ اليومُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لاَ، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ" [4] !!
إنها وفقط قضية العلم النافع، يريدون أن يتعلموا ما يعينهم على العمل، ولا يكترثون بالبحث عن قضايا لا ينبني عليها عمل، بل كل اهتمامهم مما ينفع دنياهم وآخرتهم.
لقد زرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحابته هذا النهج القويم في البحث عن النافع من العلوم، لذلك حين جاءه أعرابي ليسأله: "مَتَى السَّاعَةُ؟" قال له مباشرة: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" [5].
فهو بذلك نقله من طور النظريات، وما لا ينبني عليه كثير عمل، إلى طور العمل، والعمل النافع الذي ينفعه في الآخرة.
هذا هو العلم النافع الذي يؤتي ثمارًا وفيرة في الدنيا والآخرة.
أبناء موسى بن شاكر
ومثل هذا الكلام يقال أيضًا على العلوم الحياتية، فقد أدرك بنو موسى بن شاكر حقيقة هذا العلم النافع جيدًا، وهم أول وأشهر فريق علمي جماعي في التاريخ، ذاع صيتهم في علوم الرياضيات والفلك والعلوم التطبيقية والتقنية، وكانوا من علماء القرن الثالث الهجري، لقد أدرك هذا الفريق العظيم قيمة أن يكون العلم نافعًا، فاستفادوا من علمهم وأفادوا منه المسلمين، بل والبشرية جمعاء.
ففي كتابهم "الحيل" استحدثوا آلات لخدمة الزراعة والفلاحة، مثل المعالف الخاصة لحيوانات ذات أحجام معينة، تتمكن أن تصيب مأكلها ومشربها، فلا تنازعها غيرها الطعام والشراب، وعمل خزانات للحمامات، وآلات لتعيين كثافة السوائل، وآلات تثبت في الحقول لكيلا تضيع كميات الماء هدرًا، ويمكن بواسطتها السيطرة على عملية ري المزروعات.
وكان من جملة أعمالهم أيضًا عمل سراج إذا وضع في الريح العاصف لا ينطفئ، وعمل سراج يخرج الفتيلة لنفسه ويصب الزيت لنفسه، وكل من يراه يظن أن النار لا تأكل من الزيت ولا من الفتيلة شيئًا البتَّة، وأيضًا عمل نافورة يفور منها الماء مدة من الزمان كهيئة الترس، ومدة متماثلة كهيئة القناة، وكذلك لا تزال دهرها تتبدل !!
وكتابهم السابق يحتوي على مائة تركيب ميكانيكي، مع شروح تفصيلية ورسوم توضيحية لطرائق التركيب والتشغيل، وكان استخدامهم للصمامات التي تعمل تلقائيًّا، وللأنظمة التي تعمل بعد زمن معين، وغير ذلك مما من شأنه يحصل فيه التحكم الآلي، من أهم الإنجازات في تاريخ العلم والتقنية بشكل عام.
وقد كان لكل هذه الأفكار الإبداعية -كما يقول أحمد فؤاد باشا- أثرٌ كبير في دفع مسيرة تقنية "الحيل النافعة" أو الهندسة الميكانيكية قدمًا؛ حيث تميزت تصاميمها بالخيال الخصب والتوصيف الدقيق والمنهجية التجريبية الرائدة [6].
ولعل الإنسان يُدرك قيمة بحوث أبناء موسى بن شاكر عندما يرى القواعد النظرية الكثيرة التي ألفها الإغريق لكنهم لم يسقطوها على الواقع، وبالتالي لم يستفيدوا منها، ولم تستفد كذلك البشرية.
العلم الذي لا ينبني عليه عمل
أما العلم الذي لا ينبني عليه عمل، فلا منفعة منه، ولا طائل من ورائه، وما هو إلا مضيعة للوقت، ومثال ذلك من يبحث في طول سفينة نوح عليه السلام، أو في نوع الشجرة التي أكل منها آدم عليه السلام، أو المدة التي قضاها قابيل حاملاً هابيل حتى يدفنه .. وغيرها كثير !!
