منتديات احلى حكاية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات احلى حكاية دخول

موقع خاص بالتصاميم وتحويل الاستايلات واكواد حصريه لخدمه مواقع احلى منتدى


تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
2 مشترك

description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Empty تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :



سورة الفاتحة



تعليمُ العبادِ كيفيةَ الحمد

طلب حقيقة العون والاستعانة والهداية من الله تعالى

خاتمــــــة في بَيَان الأسرَار القُدْسِيّة في فاتِحَة الكِتاب العَزيز



أعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجيم



تَفْسِيرُ الاسْتِعَاذَة: المعنى: أستجير بجناب الله وأعتصم به من شر الشيطان العاتي المتمرد، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أُمرت به، وأحتمي بالخالق السميع العليم من همزه ولمزه ووساوسه، فإِن الشيطان لا يكفه عن الإِنسان إِلا الله رب العالمين .. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إِذا قام من الليل، استفتح صلاته بالتكبير ثم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) [أخرجه أصحاب السنن: أبو داود والترمذي، والنسائي وابن ماجه].



بســــمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ



تَفْسِيرُ البَسْمَلَة: المعنى: أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، مستعيناً به جلَّ وعلا في جميع أموري، طالباً منه وحده العون، فإِنه الرب المعبود ذو الفضل والجود، واسع الرحمة كثير التفضل والإِحسان، الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمَّ فضله جميع الأنام.



تـــنبيـــه:

{بسـمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ} افتتح الله بهذه الآية سورة الفاتحة وكل سورة من سور القرآن - ما عدا سورة التوبة - ليرشد المسلمين إلى أن يبدءوا أعمالهم وأقوالهم باسم الله الرحمن الرحيم، التماساً لمعونته وتوفيقه، ومخالفةً للوثنيّين الذين يبدءون أعمالهم بأسماء آلهتهم أو طواغيتهم فيقولوا: باسم اللات، أو باسم العزى، أو باسم الشعب، أو باسم هُبَل.

قال الطبري: "إِن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدَّب نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وجعل ذلك لجميع خلقه سنّةً يستنّون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها فقول القائل: بسم الله الرحمن الرحيم إِذا افتتح تالياً سورة ينبئ عن أن مراده: أقرأ باسم الله، وكذلك سائر الأفعال".



بَين يَدَي السُّورَة



هذه السورة الكريمة مكية وآياتها سبعٌ بالإِجماع، وتسمى "الفاتحة" لافتتاح الكتاب العزيز بها حيث إِنها أول القرآن في الترتيب لا في النزول، وهي - على قصرها ووجازتها - قد حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإِجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة، والعبادة، والتشريع، والاعتقاد باليوم الآخر، والإِيمان بصفات الله الحسنى، وإِفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء، والتوجه إِليه جلَّ وعلا بطلب الهداية إِلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إِليه بالتثبيت على الإِيمان ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين، وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقين، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه، إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراض وأهداف، فهي كالأم بالنسبة لبقية السور الكريمة ولهذا تسمّى "أم الكتاب" لأنها جمعت مقاصده الأساسية.



فضـــلهَــا: أ- روى الإِمام أحمد في المسند أن "أبيَّ بن كعب" قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم أم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما أُنزل في التوراة ولا في الإِنجيل ولا في الزَّبور ولا في الفرقان مثلها، هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه) فهذا الحديث الشريف يشير إلى قوله تعالى في سورة الحجر {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87].

ب- وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلَّى: (لأعلمنَّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين، هي السبعُ المثاني والقُرآن العظيم الذي أُوتيتُه).



التسِمَيــــة: تسمى "الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد" وقد ذكر العلامة القرطبي عددها لهذه السورة اثني عشر اسماً.



تعليمُ العبادِ كيفيةَ الحمد



{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4)}



علمنا الباري جلّ وعلا كيف ينبغي أن نحمده ونقدسه ونثني عليه بما هو أهله فقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي قولوا يا عبادي إِذا أردتم شكري وثنائي الحمد لله، اشكروني على إِحساني وجميلي إِليكم، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإِيجاد، رب الإِنس والجن والملائكة، ورب السماوات والأرضين، فالثناء والشكر لله رب العالمين دون ما يُعبد من دونه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمَّ فضله جميع الأنام، بما أنعم على عباده من الخَلْق والرَّزْق والهداية إِلى سعادة الدارين، فهو الرب الجليل عظيم الرحمة دائم الإِحسان {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي هو سبحانه المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين تصرّف المالك في ملكه {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار: 19].



طلب حقيقة العون والاستعانة والهداية من الله تعالى



إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ(7)}.



{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نخصُّك يا الله بالعبادة، ونخصك بطلب الإِعانة، فلا نعبد أحداً سواك، لك وحدك نذلُّ ونخضع ونستكين ونخشع، وإِيَّاك ربنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإِنك المستحق لكل إِجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحدٌ سواك .

{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي دلنا وأرشدنا يا رب إِلى طريقك الحق ودينك المستقيم، وثبتنا على الإِسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به خاتم المرسلين، واجعلنا ممن سلك طريق المقربين {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي طريق من تفضّلت عليهم بالجود والإِنعام، من النبييّن والصدّيقين والشهداء والصالحين، وَحَسُنَ أولئك رفيقاً {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} أي لا تجعلنا يا الله من زمرة أعدائك الحائدين عن الصراط المستقيم، السالكين غير المنهج القويم، من اليهود المغضوب عليهم أو النصارى الضالين، الذين ضلوا عن شريعتك القدسية، فاستحقوا الغضب واللعنة الأبدية، اللهم آمين.



خاتمــــــة :في بَيَان الأسرَار القُدْسِيّة في فاتِحَة الكِتاب العَزيز



لا شك أن من تدبَّر الفاتحة الكريمة رأى من غزارة المعاني وجمالها، وروعة التناسب وجلاله ما يأخذ بلبه، ويضيء جوانب قلبه، فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله، الموصوف بالرحمة التي تظهر آثارها رحمته متجددة في كل شيء، فإِذا استشعر هذا المعنى ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإِله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذكّره الحمد بعظيم نعمه وكريم فضله، وجميل آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له، ثمّ تذكر من جديد أن هذه النعم الجزيلة والتربية الجليلة، ليست عن رغبةٍ ولا رهبة، ولكنها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية بـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ومن كمال هذا الإِله العظيم أن يقرن الرحمن بـ "العدل" ويذكّر بالحساب بعد الفضل فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدين عباده ويحاسب خلقه يوم الدين {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.

فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالعدالة والحساب {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وإِذا كان الأمر كذلك فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير،والبحث عن وسائل النجاة، وهو في هذا أشد ما يكون حاجة إِلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إِلى الصراط المستقيم، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه فليلجأ إِليه وليعتمد عليه وليخاطبه بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وليسأله الهداية من فضله إِلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء، والنكوص بعد الاهتداء، وغير الضالين التائهين، الذين يضلون عن الحق أو يريدون الوصول إِليه فلا يوفقون للعثور عليه، آمين. ولا جرم أن "آمين" براعة مقطع في غاية الجمال والحسن، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب، والتوجه إِلى الله بالدعاء؟ فهل رأيت تناسقاً أدق، أو ارتباطاً أوثق، مما تراه بين معاني هذه الآية الكريمة؟

وتَذَكَّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي : (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ..) الحديث وأدم هذا التدبير والإِنعام، واجتهد أن تقرأ في الصلاة وغيرها على مكث وتمهّل، وخشوع وتذلَل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات، من غير تكلف ولا تطريب، واشتغال بالألفاظ عن المعاني، فإِن ذلك يعين على الفهم، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلب شيء أفضلُ من تلاوة في تدبرٍ وخشوعٍ".

description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
الرد على معتقدات اليهود والنصارى



{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(19)}



ثم ذكر تعالى إِفراط النصارى في حق عيسى حيث اعتقدوا ألوهيته فقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} أي جعلوه إِلهاً وهم فرقةٌ من النصارى زعموا أن الله حلَّ في عيسى ولهذا نجد في كتبهم "وجاء الرب يسوع" وأمثاله، ويسوع عندهم هو عيسى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي قل لهم يا محمد لقد كذبتم فمن الذي يستطيع أن يدفع عذاب الله لو أراد أن يهلك المسيح وأمه وأهل الأرض جميعاً؟ فعيسى عبد مقهور قابلٌ للفناء كسائر المخلوقات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية ولو كان إِلهاً لقدر على تخليص نفسه من الموت {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي من الخلق والعجائب {يخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي هو قادر على أن يخلق ما يريد ولذلك خلق عيسى من غير أب {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء.

ثم حكى عن اليهود والنصارى افتراءهم فقال {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} أي نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء ونحن أحباؤه لأننا على دينه، قال ابن كثير: أي نحن منتسبون إِلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}؟ أي لو كنتم كما تدَّعون أبناءه وأحباؤه فلم أعدَّ لكم نار جهنم على كفركم وافترائكم؟ {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي أنتم بشر كسائر الناس وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أي يغفر لمن شاء من عباده ويعذب من شاء لا اعتراض لحكمه ولا رادَّ لأمره {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه وإِليه المرجع والمآب.

ثم دعاهم إِلى الإِيمان بخاتم المرسلين فقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي يا معشر اليهود والنصارى لقد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم يوضّح لكم شرائع الدين على انقطاع من الرسلِ ودروسٍ من الدين، وكانت الفترة بين عيسى ومحمد ومدتها خمسمائة وستون سنة لم يُبعث فيها رسول {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} أي لئلا تحتجوا وتقولوا: ما جاءنا من رسولٍ يبشر بالخير وينذر من الشر {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} هو محمد صلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال ابن جرير: أي قادرٌ على عقاب من عصاه وثواب من أطاعه.



تذكير موسى لقومه بنعم الله عليهم، وأمره لهم بدخول بيت المقدس



{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَءاتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ(20)يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(21)قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ(22)قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(23)قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(24)قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(25)قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(26)}



ثم ذكر تعالى ما عليه اليهود من العناد والجحود فقال {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكر يا محمد حين قال موسى لبني إِسرائيل يا قوم تذكّروا نعمة الله العظمى عليكم واشكروه عليها {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} أي حين بعث فيكم الأنبياء يرشدونكم إِلى معالم الدين وجعلكم تعيشون كالملوك لا يغلبكم غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين فأنقذكم منه بإِغراقه، قال البيضاوي: لم يُبعث في أمةٍ ما بعث في بني إِسرائيل من الأنبياء {وَءاتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ} أي من أنواع الإِنعام والإِكرام من فلق البحر وتظليل الغمام وإِنزال المنّ والسلوى ونحوها .

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال البيضاوي: هي أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ومعنى {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي التي وعدكموها على لسان أبيكم إسرائيل وقضى أن تكون لكم {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} أي ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من الجبابرة، قال في التسهيل: روي أنه لما أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها وهمّوا أن يرجعوا إِلى مصر {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} أي عظام الأجسام طوال القامة لا قدرة لنا على قتالهم وهم العمالقة من بقايا عاد {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} أي لن ندخلها حتى يسلّموها لنا من غير قتال { فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} أي لا يمكننا الدخول ما داموا فيها فإِن خرجوا منها دخلناها.

{قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} أي فلما جبنوا حرضهم رجلان من النقباء ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وفيهما الصلاح واليقين {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} أي قالا لهم لا يهولنكم عِظَم أجسامهم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فإِذا دخلتم عليهم باب المدينة غلبتموهم بإِذن الله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اعتمدوا على الله فإِنه ناصركم إِن كنتم حقاً مؤمنين .

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} وهذا إِفراط في العصيان ومع سوء الأدب بعبارةٍ تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الصحابة الأبرار الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لسنا نقول لك كما قالت بنو إِسرائيل ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا معكما مقاتلون؟! {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي قال موسى حينذاك معتذراً إِلى الله متبرءاً من مقالة السفهاء: يا ربّ لا أملك قومي، لا أملك إِلا نفسي وأخي هارون فافصل بيننا وبين الخارجين عن طاعتك بحكمك العادل .

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التّيه أربعين سنة والمعنى: قال الله لموسى إِن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها مدة أربعين سنة يتيهون في الأرض ولا يهتدون إِلى الخروج منها {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي لا تحزن عليهم فإِنهم فاسقون مستحقون للعقاب، قال في التسهيل: روي أنهم كانوا يسيرون الليل كله فإِذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
بيان الأطعمة المحرمة وإكمال الدين وبيان حال وأحكام الضرورة



{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(3)}



{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} أي حُرّم عليكم أيها المؤمنون أكل الميتة وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة والدم المسفوح ولحم الخنزير، قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها والفصيد وهو الدم في الأمعاء يشوونه ويقولون لم يحرم من فُزد - أي فصد - له وإِنما ذكر لحم الخنزير ليبيّن أنه حرام بعينه حتى ولو ذبح بالطريق الشرعي {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} أي ما ذكر عليه غير اسم الله أو ذبح لغير الله كقولهم باسم اللات والعزّى.

{وَالْمُنْخَنِقَةُ} هي التي تُخنق بحبلٍ وشبهه {وَالْمَوْقُوذَةُ} هي المضروبة بعصا أو حجر {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} هي التي تسقط من جبل ونحوه {وَالنَّطِيحَةُ} هي التي نطحتها بهيمة أُخرى فماتت بالنطح {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي أكل بعضَه السبع فمات {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي إِلا ما أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه الذبح الشرعي قبل الموت قال الطبري: معناه إِلاّ ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهوراً {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أي وما ذُبح على الأحجار المنصوبة، قال قتادة: النُّصبُ حجارةٌ كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك، قال الزمخشري: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إِليها فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع.

{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} أي وحُرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أي طلب معرفة ما قُسم له من الخير والشر بواسطة ضرب القداح قال في الكشاف: كان أحدهم إِذا أراد سفراً أو غزواً أو تجاره أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح وهي مكتوبة على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها أمرني ربي، وبعضُها غُفْلٌ فإِن خرج الآمر مضى لغرضه وإِن خرج الناهي أمسك وإِن خرج الغفل أعاد {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} أي تعاطيه فسقٌ وخروجٌ عن طاعة الله لأنه دخولٌ في علم الغيب الذي استأثر الله به علاّم الغيوب .

{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} أي انقطع طمع الكافرين منكم ويئسوا أن ترجعوا عن دينكم، قال ابن عباس: يئسوا أن ترجعوا إِلى دينهم أبداً {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} أي لا تخافوا المشركين ولا تهابوهم وخافون أنصركم عليهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي أكملت لكم الشريعة ببيان الحلال والحرام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بالهداية والتوفيق إِلى أقوم طريق {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} أي اخترت لكم الإِسلام ديناً من بين الأديان وهو الدين المرضي الذي لا يقبل الله ديناً سواه {ومن يبتغ غير الإِسلام ديناً فلن يُقبل منه} {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فمن ألجأته الضرورة إِلى تناول شيء من المحرمات المذكورة، في مجاعة حال كونه غير مائل إِلى الإِثم ولا متعمد لذلك، فإِن الله لا يؤاخده بأكله، لأن الضرورات تُبيح المحظورات.



المطعومات الحلال والزواج بالكتابيات



{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(4)الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(5)}



{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} أي يسألونك يا محمد ما الذي أُحل لهم من المطاعم والمآكل؟ {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} أي قل لهم أُبيح لكم المستلذات وما ليس منها بخبيث، وحُرّم كل مستقذر كالخنافس والفئران وأشباهها .

{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} أي وأُحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب ونحوها مما يُصطاد به {مُكَلِّبِينَ} أي مُعلمين للكلاب الاصطياد، قال الزمخشري: المكلِّب مؤدبُ الجوارح ورائضها واشتقاقه من الكَلَب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي تعلمونهنَّ طرق الاصطياد وكيفية تحصيل الصيد، إِذا لم تأكل منه، فإِن أكلت فلا يحل أكله لحديث (إِذا أرسلتَ كلبَك المُعلَّم فقتل فكلْ، وإِذا أكل فلا تأكل فإِنما أمسكه على نفسه) وعلامة المعلَّم أن يسترسل إِذا أُرسل، وينزجر إِذا زُجر، وأن يُمسك الصيد فلا يأكل منه، ويشترط أن يذكر اسم الله عند إِرساله فهذه أربع شروط لصحة الأكل من صيد الكلب المعلَّم {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي عند إِرساله {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي راقبوا الله في أعمالكم فإِنه سريع المجازاة للعباد .

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} أي أبيح لكم المستلذات من الذبائح وغيرها {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} أي ذبائح اليهود والنصارى حلالٌ لكم {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي ذبائحكم حلالٌ لهم فلا حرج أن تُطعموهم وتبيعوه لهم {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} أي وأُبيح لكم أيها المؤمنون زواج الحرائر العفيفات من المؤمنات {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي وزواج الحرائر من الكتابيات (يهوديات أو نصرانيات) وهذا رأي الجمهور، وقال عطاء: قد أكثر الله المسلمات وإِنما رخص لهم يومئذٍ {إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي إِذا دفعتم لهن مهورهن {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي حال كونكم أعفاء بالنكاح غير مجاهرين بالزنى {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} أي وغير متخذين عشيقات وصديقات تزنون بهن سراً، قال الطبري: المعنى ولا منفرداً ببغية قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقةً يفجر بها .

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي ومن يرتد عن الدين ويكفر بشرائع الإِيمان فقد بطل عمله وهو من الهالكين.



فرضية الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)}



ثم أمر تعالى بإِسباغ الوضوء عند الصلاة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة وأنتم محدثون {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي اغسلوا الوجوه والأيدي مع المرافق {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أي امسحوا رؤوسكم واغسلوا أرجلكم إِلى الكعبين أي معهما قال الزمخشري: وفائدة المجيء بالغاية {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} لدفع ظن من يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تُضرب له غاية في الشريعة وفي الحديث (ويلٌ للأعقاب من النار) وهذا الحديث يردُّ على الإِمامية الذين يقولون بأن الرجلين فرضهما المسحُ لا الغسل، والآية صريحة لأنها جاءت بالنصب {وَأَرْجُلَكُم} فهي معطوفة على المغسول وجيء بالمسح بين المغسولات لإِفادته الترتيب.

{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي إِن كنتم في حالة جنابة فتطهروا بغسل جميع البدن {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي إِن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أي أتى من مكان قضاء الحاجة {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} أي جامعتموهنَّ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي ولم تجدوا الماء بعد طلبه فاقصدوا التراب الطاهر للتيمم به.

{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب بضربتين كما وضحّت السنة النبوية {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي ما يُريد بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم تضييقاً عليكم {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي يطهركم من الذنوب وأدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، وليتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإِسلام ولتشكروه على نعمه التي لا تحصى .

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الخطاب للمؤمنين والنعمةُ هنا الإِسلام وما صاروا إِليه من اجتماع الكلمة والعزة أي اذكروا يا أيها المؤمنون نعمة الله العظمى عليكم بالإِسلام وعهده الذي عاهدكم عليه رسوله حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي اتقوا الله فإِنه عالم بخفايا نفوسكم فيجازيكم عليها.



الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعذاب



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(9)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(10)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ} أي كونوا مبالغين في الاستقامة بشهادتكم لله وصيغة قوّام للمبالغة {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي تشهدون بالعدل {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا } أي لا يحملنكم شدة بغضكم للأعداء على ترك العدل فيهم والاعتداء عليهم { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي العدل مع من تبغضونهم أقرب لتقواكم لله {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها، قال الزمخشري: وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إِذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله وكان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟!

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وعد الله المؤمنين المطيعين {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي لهم في الآخرة مغفرة للذنوب وثواب عظيم وهو الجنة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لما ذكر مآل المؤمنين المتقين وعاقبتهم ذكر مآل الكافرين المجرمين وأنهم في دركات الجحيم دائمون في العذاب، قال أبو حيان: وقد جاءت الجملة فعلية بالنسبة للمؤمنين متضمنة الوعد بالماضي الذي هو الدليل على الوقوع، وفي الكافرين جاءت الجملة إِسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم وأنهم أصحاب النار فهم دائمون في عذاب الجحيم.



أراد بنو النضير أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى وأن يغدروا به وبأصحابه فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ..} الآية.



التذكير بنعمة الله ونقض اليهود والنصارى للميثاق



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(11)وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَءاتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَءامَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(12)فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(13)وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(14)}



سبب النزول:



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا فضل الله عليكم بحفظه إِياكم من أعدائكم {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي يبطشوا بكم بالقتل والإِهلاك {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} أي عصمكم من شرهم وردَّ أذاهم عنكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي فليثقْ المؤمنون بالله بإِنه كافيهم وناصرهم.

ثم ذكر تعالى أحوال اليهود وما تنطوي عليه نفوسهم من الخيانة ونقض الميثاق فقال {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي عهدهم المؤكد باليمين {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} أي وأمرنا موسى بأن يأخذ اثني عشر نقيباً - والنقيبُ كبير القوم القائم بأمورهم - من كل سبطٍ نقيبٌ يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بالعهد توثقةً عليهم، قال الزمخشري: لما استقر بنو إِسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالسير إِلى "أريحاء" بأرض الشام كان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم: إِني كتبتها لكم داراً وقراراً فجاهدوا من فيها فإِني ناصركم، وأمر موسى بأن يأخذ من كل سِبْطٍ نقيباً فاختار النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعثهم يتجسّسون الأخبار فرأوا قوماً أجسامهم عظيمة ولهم قوةٌ وشوكة فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم وكان موسى قد نهاهم أن يتحدثوا بما يرون فنكثوا الميثاق وتحدثوا إِلا اثنين منهم .

{وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أي ناصركم ومعينكم {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَاةَ} اللام للقسم أي وأقسم لكم يا بني إِسرائيل لئن أديتم ما فرضتُ عليكم من إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة {وَءامَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي وصدقتم برسلي ونصرتموهم ومنعتموهم من الأعداء {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي بالإِنفاق في سبيل الخير ابتغاء مرضاة الله {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي لأمحونَّ عنكم ذنوبكم، وهذا جواب القسم، قال البيضاوي: وقد سدَّ مسدَّ جواب الشرط {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت غرفها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي من كفر بعد ذلك الميثاق، فقد أخطأ الطريق السويّ وضلّ ضلالاً لا شبهة فيه {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} أي بسبب نقضهم الميثاق طردناهم من رحمتنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي جافة جافية لا تلين لقبول الإِيمان {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قال ابن كثير: تأولوا كتابه - التوراة - على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا على الله ما لم يقلْ، ولا جُرْم أعظمُ من الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي تركوا نصيباً وافياً مما أُمروا به في التوراة .

{وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ} أي لا تزال يا محمد تظهر على خيانةٍ منهم من نقض العهود وتدبير المكايد، فالغدرُ والخيانة عادتُهم وعادةُ أسلافهم إِلا قليلاً منهم ممن أسلم {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي لا تعاقبوا واصفح عمن أساء منهم، وهذا منسوخ بآية السيف والجزية كما قال الجمهور {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أي ومن الذين ادّعو أنهم أنصار الله وسمّوا أنفسهم بذلك أخذنا منهم أيضاً الميثاق على توحيد الله والإِيمان بمحمد رسول الله {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي فتركوا ما أُمروا به في الإِنجيل من الإِيمان بالأنبياء ونقضوا الميثاق .

{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ألزمنا وألصقنا بين فِرَق النصارى العداوة والبغضاء إِلى قيام الساعة، قال ابن كثير: ولا يزالون متباغضين متعادين، يكفِّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكل فرقةٍ تمنع الأخرى دخول معبدها .. وهكذا نجد الأمم الغربية - وهم أبناء دين واحد - يتفنّن بعضهم في إِهلاك بعض، فمن مخترعٍ للقنبلة الذرية إِلى مخترع للقنبلة الهيدروجينية وهي مواد مدّمرة لا يمكن أن يتصور العقل ما تحدثه من تلفٍ بالغ وهلاك شامل {إِنما يريد الله أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} ثم قال تعالى {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} تهديد لهم أي سيلقون جزاء عملهم القبيح.



كشف الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يخفيه أهل الكتاب، وهداية القرآن للحق





{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15)يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(16)}



{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الخطاب لليهود والنصارى أي يا معشر أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الحق يبيّن لكم الكثير مما كنتم تكتمونه في كتابكم من الإِيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة وغير ذلك مما كنتم تخفونه {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي يتركه ولا يُبيّنه وإِنما يبيّن لكم ما فيه حجة على نبوته وشهادة على صدقه، ولو ذكر كل شيء لفضحكم، قال في التسهيل: وفي الآية دليل على صحة نبوتهلأنه بيّن ما أخفوه في كتبهم وهو أميٌّ لم يقرأ كتبهم.

{قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} أي جاءكم نور هو القرآن لأنه مزيل لظلمات الشرك والشك وهو كتاب مبين ظاهر الإِعجاز {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} أي يهدي بالقرآن من اتبع رضا الله طرق النجاة والسلام ومناهج الاستقامة {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} أي يخرجهم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان بتوفيقه وإِرادته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو دين الإِسلام.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
قصة قابيل وهابيل، وأول جريمة قتل في الدنيا



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30)فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31)مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32)}



المناسبة:

لمّا ذكر تعالى تمرد بني إِسرائيل وعصيانهم لأمر الله في قتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان "قابيل" أمر الله وإِقدامه على قتل النفس البريئة التي حرمها الله، فاليهود اقتفوا في العصيان أوَّل عاصٍ لله في الأرض، فطبيعةُ الشر فيهم مستقاةٌ من ولد آدم الأول، فاشتبهت القصتان من حيث التمرد والعصيان، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق والسُرَّاق الخارجين على أمن الدولة والمفسدين في الأرض.