ولو كان العلم بهذه الأشياء فيه منفعة أو فائدة من قريب أو من بعيد، لذكرها لنا الله تعالى، أو قصها علينا رسوله صلى الله عليه وسلم.
العلم الضار
وأما العلم الضار، فقد عدّد ابن رجب طائفة منه، فقال: أصعب ذلك ما أُحدث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره؛ فكذب بذلك من كذب، وزعم أنه نزّه الله بذلك عن الظلم !
وأصعب منه ما أُحدث بعد ترجمة فلسفة اليونان، وذلك من الكلام أيضًا في ذات الله وصفاته، مما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون.
وقد تجلت مظاهر هذا العلم في كتابات بعض الصوفية، الذين كتبوا كتابات لا تُفهم بحال، ولا تدفع أبدًا إلى خيرٍ أو صلاح !!
ومن أمثلة هذا قول بعضهم عن الألف والباء في البسملة: "الألف في التحقيق لسان حل "النقطة" في فوت كنهها، والباء لسان حل تفصيلها، وقلم خطها في تشكيلها، ومبدأ بسطها في تنزيلها" !!
وأنا على يقين أن كاتب هذا الكلام لا يفقه معناه فضلاً عن قارئه !!
وقد قال الذهبي رحمه الله في سياق ذكر التصوّف الفلسفيِّ والقول بوحدةِ الوُجود: "والله لأن يعيشَ المسلمُ جاهلاً خلفَ البقر، لا يعرف من العلم شيئًا سِوى سُورةٍ من القرآن يصلِّي بها الصلواتِ، ويؤمن بالله واليوم الآخر، خيرٌ له بكثيرٍ من هذا العِرْفان وهذه الحقائقِ! ولو قرأ مائة كتابٍ أو عَمِلَ مائةَ خَلْوَة! " [7].
ومن أمثلة ذلك العلم الضار أيضًا علوم الفن والرقص وما يلحق بهما .. والعجيب في ذلك أن تجد حكومات مسلمة تخصص مدارس للرقص بأنواعه، وتنفق عليها من أموال المسلمين، بل وترعى الفرق الراقصة، وتنسبها إلى القومية، وتعطي الجوائز القيمة لمن أبدع في أغنية أو لحن، واصفة إياه بأنه من رهبان الفن وعلماء الموسيقى!!
ومثلهم من ظل يتعلم ويبذل جهده ووقته وعمره كي يضيف وترًا إلى العود!!
ومن أمثلة هذا العلم الضار كذلك علوم التنجيم، وعلوم السحر ..
وبالجملة فالعلم الضار هو العلم الذي يضر بالإنسان والبشرية، سواء كان هذا الضرر دنيويًّا أو أخرويًّا، فإذا كان لا ينبغي للمسلم أن يصرف أوقاته في علم لا يترتب عليه نفع له أو للمسلمين في الدين أو الدنيا، فما البال وما الخطب بمن يصرف أوقاته فيما يضر بالمسلمين !!
[1] مسلم: كتاب الوصية، ياي ما يلحق الإنسان بعد وفاته (1631)، وأبو داود (2880)، وأحمد (8831)، وأبو يعلي (6457).
[2] مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل (2722)، والنسائي (5470)، وابن ماجه (250)، وأحمد (13699)، وابن حبان 83).
[3] ابن ماجه: كتاب الدعاء، باب ما تعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم(3843)، وأبو يعلي (1927)، وابن أبي شيبة (26712)، وعبد بن حميد (1093)، وقال الألباني: حسن (3635) صحيح الجامع.
[4] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته (2937)، وأبو داود (4321)، وابن ماجه (4075)، وأحمد (17666)، وكل عن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه.
[5] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب (3485)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639)، وأحمد (12715).
[6] أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص30، 31.
[7] الذهبي: لسان الميزان 5/312.