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ} أي اقرأ يا محمد على هؤلاء الحسدة من اليهود وأشباههم خبر "قابيل وهابيل" ابنيْ آدم ملتبسةً بالحق والصِّدق وذكّرهم بهذه القصة فهي قصة حق {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} أي حين قرَّب كلٌ منهما قرباناً فتُقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل، قال المفسرون: سبب هذا القربان أن حوّاء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى وكان يزوّج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر فلما أراد آدم أن يزوّج قابيلَ أخت هابيل ويزوّج هابيل أخت قابيل رضي هابيل وأبى قابيل لأن توأمته كانت أجمل فقال لهما آدم: قرّبا قرباناً فمن أيكما تُقبل تزوجها، وكان قابيل صاحب زرع فقرّب أرذل زرعه وكان هابيل صاحب غنم فقرّب أحسن كبشٍ عنده فقبل قربانُ هابيل بأن نزلت نارٌ فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعّده بالقتل {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} أي قال قابيل لأخيه هابيل لأقتلنك قال: لمَ؟ قال لأنه تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني قال: وما ذنبي؟ {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} أي إِنما يتقبل ممن اتقى ربه وأخلص نيته، قال البيضاوي: توعّده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه فأجابه بأنك أُتيت من قِبَل نفسك بترك التقوى لا من قِبَلي وفيه إِشارة إِلى أن الطاعة لا تُقبل إِلا من مؤمن متّقٍ لله .

{لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} أي لئن مددتَ إِليَّ يدك ظلماً لأجل قتلي ما كنتُ لأقابلك بالمثل، قال ابن عباس: المعنى ما أنا بمنتصر لنفسي {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي لا أمدُّ يدي إِليك لأني أخاف ربَّ العالمين، قال الزمخشري: قيل: كان هابيل أقوى من القاتل ولكنه تحرّج عن قتل أخيه خوفاً من الله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي إِن قتلتني فذاك أحبُّ إِليَّ من أن أقتلك، قال أبو حيان: المعنى إِن سبق بذلك قَدَرٌ فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي لا ظالماً، وقال ابن عباس: المعنى لا أبدؤك بالقتل لترجع بإِثم قتلي إِن قتلتني، وإِثمك الذي كان منك قبل قتلي فتصير من أهل النار {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} أي عقاب من تعدّى وعصى أمر الله.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي زيّنت له نفسه وسهّلت له قتل أخيه فقتله فخسر وشقي، قال ابن عباس: خوّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} أي أرسل الله غراباً يحفر بمنقاره ورجله الأرض ليُري القاتل كيف يستر جسد أخيه، قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر له فدفنه، وكان ابن آدم هذا أول من قُتِل، وروي أنه لما قتله تركه بالعراء ولم يدر كيف يدفنه حتى رأى الغراب يدفن صاحبه فلما رآه قال {قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} أي قال قابيل متحسراً يا ويلي ويا هلاكي أضعفتُ أن أكون مثل هذا الطير فاستر جسد أخي في التراب كما فعل هذا الغراب؟ {فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ} أي صار نادماً على عدم الاهتداء إِلى دفن أخيه لا على قتله، قال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً له .

{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} أي من أجل حادثة "قابيل وهابيل" وبسبب قتله لأخيه ظلماً فرضنا وحكمنا على بني إِسرائيل أن من قتل منهم نفساً ظلماً بغير أن يقتل نفساً فيستحق القصاص وبغير فسادٍ يوجب إِهدار الدم كالردّة وقطع الطريق { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} أي فكأنه قتل جميع الناس، قال البيضاوي: من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسنَّ القتل وجرأ الناس عليه، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإِحيائها في القلوب ترهيباً على التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي ومن تسبَّب لبقاء حياتها واستنقذها من الهَلَكة فكأنه أحيا جميع الناس قال ابن عباس في تفسير الآية: من قتل نفساً واحدةً حرّمها الله فهو مثلُ من قتل الناس جميعاً ومن امتنع عن قتل نفسٍ حرمها الله وصان حرمتها خوفاً من الله فهو كمن أحيا الناس جميعاً .

{وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بعدما كتبنا على بني إِسرائيل هذا التشديد العظيم وجاءتهم رسلنا بالمعجزات الساطعات والآيات الواضحات {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} أي ثم إِنهم بعد تلك الزواجر كلها يسرفون في القتل ولا يبالون بعظمته، قال ابن كثير: هذا تقريعٌ لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، وقال الرازي: إِن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم عزموا على الفتك به وبأصحابه كان تخصيص بني إِسرائيل بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود.

سبب النزول:

عن أنسٍ أن رهطاً من عُرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة استوخموها (لم يناسبهم مناخها فمرضوا) - فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى إِبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النَّعَم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسُمِرت أعينهم وألقوا في الحرة حتى ماتوا فنزلت {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ..} الآية.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
قصة قابيل وهابيل، وأول جريمة قتل في الدنيا



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30)فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31)مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32)}



المناسبة:

لمّا ذكر تعالى تمرد بني إِسرائيل وعصيانهم لأمر الله في قتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان "قابيل" أمر الله وإِقدامه على قتل النفس البريئة التي حرمها الله، فاليهود اقتفوا في العصيان أوَّل عاصٍ لله في الأرض، فطبيعةُ الشر فيهم مستقاةٌ من ولد آدم الأول، فاشتبهت القصتان من حيث التمرد والعصيان، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق والسُرَّاق الخارجين على أمن الدولة والمفسدين في الأرض.



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ} أي اقرأ يا محمد على هؤلاء الحسدة من اليهود وأشباههم خبر "قابيل وهابيل" ابنيْ آدم ملتبسةً بالحق والصِّدق وذكّرهم بهذه القصة فهي قصة حق {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} أي حين قرَّب كلٌ منهما قرباناً فتُقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل، قال المفسرون: سبب هذا القربان أن حوّاء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى وكان يزوّج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر فلما أراد آدم أن يزوّج قابيلَ أخت هابيل ويزوّج هابيل أخت قابيل رضي هابيل وأبى قابيل لأن توأمته كانت أجمل فقال لهما آدم: قرّبا قرباناً فمن أيكما تُقبل تزوجها، وكان قابيل صاحب زرع فقرّب أرذل زرعه وكان هابيل صاحب غنم فقرّب أحسن كبشٍ عنده فقبل قربانُ هابيل بأن نزلت نارٌ فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعّده بالقتل {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} أي قال قابيل لأخيه هابيل لأقتلنك قال: لمَ؟ قال لأنه تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني قال: وما ذنبي؟ {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} أي إِنما يتقبل ممن اتقى ربه وأخلص نيته، قال البيضاوي: توعّده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه فأجابه بأنك أُتيت من قِبَل نفسك بترك التقوى لا من قِبَلي وفيه إِشارة إِلى أن الطاعة لا تُقبل إِلا من مؤمن متّقٍ لله .

{لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} أي لئن مددتَ إِليَّ يدك ظلماً لأجل قتلي ما كنتُ لأقابلك بالمثل، قال ابن عباس: المعنى ما أنا بمنتصر لنفسي {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي لا أمدُّ يدي إِليك لأني أخاف ربَّ العالمين، قال الزمخشري: قيل: كان هابيل أقوى من القاتل ولكنه تحرّج عن قتل أخيه خوفاً من الله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي إِن قتلتني فذاك أحبُّ إِليَّ من أن أقتلك، قال أبو حيان: المعنى إِن سبق بذلك قَدَرٌ فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي لا ظالماً، وقال ابن عباس: المعنى لا أبدؤك بالقتل لترجع بإِثم قتلي إِن قتلتني، وإِثمك الذي كان منك قبل قتلي فتصير من أهل النار {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} أي عقاب من تعدّى وعصى أمر الله.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي زيّنت له نفسه وسهّلت له قتل أخيه فقتله فخسر وشقي، قال ابن عباس: خوّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} أي أرسل الله غراباً يحفر بمنقاره ورجله الأرض ليُري القاتل كيف يستر جسد أخيه، قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر له فدفنه، وكان ابن آدم هذا أول من قُتِل، وروي أنه لما قتله تركه بالعراء ولم يدر كيف يدفنه حتى رأى الغراب يدفن صاحبه فلما رآه قال {قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} أي قال قابيل متحسراً يا ويلي ويا هلاكي أضعفتُ أن أكون مثل هذا الطير فاستر جسد أخي في التراب كما فعل هذا الغراب؟ {فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ} أي صار نادماً على عدم الاهتداء إِلى دفن أخيه لا على قتله، قال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً له .

{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} أي من أجل حادثة "قابيل وهابيل" وبسبب قتله لأخيه ظلماً فرضنا وحكمنا على بني إِسرائيل أن من قتل منهم نفساً ظلماً بغير أن يقتل نفساً فيستحق القصاص وبغير فسادٍ يوجب إِهدار الدم كالردّة وقطع الطريق { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} أي فكأنه قتل جميع الناس، قال البيضاوي: من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسنَّ القتل وجرأ الناس عليه، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإِحيائها في القلوب ترهيباً على التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي ومن تسبَّب لبقاء حياتها واستنقذها من الهَلَكة فكأنه أحيا جميع الناس قال ابن عباس في تفسير الآية: من قتل نفساً واحدةً حرّمها الله فهو مثلُ من قتل الناس جميعاً ومن امتنع عن قتل نفسٍ حرمها الله وصان حرمتها خوفاً من الله فهو كمن أحيا الناس جميعاً .

{وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بعدما كتبنا على بني إِسرائيل هذا التشديد العظيم وجاءتهم رسلنا بالمعجزات الساطعات والآيات الواضحات {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} أي ثم إِنهم بعد تلك الزواجر كلها يسرفون في القتل ولا يبالون بعظمته، قال ابن كثير: هذا تقريعٌ لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، وقال الرازي: إِن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم عزموا على الفتك به وبأصحابه كان تخصيص بني إِسرائيل بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود.

سبب النزول:

عن أنسٍ أن رهطاً من عُرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة استوخموها (لم يناسبهم مناخها فمرضوا) - فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى إِبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النَّعَم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسُمِرت أعينهم وألقوا في الحرة حتى ماتوا فنزلت {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ..} الآية.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
عقوبة قُطَّاع الطُّرق

{إِنَّما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33)إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(34)}



ثم ذكر تعالى عقوبة قُطَّاع الطريق فقال {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يحاربون شريعة الله ودينه وأولياءه ويحاربون رسوله {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أي يفسدون في الأرض بالمعاصي وسفك الدماء {أَنْ يُقَتَّلُوا} أي يُقتلوا جزاء بغيهم {أَوْ يُصَلَّبُوا} أي يُقتلوا ويُصلبوا زجراً لغيرهم، والصيغةُ للتكثير {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} أي يُطردوا ويُبعدوا من بلدٍ إِلى آخر {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا} أي ذلك الجزاء المذكور ذلٌ لهم وفضيحة في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو عذاب النار، قال بعض العلماء: الإِمام بالخيار إِن شاء قتل، وإِن شاء صلب، وإِن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإِن شاء نفى وهو مذهب مالك. وقال ابن عباس: لكلّ رتبةٍ من الحِرَابة رتبةٌ من العقاب فمن قَتَل قُتل، ومن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف فقط نُفي من الأرض، وهذا قول الجمهور .

{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} أي لكن الذين تابوا من المحاربين وقُطّاع الطريق قبل القدرة على أخذهم وعقوبتهم {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب يقبل توبته ويغفر زلّته.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
أَمَرَ الله المؤمنين بالتقوى والجهاد وبيَّن حال الكافرين في الآخرة



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(36)يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(37)}



ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى والعمل الصالح فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي خافوا عقابه واطلبوا ما يقربكم إِليه من طاعته وعبادته، قال قتادة: تقربوا إِليه بطاعته والعمل بما يرضيه {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي جاهدوا لإِعلاء دينه لتفوز بنعيم الأبد.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي لو كان لكل كافر جميع ما في الأرض من خيرات وأموال ومثله معه {لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وأراد أن يفتدي بها نفسه من عذاب الله ما نفعه ذلك وله عذاب مؤلم موجع {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم لا ينقطع وفي الحديث (يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به؟ فيقول نعم فيقال له: قد كنتَ سُئلتَ ما هو أيسرُ من ذلك ألاّ تشرك بي فأبيت فيؤمر به إِلى النار).



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
حد السرقة



{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38)فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(39)أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(40)}



ثم ذكر تعالى عقوبة السارق فقال {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أي كل من سرق رجلاً كان أو امرأة فاقطعوا يده {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} أي مجازاة لهما على فعلهما القبيح {نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} أي عقوبة من الله {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي حكيم في شرعه فلا يأمر بقطع اليد ظلماً {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي رجع عن السرقة {وَأَصْلَحَ} أي أصلح سيرته وعمله {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة.

ثم نبّه تعالى على واسع ملكه فقال {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر والملك الباهر وبيده ملكوت السماوات والأرض والاستفهام للتقرير {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي يعذّب من يشاء تعذيبه ويغفر لمن يشاء غفران ذنبه وهو القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء.



"كلمة وجيزة حول قطع يد السارق"



يعيب بعض الغربيين على الشريعة الإِسلامية قطع يد السارق ويزعمون أن هذه العقوبة صارمة لا تليق بمجتمع متحضر ويقولون: يكفي في عقوبته السجن ردعاً له، وكان من أثر هذه الفلسفة التي لا تستند على منطقٍ سليم أن زادت الجرائم وكثرت العصابات وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطاع الطريق الذي يهدّدون الأمن والاستقرار، يسرق السارق وهو آمن مطمئن لا يخشى شيئاً اللهم إِلا ذلك السجن الذي يُطعم ويُكسى فيه فيقضي مدة العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي ثم يخرج منه وهو إِلى الإِجرام أميل وعلى الشر أقدر، يؤكد هذا ما نقرؤه ونسمعه عن تعداد الجرائم وزيادتها يوماً بعد يوم، وذلك لقصور العقل البشري عن الوصول إلى الدواء الناجع والشفاء النافع لمعالجة مثل هذه الأمراض الخطيرة، أما الإِسلام فقد استطاع أن يقتلع الشر من جذوره ويدٌ واحدة تقطع كافية لردع المجرمين فيا له من تشريع حكيم!!



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
مسارعة المنافقين واليهود إلى الكفر وموقف اليهود من أحكام التوراة



{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(41)سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(42)وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(43)}



المنَــاسَــبَة:

لما ذكر تعالى قصة ابني آدم وإِقدام الأخ على قتل أخيه بسبب البغي والحسد وذكر أحكام الحرابة والسرقة، أعقبه بذكر أمر المنافقين وأمر اليهود في حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتربصهم به وبأصحابه الدوائر، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يحزن لما يناله من أذى من أعداء الإِنسانية فالله سيعصمه من شرهم، وينجيه من مكرهم، ثم ذكر ما أنزل الله من أحكام نورانية في شريعة التوراة.



سبب النزول:

عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمّماً مجلوداً فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثير في أشرافنا فكنا إِذا أخذنا الشريف تركناه، وإِذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمعْ على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إِني أول من أحيا أمرك إِذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إِلى قوله {إِن أوتيتم هذا فخذوه} يقولون: ائتوا محمداً فإِن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإِن أفتاكم بالرجم فاحذروا.



{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية لا تتأثر يا محمد ولا تحزن لصنيع الذين يتسابقون نحو الكفر ويقعون فيه بسرعة {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} أي من المنافقين الذين لم يُجاوز الإِيمان أفواههم ويقولون بألسنتهم آمنا وقلوبهم كافرة {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي ومن اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي هم مبالغون في سماع الأكاذيب والأباطيل وفي قبول ما يفتريه أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي مبالغون في قبول كلام قومٍ آخرين لم يحضروا مجلسك تكبراً وإِفراطاً في العداوة والبغضاء وهم يهود خيبر، والسماعون للكذب هم بنو قريظة.

{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي يُزيلونه ويُميلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها والمراد تحريف أحكام الله وتغييرها بأحكام أخرى، قال ابن عباس: هي حدود الله في التوراة غيروا الرجم بالجلد والتحميم - يعني تسويد الوجه - {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أي إِن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا وإِن أمركم بالرجم فلا تقبلوا قال تعالى ردّاً عليهم {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحدٌ على دفع ذلك عنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم من رجس الكفر وخبث الضلالة لقبح صنيعهم وسواء اختيارهم {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي ذلٌ وفضيحة {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو الخلود في نار جهنم، قال أبو حيان: والآية جاءت تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر وقطعاً لرجائه من فلاحهم.

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي الباطل كرره تأكيداً وتفخيماً {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي الحرام من الرشوة والربا وشبه ذلك {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي إِن تحاكموا إِليك يا محمد فيما شجر بينهم من الخصومات فأنت مخير بين أن تحكم بينهم وبين أن تُعرض عنهم، قال ابن كثير: أي إِن جاءوك يتحاكمون إِليك فلا عليك ألا تحكم بينهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إِليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم .

{وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} أي لأن الله عاصمك وحافظك من الناس {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي فاحكم بينهم بالعدل والحق وإِن كانوا ظلمةً خارجين عن طريق العدل لأن الله يحب العادلين، ثم قال تعالى منكراً عليهم مخالفتهم لأحكام التوراة {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} أي كيف يحكّمك يا محمد هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك وعندهم التوراة فيها حكم الله يرونه ولا يعملون به؟ قال الرازي: هذا تعجيبٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم اليهود إِيّاه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ثم تركهم قبول ذلك الحكم، فعدلوا عما يعتقدونه حكماً حقاً إِلى ما يعتقدونه باطلاً طلباً للرخصة فظهر بذلك جهلهم وعنادهم {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد أن وضح لهم الحق وبان {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي ليسوا بمؤمنين لأنهم لا يؤمنون بكتابهم"التوراة" لإِعراضهم عنه وعن حكمك الموافق لما فيه، قال في التسهيل: وهذا إِلزامٌ لهم لأن من خالف كتاب الله وبدّله فدعواه الإِيمان باطلة.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
الحكم بشريعة القرآن



{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ(49)أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50)}





{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي وأنزلنا إِليك يا محمد القرآن بالعدل والصدق الذي لا ريب فيه {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي مصدّقاً للكتب السماوية التي سبقته {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي مؤتمناً عليه وحاكماً على ما قبله من الكتب، قال الزمخشري: أي رقيباً على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات، قال ابن كثير: اسم المهيمن يتضمن ذلك فهو أمينٌ وشاهد وحاكم على كل كتابٍ قبله جمع الله فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل الله إِليك في هذا الكتاب العظيم .

{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي لا توافقهم على أغراضهم الفاسدة عادلاً عمّا جاءك في هذا القرآن، قال ابن كثير: أي لا تنصرفْ عن الحق الذي أمرك الله به إِلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أي لكل أمةٍ جعلنا شريعة وطريقاً بيناً واضحاً خاصاً بتلك الأمة قال أبو حيان: لليهود شرعةٌ ومنهاج وللنصارى كذلك والمراد في الأحكام وأما المعتقد فواحدٌ لجميع الناس توحيدٌ وإِيمان بالرسل وجميع الكتب وما تضمنته من المعاد والجزاء { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو أراد الله لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيءٌ منها الآخر {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ} أي شرع الشرائع مختلفة ليختبر العباد هل يذعنون لحكم الله أم يُعرضون، فخالف بين الشرائع لينظر المطيع إلى العاصي {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي فسارعوا إِلى ما هو خيرٌ لكم من طاعة الله واتباع شرعه {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي معادكم ومصيركم أيها الناس إِلى الله يوم القيامة فيخبركم بما اختلفتم فيه من أمر الدين ويجازيكم بأعمالكم .

{وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي أُحكم بين أهل الكتاب بهذا القرآن ولا تتّبع أهواءهم الزائفة {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي احذر هؤلاء الأعداء أن يصرفوك عن شريعة الله فإِنهم كذَبةٌ كفرةٌ خونة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي فإِن أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره فاعلم يا محمد أنما يريد الله أن يعاقبهم ببعض إِجرامهم {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} أي أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق منهمكون في المعاصي.

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى أيتولون عن حكمك ويبتغون غير حكم الله وهو حكم الجاهلية؟ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي ومن أعدل من الله في حكمه، وأصدقُ في بيانه، وأحكم في تشريعه لقومٍ يصدّقون بالعليّ الحكيم!!.



النهي عن موالاة اليهود والنصارى

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51)فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52)وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ(53)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ويصافونهم ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي هم يدٌ واحدة على المسلمين لاتحادهم في الكفر والضلال، وملةُ الكفر واحدةٌ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي من جملتهم وحكمُه، قال الزمخشري: وهذا تغليظٌ من الله وتشديدٌ في مجانبة المخالف في الدين واعتزاله كما قال صلى الله عليه وسلم (لا تراءى نارهما) { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يهديهم إِلى الإِيمان.

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} أي شك ونفاق كعبد الله بن أُبيّ وأصحابه يسارعون من مُوالاتهم ومُعاونتهم { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي يقولون معتذرين عن موالاة الكافرين نخاف حوادث الدهر وشروره أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يتم الأمر لمحمد قال تعالى رداً على مزاعمهم الفاسدة {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} يعني فتح مكة وهذه بشراة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصر {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} أي يُهلكهم بأمرٍ من عنده لا يكون فيه تسبّبٌ لمخلوق كإِلقاء الرعب في قُلوبهم كما فعل ببني النضير {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي يصير المنافقون نادمين على ما كان منهم من موالاة أعداء الله من اليهود والنصارى {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يقول المؤمنون تعجباً من حال المنافقين إِذا هتك الله سترهم {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي حلفوا لكم يا معشر اليهود بأغلظ الإِيمان إِنهم لمعكم بالنصرة والمعونة كما حكى تعالى عنهم {وإِن قوتلتم لننصرنكم} {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} أي بطلت أعمالهم بنفاقهم فصاروا خاسرين في الدنيا والآخرة.



المرتدُّون ومعاداتهم للمسلمين



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ(56)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} خطابٌ على وجه التحذير والوعيد والمعنى: يا معشر المؤمنين من يرجع منكم عن دينه الحق ويبدّله بدينٍ آخر ويرجع عن الإِيمان إِلى الكفر {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} أي فسوف يأتي الله مكانهم بأناسٍ مؤمنين يحبّهم الله ويحبّون الله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي رحماء متواضعين للمؤمنين أشداء متعززين على الكافرين، قال ابن كثير: وهذه صفاتُ المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه متعززاً على عدوه كقوله تعالى {أشداء على الكفّار رحماء بينهم} ومن علامة حب الله تعالى للمؤمن أن يكون ليّن الجانب متواضعاً لإِخوانه المؤمنين متسربلاً بالعزّة حيال الكافرين والمنافقين {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} أي يجاهدون لإِعلاء كلمة الله ولا يبالون بمن لامهم فهم صلاب في دين الله لا يخافون في ذات الله أحداً {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي من اتصف بهذه الأوصاف الحميدة إِنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الإِفضال والإِحسان عليمٌ بمن يستحق ذلك.

ثمّ لما نهاهم تعالى عن موالاة الكفرة ذكر هنا من هم حقيقون بالموالاة فقال {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا} أي ليس اليهود والنصارى بأوليائكم إِنما أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} أي المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة من إِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة وهم خاشعون متواضعون لله عز وجل، قال في التسهيل: ذكر تعالى الوليَّ بلفظ المفرد إِفراداً لله تعالى بهما، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التّبع، ولو قال "إِنما أولياؤكم" لم يكن في الكلام أصلٌ وتبع {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} أي من يتولّ الله ورسوله والمؤمنين فإِنه من حزب الله وهم الغالبون القاهرون لأعدائهم.



سبب النزول:

أ- عن ابن عباس قال: جاء نفرٌ من اليهود إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام، فقال: أومن بالله وما أُنزل إِلينا وما أُنزل إِلى إِبراهيم وإِسماعيل إِلى قوله "ونحن له مسلمون" فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دينٍ أقلَّ حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} الآية.



أسباب النهي عن موالاة الكفار



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(57)وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ(58)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ(59)قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(60)وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءامَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ(61)وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(62)لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(63)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} أي لا تتخذوا أعداء الدين الذين يسخرون من دينكم ويهزؤون {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} أي من هؤلاء المستهزئين اليهود والنصارى وسائر الكفرة أولياء لكم تودّونهم وتحبونهم وهم أعداء لكم، فمن اتخذ دينكم سخرية لا يصح لكم أن تصادقوه أو توالوه بل يجب أن تبغضوه وتعادوه {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اتقوا الله في موالاة الكفار والفجار إِن كنتم مؤمنين حقاً .

ثمَّ بيَن تعالى جانباً من استهزائهم فقال {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} أي وإِذا أذنتم إِلى الصلاة ودعوتم إِليها سخروا منكم ومن صلاتكم، قال في البحر: حسد اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم حين سمعوا الأذان وقالوا: ابتدعتَ شيئاً لم يكن للأنبياء فمن أين لك الصياح كصياح العير فما أقبحه من صوت فأنزل الله هذه الآية نبّه تعالى على أنَّ من استهزاء بالصلاة ينبغي أن لا يُتّخذ ولياً بل يُهجر ويطرد، وهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} أي ذلك الفعل منهم بسبب أنهم فجرة لا يعقلون حكمة الصلاة ولا يدركون غايتها في تطهير النفوس، ونفى العقل عنهم لكونهم لم ينتفعوا به في أمر الدين وإِن كان لهم عقول يدركون بها مصالح الدنيا .

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} أي قل يا محمد: يا معشر اليهود والنصارى هل تعيبون علينا وتنكرون منا {إِلا أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} أي إِلا إِيماننا بالله وبما جاء به رسل الله، قال ابن كثير: أي هل لكم علينا مطعنٌ أو عيبٌ إِلا هذا؟ وهذا ليس بعيبٍ ولا مذمة فيكون الاستثناء منقطعاً {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أي خارجون عن الطريق المستقيم {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} أي هل أخبركم بما هو شرٌّ من هذا الذي تعيبونه علينا؟ {مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} أي ثواباً وجزاءً ثابتاً عند الله، قال في التسهيل: ووضع الثوابَ موضع العقاب تهكماً بهم نحو قوله {فبشرهم بعذابٍ أليم} {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي طرده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي سخط عليه بكفره وانهماكه في المعاصي بعد وضوح الآيات {وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} أي ومسخ بعضَهم قردةً وخنازير {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي وجعل منهم من عَبَد الشيطان بطاعته {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي هؤلاء الملعونون الموصوفون بتلك القبائح والفضائح شرٌّ مكاناً في الآخرة وأكثر ضلالاً عن الطريق المستقيم، قال ابن كثير: والمعنى يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله وإِفراده بالعبادة دون ما سواه كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ قال القرطبي: ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إِخوة القردة والخنازير فنكّسوا رءوسهم افتضاحاً وفيهم يقول الشاعر:

فلعــنة اللـــه على اليــهود إِن اليهـــود إِخـــوةُ القـــرود

{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءامَنَّا} الضمير يعود إِلى المنافقين من اليهود أي إِذا جاءوكم أظهروا الإِسلام {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أي والحال قد دخلوا إِليك كفاراً وخرجوا كفاراً لم ينتفعوا بما سمعوا منك يا محمد من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ والزواجر {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} أي من كفرهم ونفاقهم وفيه وعيد شديدٌ لهم.

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي وترى كثيراً من اليهود يسابقون في المعاصي والظلم {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أي أكلهم الحرام {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس أعمالهم القبيحة تلك الأخلاق الشنيعة {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} أي هلاّ يزجرهم علماؤهم وأحبارهم {عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ} أي عن المعاصي والآثام وأكل الحرام { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أي بئس صنيعهم ذلك تركهم النهي عن ارتكاب محارم الله، قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية -يعني على العلماء- وقال أبو حيان: تضمنت هذه الآية توبيخ العلماء والعبَّاد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله وأنشد ابن المبارك:

وهــلْ أفسَــد الــدِّيــنَ إِلا الملو كُ وأحبــارُ سَوْءٍ ورهبـانــها



من أقبح أقوال اليهود ، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم ، وجزاء إيمان أهل الكتاب



{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(64)وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(65)وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ(66)}



{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي قال اليهود اللعناء إِن الله بخيلٌ يقتّر الرزق على العباد، قال ابن عباس: مغلولة أي بخيلة أمسك ما عنده بخلاً ليس يعنون أن يد الله موثقة ولكنهم يقولون إِنه بخيل {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاءٌ عليهم بالبخل المذموم والفقر والنكد {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} أي أبعدهم الله من رحمته بسبب تلك المقالة الشنيعة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} أي بل هو جواد كريم سابغٍ الإِنعام يرزق ويعطي كما يشاء، قال أبو السعود: وتضييق الرزق ليس لقصورٍ في فيضه بل لأن إِنفاقه تابع لمشيئته المبنيّة على الحِكَم وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيّق عليهم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي وليزيدنَّهم هذا القرآن الذي أُنزل عليك يا محمد كفراً فوق كفرهم وطغياناً فوق طغيانهم إِذ كلّما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم كما أن الطعام نافع للأصحاء ويزيد المرضى مرضاً قال الطبري: أعلم تعالى نبيّه أنهم أهل عتو وتمرّد على ربهم وأنهم لا يذعنون لحقٍّ وإِن علموا صحته ولكنهم يعاندونه يسلِّي بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم في ذهابهم عن دين الله وتكذيبهم إِيّاه .

{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ألقينا بين اليهود العداوة والبغضاء فكلمتهم مختلفة وقلوبهم شتّى لا يزالون متباغضين متعادين إِلى قيام الساعة {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أي كلما أرادوا إِشعال حربٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطفأها الله {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أي يجتهدون في الكيد للإِسلام وأهله يسعون لإِثارة الفتن بين المسلمين، قال ابن كثير: أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإِفساد في الأرض {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يحب من كانت هذه صفته .

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُوا وَاتَّقَوْا} أي لو أن اليهود والنصارى آمنوا بالله وبرسوله حق الإِيمان واتقوا محارم الله فاجتنبوها {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي محونا عنهم ذنوبهم التي اقترفوها {وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي ولأدخلناهم مع ذلك في جنان النعيم {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} أي ولو أنهم استقاموا على أمر الله وعملوا بما في التوراة والإِنجيل وبما أُنزل إِليهم في هذا الكتاب الجليل الذي نزل على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم {لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي لوسّع الله عليهم الأرزاق وأغدق عليهم الخيرات بإِفاضة بركات السماء والأرض عليهم {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} أي منهم جماعة معتدلة مستقيمة غير غالية ولا مقصّرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام والنجاشي وسلمان {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي وكثير منهم أشرار بئس ما يعملون من قبيح الأقوال وسوء الأفعال.





description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
النهي عن موالاة اليهود والنصارى

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51)فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52)وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ(53)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ويصافونهم ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي هم يدٌ واحدة على المسلمين لاتحادهم في الكفر والضلال، وملةُ الكفر واحدةٌ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي من جملتهم وحكمُه، قال الزمخشري: وهذا تغليظٌ من الله وتشديدٌ في مجانبة المخالف في الدين واعتزاله كما قال صلى الله عليه وسلم (لا تراءى نارهما) { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يهديهم إِلى الإِيمان.

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} أي شك ونفاق كعبد الله بن أُبيّ وأصحابه يسارعون من مُوالاتهم ومُعاونتهم { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي يقولون معتذرين عن موالاة الكافرين نخاف حوادث الدهر وشروره أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يتم الأمر لمحمد قال تعالى رداً على مزاعمهم الفاسدة {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} يعني فتح مكة وهذه بشراة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصر {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} أي يُهلكهم بأمرٍ من عنده لا يكون فيه تسبّبٌ لمخلوق كإِلقاء الرعب في قُلوبهم كما فعل ببني النضير {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي يصير المنافقون نادمين على ما كان منهم من موالاة أعداء الله من اليهود والنصارى {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يقول المؤمنون تعجباً من حال المنافقين إِذا هتك الله سترهم {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي حلفوا لكم يا معشر اليهود بأغلظ الإِيمان إِنهم لمعكم بالنصرة والمعونة كما حكى تعالى عنهم {وإِن قوتلتم لننصرنكم} {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} أي بطلت أعمالهم بنفاقهم فصاروا خاسرين في الدنيا والآخرة.



المرتدُّون ومعاداتهم للمسلمين



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ(56)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} خطابٌ على وجه التحذير والوعيد والمعنى: يا معشر المؤمنين من يرجع منكم عن دينه الحق ويبدّله بدينٍ آخر ويرجع عن الإِيمان إِلى الكفر {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} أي فسوف يأتي الله مكانهم بأناسٍ مؤمنين يحبّهم الله ويحبّون الله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي رحماء متواضعين للمؤمنين أشداء متعززين على الكافرين، قال ابن كثير: وهذه صفاتُ المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه متعززاً على عدوه كقوله تعالى {أشداء على الكفّار رحماء بينهم} ومن علامة حب الله تعالى للمؤمن أن يكون ليّن الجانب متواضعاً لإِخوانه المؤمنين متسربلاً بالعزّة حيال الكافرين والمنافقين {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} أي يجاهدون لإِعلاء كلمة الله ولا يبالون بمن لامهم فهم صلاب في دين الله لا يخافون في ذات الله أحداً {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي من اتصف بهذه الأوصاف الحميدة إِنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الإِفضال والإِحسان عليمٌ بمن يستحق ذلك.

ثمّ لما نهاهم تعالى عن موالاة الكفرة ذكر هنا من هم حقيقون بالموالاة فقال {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا} أي ليس اليهود والنصارى بأوليائكم إِنما أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} أي المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة من إِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة وهم خاشعون متواضعون لله عز وجل، قال في التسهيل: ذكر تعالى الوليَّ بلفظ المفرد إِفراداً لله تعالى بهما، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التّبع، ولو قال "إِنما أولياؤكم" لم يكن في الكلام أصلٌ وتبع {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} أي من يتولّ الله ورسوله والمؤمنين فإِنه من حزب الله وهم الغالبون القاهرون لأعدائهم.



سبب النزول:

أ- عن ابن عباس قال: جاء نفرٌ من اليهود إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام، فقال: أومن بالله وما أُنزل إِلينا وما أُنزل إِلى إِبراهيم وإِسماعيل إِلى قوله "ونحن له مسلمون" فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دينٍ أقلَّ حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} الآية.



أسباب النهي عن موالاة الكفار



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(57)وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ(58)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ(59)قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(60)وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءامَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ(61)وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(62)لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(63)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} أي لا تتخذوا أعداء الدين الذين يسخرون من دينكم ويهزؤون {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} أي من هؤلاء المستهزئين اليهود والنصارى وسائر الكفرة أولياء لكم تودّونهم وتحبونهم وهم أعداء لكم، فمن اتخذ دينكم سخرية لا يصح لكم أن تصادقوه أو توالوه بل يجب أن تبغضوه وتعادوه {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اتقوا الله في موالاة الكفار والفجار إِن كنتم مؤمنين حقاً .

ثمَّ بيَن تعالى جانباً من استهزائهم فقال {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} أي وإِذا أذنتم إِلى الصلاة ودعوتم إِليها سخروا منكم ومن صلاتكم، قال في البحر: حسد اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم حين سمعوا الأذان وقالوا: ابتدعتَ شيئاً لم يكن للأنبياء فمن أين لك الصياح كصياح العير فما أقبحه من صوت فأنزل الله هذه الآية نبّه تعالى على أنَّ من استهزاء بالصلاة ينبغي أن لا يُتّخذ ولياً بل يُهجر ويطرد، وهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} أي ذلك الفعل منهم بسبب أنهم فجرة لا يعقلون حكمة الصلاة ولا يدركون غايتها في تطهير النفوس، ونفى العقل عنهم لكونهم لم ينتفعوا به في أمر الدين وإِن كان لهم عقول يدركون بها مصالح الدنيا .

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} أي قل يا محمد: يا معشر اليهود والنصارى هل تعيبون علينا وتنكرون منا {إِلا أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} أي إِلا إِيماننا بالله وبما جاء به رسل الله، قال ابن كثير: أي هل لكم علينا مطعنٌ أو عيبٌ إِلا هذا؟ وهذا ليس بعيبٍ ولا مذمة فيكون الاستثناء منقطعاً {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أي خارجون عن الطريق المستقيم {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} أي هل أخبركم بما هو شرٌّ من هذا الذي تعيبونه علينا؟ {مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} أي ثواباً وجزاءً ثابتاً عند الله، قال في التسهيل: ووضع الثوابَ موضع العقاب تهكماً بهم نحو قوله {فبشرهم بعذابٍ أليم} {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي طرده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي سخط عليه بكفره وانهماكه في المعاصي بعد وضوح الآيات {وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} أي ومسخ بعضَهم قردةً وخنازير {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي وجعل منهم من عَبَد الشيطان بطاعته {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي هؤلاء الملعونون الموصوفون بتلك القبائح والفضائح شرٌّ مكاناً في الآخرة وأكثر ضلالاً عن الطريق المستقيم، قال ابن كثير: والمعنى يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله وإِفراده بالعبادة دون ما سواه كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ قال القرطبي: ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إِخوة القردة والخنازير فنكّسوا رءوسهم افتضاحاً وفيهم يقول الشاعر:

فلعــنة اللـــه على اليــهود إِن اليهـــود إِخـــوةُ القـــرود

{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءامَنَّا} الضمير يعود إِلى المنافقين من اليهود أي إِذا جاءوكم أظهروا الإِسلام {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أي والحال قد دخلوا إِليك كفاراً وخرجوا كفاراً لم ينتفعوا بما سمعوا منك يا محمد من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ والزواجر {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} أي من كفرهم ونفاقهم وفيه وعيد شديدٌ لهم.

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي وترى كثيراً من اليهود يسابقون في المعاصي والظلم {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أي أكلهم الحرام {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس أعمالهم القبيحة تلك الأخلاق الشنيعة {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} أي هلاّ يزجرهم علماؤهم وأحبارهم {عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ} أي عن المعاصي والآثام وأكل الحرام { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أي بئس صنيعهم ذلك تركهم النهي عن ارتكاب محارم الله، قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية -يعني على العلماء- وقال أبو حيان: تضمنت هذه الآية توبيخ العلماء والعبَّاد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله وأنشد ابن المبارك:

وهــلْ أفسَــد الــدِّيــنَ إِلا الملو كُ وأحبــارُ سَوْءٍ ورهبـانــها



من أقبح أقوال اليهود ، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم ، وجزاء إيمان أهل الكتاب



{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(64)وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(65)وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ(66)}



{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي قال اليهود اللعناء إِن الله بخيلٌ يقتّر الرزق على العباد، قال ابن عباس: مغلولة أي بخيلة أمسك ما عنده بخلاً ليس يعنون أن يد الله موثقة ولكنهم يقولون إِنه بخيل {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاءٌ عليهم بالبخل المذموم والفقر والنكد {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} أي أبعدهم الله من رحمته بسبب تلك المقالة الشنيعة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} أي بل هو جواد كريم سابغٍ الإِنعام يرزق ويعطي كما يشاء، قال أبو السعود: وتضييق الرزق ليس لقصورٍ في فيضه بل لأن إِنفاقه تابع لمشيئته المبنيّة على الحِكَم وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيّق عليهم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي وليزيدنَّهم هذا القرآن الذي أُنزل عليك يا محمد كفراً فوق كفرهم وطغياناً فوق طغيانهم إِذ كلّما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم كما أن الطعام نافع للأصحاء ويزيد المرضى مرضاً قال الطبري: أعلم تعالى نبيّه أنهم أهل عتو وتمرّد على ربهم وأنهم لا يذعنون لحقٍّ وإِن علموا صحته ولكنهم يعاندونه يسلِّي بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم في ذهابهم عن دين الله وتكذيبهم إِيّاه .

{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ألقينا بين اليهود العداوة والبغضاء فكلمتهم مختلفة وقلوبهم شتّى لا يزالون متباغضين متعادين إِلى قيام الساعة {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أي كلما أرادوا إِشعال حربٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطفأها الله {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أي يجتهدون في الكيد للإِسلام وأهله يسعون لإِثارة الفتن بين المسلمين، قال ابن كثير: أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإِفساد في الأرض {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يحب من كانت هذه صفته .

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُوا وَاتَّقَوْا} أي لو أن اليهود والنصارى آمنوا بالله وبرسوله حق الإِيمان واتقوا محارم الله فاجتنبوها {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي محونا عنهم ذنوبهم التي اقترفوها {وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي ولأدخلناهم مع ذلك في جنان النعيم {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} أي ولو أنهم استقاموا على أمر الله وعملوا بما في التوراة والإِنجيل وبما أُنزل إِليهم في هذا الكتاب الجليل الذي نزل على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم {لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي لوسّع الله عليهم الأرزاق وأغدق عليهم الخيرات بإِفاضة بركات السماء والأرض عليهم {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} أي منهم جماعة معتدلة مستقيمة غير غالية ولا مقصّرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام والنجاشي وسلمان {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي وكثير منهم أشرار بئس ما يعملون من قبيح الأقوال وسوء الأفعال.


description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
أَمْرُ الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الوحي ، وعصمته من الناس، ودعوة أهل الكتاب للإِيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(68)إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(69)}



المنَــاسَــبَة:

لمّا حذر تعالى المؤمنين من موالاة الكافرين، وكانت رسالته صلى الله عليه وسلم تتضمن الطعن في أحوال الكفرة والمخالفين، وهذا يستدعي مناصبتهم العداء له ولأتباعه أمره تعالى في هذه الآيات بتبليغ الدعوة، ووعده بالحفظ والنصرة، ثم ذكر تعالى طرفاً من عقائد أهل الكتاب الفاسدة وبخاصة النصارى الذين يعتقدون بألوهية عيسى وأنه ثالث ثلاثة، وردّ عليهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع.



{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} هذا نداءُ تشريفٍ وتعظيمٍ ناداه تعالى بأشرف الأوصاف بالرسالة الربانية أي بلّغْ رسالة ربك غير مراقب أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.

قال ابن عباس: المعنى بلّغْ جميع ما أُنزل إِليك من ربك فإِن كتمتَ شيئاً منه فما بلّغت رسالته، وهذا تأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئاً من أمر شريعته {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي يمنعك من أن ينالوك بسوء، قال الزمخشري: هذا وعدٌ من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك فما عذرك في مراقبتهم؟ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدَم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي إِنما عليك البلاغ والله هو الذي يهدي من يشاء فمن قُضي له بالكفر لا يهتدي أبداً.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} أي قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين أصلاً حتى تعملوا بما في التوراة والإِنجيل وتقيموا أحكامها على الوجه الأكمل، ومن إِقامتها الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} قال ابن عباس: يعني القرآن العظيم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} اللام للقسم أي وأقسم ليزيدنَّ هذا القرآن المنزل عليك يا محمد الكثير منهم غلواً في التكذيب وجحوداً لنبوتك وإِصراراً على الكفر والضلال {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي لا تحزن عليهم فإِن تكذيب الأنبياء عادتُهم ودأبهم، وهذه تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وليس بنهي عن الحزن .

ثم قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا} أي صدّقوا الله ورسوله وهم المسلمون {وَالَّذِينَ هَادُوا} وهم أتباع موسى {وَالصَّابِئُونَ} وهم طائفة من أتباع الأنبياء قيل من أتباع إبراهيم {وَالنَّصَارَى} وهم أتباع عيسى {مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي مَنْ آمن من هؤلاء المذكورين إِيماناً صحيحاً خالصاً لا يشوبه ارتيابٌ بالله وباليوم الآخر وعمل صالحاً يقربه من الله {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي فلا خوفٌ عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا بعد معاينتهم جزيل ثواب الله، قال ابن كثير: والمقصود أن كلَّ فرقةٍ آمنت بالله واليوم الآخر إِلى جميع الثقلين - فمن اتصف بذلك فلا خوفٌ عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما تركوه وراء ظهورهم، وتفهم الآية أن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر الإيمان الصحيح المطلوب لم ينفعه انتسابه إلى أحد من الرسل إن ادعاه.



تكذيب اليهود رسلَهم وقتلهم إياهم



{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ(70)وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(71)}



{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أولاد يعقوب وأحفادهم أخذنا منهم العهد المؤكد على الإِيمان بالله ورسله، قال في البحر: هذا إِخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم، وهؤلاء أخلاف أولئك فغير بدعٍ ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان إِذ ذاك شِنْشِنةٌ من أسلافهم {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} أي أرسلنا لهم الرسل ليرشدوهم ويبينوا لهم أمر الدين {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ} أي كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما يخالف أهواءهم وشهواتهم {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} أي كذبوا طائفةً من الرسل ويقتلون طائفة أخرى منهم، قال البيضاوي: وإِنما جيء بـ "يقتلون" موضع "قتلوا" على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها واستفظاعاً للقتل وتنبيهاً على أن ذلك من ديدنهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظةً على رؤوس الآي.

{وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي وظنَّ بنو إِسرائيل أن لا يصيبهم بلاءٌ وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل اغتراراً بإِمهال الله عزّ وجلّ لهم {فَعَمُوا وَصَمُّوا} أي تمادوا في الغيّ والفساد فعَمُوا عن الهدى وصمّوا عن سماع الحق وهذا على التشبيه بالأعمى والأصمّ لأنه لا يهتدي إِلى طريق الرشد في الدين لإِعراضه عن النظر {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قال القرطبي: في الكلام إِضمارٌ أي أُوقعت بهم الفتنةُ فتابوا فتاب الله عليهم { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} أي عميَ كثير منهم وصمَّ بعد تبيّن الحق له {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي عليم بما عملوا وهذا وعيدٌ لهم وتهديد.



كفر النصارى بتأليههم المسيح، وما هو إلا بَشَرٌ رسول



{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ(72)لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73)أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(74)مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75)}



ثم ذكر تعالى عقائد النصارى الضالة في المسيح فقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} قال أبو السعود: هذا شروعٌ في تفصيل قبائح النصارى وإِبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء الذين قالوا إِن مريم ولدت إِلهاً وهم "اليعقوبية" زعموا أن الله تعالى حلَّ في ذات عيسى واتحد به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي أنا عبدٌ مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم الذي يذلّ له كل شيء ويخضع له كل موجود.

قال ابن كثير: كان أول كلمة نطق بها وهو صغير أن قال {إِني عبد الله} ولم يقل: إِني أنا الله، ولا ابن الله بل قال {إِني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً} وقال القرطبي: ردَّ الله عليهم ذلك بحجةٍ قاطعةٍ مما يُقرّون به فقال {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فإِذا كان المسيح يقول: يا رب، ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها؟ هذا محال .

{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} أي من يعتقد بألوهية غير الله فلن يدخل الجنة أبداً لأنها دار الموحّدين {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} أي مصيره نار جهنم {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} أي فلا ناصر ولا منقذ له من عذاب الله.

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} أي أحد ثلاثة آلهة وهذا قول فرقةٍ من النصارى يسمون "النُّسطورية والملكانية" القائلين بالتثليث وهم يقولون: إِن الإِلهيّة مشتركة بين الله، وعيسى، ومريم وكل واحدٍ من هؤلاء إِله ولهذا اشتهر قولهم "الأب والإِبن وروح القدس" {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي والحال أنه ليس في الوجود إِلا إِله واحدٌ موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن المثيل والنظير {وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} أي وإِن لم يكفّوا عن القول بالتثليث {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} الأستفهام للتوبيخ أي أفلا ينتهون عن تلك العقائد الزائفة والأقاويل الباطلة ويستغفرون الله مما نسبوه إِليه من الاتحاد والحلول؟ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يغفر لهم ويرحمهم إِن تابوا، قال البيضاوي: وفي هذا الاستفهام {أفلا يتوبون} تعجيبٌ من إِصرارهم على الكفر .

{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي ما المسيح إِلا رسولٌ كالرسل الخالية الذين تقدموه خصّه الله تعالى ببعض الآيات الباهرات إِظهاراً لصدقه كما خصّ بعض الرسل، فإِن أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا في يد موسى. وجعلت حية تسعى وهو أعجب، وإِن خُلق من غير أب فقد خلق آدم من غير أبٍ ولا أم وهو أغرب، وكلُّ ذلك من جنابه عز وجلّ وإِنما موسى وعيسى مظاهر شؤونه وأفعاله {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي مبالغة في الصّدق {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} أي أنه مخلوق كسائر المخلوقين مركبٌ من عظمٍ ولحمٍ وعروقٍ وأعصاب وفيه إِشارة لطيفة إِلى أن من يأكل الطعام لا بدّ أن يكون في حاجة إِلى إِخراجه ومن يكن هذا حاله فكيف يُعبْد، أو كيف يُتوهم أنه إِله؟ {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لهُمُ الآيَاتِ} تعجيبٌ من حال الذين يدَّعون ألوهيّته هو وأمه أي أنظر كيف نوضّح لهم الآيات الباهرة على بطلان ما اعتقدوه {ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله بعد هذا البيان مع أنه أوضح من الشمس في رابعة النّهار.



مناقشة النصارى في تأليه عيسى عليه السلام، ومطالبة أهل الكتاب بعدم الغلوّ في الدين،

ولعنة بني إسرائيل لعدم نهيهم عن المنكر



{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّه هُوَ السَّمِيعُ لْعَلِيمُ(76)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(77)لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78)كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80)وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(81)}



{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي قل يا محمد أتوجهون عبادتكم إلى من لا يقدر أن يجلب لكم النفع أوالضر؟ {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم وتضمنت الآية الإِنكار عليهم حيث عبدوا من هو متصفٌ بالعجز عن دفع ضرّ أو جلب نفع.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي يا معشر اليهود والنصارى لا تتجاوزوا الحد في دينكم وتُفرطوا كما أفرط أسلافكم فتقولوا عن عيسى إِنه إِلهٌ وابن إِله، قال القرطبي: وغلو اليهود قولهم في عيسى إِنه ليس ولد رِشْدة - أي هو ابن زنا - وغلوُّ النصارى قولهم إِنه إِله {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} أي لا تتبعوا أسلافكم وأئمتكم الذين كانوا على الضلال قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} أي أضلوا كثيراً من الخلق بإِغوائهم لهم {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي ضلوا عن الطريق الواضح المستقيم، قال القرطبي: وتكرير ضلوا للإِشارة إِلى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد، والمرادُ الأسلافُ الذين سنُّوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى .

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي لعنهم الله عز وجل في الزبور، والإِنجيل، قال ابن عباس: لُعنوا بكللسان، لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإِنجيل وعلى عهد محمد في القرآن، قال المفسرون: إِن اليهود لمّا اعتدوا في السبت دعا عليهم داود فمسخهم الله قردة، وأصحاب المائدة لمّا كفروا بعيسى دعا عليهم عيسى فمُسخوا خنازير {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم، ثمَّ بيَّن تعالى حالهم الشنيع فقال {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} أي لا ينهى بعضُهم بعضاً عن قبيحٍ فعلوه {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، قال الزمخشري: تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم فيا حسرتا على المسلمين في إِعراضهم عن التناهي عن المنكر كأنه ليس من الإِسلام في شيء مع ما يتلون من كتاب الله من المبالغات في هذا الباب، وقال في البحر: وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر، والتجاهر به، وعدم النهي عنه، والمعصيةُ إذا فُعلت ينبغي أن يُستتر بها لحديث (من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر) فإِذا فُعلت جهاراً وتواطأ الناس على عدم الإِنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإِفشائها وكثرتها .

{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ترى كثيراً من اليهود يوالون المشركين بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمراد "كعب بن الأشرف" وأصحابه {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة { أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وهذا هو المخصوص بالذم أي بئس ما قدموه لآخرتهم سخطُ الله وغضبُه عليهم {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} أي وفي عذاب جهنم مخلّدون أبد الآبدين {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} أي لو كان هؤلاء اليهود يصدّقون بالله ونبيّهم وما جاءهم من الكتاب ما اتخذوا المشركين أولياء {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي ولكنَّ أكثرهم خارجون عن الإِيمان وطاعة الله عز وجل.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
النهي عن الأسئلة غير المفيدة



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101)قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ(102)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أي لا تسألوا الرسول عن أمور لا حاجة لكم بها إن ظهرت لكم ساءتكم، قال الزمخشري: أي لا تُكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها وكلّفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءانُ تُبْدَ لَكُمْ} أي وإِن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان نزول الوحي تظهر لكم تلك التكاليف التي تسؤكم فلا تسألوا عنها {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عفا الله عن مسائلكم السالفة التي لا ضرورة لها وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية فلا تعودوا إلى مثلها {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي واسع المغفرة عظيم الفضل والإِحسان ولذلك عفا عنكم ولم يعاجلكم بالعقوبة.

{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي سأل أمثال هذه المسائل قومٌ قبلكم فلما أعطوها وفُرضت عليهم كفروا بها ولهذا قال {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أي صاروا بتركهم العمل بها كافرين وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا.



التحليل والتحريم لله وحده سبحانه وتعالى

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(103)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ(104)}



{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} كان أهل الجاهلية إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وحرموا ركوبها وهي البحيرة، وكان الرجل يقول: إذا قدمتُ من سفري أو برئتُ من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإِذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها وهي الوصيلة، وإذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره وهو الحام، فلما جاء الإِسلام أبطل هذه العادات كلها فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي ولكنَّ الذين كفروا بالله يختلقون الكذب على الله وينسبون التحريم إليه فيقولون الله أمرنا بهذا وأكثرهم لا يعقلون أن هذا افتراء لأنهم يقلّدون فيه الآباء ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أي وإذا قيل لهؤلاء الضالين هلموا إلى حكم الله ورسوله فيما حلّلتم وحرّمتم {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا} أي يكفينا دين آبائنا {أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} الهمزة للإِنكار والغرض والتوبيخ أي أيتبعون آباءهم فيما هم عليه من الضلال ولو كانوا لا يعلمون شيئاً من الدين ولا يهتدون إلى الحق؟



الهداية من الله والمرجع إليه



{يا أيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي احفظوها عن ملابسة المعاصي والإِصرار على الذنوب والزموا إصلاحها {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي لا يضركم ضلال من ضلَّ من الناس إذا كنتم مهتدين، قال الزمخشري: كان المسلمون تذهب أنفسهم حسرة على الكفرة يتمنون دخولهم في الإِسلام فقيل لهم عليكم أنفسكم بإصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يضركم الضلاَّل عن دينكم إذا كنتم مهتدين كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات}.

وقال أبو السعود: ولا يتوهمنّ أحدٌ أنّ في الآية رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن من جملة الاهتداء أن ينكر وقد روي أن الصدّيق قال يوماً على المنبر: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيرّوه عمّهم الله بعقابه {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أي مصيركم ومصير جميع الخلائق إلى الله { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم بأعمالكم، قال البيضاوي: هذا وعدٌ ووعيد للفريقين، وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره.



الحض على الوصية والاهتمام بأمرها





{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ(106)فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ(107)ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(108)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} أي يا أيها المؤمنون إذا شارف أحدكم على الموتِ وظهرت علائمه فينبغي أن يُشهد على وصيته {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي يُشهد على الوصية شخصين عدلين من المسلمين أو أثنان من غير المسلمين إن لم تجدوا شاهدين منكم {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي إن أنتم سافرتم فقاربكم الأجل ونزل بكم الموت {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصلاةِ} أي توقفونهما من بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف عديّاً وتميماً بعد العصر على المنبر {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي يحلفان بالله إن شككتم وارتبتم في شهادتهما، قال أبو السعود: أي إن ارتاب بهما الوارث منكم بخيانةٍ وأخذ شيء من التركة فاحبسوهما وحلفوهما بالله {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي يحلفان بالله قائلَين: لا نحابي بشهادتنا أحداً ولا نستبدل بالقسم بالله عرضاً من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذبين من أجل المال ولو كان من نُقسم له قريباً لنا {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} أي ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها إنّا إن فعلنا ذلك كنا من الآثمين .

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي فإن اطُّلع بعد حلفهما على خيانتهما أو كذبهما في الشهادة { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} أي فرجلان آخران من الورثة المستحقين للتركة يقومان مقام الشاهدين الخائنين وليكونا من أولى من يستحق الميراث {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي يحلفان بالله لشهادتنا أصدق وأولى بالسماع والاعتبار من شهادتهما لأنهما خانا {وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي وما اعتدينا فيما قلنا فيهما من الخيانة إنّا إذا كذبنا عليهم نكون من الظالمين .

{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}أي ذلك الحكم أقرب أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها من غير تغيير ولا تبديل {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} أي خافوا ربكم وأطيعوا أمره {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي والله لا يهدي الخارجين عن طاعته إلى جنته ورحمته.



تذكيرٌ باليوم الآخر

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ(109)}



{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} أي اذكروا أيها الناس ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة حين يجمع الله الرسل والخلائق للحساب والجزاء {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي ما الذي أجابتكم به أممكم؟ وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إِلى الإِيمان والتوحيد؟ {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} أي لا علم لنا إِلى جنب علمك، قال ابن عباس: أي لا علم لنا إِلا علم أنت أعلم به منا {إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} أي تعلم ما لا نعلم ممّا ظهر وبطن، قال أبو السعود: وفيه إِظهارٌ للشكوى وردٌ للأمر إِلى علمه تعالى بما لقوا من قومهم من الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاءٌ إِلى ربهم في الانتقام منهم.



معجزات عيسى عليه السلام



{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(110)وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءامنوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111)}



{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ} قال ابن كثير: يذكر تعالى ما منَّ به على عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام بما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات أي اذكر نعمتي عليك في خلقي إِياك من أمّ بلا ذكر وجعلي إِيّاك آية قاطعة على كمال قدرتي، وعلى والدتك حيث جعلتك برهاناً على براءتها ممّا اتهمها به الظالمون من الفاحشة، وقال القرطبي: هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال: اذكر يوم يجمع الله الرسل وإِذا يقول لعيسى كذا وذكر بلفظ الماضي {إِذْ قَال} تقريباً للقيامة لأن ما هو آتٍ قريب.

{إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي حين قوّيتك بالروح الطاهرة المقدسة "جبريل" عليه السلام {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا} أي تكلّم الناس في المهد صبيّاً وفي الكهولة نبياً {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} أي واذكر نعمتي عليك حين علمتك الكتابة والحكمة وهي العلم النافع مع التوراة والإِنجيل {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} أي واذكر أيضاً حين كنت تصوّر الطين كصورة الطير بتيسيري وأمري {فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} أي فتنفخ في تلك الصورة والهيئة فتصبح طيراً بأمر الله ومشيئته {وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي} أي تشفي الأعمى الذي لا يبصر والأبرص الذي استعصى شفاؤه بأمري ومشيئتي.

{وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} أي تحيي الموتى بأمري ومشيئتي، وكرر لفظ {بِإِذْنِي} مع كل معجزة رداً على من نسب الربوبية إِلى عيسى ولبيان أن تلك الخوارق من جهته سبحانه أظهرها على يديه معجزة له {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي واذكر حين منعتُ اليهود من قتلك لمّا همّوا وعزموا على الفتك بك حين جئتهم بالحجج والمعجزات {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي قال الذين جحدوا نبوتك ولم يؤمنوا بك ما هذه الخوارق إِلا سحرٌ ظاهر واضح.

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءامنوا بِي وَبِرَسُولِي} وهذا أيضاً من الامتنان على عيسى أي واذكر حين أمرتُ الحواريين وقذفت في قلوبهم أن صدّقوا بي وبرسولي عيسى بن مريم {قَالُوا ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي قال الحواريون صدّقنا يا رب بما أمرتنا واشهد بأننا مخلصون في هذا الإِيمان خاضعون لأمر الرحمن.



قصة المائدة



{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(112)قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ(113)قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا وَءايَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ(114)قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ(115)}



{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} أي واذكر حين قال الحواريون يا عيسى هل يقدر ربك على إِنزال مائدة من السماء علينا؟ قال القرطبي: وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ويجوز أن يكون ذلك صدر ممن كان معهم من الجهال كما قال بعض قوم موسى {اجعل لنا إِلهاً كما لهم آلهة} وقال أبو حيان: وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى على أن ينزّل مائدة من السماء وهذا ما ذهب إِليه الزمخشري وأما غيره من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين وهم خواص عيسى وأنهم لم يشكّوا في ذلك حتى قال الحسن: لم يشكوا في قدرة الله وإِنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزّل أم لا؟ فإِن كان ينزّل فاسأله لنا فسؤالهم كان للاطمئنان والتثبت {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اتقوا الله في أمثال هذه الأسئلة إِن كنتم مصدقين بكمال قدرته تعالى.

{قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} أي قال الحواريون نريد بسؤالنا المائدة أن نأكل منها تبركاً وتسكن نفوسنا بزيادة اليقين {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي ونعلم علماً يقيناً لا يحوم حوله شائبة من الشك بصدقك في دعوى النبوة {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس.

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} أجابهم عيسى إِلى سؤال المائدة لإِلزامهم بالحجة الدامغة وروي أنه لما أراد الدعاء لبس جبة شعر ورداء وقام يصلي ويدعو ربه ويبكي، قال أبو السعود: نادى عيسى ربه مرتين: مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات، ومرة بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إِظهاراً لغاية التضرع { تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا} أي يكون يوم فرح وسرور لنا ولمن يأتي بعدنا {وَءايَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} أي ودلالة وحجة شاهدة على صدق رسولك وارزقنا يا ألله فإِنك خير من يعطي ويرزق الغني الحميد {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} أي أجاب الله دعاءه فقال إِني سأنزل عليكم هذه المائدة من السماء {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} أي من كفر بعد تلك الآية الباهرة فسوف أعذبه عذاباً شديداً لا أُعذّب مثل ذلك التعذيب أحداً من البشر وفي الحديث (أُنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأُمروا ألا يدّخروا لغدٍ ولا يخونوا فخافوا وادخروا ورفعوا لغدٍ فمسخوا قردة وخنازير) قال في التسهيل: جرت عادة الله عز وجل بعقاب من كفر بعد أن يقترح آية ثم يعطاها، ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
سورة الأنعام




بَين يَدَيْ السُّورَة



سورة الأنعام إِحدى السور المكية الطويلة التي يدور محورها حول "العقيدة وأصول الإِيمان" وهي تختلف في أهدافها ومقاصدها عن السور المدنية التي سبق الحديث عنها كالبقرة، آل عمران، والنساء، والمائدة، فهي لم تعرض لشيءٍ من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين، كالصوم والحج والعقوبات وأحكام الأسرة، ولم تذكر أمور القتال ومحاربة الخارجين على دعوة الإِسلام، كما لم تتحدث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ولا على المنافقين، وإِنما تناولت القضايا الكبرى الأساسية لأصول العقيدة والإِيمان، وهذه القضايا يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- قضية الألوهية 2- قضية الوحي والرسالة 3- قضية البعث والجزاء.



* نجد الحديث في هذه السورة مستفيضاً يدور حول هذه الأصول الأساسية للدعوة الإِسلامية، ونجد سلاحها في ذلك الحجة الدامغة، والدلائل الباهرة، والبرهان القاطع في طريق الإِلزام والإِقناع لأن السورة نزلت في مكة على قوم مشركين. ومما يلفت النظر في السورة الكريمة أنها عرضت لأسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بهذه الكثرة في غيرها من السور هما: 1- أسلوب التقرير 2- أسلوب التلقين.



* أما الأول: "أسلوب التقرير" فإِن القرآن يعرض الأدلة المتعلقة بتوحيد الله والدلائل المنصوبة على وجوده وقدرته، وسلطانه وقهره، في صورة الشأن المسلَّم، ويضع لذلك ضمير الغائب عن الحسّ الحاضر في القلب الذي لا يماري فيه قلب سليم ولا عقل راشد في أنه تعالى المبدع للكائنات صاحب الفضل والإِنعام فيأتي بعبارة "هو" الدالة على الخالق المدبر الحكيم، استمع قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } .. {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } .. {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} .. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } .. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ....} إلخ.



* أما الثاني: "أسلوب التلقين" فإِنه يظهر جليا في تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم تلقين الحجة ليقذف بها في وجه الخصم بحيث تأخذ عليه سمعه، وتملك عليه قلبه فلا يستطيع التخلص أو التفلت منها، ويأتي هذا الأسلوب بطريق السؤال والجواب يسألهم ثم يجيب استمع إِلى الآيات الكريمة {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .. {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }.. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} .. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آية مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آية وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وهكذا تعرض السورة الكريمة لمناقشة المشركين وإِفحامهم بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة التي تقصم ظهر الباطل. ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن في تركيز الدعوة الإِسلامية، تقرر حقائقها، وتثبّت دعائمها، وتفنّد شبه المعارضين لها بطريق التنويع العجيب في المناظرة والمجادلة، فهي تذكر توحيد الله جلَّ وعلا في الخلق والإِيجاد، وفي التشريع والعبادة، وتذكر موقف المكذبين للرسل وتقص عليهم ما حاق بأمثالهم السابقين، وتذكر شبههم في الوحي والرسالة، وتذكر يوم البعث والجزاء، وتبسط كل هذا بالتنبيه إِلى الدلائل في الأنفس والآفاق، وفي الطبائع البشرية وقت الشدة والرخاء .. وتذكر أبا الأنبياء إِبراهيم وجملة من أبنائه الرسل وترشد الرسول صلى الله عليه وسلم إِلى اتباع هداهم وسلوك طريقهم في احتمال المشاق وفي الصبر عليها، وتعرض لتصوير حال المكذبين يوم الحشر، وتفيض في هذا بألوان مختلفة ثم تعرض لكثير من تصرفات الجاهلية التي دفعهم إِليها شركهم فيما يختص بالتحليل والتحريم وتقضي عليه بالتفنيد والإِبطال، ثم تختم السورة بعد ذلك - في ربع كامل - بالوصايا العشر التي نزل في كل الكتب السابقة، ودعا إِليها جميع الأنبياء السابقين {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..} الآية وتنتهي بآية فذة تكشف للإِنسان عن مركزه عند ربه في هذه الحياة. وهو أنه خليفةٌ في الأرض، وأن الله سبحانه جعل عمارة الكون تحت يد الإِنسان تتعاقب عليها أجياله، ويقوم اللاحق منها مقام السابق، وأن الله سبحانه قد فاوت في المواهب بين أفراد الإِنسان لغاية سامية وحكمة عظيمة وهي "الابتلاء والاختبار" في القيام بتبعات هذه الحياة، وذلك شأن يرجع إِليه كمال المقصود من هذا الخلق وذلك النظام {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.



التسميَة:

سميت بـ "سورة الأنعام" لورود ذكر الأنعام فيها {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ..} ولأن أكثر أحكامها الموضحة لجهالات المشركين تقرباً بها إلى أصنامهم مذكورة فيها، ومن خصائصها ما روي عن ابن عباس أنه قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملةً واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح.





انفراد الله بالألوهية والوحدانية



{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ(2)وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3)}



{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} بدأ تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه تعليماً لعباده أن يحمدوه بهذه الصيغة الجامعة لصنوف التعظيم والتبجيل والكمال وإعلاماً بأنه المستحق لجميع المحامد فلا نِدَّ له ولا شريك، ولا نظير ولا مثيل ومعنى الآية: احمدوا الله ربكم المتفضل عليكم بصنوف الإِنعام والإِكرام الذي أوجد وأنشأ وابتدع خلق السماوات والأرض بما فيهما من أنواع البدائع وأصناف الروائع، وبما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة، بما يدهش العقول والأفكار تبصرة وذكرى لأولي الأبصار {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أي وأنشأ الظلمات والأنوار وخلق الليل والنهار يتعاقبان في الوجود لفائدة العوالم بما لا يدخل تحت حصر أو فكر، وجمع الظلمات لأن شعب الضلال متعددة، ومسالكه متنوعة، وأفرد النور لأن مصدره واحد هو الرحمن منوّر الأكوان قال في التسهيل: وفي الآية ردٌّ على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار، وقولهم إِن الخير من النور والشر من الظلمة، فإِن المخلوق لا يكون إِلهاً ولا فاعلاً لشيء من الحوادث {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُون} أي ثم بعد تلك الدلائل الباهرة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته يشرك الكافرون بربهم فيساوون به أصناماً نحتوها بأيديهم، وأوهاماً ولّدوها بخيالهم، ففي ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم قال ابن عطية: الآية دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلقه السموات والأرض وغيرها قد تقرر، وءاياته قد سطعت، وإِنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتُك وأكرمتُك وأحسنتُ إِليك ثم تشتمني؟ أي بعد وضوح هذا كله {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} أي خلق أباكم آدم من طين {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} أي حكم وقدَّر لكم أجلاً من الزمن تموتون عند انتهائه {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} أي وأجلٌ مسمّى عنده لبعثكم جميعاً، فالأجل الأول الموتُ والثاني البعثُ والنشور {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} أي ثم أنتم أيها الكفار تشكّون في البعث وتنكرونه بعد ظهور تلك الآيات العظيمة {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} أي هو الله المعظّم المعبود في السماوات والأرض قال ابن كثير: أي يعبده ويوحده ويقر له بالألوهية من في السماوات والأرض ويدعونه رغباً ورهباً ويسمونه الله {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي يعلم سركم وعَلَنكم {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي من خير أو شر وسيجازيكم عليه.



موقف الكفار من دعوات الأنبياء



{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ ءاية مِنْ ءايات رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(4)فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون(5)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءاخَرِينَ(6)}



ثم أخبر تعالى عن عنادهم وإِعراضهم فقال {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ ءاية مِنْ ءايات رَبِّهِمْ} أي ما يظهر لهم دليل من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو ءاية من ءايات القرآن {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي إلاّ تركوا النظر فيها ولم يلتفتوا إليها قال القرطبي: والمراد تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله عز وجل، والمعجزات التي أقامها لنبيه صلى الله عليه وسلم التي يستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به عن ربه {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ} أي كذبوا بالقرآن الذي جاءهم من عند الله{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي سوف يحل بهم العقاب إن عاجلاً أم آجلاً ويظهر لهم خبر ما كانوا به يستهزئون، وهذا وعيدٌ بالعذاب والعقاب على استهزائهم، ثم حضهم تعالى على الاعتبار بمن سبقهم من الأمم فقال {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أي ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم من قبلهم لتكذيبهم الأنبياء ألا يعرفوا ذلك؟ {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} أي منحناهم من أسباب السعة والعيش والتمكين في الأرض ما لم نعطكم يا أهل مكة {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} أي أنزلنا المطر غزيراً متتابعاً يدرُ عليهم درّاً {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} أي من تحت أشجارهم ومنازلهم حتى عاشوا في الخِصب والريف بين الأنهار والثمار{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي فكفروا وعصوا فأهلكناهم بسبب ذنوبهم، وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم في الأرض {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي أحدثنا من بعد إِهلاك المكذبين قوماً آخرين غيرهم قال أبو حيان: وفيه تعريض للمخاطبين بإِهلاكهم إِذا عصوا كما أهلك من قبلهم.



مطالب الكفار والردّ عليها



{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(7)وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ(8)وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(9)}



{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} أي لو نزّلنا عليك يا محمد كتاباً مكتوباً على ورقٍ كما اقترحوا {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} أي فعاينوا ذلك ومسّوه باليد ليرتفع عنهم كل إِشكال ويزول كل ارتياب {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي لقال الكافرون عند رؤية تلك الآية الباهرة تعنتاً وعناداً ما هذا إِلا سحرٌ واضح، والغرضُ أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات وأظهر الدلائل {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي هلاّ أنزل على محمد ملك يشهد بنبوته وصدقه و {لَوْلا} بمعنى هلاّ للتحضيض قال أبو السعود: أي هلاّ أُنزل عليه ملك بحيث نراه ويكلمنا أنه نبيّ وهذا من أباطيلهم المحقّقة وخرافاتهم الملفّقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحِيَل وعييت بهم العلل {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} أي لو أزلنا الملك كما اقترحوا وعاينوه ثم كفروا لحقَّ إِهلاكهم كما جرت عادة الله بأن من طلب ءاية ثم لم يؤمن أهلكه الله حالاً { ثُمَّ لا يُنظَرُون} أي ثم لا يمهلون ولا يؤُخرون، والآية كالتعليل لعدم إِجابة طلبهم، فإِنهم - في ذلك الإِقتراح - كالباحث عن حتفه بظِلْفه {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} أي لو جعلنا الرسول ملكاً لكان في صورة رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي لخلطنا عليهم ما يخلطون عن أنفسهم وعلى ضعفائهم، فإنهم لو رأوا الملك في صورة إِنسان قالوا هذا إِنسانٌ وليسب بملك قال أبو عباس: لو أتاهم ملكٌ ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
الدعوة إلى العظة والاعتبار بآثار من خلا من الأمم



{وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(10)قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)}.



ثم قال تعالى تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} أي والله لقد استهزأ الكافرون من كل الأمم بأنبيائهم الذين بعثوا إِليهم {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي أحاط ونزل بهؤلاء المستهزئين بالرسل عاقبة استهزائهم، وفي هذا الإِخبار تهديد للكفار {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين الساخرين: سافروا في الأرض فانظروا وتأملوا ماذا حلّ بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب لتعتبروا بآثار من خلا من الأمم كيف أهلكهم الله وأصبحوا عبرةً للمعتبرين.



أدلة للاحتجاج على المشركين المنكرين



{ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(12)وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(13)قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(14)قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ(16)}



{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قل يا محمد لمن الكائنات جميعاً خلقاً وملكاً وتصرفاً؟ والسؤال لإِقامة الحجة على الكفار فهو سؤال تبكيت {قُلْ لِلَّهِ} أي قل لهم تقريراً وتنبيهاً هي لله لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة لأنه خالق الكل إِما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي ألزم نفسه الرحمة تفضلاً وإِحساناً والغرضُ التلطف في دعائهم إِلى الإِيمان وإِنابتهم إِلى الرحمن {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} أي ليحشرنكم من قبوركم مبعوثين إِلى يوم القيامة الذي لا شك فيه ليجازيكم بأعمالكم {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي أضاعوها بكفرهم وأعمالهم السيئة في الدنيا فهم لا يؤمنون ولهذا لايقام لهم وزن في الآخرة وليس لهم نصيب فيها سوى الجحيم والعذاب الأليم {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي لله عز وجل ما حلّ واستقر في الليل والنهار الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه، والمراد عموم ملكه تعالى لكل شيء {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوال العباد العليم بأحوالهم {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} الاستفهام للتوبيخ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أغير الله أتخذ معبوداً {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} أي هو جل وعلا يرْزق ولا يُرْزَق قال ابن كثير: أي هو الرازق لخلقه من غير احتياج إليهم {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي قل لهم يا محمد إِن ربي أمرني أن أكون أول من أسلم لله من هذه الأمة {وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} أي وقيل لي: لا تكوننَّ من المشركين قال الزمخشري ومعناه: أُمرتُ بالإِسلام ونُهيت عن الشرك {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي قل لهم أيضاً إِنني أخاف إِن عبدتُ غير ربي عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} أي من يصرف عنه العذاب فقد رحمه الله{وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}أي النجاة الظاهرة.



إيجاب التوحيد والبراءة من الشرك



{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(18)قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(19)}..



{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} أي إِن تنزل بك يا محمد شدةٌ من فقرٍ أو مرضٍ فلا رافع ولا صارف له إِلا هو ولا يملك كشفه سواه {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وإِن يصبك بخيرٍ من صحةٍ ونعمة لا رادّ له لأنه وحده القادر على إِيصال الخير والضر، قال في التسهيل: والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى بالضر والخير وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} قال ابن كثير: أي هو الذي خضعت له الرقاب وذلّت له الجبابرة وعنت له الوجوه وقهر كل شيء وهو الحكيم في جميع أفعاله الخبير بمواضع الأشياء.

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} أي قل لهم يا محمد أي شيء أعظم شهادة حتى يشهد لي بأني صادقٌ في دعوى النبوة؟ {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي أجبهم أنت وقل لهم الله يشهد لي بالرسالة والنبوة وكفى بشهادة الله لي شهادة قال ابن عباس: قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل لهم أي شيء أكبر شهادة فإِن أجابوك وإِلاّ فقل لهم الله شهيد بيني وبينكم {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي وأوحي إِليَّ هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إِلى يوم القيامة قال ابن جزيّ: والمقصودُ بالآية الاستشهاد بالله - الذي هو أكبر شهادة - على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإِظهار معجزته الدالة على صدقه{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءالِهَةً أُخْرَى} استفهام توبيخ أي أئنكم أيها المشركون لتقرون بوجود آلهة مع الله؟ فكيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الأدلة وقيام الحجة على وحدانية الله؟ {قُلْ لا أَشْهَدُ} أي قل لهم لا أشهد بذلك {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قل يا محمد إِنما أشهد بأن الله واحد أحدٌ، فرد صمد {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أي وأنا بريء من هذه الأصنام.



تبرؤ المشركين من الشرك يوم القيامة



{ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(20)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(21)وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(22)ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23)انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)}.



ثم ذكر تعالى أن الكفار بين جاهل ومعاند فقال {الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} يعني اليهود والنصارى الذين عرفوا وعاندوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته على ما هو مذكور في التوراة والإِنجيل كما يعرف الواحد منهم ولده لا يشك في ذلك أصلاً قال الزمخشري: وهذا استشهادٌ لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب وبصحة نبوته {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي أولئك هم الخاسرون لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الآيات {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتهِ} الاستفهام إِنكاري ومعناه النفي أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب أو كذّب بالقرآن والمعجزات الباهرة وسمّاها سحراً قال أبو السعود: وكلمة {أو} للإِيذان بأن كلاً من الافتراء والتكذيب وحده بالغٌ غاية الإِفراط في الظلم، فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله ونفوا ما أثبته! قاتلهم الله أنّى يؤفكون {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا يفلح المفتري ولا المكذّب وفيه إِشارة إِلى أن مدّعي الرسالة لو كان كاذباً لكان مفترياً على الله فلا يكون محلاً لظهور المعجزات {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي اذكر يوم نحشرهم جميعاً للحساب ونقول لهم على رؤوس الأشهاد {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؟ قال البيضاوي: والمراد من الاستفهام التوبيخ و {تَزعُمون} أي تزعمونهم آلهة وشركاء مع الله فحذف المفعولان ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذٍ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها قال ابن عباس: كل زعم في القرآن فهو كذب {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق {إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي أقسموا كاذبين بقولهم والله يا ربنا ما كنا مشركين قال القرطبي: تبرؤوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين قال ابن عباس: يغفر الله لأهل الإِخلاص ذنوبهم فإِذا رأى المشركون ذلك قالوا تعالوا نقول: إِنّا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي انظر يا محمد كيف كذبوا على أنفسهم بنفي الإِشراك عنها أمام علاّم الغيوب، وهذا للتعجيب من كذبهم الصريح {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم وغاب عنهم ما كانوا يفترونه على الله من الشركاء.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
دعوة إلى عدم القنوت من رحمة الله



{ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(54)وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(55)}.



{وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} قال القرطبي: نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم فكان إِذا رآهم بدأهم بالسلام وقال (الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام) وأُمر صلى الله عليه وسلم بأن يبدأهم بالسلام إِكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي ألزم نفسه الرحمة تفضلاً منه وإِحساناً {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} أي خطيئة من غير قصد قال مجاهد: أي لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته ركب الأمر {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ثم تاب من بعد ذلك الذنب وأصلح عمله فإن الله يغفر له، وهو وعدٌ بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات} أي كما فصلنا في هذه السورة الدلائل والحجج على ضلالات المشركين كذلك نبيّن ونوضّح لكم أمور الدين {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي ولتتوضح وتظهر طريق المجرمين فينكشف أمرهم وتستبين سبلُهم.



تبرُّؤ النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين وما يعبدون



{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(56)قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ(57)قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ(58)}.



{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إني نُهيت أن أعبد هذه الأصنام التي زعمتموها آلهة وعبدتموها من دون الله {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} أي في عبادة غير الله، وفيه تنبيه على سبب ضلالهم {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي قد ضللت إِن أتبعتُ أهواءكم ولا أكون في زمرة المهتدين {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إِليّ {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أي وكذبَّتم بالحق الذي جاءني من عند الله {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي ليس عندي ما أبادركم به من العذاب قال الزمخشري: يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم {فأمطر علينا حجارة من السماء} {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} أي ما الحكم في أمر العذاب وغيره إلا لله وحده {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي يخبر الخبر الحق ويبينه البيان الشافي وهو خير الحاكمين بين عباده {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي لو أن بيدي أمر العذاب الذي تستعجلونه {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي لعجلته لكم لأستريح منكم ولكنه بيد الله قال ابن عباس: لم أهملكم ساعةً ولأهلكتكم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} أي هو تعالى أعلم بهم إِن شاء عاجلهم وإِن شاء أخرّ عقوبتهم، وفيه وعيد وتهديد.



علم الله التام بالكليات والجزئيات



{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(59)وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(60)وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ(61)ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ(62)}



{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} أي عند الله خزائن الغيب وهي الأمور المغيّبة الخفيّة لا يعلمها ولا يحيط بها إِلا هو {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي ويعلم ما في البر والبحر من الحيوانات الجميلة وتفصيلاً وفي كلٍ عوالم وعجائب وسعها علمه وقدرته {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} مبالغةٌ في إِحاطة علمه بالجزئيات أي لا تسقط ورقة من الشجر إِلا يعلم وقت سقوطها والأرض التي تسقط عليها {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ} أي ولا حبة صغيرة في باطن الأرض إِلا يعلم مكانها وهل تنبت أو لا وكم تنبتُ ومن يأكلها {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي ولا شيءٍ فيه رطوبة أو جفاف إِلا وهو معلوم عند الله ومسجّل في اللوح المحفوظ قال أبو حيان: وانظر إِلى حسن ترتيب هذه المعلومات: بدأ أولاً بأمرٍ معقول لا ندركه نحن بالحسّ وهو{مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ثم ثانياً بأمرٍ ندرك كثيراً منه بالحسّ وهو {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ثم ثالثاً بجزأين لطيفين أحدهما علوي وهو سقوط الورقة من علوّ والثاني سفلي وهو اختفاء حبةٍ في بطن الأرض فدل ذلك على أنه تعالى عالمٌ بالكليّات والجزئيات {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أي ينيمكم بالليل ويعلم ما كسبتم من العمل بالنهار قال القرطبي: وليس ذلك موتاً حقيقةً بل هو قبض الأرواح، قال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم، وفي هذا اعتبار واستدلالٌ على البعث الأخروي {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} أي ثم يوقظكم في النهار لتبلغوا الأجل المسمّى لانقطاع حياتكم، والضمير عائد على النهار لأن غالب اليقظة فيه وغالب النوم بالليل {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي ثم مرجعكم إِليه يوم القيامة {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها إِن خيراً فخيرٌ، وإِن شراً فشرٌّ، ثم ذكر تعالى جلاله عظمته وكبريائه فقال {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} أي هو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} أي ملائكة تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون قال أبو السعود: وفي ذلك حكمة جميلة ونعمة جليلة لأن المكلّف إِذا علم أن أعماله تُحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي حتى إِذا انتهى أجل الإِنسان توفته الملائكة الموكلون بقبض الأرواح والمعنى أن حفظ الملائكة للأشخاص ينتهي عند نهاية الأجل فهم مأمورون بحفظ ابن آدم ما دام حياً فإِذا انتهى أجله فقد انتهى حفظهم له {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} أي لا يقصّرون في شيءٍ مما أُمروا به من الحفظ والتوفي {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أي ثم يردُّ العباد بعد البعث إِلى الله خالقهم ومالكهم الذي له الحكم والتصرف والذي لا يقضي إِلا بالعدل {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أي له جل وعلا الحكم وحده يوم القيامة وله الفصل والقضاء لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن، يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا كما ورد به الحديث وروي أنه يحاسب الناس في مقدار حلب شاة.



إنجاء الله المضطرين من ظلمات البر والبحر



{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(63)قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ(64)}.



{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفرة من ينقذكم ويخلصكم في أسفاركم من شدائد وأهوال البر والبحر؟ {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي تدعون ربكم عند معاينة هذه الأهوال مخلصين له الدعاء مظهرين الضراعة، تضرعاً بألسنتكم وخفية في أنفسكم قال ابن عباس المعنى: تدعون ربكم علانيةً وسراً قائلين {لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي لئن خلّصتنا من هذه الظلمات والشدائد لنكوننَّ من المؤمنين الشاكرين والغرض: إِذا خفتم الهلاك دعوتموه فإِذا نجّاكم كفرتموه قال القرطبي: وبّخهم الله في دعائهم إِيّاه عند الشدائد وهم يدعون معه في حالة الرخاء غيره {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} أي الله وحده ينجّيكم من هذه الشدائد ومن كل كربٍ وغمّ {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} تقريعٌ وتوبيخ أي ثم أنتم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققه تشركون به ولا تؤمنون.



ألوان مختلفة من العذاب



{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65)وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ(66)لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(67)}.



{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفرة إِنه تعالى قادر على إِهلاككم بإِرسال الصواعق من السماء وما تلقيه البراكين من الأحجار والحُمَم وكالرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح كما فُعل بمن قبلكم {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} بالخسف والزلازل والرجفة كما فُعل بقارون وأصحاب مدين {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} أي يجعلكم فرقاً متحزبين يقاتل بعضكم بعضاً قال البيضاوي: أي يخلطكم فرقاً متحزبين على أهواء شتّى فينشب القتال بينكم وقال ابن عباس: أي يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقاً، والكل متقارب والغرض منه الوعيد {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} أي انظر كيف نبيّن ونوضّح لهم الآيات بوجوه العِبَر والعظات ليفهموا ويتدبروا عن الله ءاياته وبراهينه وحججه، عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: أعوذ بوجهك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه أهون وأيسر {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} أي وكذَّب بهذا القرآن قومك يا محمد - وهم قريش - وهو الكتاب المنزّل بالحق {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي لستُ عليكم بحفيظ ومتسلّط إِنما أنا منذر {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} أي لكل خبرٍ من أخبار الله عز وجل وقتٌ يقع فيه من غير خُلْفٍ ولا تأخير {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} مبالغة في الوعيد والتهديد أي سوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب.



النهي عن مجالسة المستهزئين بالقرآن وأهل الكبائر



{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءاياتنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(68)وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(69)وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(70)}.



{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءاياتنَا} أي إِذا رأيت هؤلاء الكفار يخوضون في القرآن بالطعن والتكذيب والاستهزاء {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي لا تجالسهم وقم عنهم حتى يأخذوا في كلامٍ آخر ويدعوا الخوض والاستهزاء بالقرآن قال السدي: كان المشركون إِذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبّوه واستهزؤوا به فأمرهم الله ألاّ يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} أي إِن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم فجالستهم ثم تذكرت {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تجلس بعد تذكر النهي مع الكفرة والفسّاق الذين يهزؤون بالقرآن والدين قال ابن عباس: أي قم إِذا ذكرت النهي ولا تقعد مع المشركين {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وإِضلالهم إِذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي ولكنْ عليهم أن يذكّروهم ويمنعوهم عمّا هم عليه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير، ويُظهروا لهم الكراهة لعلهم يجتنبون الخوض في القرآن حياءً من المؤمنين إِذا رأوهم قد تركوا مجالستهم قال ابن عطية: ينبغي للمؤمن أن يتمثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} أي اترك هؤلاء الفجرة الذين اتخذوا الدين الذي كان ينبغي احترامه وتعظيمه لعباً ولهواً باستهزائهم به {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي خدعتهم هذه الحياة الفانية حتى زعموا أن لا حياة بعدها أبداً {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي وذكّر بالقرآن الناس مخافة أن تُسْلم نفسٌ للهلاك وتُرهن بسوء عملها {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} أي ليس لها ناصرٌ ينجيها من العذاب ولا شفيع يشفع لها عند الله{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} أي وإِن تُعْط تلك النفس كل فدية لا يقبل منها قال قتادة: لو جاءت بملء الأرض ذهباً لم يُقبل منها {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} أي أُسلموا لعذاب الله بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الشنيعة {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي لهؤلاء الضالين شرابٌ من ماء مغليّ يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم، ونارٌ تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم المستمر فلهم مع الشراب الحميم العذاب الأليم والهوان المقيم.



الثبات على الحق والهداية، والبعد عن الضلال والشرك



{قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(71)وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(73)}.



{قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي قل لهم يا محمد أنعبد ما لا ينفعنا إِن دعوناه ولا يضرنا إِن تركناه؟ والمراد به الأصنام {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} أي نرجع إِلى الضلالة بعد الهدي {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} أي بعد أن هدانا الله للإِسلام {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ} أي فيكون مثلنا كمثل الذي اختطفته الشياطين وأضلته وسارت به في المفاوز والمهالك فألقته في هوّة سحيقة {حَيْرَانَ} أي متحيراً لا يدري {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} أي إِلى الطريق الواضح يقولون أئتنا فلا يقبل منهم ولا يستجيب لهم {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} أي قل لهؤلاء الكفار إِنَّ ما نحن عليه من الإِسلام هو الهدى وحده وما عداه ضلال {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي أُمرنا بأن نستسلم لله عز وجل ونخلص له العبادة في جميع أمورنا وأحوالنا، وهذا تمثيلٌ لمن ضلّ عن الهدى وهو يُدْعى إِلى الإِسلام فلا يُجيب قال ابن عباس: هذا مثلٌ ضربه الله للآلهة ومن يدعو إِليها وللدعاة الذين يدعون إِلى الله، كمثل رجلٍ ضلّ عن الطريق تائهاً ضالاً إِذ ناداه منادٍ يا فلان بن فلان هلُمَّ إِلى الطريق وله أصحاب يدعونه يا فلان هلُمَّ إِلى الطريق، فإِن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة وإِن أجاب من يدعوه إِلى الهدى اهتدى إلى الطريق يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله فإِنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت فيستقبل الهَلَكة والندامة {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} أي وأُمرنا بإِقامة الصلاة وبتقوى الله في جميع الأحوال {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي تجمعون إِليه يوم القيامة فيجازي كل عاملٍ بعمله {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي هو سبحانه الخالق المالك المدبر للسماوات والأرض ومن فيهما خلقهما بالحق ولم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} أي واتقوه واتقوا عقابه والشدائد يوم يقول كن فيكون قال أبو حيان: وهذا تمثيلٌ لإِخراج الشيء من العدم إِلى الوجود وسرعته لا أنَّ ثَمَّ شيئاً يؤمر {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} أي قوله الصدق الواقع لا محالة وله الملك يوم القيامة {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} أي يوم ينفخ إِسرافيل في الصور النفخة الثانية وهي نفخة الإِحياء {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي يعلم ما خفي وما ظهر وما يغيب عن الحواس والأبصار وما تشاهدونه بالليل والنهار {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} أي الحكيم في أفعاله الخبير بشؤون عباده.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
استعمال الحجج العقلية في إبطال مزاعم المشركين



{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(74)وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(76)فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77)فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(78)إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79)}.



{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} أي واذكر يا محمد لقومك عبدة الأوثان وقت قول إِبراهيم - الذي يدّعون أنهم على ملّته - لأبيه آزر منكراً عليه أتتخذ أصناماً آلهة تعبدها وتجعلها رباً دون الله الذي خلقك فسوّاك ورزقك؟ {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي فأنت وقومك في ضلال عن الحق مبين واضح لا شك فيه {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي نُري إِبراهيم المُلْك العظيم والسلطان الباهر {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أي وليكون من الراسخين في اليقين أريناه تلك الآيات الباهرة قال مجاهد: فُرجت له السماوات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} أي فلما ستر الليلُ بظلمته كل ضياء رأى كوكباً مضيئاً في السماء هو الزهرة أو المشتري {قَالَ هَذَا رَبِّي} أي على زعمكم قاله على سبيل الرد عليهم والتوبيخ لهم واستدراجاً لهم لأجل أن يعرّفهم جهلهم وخطأهم في عبادة غير الله قال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إِلى الحق من طريق النظر والاستدلال، ويعرّفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إِلى ألا يكون شيء منها إِلهاً وأن وراءها محدثاً أحدثها، ومدبراً دبّر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وقوله {هَذَا رَبِّي} قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطلٌ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأن ذلك أدعى إِلى الحق ثم يكرُّ عليه فيبطله بالحجة {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي فلما غاب الكوكب قال لا أحب عبادة من كان كذلك، لأن الرب لا يجوز عليه التغيّر والانتقال لأن ذلك من صفات الأجرام {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} أي فلما رأى القمر طالعاً منتشر الضوء قال هذا ربي على الأسلوب المتقدم لفتاً لأنظار قومه إِلى فساد ما يعبدونه وتسفيهاً لأحلامهم {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} أي فلما غاب القمر قال إِبراهيم لئن لم يثبتني ربي على الهدى لأكوننَّ من القوم الضالين، وفيه تعريضٌ لقومه بانهم على ضلا ل {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} أي هذا أكبر من الكوكب والقمر {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}أي فلما غابت الشمس قال أنا بريء من إشراككم وأصنامكم قال أبو حيان: لمّا أوضح لهم أن هذا الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون رباً ارتقب ما هو أنور منه وأضوأ فرأى القمر أول طلوعه، ثم لما غاب ارتقب الشمس إِذ كانت أنور من القمر وأضوأ، وأكبر جرماً وأعمّ نفعاً، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم وبيّن أنها مساوية للنجم في صفة الحدوث وقال ابن كثير: والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام والكواكب السيارة وأشدهن إضاءة الشمس ثم القمر ثم الزهرة فلما انتفت الإِلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع {قال يا قوم إني بريء مما تشركون} {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي قصدت بعبادتي وتوحيدي {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي الله الذي ابتدع العالم وخلق السماوات والأرض {حَنِيفاً} أي مائلاً عن الأديان الباطلة إِلى الدين الحق {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي لست ممن يعبد مع الله غيره.



أثر الإيمان الخالص في جلب الأمن والاستقرار



{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَآجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ(80)وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)الَّذِينَ ءامنوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)وَتِلْكَ حُجَّتُنَاءاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)}.



{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} أي جادلوه وناظروه في شأن التوحيد قال ابن عباس: جادلوه في آلهتهم وخوّفوه بها فأجابهم منكراً عليهم {قَالَ أَتُحَآجُّونِي فِي اللَّهِ} أي أتجادلوني في وجود الله ووحدانيته {وَقَدْ هَدَان} أي وقد بصّرني وهداني إِلى الحق {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي لا أخاف هذه الآلهة المزعومة التي تعبدونها من دون الله لأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع وليست قادرة على شيء مما تزعمون {إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} أي إِلا إذا أراد ربي أن يصيبني شيءٌ من المكروه فيكون {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي أحاط علمه بجميع الأشياء {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} استفهام للتوبيخ أي أفلا تعتبرون وتتعظون؟ وفي هذا تنبيهٌ لهم على غفلتهم التامة حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع وأشركوا مع ظهور الدلائل الساطعة على وحدانيته سبحانه {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} أي كيف أخاف آلهتكم التي أشركتموها مع الله في العبادة! {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} أي وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء الذي أشركتم به بدون حجة ولا برهان {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أيّنا أحقُّ بالأمن أنحن وقد عرفنا الله بأدلة وخصصناه بالعبادة أم أنتم وقد أشركتم معه الأصنام وكفرتم بالواحد الديان؟ {الَّذِينَ ءامنوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي لم يخلطوا إِيمانهم بشرك {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي لهم الأمن من العذاب وهم على هداية ورشاد، روي أن هذه الآية لما نزلت أشفق منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنون وإِنما هو كما قال لقمان لأبنه {يا بُنيَّ لا تشرك بالله إِن الشرك لظلمٌ عظيم} {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاَتيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} الإِشارة إِلى ما تقدم من الحجج الباهرة التي أيّد الله بها خليله عليه السلام أي هذا الذي احتج به إِبراهيم على وحدانية الله من أفول الكواكب والشمس والقمر من أدلتنا التي أرشدناه لها لتكون له الحجة الدامغة على قومه {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي بالعلم والفهم والنبوّة {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيم يضع الشيء في محله عليم لا يخفى عليه شيء.



مهام الأنبياء وتفضيلهم على العالمين



{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(84)وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ(85)وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ(86)وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(87)ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(88)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ(89)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ(90)}



{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي وهبنا لإِبراهيم ولداً وولد ولد لتقر عينه ببقاء العقب {كُلاً هَدَيْنَا} أي كلاً منهما أرشدناه إِلى سبيل السعادة وآتيناه النبوة والحكمة، قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لإِبراهيم إِسحاق بعد أن طعن في السنّ وأيس من الولد، وبُشّر بنبوته وبأن له نسلاً وعقباً وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وكان هذ مجازاةً لإِبراهيم حين اعتزل قومه وهاجر من بلادهم لعبادة الله، فعوّضه الله عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه لتقرَّ بهم عينه {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} أي من قبل إِبراهيم، وذكر تعالى نوحاً لأنه أب البشر الثاني فذكر شرف أبناء إِبراهيم ثم ذكر شرف آبائه {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} أي ومن ذرية إِبراهيم هؤلاء الأنبياء الكرام، وبدأ تعالى بذكر داود وسليمان لأنهما جمعا الملك مع النبوة وسليمان بن داود فذكر الأب والاِبن {وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ} قرنهما لاشتراكهما في الإِمتحان والبلاء {وَمُوسَى وَهَارُونَ} قرنهما لاشتركهما في الأخوّة وقدَّم موسى لأنه كليم الله {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي مثل ذلك الجزاء الكريم لإِبراهيم نجزي من كان محسناً في عمله صادقاً في إِيمانه {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإِعراض عن الدنيا {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي الكاملين في الصلاح {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} اسماعيل هو ابن إِبراهيم، ويونس بن متّى، ولوط بن هاران وهو ابن أخ إِبراهيم {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِين} أي كلاً من هؤلاء المذكورين في هذه الآية فضلناه بالنبوة على عالمي عصرهم {وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} أي وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإِخوانهم جماعاتٍ كثيرة {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي اصطفيناهم وهديناهم إِلى الطريق الحق المستقيم الذي لا عوج فيه قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إِلى ذرية إِبراهيم وإِن كان فيهم من لا يلحقه بولادةٍ من قبل أمٍ ولا أب {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي ذلك الهدى إِلى الطريق المستقيم هو هدى الله يهدي به من أراد من خلقه {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلو قدرهم لبطل عملهم فكيف بغيرهم؟ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} أي أنعمنا عليهم بإِنزال الكتب السماوية والحكمة الربانية والنبوة والرسالة {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} أي فإِن يكفر بآياتنا كفار عصرك يا محمد فقد استحفظناها واسترعيناها رسلنا وأنبياءنا {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} أي هؤلاء الرسل المتقدم ذكرهم هم الهداة المهديّون فتأس واقتد بسيرتهم العطرة {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي قل يا محمد لقومك لا أسألكم على تبليغ القرآن شيئاً من الأجر والمال {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إِلا عظةٌ وتذكير لجميع الخلق.



علاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة



{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا ءاباؤكم قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91)وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(92)}.



{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفوا الله حق معرفته ولا عظّموه حقَّ تعظيمه {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} أي حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل، والقائلون هم اليهود اللعناء تفوهوا بهذه العظيمة الشنْعاء مبالغة في إِنكار نزول القرآن على محمد عليه السلام {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المعاندين من أنزل التوراة على موسى نوراً يستضاء به وهداية لبني إِسرائيل؟ {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} أي تكتبونه في قراطيس مقطعة وورقات مفرقة تبدون منها ما تشاءون وتخفون ما تشاءون قال الطبري: ومما كانوا يكتمونه إِياهم ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا ءاباؤكم} أي عُلّمتم يا معشر اليهود من دين الله وهدايته في هذا القرآن ما لم تعلموا به من قبل لا أنتم ولا ءاباؤكم {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي قل لهم في الجواب: الله أنزل هذا القرآن ثم اتركهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يهزؤون ويلعبون، وهذا وعيدٌ لهم وتهديد على إِجرامهم {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أي وهذا القرآن الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مبارك كثير النفع والفائدة {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي يصدّق كتب الله المنزّلة كالتوراة والإِنجيل {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي لتنذر به يا محمد أهل مكة ومن حولها وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي والذين يصدّقون بالحشر والنشر يؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل في أوقاتها قال الصاوي: خصّ الصلاة بالذكر لأنها أشرف العبادات.



عاقبة المفترين والمشركين



{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءاياتهِ تَسْتَكْبِرُونَ(93)وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)}



{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} استفهام معناه النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء وأنداداً {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} أي زعم أن الله بعثه نبياً كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي مع أن الله لم يرسله {وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي ومن ادعى أنه سينظم كلاماً يماثل ما أنزله الله كقول الفجار {لو نشاء لقلنا مثل هذا} قال أبو حيان: نزلت في النضر بن الحارث ومن معه من المستهزئين لأنه عارض القرآن بكلام سخيف لا يُذكر لسخفه {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي ولو ترى يا محمد هؤلاء الظلمة وهم في سكرات الموت وشدائده، وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل أي لرأيت أمراً عظيماً {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} أي وملائكة العذاب يضربون وجوههم وأدبارهم لتخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: خلّصوا أنفسكم من العذاب قال الزمخشري: المعنى يقولون هاتوا أرواحكم أخرجوها إِلينا من أجسادكم، وهذه عبارة عن العنف في السياق والإِلحاح الشديد في الإِزهاق من غير تنفيس وإِمهال {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي تُجزون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد مع الخزي الأكيد {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي بافترائكم على الله ونسبتكم إِليه الشريك والولد {وَكُنتُمْ عَنْ ءاياتهِ تَسْتَكْبِرُونَ} أي تتكبرون عن الإِيمان بآيات الله فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي جئتمونا للحساب منفردين عن الأهل والمال والولد حفاةً عراة غرلاً كما ورد في الحديث (أيها الناس إِنكم محشورون إِلى الله حفاةً عُراةً غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده ..) {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أي تركتم ما أعطيناكم من الأموال في الدنيا فلم تنفعكم في هذا اليوم العصيب {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} أي وما نرى معكم آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم والذين اعتقدتم أنهم شركاء لله في استحقاق العبادة {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي تقطّع وصلكم وتشتّت جمعكم {وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي ضاع وتلاشى ما زعمتوه من الشفعاء والشركاء.



الأدلة الدامغة التي تثبت وجود الله وعلمه وإرادته



{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(95)فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(97)وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98)وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(99)}.



عاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين بعجائب الصنع ولطائف التدبير فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} أي يفلق الحبَّ تحت الأرض لخروج النبات منها ويفلق النوى لخروج الشجر منها قال القرطبي: أي يشق النواة الميتة فيُخرج منها ورقاً أخضر وكذلك الحبة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أي يخرج النبات الغضَّ الطريّ من الحبّ اليابس، ويخرج الحبَّ اليابس من النبات الحيّ النامي وعن ابن عباس: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وعلى هذا فالحي والميت استعارة عن المؤمن الكافر {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي ذلكم الله الخالق المدبر فكيف تُصرفون عن الحق بعد هذا البيان! {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} أي شاقُّ الضياء عن الظلام وكاشفه قال الطبري: شقَّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} أي يسكن الناس فيه عن الحركات ويستريحون {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي بحساب دقيق يتعلق به مصالح العباد، ويُعرف بهما حساب الأزمان والليل والنهار {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم تقدير الغالب القاهر الذي لا يستعصي عليه شيء العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي خلق لكم النجوم لتهتدوا بها في أسفاركم في ظلمات الليل لمقاصدهم بها {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي بيّنا الدلائل على قدرتنا لقوم يتدبرون عظمة الخالق {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي خلقكم وأبدعكم من نفسٍ واحدة هي آدم عليه السلام {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قال ابن عباس:المستقرُّ في الأرحام والمستودع في الأصلاب، أي لكم استقرار في أرحام أمهاتكم وأصلاب آبائكم، وقال ابن مسعود: مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} أي بينا الحجج لقوم يفقهون الأسرار والدقائق قال الصاوي: عبّر هنا بـ {يَفْقَهُونَ} إشارة إلى أن أطوار الإِنسان وما احتوى عليه أمرٌ خفيٌّ تتحير في الألباب، بخلاف النجوم فأمرها ظاهر مشاهد، ولذا عبّر فيها بـ {يَعْلَمُونَ} {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أي أنزل من السحاب المطر فأخرج به كل ما ينبتُ من الحبوب والفواكه والثمار والبقول والحشائش والشجرَ قال القرطبي: أي أخرجنا به ما ينبتُ به كل شيء وينمو عليه ويصلح {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا} أي أخرجنا من النبات شيئاً غضّاً أخضر {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} أي نُخرج من الخضر حباً متراكماً بعضُه فوق بعض كسنابل الحنطة والشعير قال ابن عباس: يريد القمح والشعير والذرة والأرز {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} أي وأخرجنا من طلع النخل - والطلعُ أول ما يخرج من التمر في أكمامه - عناقيد قريبة سهلة التناول قال ابن عباس: يريد العراجين التي قد تدلّت من الطلع دانيةً ممن يجتنيها {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} أي وأخرجنا بالماء بساتين وحدائق من أعناب {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي وأخرجنا به أيضاً شجر الزيتون وشجر الرمان مشتبهاً في المنظر وغير متشابه في الطعم قال قتادة: مشتبهاً ورقُه مختلفاً ثمرُه، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار العليم القدير {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} أي انظروا أيها الناس نظر اعتبار واستبصار إلى خروج هذه الثمار من ابتداء خروجها إلى انتهاء ظهورها ونضجها كيف تنتقل من حال إِلى حال في اللون والرائحة والصغر والكبر، وتأملوا ابتداء الثمر حيث يكون بعضه مراً وبعضه مالحاً لا يُنتفع بشيء منه، ثم إذا انتهى ونضج فإنه يعود حلواً طيباً نافعاً مستساغ المذاق! فسبحان القدير الخلاّق!! {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في خلق هذه الثمار والزروع مع اختلاف الأجناس والأشكال والألوان لدلائل باهرة على قدرة الله ووحدانيته لقوم يصدّقون بوجود الله قال ابن عباس: يصدّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادرٌ على أن يحيي الموتى.





description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
نفي المزاعم التي ينسبها المشركون إلى الله سبحانه وتعالى



{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ(100)بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(101)ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(102)لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)}.



{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} أي وجعلوا الجنَّ شركاء لله حيث أطاعوهم في عبادة الأوثان {وَخَلَقَهُمْ} أي وقد علموا أنه تعالى هو الذي خلقهم وانفرد بإِيجادهم فكيف يجعلونهم شركاء له؟ وهذه الآية الجهالة {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي واختلفوا ونسبوا إليه تعالى البنين والبنات حيث قالوا: عزيرٌ ابن الله والملائكة بناتُ الله سفهاً وجهالة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله وتقدس عن هذه الصفات التي نسبها إليه الظالمون وتعالى علواً كبيراً {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مبدعهما من غير مثالٍ سبق {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} أي كيف يكون له ولد وليس له زوجة؟ والولد لا يكون إلا من زوجة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي وما من شيء إلا هو خالقه والعالم به ومن كان كذلك كان غنياً عن كل شيء قال في التسهيل: والغرض الرد على من نسب لله الولد من وجهين: أحدهما أن الولد لا يكون إلا من جنس والده والله تعالى متعالٍ عن الأجناس لأنه مبدعها فلا يصح أن يكون له ولد، والثاني: أن الله خلق السموات والأرض ومن كان هكذا فهو غني عن الولد وعن كل شيء ثم أكّد تعالى على وحدانيته وتفرده بالخلق والإِيجاد فقال {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي ذلكم الله خالقكم ومالككم ومدبّر أموركم لا معبود بحق سواه {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} أي هو الخالق لجميع الموجودات ومن كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي وهو الحافظ والمدبر لكل شيء ففوّضوا أموركم إليه وتوسلوا إليه بعبادته {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} أي لا تصل إليه الأبصار ولا تحيط به وهو يراها ويحيط بها لشمول علمه تعالى للخفيات {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أي اللطيف بعباده الخبير بمصالحهم قال ابن كثير: ونفيُ الإِدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة إذ يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس فلا تدركه الأبصار ولهذا كانت عائشة تثبت الرؤية في الآخرة وتنفيها في الدنيا وتحتج بهذه الآية.



الأمر بتبليغ الرسالة والإعراض عن المشركين



{ قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(104)وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(106)وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(107)}.



{قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} أي قد جاءكم البينات والحجج التي تُبصرون بها الهدى من الضلال وتميزون بها بين الحق والباطل قال الزجاج: المعنى قد جاءكم القرآن، الذي فيه البيان والبصائر {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} قال الزمخشري: المعنى من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإيّاها نفع ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي وإيّاها ضرَّ بالعمى {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي لست عليكم بحافظ ولا رقيب وإنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيات} أي وكما بينا ما ذُكر نبيّن الآيات ليعتبروا {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} أي وليقول المشركون درست يا محمد في الكتب وقرأت فيها وجئت بهذا القرآن، واللامُ لامُ العاقبة {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي اتبع يا محمد القرآن الذي أوحاه الله إليك قال القرطبي: أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم بل اشتغل بعبادة الله {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا هو {وَأَعْرِضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} أي لا تحتفل بهم ولا تلتفت إلى آرائهم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} أي لو شاء الله هدايتهم لهداهم فلم يشركوا ولكنه سبحانه يفعل ما يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُم يُسألون} {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي وما جعلناك رقيباً على أعمالهم تجازيهم عليها {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي ولستَ بموكل على أرزاقهم وأمورهم قال الصاوي: هذا تأكيد لما قبله أي لستَ حفيظاً مراقباً لهم فتجبرهم على الإِيمان وهذا كان قبل الأمر بالقتال.



النهي عن مبادلة الكفار السباب والشتم والقبائح



{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(108)وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءتْهُمْ ءاية لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لا يُؤْمِنُونَ(109)وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(110)}.



{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا تسبوا آلهة المشركين وأصنامهم {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي فيسبوا الله جهلاً واعتداءً لعدم معرفتهم بعظمة الله قال ابن عباس: قال المشركون: لتنتهينَّ عن سبك آلهتنا أو لنهجونَّ ربك فنهاهم الله أن يسبّوا أوثانهم {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي كما زينّا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينّا لكل أمةٍ عملهم قال ابن عباس: زينّا لأهل الطاعة الطاعة ولأهل الكفر الكفرَ {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ثم معادهم ومصيرهم إلى الله فيجازيهم بأعمالهم، وهو وعيدٌ بالجزاء والعذاب {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي حلف كفار مكة بأغلظ الأيمان وأشدها{لَئِنْ جَاءَتْهُمْ ءاية لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} أي لئن جاءتهم معجزة أو أمر خارقٌ مما اقترحوه ليؤمننَّ بها {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد أمر هذه الآيات عند الله لا عندي هو القادر على الإِتيان بها دوني {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} أي وما يدريكم أيها المؤمنون لعلها إذا جاءتهم لا يصدقون بها!! {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي ونحوّل قلوبهم عن الإِيمان كما لم يؤمنوا بما أُنزل من القرآن أول مرة قال الصاوي: وهو استئناف مسوقٌ لبيان أن خالق الهدى والضلال هو الله لا غيره فمن أراد له الهدى حوّل قلبه له، ومن أراد الله شقاوته حوّل قلبه لها {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي ونتركهم في ضلالهم يتخبطون ويتردّدون متحيرين.





عداوة الشياطين للأنبياء ومقاومتهم لدعوة الله وهدايته



{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ(111)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112)وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ(113)}.



{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} هذا بيانٌ لكذب المشركين في أيمانهم الفاجرة حين أقسموا {لئن جاءتهم ءاية ليؤمننَّ بها} والمعنى: ولو أننا لم نقتصر على إِيتاء ما اقترحوه من ءاية واحدة من الآيات بل نزلنا إِليهم الملائكة وأحيينا لهم الموتى فكلموهم وأخبروهم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم كما اقترحوا {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي وجمعنا لهم كل شيء من الخلائق عياناً ومشاهدة {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها وكل ءاية لم يؤمنوا إِلا أن يشاء الله، والغرضُ التيئيسُ من إِيمانهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أي ولكنَّ أكثر هؤلاء المشركين يجهلون ذلك قال القرطبي: أي يجهلون أن الأمر بمشيئة الله، يحسبون أن الإِيمان إِليهم والكفر بأيديهم متى شاءوا ءامنوا، ومتى شاءوا كفروا، وليس الأمر كذلك، ذلك بيد الله لا يؤمن منهم إِلا من هداه له فوفقه، ولا يكفر إِلا من خذله تعالى فأضلُّه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} أي كما جعلنا هؤلاء المشركين أعداءك يعادونك ويخالفونك كذلك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء من شياطين الإِنس والجن، فاصبر على الأذى كما صبروا قال ابن الجوزي: أي كما ابتليناك بالأعداء ابتلينا من قبلك من الأنبياء ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي يوسوس بعضهم إِلى بعض بالضلال والشر {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} أي يوسوسون بالكلام المزيّن والأباطيل المموّهة ليغروا الناس ويخدعوهم قال مقاتل: وكَلَ إِبليسُ بالإِنس شياطينَ يُضلونهم فإِذا التقى شيطان الإِنس بشيطان الجن قال أحدهما لصاحبه: إِني أضللتُ صاحبي بكذا وكذا فأضللْ أنتَ صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحيُ بعضهم إِلى بعض {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي بقدر الله وقضائه وإِرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدوٌ من هؤلاء {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي اتركهم وما يدبرونه من المكائد فإِن الله كافيك وناصرُك عليهم {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي ولتميل إِلى هذا القول المزخرف قلوبُ الكفرة الذين لا يصدّقون بالآخرة {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} أي وليرضوا بهذا الباطل وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الآثام.



تأييد الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم



{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(114)وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)}.



{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} أي قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب قاضياً بيني وبينكم؟ قال أبو حيان: قال مشركو قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلْ بيننا وبينك حكماً إِن شئتَ من أحبار اليهود أو النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} أي أنزل إِليكم القرآن بأوضح بيان، مفصَّلاً فيه الحق والباطل موضّحاً الهدى من الضلال {وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي وعلماء اليهود والنصارى يعلمون حق العلم أن القرآن حقٌ لتصديقه ما عندهم {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي فلا تكوننَّ من الشاكين قال أبو السعود: وهذا من باب التهييج والإِلهاب وقيل: الخطاب للرسول والمراد به الأمة {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} أي تمَّ كلام الله المنزّل صدقاً فيما أخبر، وعدلاً فيما قضى وقدَّر {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي لا مغيّر لحكمه ولا رادَّ لقضائه {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوال العباد العليم بأحوالهم.



الدعوة إلى عدم الالتفات إلى ضلالات المشركين



{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ(116)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(117)فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآياتهِ مُؤْمِنِينَ(118) وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ(119)وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ(120)وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)}.



{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي إِن تطع هؤلاء الكفار وهم أكثر أهل الأرض يضلّوك عن سبيل الهدى قال الطبري: وإِنما قال {أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ } لأنهم كانوا حينئذٍ كفاراً ضُلاّلاً والمعنى: لا تطعهم فيما دعوك إِليه فإِنك إِن أطعتهم ضللتَ ضلالهم وكنت مثلهم لأنهم لا يدعونك إِلى الهدى وقد أخطأوه {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي ما يتبعون في أمر الدين إِلا الظنون والأوهام يقلّدون آباءهم ظناً منهم أنهم كانوا على الحق وما هم إلا قومٌ يكذبون {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي إِن ربك يا محمد أعلم بالفريقين بمن ضلّ عن سبيل الرشاد وبمن اهتدى إِلى طريق الهدى والسداد قال في البحر: وهذه الجملة خبيريةٌ تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآياتهِ مُؤْمِنِينَ} أي كلوا مما ذبحتم وذكرتم اسم الله عليه إِن كنتم حقاً مؤمنين قال ابن عباس: قال المشركون للمؤمنين إِنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله - يريدون الميتة - أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم فنزلت الآية {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي وما المانع لكم من أكل ما ذبحتموه بأيديكم بعد أن ذكرتم اسم ربكم عليه عند ذبحه؟ {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أي وقد بيَّن لكم ربكم الحلال والحرام ووضّح لكم ما يحرم عليكم من الميتة والدم وغيره في ءاية المحرمات إلا في حالة الاضطرار فقد أحلّ لكم ما حرّم أيضاً فما لكم تستمعون إِلى الشبهات التي يثيرها أعداؤكم الكافر؟ {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي وإِن كثيراً من الكفار المجادلين ليُضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام بغير شرعٍ من الله بل بمجرد الأهواء والشهوات {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} أي المجاوزين الحدَّ في الاعتداء فيحلّلون ويحرمون بدون دليل شرعي من كتاب أو سنّة، وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد لمن اعتدى حدود الله {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} أي اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها وسرَّها وعلانيتها قال مجاهد: هي المعصية في السر والعلانية وقال السدي: ظاهره الزنى مع البغايا وباطنه الزنى مع الصدائق والأخدان {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} أي يكسبون الإِثم والمعاصي ويأتون ما حرّم الله سيلقون في الآخرة جزاء ما كانوا يكتسبون {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي لا تأكلوا أيها المؤمنون ممَّا ذُبح لغير الله أو ذكر اسم غير الله عليه كالذي يذبح للأوثان {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي وإِن الأكل منه لمعصيةٌ وخروجٌ عن طاعة الله {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} أي وإِن الشياطين ليوسوسون إِلى المشركين أوليائهم في الضلال لمجادلة المؤمنين بالباطل في قولهم: أتأكلون ممّا قتلتهم ولا تأكلون مما قتل الله؟ يعني الميتة {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي وإِن أطعتم هؤلاء المشركين في استحلال الحرام وساعدتموهم على أباطيلهم إِنكم إِذاً مثلهم قال الزمخشري: لأن من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به، ومن حق ذي البصيرة في دينه ألا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان للتشديد العظيم.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
شرائع العرب في جاهليتهم



{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(136)وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(138)وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(139)قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(140)}.



{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} أي جعل مشركو قريش لله ممّا خلق من الزرع والأنعام نصيباً ينفقونه على الفقراء ولشركائهم نصيباً يصرفونه إِلى سدنتها قال ابن كثير: هذا ذمٌ وتوبيخٌ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعاً وكفراً وشركاً، وجعلوا لله شركاء وهو خالق كل شيء سبحانه {وجعلوا لله مما ذرأ} أي خلق وبرأ من الزرع والثمار والأنعام جزءاً وقسماً {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} أي قالوا: هذا نصيب الله بزعمهم أي بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع قال في التسهيل: وأكثرُ ما يقال الزعم في الكذب {وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} أي وهذا النصيب لآلهتنا وأصنامنا قال ابن عباس: إِنَّ أعداء الله كانوا إِذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً، فما كان من حرثٍ أو ثمرةٍ أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإِن سقط منه شيء فيما سُمي لله ردّوه إِلى ما جعلوه للوثن وقالوا إن الله غنيٌّ والأصنام أحوج ولهذا قال: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} أي ما كان للأصنام فلا يصل إِلى الله منه شيء {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} وما كان من نصيب الله فهو يصل إِلى أصنامهم قال مجاهد: كانوا يسمُّون جزءاً من الحرث لله وجزءاً لشركائهم وأوثانهم فما ذهبت به الريح من نصيب الله إلى أوثانهم تركوه وما ذهب من نصيب أوثانهم إِلى نصيب الله ردوه، وكانوا إِذا أصابتهم سَنَةٌ "قحط" أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس هذا الحكم الجائر حكمهم {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} أي مثل ذلك التزيين في قسمة القربان بين الله وبين آلهتهم زيَّن شياطينُهم لهم قتل أولادهم بالوأد أو بنحرهم لآلهتهم قال الزمخشري: كان الرجل في الجاهلية يحلف لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنَّ أحدهم كما حلف عبد المطلب {لِيُرْدُوهُمْ} أي ليهلكوا بالإِغواء {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أي وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء الله ما فعلوا ذلك القبيح {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي دعْهم وما يختلقونه من الإِفك على الله، وهو تهديد ووعيد {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} هذه حكاية عن بعض قبائحهم وجرائمهم أيضاً أي قال المشركون هذه أنعام وزروع أفردناها لآلهتنا حرام ممنوعة على غيرهم {لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ} أي من خَدمة الأوثان وغيرهم {بِزَعْمِهِمْ} أي بزعمهم الباطل من غير حجة ولا برهان {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} أي عند الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} أي كذباً واختلاقاً على الله {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي سيجزيهم على ذلك الافتراء، وهو تهديد شديد ووعيد {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} هذا إِشارة إِلى نوع آخر من أنواع قبائحهم أي قالوا ما في بطون هذه البحائر والسوائب حلال لذكورنا خاصة {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} أي لا تأكل منه الإِناث {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} أي وإِن كان هذا المولود منها ميتةً اشترك فيه الذكور والإِناث {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي سيجزيهم جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيمٌ في صنعه عليمٌ بخلقه {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} أي والله لقد خسر هؤلاء السفهاء الذين قتلوا أولادهم قال الزمخشري: نزلت في ربيعة ومضر والعرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر {سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي جهالة وسفاهة لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله هو الرازق لهم ولأولادهم {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} أي حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة وشبهها {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} أي كذباً واختلافاً على الله {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي لقد ضلوا عن الطريق المستقيم بصنيعهم القبيح وما كانوا من الأصل مهتدين لسوء سيرتهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إِذا سرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.



إقامة الدلائل على إثبات الألوهية والربوبية لله تعالى



{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(141)وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(142)ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(143)وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(144)}.



{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } أي هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم لتعبدوه وحده، فخلق لكم بساتين من الكروم منها مرفوعات على عيدان، ومنها متروكات على وجه الأرض لم تعرش{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} أي وأنشأ لكم شجر النخيل المثمر بما هو فاكهة وقوت، وأنواع الزرع المحصّل لأنواع القوت مختلفاً ثمره وحبُّه في اللون والطعم والحجم والرائحة {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي متشابهاً في اللون والشكل وغير متشابه في الطعم {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أي كلوا أيها الناس من ثمر كل واحد مما ذكر إِذا أدرك من رطبه وعنبه {وَءاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أي أعطوا الفقير والمسكين من ثمره يوم الحصاد ما تجود به نفوسكم وقال ابن عباس: يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيلُه {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أي ولا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن قال الطبري: المختار قول عطاء أنه نهيٌ عن الإِسراف في كل شيء {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} أي وخلق لكم من الأنعام ما يحمل الأثقالَ وما يُفرش للذبح "أي يضجع" قال ابن أسلم: الحمُولةُ ما تركبون، والفَرْشُ ما تأكلون وتحلبون {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي كلوا من الثمار والزروع والأنعام فقد جعلها الله لكم رزقاً {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي طريقه وأوامره في التحليل والتحريم كفعل أهل الجاهلية {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي إِن الشيطان ظاهر العداوة للإِنسان فاحذروا كيده {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} أي وأنشأ لكم من الأنعام ثمانية أنواع أحلّ لكم أكلها، من الضأن ذكراً وأنثى، ومن المعز ذكراً وأنثى قال القرطبي: يعني ثمانية أفراداً، وكلُّ فردٍ عند العرب يحتاج إِلى آخر يُسمَّى زوجاً فيقال للذكر: زوجٌ وللأنثى زوجٌ ويراد بالزوجين من الضأن: الكبشُ والنعجة، ومن المعز: التيسُ والعنز {قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ}؟ هذا إِنكارٌ لما كانوا يفعلونه من تحريم ما أحلَّ الله أي قل لهم يا محمد على وجه التوبيخ والزجر: الذكرين من الضأن والمعز حرّم الله عليكم أيها المشركون أم الانثيين منهما؟ {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} أي أو ما حملت إِناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى؟ {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} تعجيزٌ وتوبيخ أي أخبروني عن الله بأمرٍ معلوم لا بافتراءٍ ولا بتخرص إِن كنتم صادقين في نسبة ذلك التحريم إِلى الله {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} أي وأنشأ لكم من الإِبل اثنين هما الجمل والناقة ومن البقر اثنين هما الجاموس والبقرة {قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ}؟ كرره هنا مبالغة في التقريع والتوبيخ قال أبو السعود: والمقصود إِنكار أن الله سبحانه حرّم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة وإِظهار كذبهم في ذلك فإِنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارةً، وإِناثها تارةً، وأولادها تارة أخرى {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} زيادة في التوبيخ أي هل كنتم حاضرين حين وصاكم الله بهذا التحريم؟ وهذا من باب التهكم {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فنسب إِليه تحريم ما لم يحرّم بغير دليلٍ ولا برهان {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} عمومٌ في كل ظالم.



المحرَّمات من الأطعمة على المسلمين واليهود



{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(145)وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(146)فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(147)}.



ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبيّن لهم ما حرمه الله عليهم فقال {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} أي قل يا محمد لكفار مكة لا أجد فيما أوحاه الله إِليَّ من القرآن شيئاً محرماً على أيّ إِنسان إِلا أن يكون ذلك الطعام ميتةً أو دماً سائلاً مصبوباً أو يكون لحم خنزير فإِنه قذرٌ ونجس لتعوده أكل النجاسات {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي أو يكون المذبوح فسقاً ذبح على اسم غير الله كالمذبوح على النُّصب، سُمّي فسقاً مبالغةً كأنه نفس الفسق لأنه ذبح على اسم الأصنام {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي من أصابته الضرورة واضطرته إِلى أكل شيء من المحرمات فلا إِثم عليه إِن كان غير باغٍ أي غير قاصد التلذذ بأكلها بدون ضرورة ولا عادٍ أي مجاوزٍ قدر الضرورة التي تدفع عنه الهلاك فالله غفور رحيم بالعباد، ثم بيّن تعالى أن ما حرّمه على اليهود إِنما كان بسبب بغيهم وعصيانهم فقال {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} أي وعلى اليهود خاصةً حرمنا عليهم كل ذي ظُفر قال ابن عباس: هي ذوات الظِّلْفِ كالإِبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والأوز {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} أي وحرّمنا عليهم أكل شحوم البقر وشحوم الغنم {إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} أي إِلا الشحم الذي علق بالظهر منهما {أَوِ الْحَوَايَا} أي الأمعاء والمصارين {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} كشحم الألية والمعنى أن الشحم الذي تعلَّق بالظهور أو احتوت عليه المصارين أو اختلط بعظم كشحم الألية جائز لهم {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي ذلك التحريم بسبب ظلمهم وعدوانهم الذي سبق من قتل الأنبياء وأكل الربا واستحلال أموال الناس بالباطل وإِنّا لصادقون فيما قصصنا عليك يا محمد، وفي ذلك تعريضٌ بكذب من حرّم ما لم يحرّم الله والتعريض بكذب اليهود {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} أي فإِن كذبك يا محمد هؤلاء اليهود فيما جئت به من بيان التحريم فقل متعجباً من حالهم ربكم ذو رحمةٍ واسعة حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة إِجرامكم قال في البحر: وهذا كما تقول عند رؤية معصيةٍ عظيمة: ما أحلم الله تعالى! وأنت تريد ما أحلمه لإِمهاله العاصي، ثم أعقب وصفه بالرحمة الواسعة بالوعيد الشديد فقال {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي لا تغتروا بسعة رحمته فإِنه لا يُردُّ عذابه وسطوتُه عمن اكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات فهو مع رحمته ذو بأس شديد، وقد جمعت الآية بين الترغيب الترهيب حتى لا يقنط المذنب من الرحمة ولا يغترَّ العاصي بحلم الله.



دحض شبهة الجبرية وإقامة الحجة على المشركين



{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا ءابَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ(148)قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149)قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(150)}.



{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} أي سيقول مشركو العرب لو أراد الله ما كفرنا ولا أشركنا لا نحن ولا آباؤنا يريدون أن شركهم وتحريمهم لما حرّموا كان بمشيئة الله ولو شاء ألا يفعلوا ذلك ما فعلوه، فاحتجوا على ذلك بإِرادة الله كما يقول الواقع في معصية إِذا طلب منه الإِقلاع عنها: هذا قدرُ الله لا مهربَ ولا مفرَّ منه، ولا حجة في هذا لأنهم مكلفون مأمورون بفعل الخير وترك القبيح ولكنها نزعةٌ جبرية يحتج بها السفهاء عندما تدمغهم الحجة قال تعالى في الرد عليهم {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} أي كذلك كذَّب من سبقهم من الأمم حتى أنزلنا عليهم العذاب {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} استفهام إِنكاري يقصد به التهكم أي قل لهم عندكم حجة أو برهان على صدق قولكم فتظهروه لنا {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} أي ما تتبعون في ذلك إِلا الظنون والأوهام وما أنتم في الحقيقة إِلا تكذبون على الله عز وجل {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي قل لهم إِن لم تكن لكم حجة فلله الحجة البينة الواضحة التي بلغت الآية الظهور والإِقناع، فلو شاء لهداكم إِلى الإِيمان أجمعين ولكنه تعالى ترك للخلق أمر الاختيار في الإِيمان والكفر ليتم التكليف {قل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} أي قل لهم يا محمد احضروا لي من يشهد لكم على صحة ما تزعمون أن الله تعالى حرَّم هذه الأشياء التي تدَّعونها من البحيرة والسائبة وغيرهما {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي فإِن حضروا وكذبوا في شهادتهم وزوَّروا فلا تشهد بمثل شهادتهم ولا تصدّقهم فإِنه كذبٌ بحتٌ {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي ولا تتبع أهواء المكذبين بآيات الرحمن الذين لا يصدقون بالآخرة {وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي وهم يشركون بالله غيره فيعبدون الأوثان.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
سورة الأعراف



بَين يَدَيْ السُّورَة



سورة الأعراف من أطول السور المكية، وهي أول سورة عرضت للتفصيل في قصص الأنبياء، ومهمتها كمهمة السور المكية تقرير أصول الدعوة الإِسلامية من توحيد الله جل وعلا، وتقرير البعث والجزاء، وتقرير الوحي والرسالة.



* تعرضت السورة الكريمة في بدء آياتها للقرآن العظيم معجزة محمد الخالدة، وقررت أن هذا القرآن نعمة من الرحمن على الإِنسانية جمعاء، فعليهم أن يستمسكوا بتوجيهاته وإِرشاداته ليفوزوا بسعادة الدارين.



* ولفتت الأنظار إِلى نعمة خلقهم من أبٍ واحد، وإِلى تكريم الله لهذا النوع الإِنساني ممثلاً في أب البشر آدم عليه السلام الذي أمر الله الملائكة بالسجود له، ثم حذّرت من كيد الشيطان ذلك العدو المتربص الذي قعد على طريق الناس ليصدهم عن الهدى ويبعدهم عن خالقهم.



* وقد ذكر تعالى قصة آدم مع إِبليس وخروجه من الجنة، وهبوطه إِلى الأرض كنموذج للصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، وبيانٍ لكيد إِبليس لآدم وذريته، ولهذا وجه الله إِلى أبناء آدم - بعد أن بيَّن لهم عداوة إِبليس لأبيهم - أربعة نداءات متتالية بوصف البُنوَّة لآدم {يَابَنِي آدَمَ } وهو نداء خاص بهذه السورة يحذّرهم بها من عدوهم الذي نشأ على عداوتهم من قديم الزمن حين وسوس لأبيهم آدم حتى أوقعه في الزّلة والمخالفة لأمر الله {يَابَنِي ءادَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَاَ..}.



* كما تعرضت السورة الكريمة لمشهدٍ من المشاهد الواقعة يوم القيامة، مشهد الفرق الثلاثة وما يدور بينهم من محاورة ومناظرة: فرقة المؤمنين أصحاب الجنة، وفرقة الكافرين أصحاب النار، وفرقةٍ ثالثة لم يتحدث عنها القرآن إِلا في هذه السورة، وهي الفرقة التي سميت بأصحاب الأعراف وسميت باسمها السورة "سورة الاعراف" مشهدٌ سوف يشهده العالم يوم البعث والجزاء على الحقيقة دون تمثيل ولا تخيّل، تبيّن ما يكون فيه من شماتة أهل الحق "أصحاب الجنة" بالمبطلين أصحاب النار، وينطلق صوت علوي يسجّل عليهم اللعنة والطرد والحرمان، وقد ضرب بين الفريقين بحجاب ووقف عليه رجال يعرفون كلاً بسيماهم، يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه ونضرتها، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وقترتها.



* وتناولت السورة قصص الأنبياء بإِسهاب "نوح، هود، صالح، لوط، شعيب، موسى" وقد ابتدأت بشيخ الأنبياء "نوح" عليه السلام وما لاقاه من قومه من جحودٍ وعناد، وتكذيب وإِعراض، وقد ذكرت بالتفصيل قصة الكليم موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية، وتحدثت عما نال بني إِسرائيل من بلاء وشدة ثم من أمنٍ ورخاء وكيف لمّا بدلوا نعمة الله وخالفوا أمره عاقبهم الله تعالى بالمسخ إِلى قردة وخنازير.



* وتناولت السورة كذلك المثل المخزي لعلماء السوء، وصوَّرتهم بأشنع وأقبح ما يمكن للخيال أن يتصوره، صورة الكلب اللاهث الذي لا يكف عن اللهث، ولا ينفك عن التمرغ في الطين والأوحال {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} وتلك لعمر الحق أقبح صورة مزرية لمن رزقه الله العلم النافع فاستعمله لجمع الحطام الفاني وكان خزياً وبالاً عليه، لأنه لم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإِيمان وانسلخ من النعمة، وأَتبعه الشيطان فكان من الغاوين.



* وقد ختمت السورة الكريمة بإِثبات التوحيد، والتهكم بمن عبدوا ما لا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع، من أحجار وأصنام اتخذوهما شركاء مع الله، وهو جل وعلا وحده الذي خلقهم وصوّرهم ويعلم متقلبهم ومثواهم، وهكذا ختمت السورة الكريمة بالتوحيد كما بدأت بالتوحيد، فكانت الدعوة إِلى الإِيمان بوحدانية الرب المعبود في البدء والختام.



وجوب اتباع القرآن الكريم



{المص(1)كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2)اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(3)}



{المص} تقدم في أول سورة البقرة الكلام عن الحروف المقطّعة وأن الحكمة في ذكرها بيان _"إِعجاز القرآن" بالإِشارة إِلى أنه مركب من أمثال هذه الحروف ومع ذلك فقد عجز بلغاؤهم وفصحاؤهم وعباقرتهم عن الإِتيان بمثله وروي عن ابن عباس معناه: أن الله أعلم وأَفْصِل، وقال أبو العالية: الألف مفاتح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والصاد مفتاح اسمه صداق والله أعلم {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي هذا كتاب أنزله الله إِليك يا محمد وهو القرآن { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} أي لا يضقْ صدرك من تبليغه خوفاً من تكذيب قومك {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لتنذر بالقرآن من يخاف الرحمن، ولتذكّر وتعظ المؤمنين لأنهم المنتفعون به {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أي اتبعوا أيها الناس القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان المنزّل إِليكم من ربكم {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي ولا تتخذوا أولياء من دون الله كالأوثان والرهبان والكُهّان تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يشرعون لكم {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} أي تتذكّرون تذكراً قليلاً. قال الخازن: أي ما تتعظون إِلا قليلاً.



عاقبة مخالفة الرسل وتكذيبهم



{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(4)فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(5)}



{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي وكثير من القرى أهلكناها والمراد بالقرية أهلُها {فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} أي جاءها عذابنا ليلاً {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} أي جاءهم العذاب في وقت القيلولة وهي النوم في وسط النهار. قال أبو حيان: وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أشق وأفظع لأنه يكون على غفلةٍ من المهلكين {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا} أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم حين شاهدوا العذاب ورأوا أماراته {إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي إِلا اعترافهم بظلمهم تحسراً وندامة، وهيهات أن ينفع الندم.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
بيان أصول المحرَّمات قولاً وفعلاً



{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152)وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)}



{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي قل يا محمد تعالوا أقرأ الذي حرّمه ربكم عليكم باليقين لا بالظن والتخمين {أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أي لا تعبدوا معه غيره {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً، وذُكر ضمن المحرمات لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده فكأنه قال: ولا تسيئوا إِلى الوالدين قال أبو السعود: والسرُّ في ذلك المبالغةُ والدلالة على أن ترك الإِساءة إِليهما غير كافٍ في قضاء حقوقهما {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أي ولا تقتلوا أولادكم خشية الفقر قال ابن الجوزي: المراد دفن البنات أحياء من خوف الفقر {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أي رزقكم ورزقهم علينا فإِن الله هو الرازق للعباد {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي لا تقربوا المنكرات الكبائر علانيتها وسرّها قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأساً في السرّ ويستقبحونه في العلانية فحرمه الله في السر والعلانية {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} أي لا تقتلوا النفس البريئة التي حرّم الله قتلها إِلا بموجب وقد فسّره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إِلا بإِحدى ثلاث: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتاركُ لدينه المفارق للجماعة) {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي ذلكم المذكور هو ما أوصاكم تعالى بحفظه وأمركم به أمراً مؤكداً لعلكم تسترشدون بعقولكم إِلى فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا قال أبو حيان: وفي لفظ وصّاكم من اللطف والرأفة وجعلهم وصية منه تعالى ما لا يخفى من الإِحسان {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي لا تقربوا مال اليتيم بوجه من الوجوه إِلا بالخصلة التي هي أنفع له حتى يصير بالغاً رشيداً، والنهي عن القرب يعمُّ وجوه التصرف لأنه إِذا نُهي عن أن يقرب المال فالنهيُ عن أكله أولى وأحرى والتي هي أحسن منفعةُ اليتيم وتثمير ماله قال ابن عباس: هو أن يعمل له عملاً مصلحاً فيأكل منه بالمعروف {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل والتسوية في الأخذ والعطاء {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي لا نكلّف أحداً إلا بمقدار طاقته بما لا يعجز عنه قال البيضاوي: أي إِلا ما يسعها ولا يعسرُ عليها، وذكره بعد وفاء الكيل لأن إِيفاء الحق عسرٌ فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي اعدلوا في حكومتكم وشهادتكم ولو كان المشهود عليه من ذوى قرابتكم {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} أي أوفوا بالعهد إِذا عاهدتم قال القرطبي: وهذا عام في جميع ما عهده الله إِلى عباده ويحتمل أن يراد به ما انعقد بين الناس وأضيف إِلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لعلكم تتعظون {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي وبأن هذا ديني المستقيم شرعته لكم فتمسكوا به ولا تتبعوا الأديان المختلفة والطرق الملتوية فتفرقكم وتزيلكم عن سبيل الهدى عن ابن مسعود قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه ويساره ثم قال: هذه سُبُل على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إِليها ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ..} الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} كرر الوصية على سبيل التوكيد أي لعلكم تتقون النار بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه قال ابن عطية: لما كانت المحرمات الأولى لا يقع فيها عاقل جاءت العبارة {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} والمحرمات الأخر شهوات وقد يقع فيها من لم يتذكر جاءت العبارة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والسير في الجادة المستقيمة يتضمن فعل الفضائل ولا بد لها من تقوى الله جاءت العبارة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.



الغاية من إنزال التوراة ومكانة القرآن



{ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(154)وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(155)أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ(156)أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيات اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءاياتنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ(157)}



{ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي أعطينا موسى التوراة تماماً للكرامة والنعمة على من كان محسناً وصالحاً قال الطبري: أي آتينا موسى الكتاب تماماً لنعمتنا عليه في قيامه بأمرنا ونهينا فإِن إِيتاء موسى الكتاب نعمةٌ من الله عليه ومنَّةٌ عظيمة لما سلف منه من صالح العمل وحسن الطاعة {وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إِليه بنو إِسرائيل في الدين {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي وهدى لبني إِسرائيل ورحمة عليهم ليصدّقوا بلقاء الله قال ابن عباس: كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أي وهذا القرآن الذي أنزلناه على محمد كتابٌ عظيم الشأن كثير المنافع مشتملٌ على أنواع الفوائد الدينية والدنيوية {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي تمسكوا به واجعلوه إِماماً واحذروا أن تخالفوه لتكونوا راجين للرحمة {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} أي أنزلناه بهذا الوصف العظيم الجامع لخيرات الدنيا والآخرة كراهة أن تقولوا يوم القيامة ما جاءنا كتاب فنتّبعه وإِنما نزلت الكتب المقدسة على اليهود والنصارى قال ابن جرير: فقطع الله بإِنزاله القرآن على محمد صلى الله عله وسلم حجتهم تلك {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} أي وإِنه الحال والشأن كنا عن معرفة ما في كتبهم ودراستهم غافلين لا نعلم ما فيها لأنها لم تكن بلغتنا {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} أو تقولوا لو أننا أُنزل علينا الكتاب كما أُنزل على هاتين الطائفتين لكنَّا أهدى منهم إِلى الحق وأسرع إِجابة لأمر الرسول لمزيد ذكائنا وحدّنا في العمل {فَقَدْ جَاءكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} أي فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قرآن عظيم، فيه بيانٌ للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده قال القرطبي: أي قد زال العذر بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: بيّنة أي حجة وهو النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيات اللَّهِ} أي من أكفر ممن كذّب بالقرآن ولم يؤمن به {وَصَدَفَ عَنْهَا} أي أعرض عن آيات الله قال أبو السعود: أي صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإِضلال {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءاياتنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} وعيدٌ لهم أي سنثيب هؤلاء المعرضين عن آيات الله وحججه الساطعة شديد العقاب بسبب إِعراضهم عن آيات الله وتكذيبهم لرسله.



وعيد الكفار وتهديدهم





{هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيات رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيات رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)}.



{هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي ما ينتظر هؤلاء المشركون إِلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعذيبها وهو وقتٌ لا تنفع فيه توبتُهم {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيات رَبِّكَ} قال ابن عباس: أي يأتي أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره وقال الطبري: المراد أن يجمعهم الله وتأتيهم الملائكة في موقف القيامة للفصل بين الخلائق أو يأتيهم بعض آيات ربك وهو طلوع الشمس من مغربها {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيات رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} أي يوم يأتي بعض أشراط الساعة وحينئذٍ لا ينفع الإِيمان نفساً كافرة آمنت في ذلك الحين ولا نفساً عاصيةً لم تعمل خيراً قال الطبري: أي لا ينفع من كان قبل ذلك مشركاً بالله أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله، فحكم إِيمانهم كحكم إِيمانهم عند قيام الساعة وفي الحديث (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإِذا طلعت ورآها الناس ءامنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفساً إِيمانها لم تكن آمنت من قبل) {قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أي انتظروا ما يحلُّ بكم وهو أمر تهديد ووعيد.



التحذير من التفرق في الدين



{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159)}.



{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أي فرّقوا الدين فأصبحوا شيعاً وأحزاباً قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى فرّقوا دين إِبراهيم الحنيف {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي أنت يا محمد بريء منهم {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} أي جزاؤهم وعقابهم على الله هو يتولى جزاءهم{ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي يخبرهم بشنيع فعالهم قال الطبري: أي أخبرهم في الآخرة بما كانوا يفعلون وأجازي كلاً منهم بما كان يفعل.



الجزاء على العمل



{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(160)}.



{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ واحدة جوزي عنها بعشر حسناتٍ أمثالها فضلاً من الله وكرماً وهو أقلُّ المضاعفة للحسنات فقد تنتهي إِلى سبعمائة أو أزيد {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} أي ومن جاء بالسيئة عوقب بمثلها دون مضاعفة {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يُنقصون من جزائهم شيئاً وفي الحديث القدسي: "يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغْفرُ" فالزيادة في الحسنات من باب الفضل، والمعاملة بالمثل في السيئات من باب العدل.



تبيين الدين القيِّم والصراط المستقيم



{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(161)قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163)قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164)}.



{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين إن ربي هداني إِلى الطريق القويم وأرشدني إلى الدين الحق دين إِبراهيم {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي ديناً مستقيماً لا عوج فيه هو دين الحنيفية السمحة الذي جاء به إِمام الحنفاء إِبراهيم الخليل {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي وما كان إِبراهيم مشركاً، وفيه تعريضٌ بإِشراك من خالف دين الإِسلام لخروجه عن دين إِبراهيم {قُلْ إِنَّ صَلاتِي} أي قل يا محمد إِنَّ صلاتي التي أعبد بها ربي {وَنُسُكِي} أي ذبحي {وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي} أي حياتي ووفاتي وما أقدّمه في هذه الحياة من خيرات وطاعات {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ذلك كله لله خالصاً له دون ما أشركتم به {لا شَرِيكَ لَهُ} أي لا أعبد غير الله {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} أي بإِخلاص العبادة لله وحده أُمرتُ {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أي أولُّ من أقرَّ وأذعنَ وخضع لله جلّ وعلا {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} تقريرٌ وتوبيخ للكفار، وسببها أنهم دعوة إِلى عبادة آلهتهم والمعنى: قل يا محمد أأطلب رباً غير الله تعالى؟ {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} أي والحال هو خالق ومالك كل شيء فكيف يليق أن أتخذ إِلهاً غير الله؟ {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} أي لا تكون جناية نفسٍ من النفوس إِلا عليها {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا يحمل أحدٌ ذنب أحد، ولا يؤاخذ إِنسانٌ بجريرة غيره {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وهذا وعيدٌ وتهديدٌ أي مرجعكم إِليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم ويميز بين المحسن والمسيء.



تفاوت درجات الناس مع كونهم مستخلفين في الأرض



{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(165)}.





{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} أي جعلكم خلفاً للأمم الماضية والقرون السالفة يخلف بعضكم بعضاً قال الطبري: أي استخلفكم بعد أن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي خالف بين أحوالكم في الغنى والفقر، والعلم والجهل، والقوة والضعف وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ} أي ليختبر شكركم على ما أعطاكم قال ابن الجوزي: أي ليختبركم فيظهر منكم ما يكون به الثواب والعقاب {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إِن ربك سريع العقاب لمن عصاه وغفور رحيم لمن أطاعه، قال في التسهيل: جمع بين الخوف والرجاء، وسرعة العقاب إِما في الدنيا بتعجيل الأخذ أو في الآخرة لأن كل ما هو آتٍ قريب.




description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
وزن أفعال العباد يوم القيامة



{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6)فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ(7)وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(8)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ(9)}



{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي لنسألن الأمم قاطبة هل بلّغكم الرسل وماذا أجبتم؟ والمقصودُ من هذا السؤال التقريع والتوبيخ للكفار {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} أي ولنسألنَّ الرسل أيضاً هل بلّغوا الرسالة وأدوا الأمانة ؟ قال في البحر: وسؤال الأمم تقريرٌ وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة نكالاً وعذاباً، وسؤال الرسل تأنيسٌ يعقب الأنبياء كرامة وثواباً {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} أي فلنخبرهم بما فعلوا عن علمٍ منا. قال ابن عباس: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} أي ما كنا غائبين عنهم حتى يخفى علينا شيء من أحوالهم. قال ابن كثير: يخبر تعالى عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير، وجليل وحقير، لأنه تعالى الشهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} أي والوزن للأعمال يوم القيامة كائن بالعدل ولا يظلم ربك أحداً {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي فمن رجحت موازين أعماله بالإِيمان وكثرة الحسنات {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي الناجون غداً من العذاب الفائزون بجزيل الثواب {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي ومن خفت موازين أعماله بسبب الكفر واجتراح السيئات {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أي خسروا أنفسهم وسعادتهم {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} أي بسبب كفرهم وجحودهم بآيات الله، قال ابن كثير: والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإِن كانت أعراضاً إِلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً يروى هذا عن ابن عباس، وقيل: يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة، وقيل: يوزن صاحب العمل كما في الحديث (يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة) والكل صحيح فتارةً توزن الأعمال، وتارةً محالها، وتارة يوزن فاعلها والله أعلم. أقول: لا غرابة في وزن الأعمال ووزن الحسنات والسيئات بالذات، فإِذا كان العلم الحديث قد كشف لنا عن موازين للحر والبرد، واتجاه الرياح والأمطار، أفيعجز القادر على كل شيء عن وضع موازين لأعمال البشر؟



التذكير بنعم الله سبحانه وتعالى



{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(10)}



{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا لكم أيها الناس في الأرض مكاناً وقراراً، قال البيضاوي: أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب وسائر ما تكون به الحياة {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي ومع هذا الفضل الإِنعام قليل منكم من يشكر ربه كقوله {وقليلٌ من عبادي الشكور}.



التنبيه على تكريم آدم وبيان عداوة إبليس لذريته



{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ(11)قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ(13)قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ(15)قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)}



{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي خلقنا أباكم آدم طيناً مصوَّر ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم، وإِنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له لأنه أبو البشر {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} أي ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم تكريماً له ولذريته {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ} أي سجد الملائكة كلهم أجمعون إِلا إِبليس امتنع من السجود تكبراً وعناداً، والاستثناء منقطع لأنه استثناء من غير الجنس وقد تقدم قول الحسن البصري: لم يكن إِبليسُ من الملائكة طرفة عين {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أي قال تعالى لإِبليس أيُّ شيء منعك أن تدع السجود لآدم؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} أي قال إِبليس اللعين أنا أفضل من آدم وأشرف منه فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ ثم ذكر العلة في الامتناع فقال {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} أي أنا أشرف منه لشرف عنصري على عنصره، لأنني مخلوق من نار والنار أشرف من الطين، ولم ينظر المسكين لأمر من أمره بالسجود وهو الله تعالى. قال ابن كثير: نظر اللعين إِلى أصل العنصر ولم ينظر إِلى التشريف والتعظيم وهو أن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياساً فاسداً فأخطأ قبّحه الله في قياسه في دعواه أن النار أشرف في الطين، فإِن الطين من شأنه الرزانة والحلم، والنار من شأنها الإِحراق والطيش، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإِصلاح والنار محل العذاب ولهذا خان إِبليس عنصره فأورثه الهلاك والشقاء والدمار. قال ابن سيرين: أول من قاس إِبليس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إِبليس {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي اهبط من الجنة فما يصح ولا يستقيم ولا ينبغي أن تستكبر عن طاعتي وأمري وتسكن دار قدسي {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ} أي الذليلين الحقيرين. قال الزمخشري: وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبسه الله الذل والصغار فمن تواضع لله رفعه ومن تكبّر على الله وضعه {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} استدرك اللعين فطلب من الله الإِمهال إِلى يوم البعث لينجو من الموت لأن يوم البعث لا موت بعده فأجابه تعالى بقوله {قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ} قال ابن عباس: أنظره إِلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم وكان طلب الإِنظار إِلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه ويؤيده الآية الأخرى { قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي فبسبب إِغوائك وإِضلالك لي لأقعدنَّ لآدم وذريته على طريق الحق وسبيل النجاة الموصل للجنة كما يقعد القُطّاع للسابلة {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} أي آتي عبادك من كل جهة من الجهات الأربع لأصدّهم عن دينك، قال الطبري: معناه لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل، فأصدهم عن الحق وأحسّن لهم الباطل. قال ابن عباس: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} أي مؤمنين مطيعين شاكرين لنعمك {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} أي اخرج من الجنة مذموماً معيباً مطروداً من رحمتي {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} اللام موطئة للقسم أي لمن أطاعك من الإِنس والجن لأملأنَّ جهنم من الأتباع الغاوين أجمعين، وهو وعيد بالعذاب لكل من انقاد للشيطان وترك أمر الرحمن.



هبوط آدم من الجنة والأسباب الكامنة وراء ذلك



{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ(19)فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ(20)وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ(21)فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ(22)قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(23)قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(24)قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ(25)}



{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أي وقلنا يا آدم اسكن مع زوجك حواء الجنة بعد أن أُهبط منها إِبليس وأخرج وطرد {فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} أي كلا من ثمارها من أي مكان شئتما {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ} أباح لهما الأكل من جميع ثمارها إِلا شجرة واحدة عيّنها لهما ونهاهما عن الأكل منها ابتلاءً وامتحاناً فعند ذلك حسدهما الشيطان وسعى في الوسوسة والمكر والخديعة {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} أي ألقى لهما بصوتٍ خفي لإِغرائهما بالأكل من الشجرة {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} أي ليظهر لهما ما كان مستوراً من العورات التي يقبح كشفها {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ} وهذا توضيح لوسوسة اللعين أي قال في وسوسته لهما: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إِلا كراهية أن تكونا مَلكَين أو تصبحا من المخلّدين في الجنة {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لمِنْ النَّاصِحِينَ} أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما وقد يُخْدع المؤمن بالله، قال الألوسي: وإِنما عبّر بصيغة المفاعلة للمبالغة أن من يباري أحداً في فعلٍ يجدُّ فيه {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} أي خدعهما بما غرهما به من القسم بالله. قال ابن عباس: غرهما باليمين وكان آدم يظن أنه لا يحلف أحدٌ بالله كاذباً فغرهما بوسوسته وقسمه لهما { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} أي فلما أكلا من الشجرة ظهرت عوراتهما، قال الكلبي: تهافت عنهما لباسهما فأبصر كلٌ منهما عورة صاحبه فاستحيا {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} أي أخذا وشرعا يلصقان ورقة على ورقة ليستترا به بعد أن كانت كسوتهما من حلل الجنة. قال القرطبي: أي جعلا يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به ومنه خصف النعل وعن وهب ابن منبه قال: كان لباس آدم وحواء نوراً على فروجهما لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوأتهما {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي ناداهما الله بطريق العتاب والتوبيخ قائلاً: أَلم أحذركما من الأكل من هذه الشجرة وأخبركما بعداوة الشيطان اللعين؟ روى أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة؟ فقال: بل وعزتك ولكنْ ما ظننتُ أن أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً قال: فوعزتي لأهبطنَّك إِلى الأرض ثم لا تنال العيش إِلا كدّاً {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} اعترفا بالخطيئة وتابا من الذنب وطلبا من الله المغفرة والرحمة، قال الطبري: وهذه الآية هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الخطاب لآدم وحواء وإِبليس ولهذا جاء بصيغة الجمع أي اهبطوا من سماء القدس إِلى الأرض حال كون بعضكم عدواً لبعض، فالشيطان عدوٌ للإِنسان، والإِنسان عدوٌ للشيطان كقوله {إِن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً} {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي لكم في الأرض موضع استقرار وتمتع وانتفاع إِلى حين انقضاء آجالكم {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} أي في الأرض تعيشون وفيها تُقبرون ومنها تُخرجون للجزاء كقوله {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].



وجوب ستر العورة والتحذير من وساوس الشيطان



{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(26)يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(27)}



ثم ذكر تعالى ما امتنَّ به على ذرية آدم من اللباس والرياش والمتاع فقال {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} أي أنزلنا عليكم لباسين: لباساً يستر عوراتكم، ولباساً يزينكم وتتجملون به، قال الزمخشري: الريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} أي ولباس الورع والخشية من الله تعالى خير ما يتزين به المرء فإِن طهارة الباطن أهم من جمال الظاهر قال الشاعر:

وخـيرُ لـباس الـمرء طـاعةُ ربه ولا خير فيمن كان لله عاصياً

{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} أي إِنزال اللباس من الآيات العظيمة الدالة على فضل الله ورحمته على عباده {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون الله عليها {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ} أي لا يغوينكم الشيطان بإَضلاله وفتنته {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} أي كما أغوى أبويكم فأكلا من الشجرة حتى أخرجهما من الجنة {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} أي ينزع عنهما اللباس لتظهر العورات، ونسب النزع إِليه لأنه المتسبب، وهذا هدف اللعين أن يهتك الستر عن الإِنسان ويعريه من جميع الفضائل الحسّية والمعنوية {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} أي إن الشيطان يبصركم هو وجنوده من الجهة التي لا تبصرونه منها، فهو لكم بالمرصاد فاحذروا كيده ومكره لأن العدو إِذا أتى من حيث لا يُرى كان أشدَّ وأخوف {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} أي جعلنا الشياطين أعواناً وقرناء للكافرين.



الدعوة إلى ترك ضلالات الآباء والتمسك بهداية الله تعالى



{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(28)قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ(29)فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(30)}



{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} أي وإِذا فعل المشركون فاحشة وهي الفعلة المتناهية في القبح كالطواف حول البيت عراة {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} أي اعتذروا عن ذلك الفعل القبيح بتقليد الآباء {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} أي أمرنا بالتجرد من الثياب إِذ كيف نطوف في ثيابٍ عصينا فيها الله! وهذا افتراء على ذي الجلال. قال البيضاوي: احتجوا بأمرين: تقليد الآباء، والافتراء على الله سبحانه، فأعرض عن الأول لظهور فساده، وردَّ الثاني بقوله {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أي قل لهم يا محمد: الله منَزّه عن النقص لا يأمر عباده بقبائح الأفعال ومساوئ الخصال {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أتكذبون على الله وتنسبون إِليه القبيح دون علمٍ ونظرٍ صحيح؟ {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} أي بالعدل والاستقامة {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي توجهوا بكليتكم إِليه عند كل سجود {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي واعبدوه مخلصين له العبادة والطاعة. قال ابن كثير: أي أمركم بالاستقامة في عبادته وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات وبالإِخلاص لله في العبادة فإِن الله تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصاً من الشرك {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} أي كما بدأكم من الأرض تعودون إِليها {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ} أي هدى فريقاً منكم وأضلَّ فريقاً منكم وهو الفعال لما يريد لا يُسأل عما يفعل {إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذا تعليل للفريق الذين حقت عليهم الضلالة أي اتخذوا الشياطين نصراء من دون الله {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} أي يظنون أنهم على بصيرة وهداية.



إباحة الطيبات والإنكار على الذين يحرِّمون ما أحل الله

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31)قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(32)}



{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي البسوا أفخر ثيابكم وأطهرها عند كل صلاة أو طواف {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} أي لا تسرفوا في الزينة والأكل والشرب بما يضر بالنفس والمال {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أي المتعدين حدود الله فيما أحلَّ وحرّم {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} أي قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراةً ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من الطيبات، من حرّم عليكم التجمل بالثياب التي خلقها الله لنفعكم من النبات، والمستلذات من المآكل والمشارب! والاستفهام للإِنكار والتوبيخ {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي هذه الزينة والطيبات في الدنيا مخلوقة للمؤمنين وإن شاركهم فيها الكفار، وستكون خالصة لهم يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد لأن الله حرم الجنة على الكافرين {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي نبيّن ونوضح الآيات التشريعية لقوم يتدبرون حكمة الله ويفقهون تشريعه.

description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
أنواع المحرَّمات وأصولها



{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(33)}



{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي قل لهم يا محمد ما حرّم الله إلا القبائح من الأشياء التي تفاحش قبحها وتناهى ضررها، سواء ما كان منها في السر أو في العلن {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي وحرّم المعاصي كلها والعدوان على الناس {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} أي تجعلوا له شركاء في عبادته بدون حجة أو برهان {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون} أي تفتروا على الله الكذب في التحليل والتحريم.



توفية الأمم والأفراد آجالهم

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(34)}



{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي لكل أمة كذبت رسلها مدة مضروبة لهلاكها، قال في البحر: هذا وعيد للمشركين بالعذاب إذا خالفوا أمر ربهم {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإِذا جاء وقت هلاكهم المقدر لهم لا يتأخر عنهم برهة من الزمن ولا يتقدم كقوله {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59] والساعة مثلٌ في غاية القلة من الزمان.



أحوال بني آدم بعد الموت

{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(35)وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(36)}



{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} المراد ببني آدم جميع الأمم والمعنى إن يجئْكُم رسلي الذين أرسلتهم إليكم يبينون لكم الأحكام والشرائع {فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي فمن اتقى منكم ربه بفعل الطاعات وترك المحرمات فلا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وأما من كذب واستكبر عن الإِيمان بما جاء به الرسل فأولئك في نار جهنم ماكثون لا يخرجون منها أبداً.



شناعة افتراء الكذب على الله تعالى وعاقبة المفترين



{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ(37)قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ(38)وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ(39)}



{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} الاستفهام للإِنكار أي من أقبح وأشنع ممن تعمْد الكذب على الله أو كذّب بآياته المنزلة {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ} أي يصيبهم حظهم في الدنيا مما كُتب لهم وقُدر من الأرزاق والآجال، قال مجاهد: ما وُعدوا به من خير أو شر {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي جاءت ملائكة الموت تقبض أرواحهم {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله أدعوهم ليخلصوكم من العذاب، والسؤال للتبكيت والتوبيخ {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي قال الأشقياء المكذبون لقد غابوا عنا فلا نرجوا نفعهم ولا خيرهم {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} أي أقروا واعترفوا على أنفسهم بالكفر والضلال، وإنما قالوا ذلك على سبيل التحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} أي يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء المكذبين بآياته: ادخلوا مع أمم أمثالكم من الفجرة في نار جهنم من كفار الأمم الماضية من الإِنس والجن {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} أي كلما دخلت طائفة النار لعنت التي قبلها لضلالها بها. قال الألوسي: يلعن الأتباع القادة يقولون: أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى، والمراد أن أهل النار يعلن بعضهم بعضاً كقوله تعالى {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} أي تلاحقوا واجتمعوا في النار كلهم {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} أي قال الأتباع للقادة والرؤساء الذين أضلوهم يا ربنا هؤلاء هم الذين أضلونا عن سبيلك وزينوا لنا طاعة الشيطان {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ} أي أذقهم العذاب مضاعفاً لأنهم تسببوا في كفرنا ونظير هذه الآية {ربنا إن أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب} {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} أي لكلٍ من القادة والأتباع عذاب مضاعف أما القادة فلضلالهم وإضلالهم، وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم {وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} أي لا تعلمون هوله ولهذا تسألون لهم مضاعفة العذاب {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أي قال القادة للأتباع: لا فضل لكم علينا في تخفيف العذاب فنحن متساوون في الضلال وفي استحقاق العذاب الأليم { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي فذوقوا عذاب جهنم بسبب إجرامكم، قالوه لهم على سبيل التشفي لأنهم دعوا عليهم بمضاعفة العذاب.



خلود الكافرين في النار



{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ(40)لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(41)}



{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} أي كذبوا بآياتنا مع وضوحها واستكبروا عن الإِيمان بها والعمل بمقتضاها {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} أي لا يصعد لهم عمل صالح كقوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيّب} قال ابن عباس: لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء، وقيل: لا تُفتَّح لأرواحهم أبواب السماء إذا قبضت أرواحهم ويؤيده حديث (إن العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا يجيئه ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة فلا يمر على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ..) الحديث {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أي لا يدخلون يوم القيامة الجنة حتى يدخل الجمل في ثقب الإِبرة، وهذا تمثيل لاستحالة دخول الكفار الجنة كاستحال دخول الجمل على ضخامته في ثقب الإِبرة على دقته مبالغة في التصوير {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي أهل العصيان والإِجرام {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي لهم فراش من النار من تحتهم {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أي ومن فوقهم أغطية من النار {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي ومثل ذلك الجزاء الشديد نجزي كل من ظلم وتعدّى حدود الله.



حال المؤمنين الطائعين يوم القيامة



{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(42)وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(43)}



ولما ذكر تعالى وعيد الكافرين وما أعده لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعدّ لهم فقال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي والذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي لا نكلف أحداً بما هو فوق طاقته أو بما يعجز عنه بل بما هو في وسعه والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر. قال في البحر: وفائدته التنبيه على أن ذلك العمل في وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم ما فيها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذا هو الخبر أي هؤلاء المؤمنون السعداء هم المستحقون للخلود الأبدي في جنات النعيم لا يُخرجون منها أبداً {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أي طهرنا قلوبهم من الحسد والبغضاء حتى لا يكون بينهم إلا المحبة والتعاطف كما ورد في الحديث (يدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غلٌ) وصيغة الماضي تفيد التحقق والتثبت {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ} أي تجري أنهار الجنة من تحت قصورهم زيادة في نعيمهم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} أي وفقنا لتحصيل هذا النعيم العظيم ولولا هداية الله تعالى وتوفيقه لما وصلنا إلى هذه السعادة { لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} أي والله لقد صدقنا الرسل فيما أخبرونا به عن الله عز وجل {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي وتناديهم الملائكة أن هذه هي الجنة التي أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا، قال القرطبي: ورثتم منازلها بعملكم، ودخولكم إِياها برحمة الله وفضله وفي الحديث (لن يُدخل أحداً منكم عملهُ الجنة ..) الحديث.



مناظرة بين أهل الجنة وأهل النار

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(44)الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ(45)وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ(46)وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(47)}



{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} هذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وعبَّر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه أي ينادي أهلُ الجنة أهلَ النار يقولون: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من النعيم والكرامة حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من الخزي والهوان والعذاب حقاً؟ قال أهل النار مجيبين: نعم وجدناه حقاً. قال الزمخشري: وإِنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم، وشماتةً بأهل النار، وزيادة في غمهم لمجرد الإِخبار والاستخبار {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} أي أعلن معلنٌ ونادى منادٍ بين الفريقين بأن لعنة الله على كل ظالم بالله ثم وصفه بقوله {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي الذين كانوا في الدنيا يمنعون الناس عن اتباع دين الله ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد {وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة مكذبون جاحدون {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ} أي بين الفريقين حجاب وهو السور الذي ذكره بقوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} يمنع من وصول أهل النار للجنة، وعلى هذا السور رجال يعرفون كلاً من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم أي بعلامتهم التي ميّزهم الله بها. قال قتادة: يعرفون أهل النار بسواد وجوههم وأهل الجنة ببياض وجوههم {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي ونادى أصحاب الأعراف أهل الجنة حين رأوهم أن سلامٌ عليكم أي قالوا لهم: سلام عليكم قال تعالى {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة وهم يطمعون في دخلوها {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال المفسرون: أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فليسوا من أهل الجنة ولا من أهل النار، يحبسون هناك على السور حتى يقضي الله فيهم فإذا نظروا إلى أهل الجنة سلّموا عليهم، وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، سألوا الله ألاّ يجعلهم معهم. قال أبو حيان: وفي التعبير بقوله {صُرِفَتْ} دليل على أن أكثر أحوالهم النظر إلى أهل الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار ليس من قِبَلهم بل هم محمولون عليه والمعنى أنهم إذا حمُلوا على صرف أبصارهم ورأوا ما عليه أهل النار من العذاب استغاثوا بربهم من أن يجعلهم معهم.



الإخبار عن تقريع أهل الأعراف لرجال من قادة المشركين



{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ(48)أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(49)}



{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي من أهل النار وهم رؤساء الكفرة {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أي أيُّ شيء نفعكم جمعكم للمال واستكباركم عن الإِيمان؟ والاستفهام للتوبيخ {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} أي أهؤلاء المؤمنون الضعفاء الذين كنتم في الدنيا تسخرون منهم وتحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة، والاستفهام استفهام تقرير وتوبيخ وشماتة يوبخونهم بذلك {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} أي يقولون للمؤمنين ادخلوا الجنة رغم أنوف الكافرين. قال الألوسي: هذا من كلام أصحاب الأعراف يقولون لأهل الجنة المشار إليهم: دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة.



عاقبة الجاحدين بآيات الله تعالى



{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ(50)الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(51)}



{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} يخبر تعالى عن المحاورة بين أهل النار وأهل الجنة بعد أن استقر بكلٍ من الفريقين القرار واطمأنت به الدار، وعن استغاثتهم بهم عند نزول عظيم البلاء من شدة العطش والجوع والمعنى ينادونهم يوم القيامة أغيثونا بشيء من الماء لنسكن به حرارة النار والعطش أو مما رزقكم الله من غيره من الأشربة فقد قتلنا العطش {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} أي منع الكافرين شراب الجنة وطعامها، قال ابن عباس: ينادي الرجل أخاه وأباه فيقول: قد احترقت فأفض عليَّ من الماء! فيقال لهم أجيبوهم فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين، ثم وصف تعالى الكافرين بقوله {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} أي هزءوا من دين الله وجعلوا الدين سخرية ولعباً {وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي خدعتهم بزخارفها العاجلة وشهواتها القاتلة وهذا شأنها مع أهلها تغرُّ وتضر، وتخدع ثم تصرع {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} أي ففي هذا اليوم نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا به. قال الألوسي: الكلام خارجٌ مخرج التمثيل أي نتركهم في النار وننساهم مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لا ينبغي ألا يُنسى. وقال ابن كثير: أي يعاملهم معاملة من نسيهم لأنه تعالى لا يشذّ عن علمه شيءٌ ولا ينساه {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي وكما كانوا منكرين لآيات الله في الدنيا، يكذبون بها ويستهزؤون، ننساهم في العذاب ويتركون.



حجية القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة



{ولَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(52)هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(53)}



{ولقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} أي ولقد جئنا أهل مكة بكتاب هو القرآن العظيم {فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} أي بيّنا معانيه ووضحنا أحكامه على علم منا حتى جاء قيّماً غير ذي عوج {هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي هداية ورحمة وسعادة لمن آمن به {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ} أي ما ينتظر أهل مكة إلا عاقبة ما وُعدوا به من العذاب والنكال. قال قتادة: تأويله عاقبتُه {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} هو يوم القيامة {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} أي يقول الذين ضيّعوا وتركوا العمل بهفي الدنيا {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} أي جاءتنا الرسل بالأخبار الصادقة وتحقق لنا صدقهم فلم نؤمن بهم ولم نتبعهم، قال الطبري: أقسم المساكين حين حلّ بهم العقاب أن رسل الله قد بلّغتهم الرسالة ونصحتْ لهم وصدّقَتْهم حين لا ينفعهم ولا ينجيهم من سخط الله كثرةُ القيل والقال {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} أي هل لنا اليوم شفيع يخلصنا من هذا العذاب؟ استفهام فيه معنى التمني {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي هل لنا من عودة إلى الدنيا لنعمل صالحاً غير ما كنا نعمله من المعاصي وقبيح الأعمال؟ قال تعالى ردّاً عليهم {قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي خسروا أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدنيا بالنفيس الباقي من الآخرة، وبطل عنهم ما كانوا يزعمونه من شفاعة الآلهة والأصنام.



دلائل القدرة والوحدانية



{إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54)}



ثم ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية فقال {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي إن معبودكم وخالقكم الذي تعبدونه هو المنفرد بقدرة الإِيجاد الذي خلق السماوات والأرض في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، قال القرطبي: لو أراد خلقها في لحظة ولكنه أراد أن يعلِّم العبادَ التثبت في الأمور {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيلٍ ولا تحريف كما هو مذهب السلف وكما قال الإِمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكَيْفُ مرفوع، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وقال الإِمام أحمد رحمه الله: أخبارُ الصفات تُمرُّ كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل فلا يقال: كيف؟ ولِمَ؟ نؤمن بأن الله على العرش بلا حدٍّ ولا صفةٍ يبلغها واصف أو يحدها حادُّ، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما ونَكِلُ المعنى في الصفات إلى علم الله عز وجل. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي يغطي الليل على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعاً حتى يدركه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} أي الجميع تحت قهره ومشيئته وتسخيره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} أي له الملك والتصرف التام في الكائنات {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي تعظّم وتمجّد الخالق المبدع رب العالمين.



الحث على الدعاءِ والبعدِ عن الإفساد



{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(55)وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(56)}



{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي ادعوا الله تذللاً وسراً بخشوع وخضوع {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي لا يحب المعتدين في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت وفي الحديث (إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً) {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} أي لا تفسدوا في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثة المرسلين {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} أي رحمته تعالى قريبة من المطيعين الذين يمتثلون أوامره ويتركون زواجره.



أمثال ومقارنات تدل على قدرة الله الباهرة



{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(57)وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ(58)}



{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي يرسل الرياح مبشرة بالمطر، قال في البحر: ومعنى بين يدي رحمته أي أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجلٌ النعم وأحسنها أثراً على الإِنسان {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا} أي حتى إذا حملت الرياح سحاباً مثقلاً بالماء {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} أي سقنا السحاب إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء فأخرجنا بذلك الماء من كل أنواع الثمرات {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي مثل هذا الإِخراج نُخرج الموتى من قبورهم لعلكم تعتبرون وتؤمنون. قال ابن كثير: وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله المثل ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها ولهذا قال لعلكم تذكرون {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي الأرضُ الكريمةُ التربة يَخْرج النبات فيها وافياً حسناً غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره، وهذا مثل للمؤمن يسمع الموعظة فينتفع بها {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} أي والأرض إذا كانت خبيثة التربة كالحرّة أو السبخة لا يخرج النبات فيها إلا بعسر ومشقة وقليلاً لا خير فيه، وهذا مثلٌ للكافر الذي لا ينتفع بالموعظة، قال ابن عباس: هذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر، فالمؤمن طيّب وعمله طيب كالأرض الطيبة ثمرها طيب، والكافر خبيثٌ وعملهُ خبيث كالأرض السبخة المالحة لا ينتفع بها {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} أي كما ضربنا هذا المثل كذلك نبيّن وجوه الحجج ونكررها آية بعد آية، وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله على نعمه، وإنما خصّ الشاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بسماع القرآن. قال الألوسي: أي مِثلَ هذا التصريف البديع نردِّد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها لقومٍ يشكرون نعم الله تعالى، وشكرُها بالتفكر والاعتبار بها.



دعوة نوح لقومه وعاقبة تكذيبهم إيَّاه



{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(59)قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(60)قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(61)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(62)أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(63)فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ(64)}



{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} اللام جواب قسمٍ محذوف أي والله لقد أرسلنا نوحاً، ونوحٌ شيخ الأنبياء لأنه أطولهم عمراً وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس، ولم يلق نبيٌّ من الأذى مثل نوح {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي وحّدوا الله ولا تشركوا به فما لكم إلهٌ مستحقٌ للعبادة غيره {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِن أشركتم به ولم تؤمنوا فأنا أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم هو يوم القيامة {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي قال الأشراف والسادة من قومه إنا لنراك يا نوح في ذهابٍ عن طريق الحق والصواب واضح جلي، قال أبو حيان: ولم يجبه من قومه إلا أشرافُهم وسادتهم وهم الذين ينكرون على الرسل لانغماس عقولهم بالدنيا وطلب الرياسة، وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ما أنا بضال ولكنْ أنا مرسل إليكم من عند ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أنا أبلغكم ما أرسلني الله به إليكم وأقصد صلاحكم وخيركم وأعلم من الأمور الغيبية أشياء لا علم لكم بها. قال ابن كثير: وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} أي لا تعجبوا من هذا فإِن هذا ليس بعجيب أن يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفاً وإِحساناً إليكم {لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي ليخوفكم هذا الرسول من العذاب إن لم تؤمنوا ولتتقوا ربكم وتنالكم الرحمة بتقواه {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} أي كذبوا نوحاً مع طول مدة إقامته فيهم فأنجاه الله والمؤمنين معه في السفينة {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي أهلكنا المكذبين منهم بالغرق {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} أي عميت قلوبهم عن الحق فهم لا يبصرونه ولا يهتدون له. قال ابن عباس: عميتْ قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد.



معاناة هود في دعوة قومه ونتيجة التمرد والعتو والطغيان



{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ(65)قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(66)قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(67)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(69)قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(70)قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وءابَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ(71)فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ(72)}



{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هوداً وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي قال لهم رسولهم وحّدوا الله فليس لكم إله غيره {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون عذابه؟ {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي قال السادة والقادة منهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي نراك في خفة حلم وسخافة عقل وإننا لنظنك من الكاذبين في ادعائك الرسالة {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ليس بي كما تزعمون نقص في العقل ولكني مرسل إليكم بالهداية من رب العالمين {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} أي أبلغكم أوامر الله وأنا ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، أمينٌ على ما أقول لا أكذب فيه. قال الزمخشري: وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام ممَّنْ نسبَهم إلى السفاهة والضلالة - بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم وترك المقابلة - أدبٌ حسنٌ وخُلُق عظيم، وتعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولاً من أنفسكم لينذركم لقاء الله ويخوفكم عذابه {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي اذكروا نعمة الله حين استخلفكم في الأرض بعد إهلاك قوم نوح {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} أي زاد في أجسامكم قوةً وضخامة {فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي اذكروا نعم الله عليكم كي تفلحوا وتفوزوا بالسعادة {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} أي أجئتنا يا هود تتوعدنا بالعذاب كي نعبد الله وحده ونهجر عبادة الآلهة والأصنام ونتبرأ منها؟ {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي فأتنا بما تعدنا من العذاب فلن نؤمن لك إن كنت من الصادقين في قولك {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} أي قد حلّ بكم عذاب وغضب من الله {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنَ سُلْطَانٍ} أي أتخاصمونني في أصنام لا تضر ولا تنفع ما أنزل الله بعبادتها من حجة أو برهان {فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ} أي فانتظروا نزول العذاب إني من المنتظرين لما يحل بكم وهذا غاية الوعيد والتهديد {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أي أنجينا هوداً والذين معه من المؤمنين رحمة منا لهم {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي استأصلناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} أي كذبوا ولم يؤمنوا فاستحقوا العذاب. قال أبو السعود: أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أبداً فأهلكهم الله بالريح العقيم.



قصة صالح عليه السلام مع قومه



{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73)وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(74)قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ(75)قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي ءامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(76)فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(77)فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(78)فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ(79)}



{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي وحّدوا الله ولا تشركوا به {قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي معجزة ظاهرة جلية تدل على صحة نبوتي {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَةً} هذا بيانٌ للمعجزة أي هذه الناقة معجزتي إليكم وإضافتها إلى الله للتشريف والتعظيم لأنها خلقت بغير واسطة. قال القرطبي: أخرج لهم الناقة حين سألوه من حجر صلد {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} أي اتركوها تأكل من رزق ربها {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لا تتعرضوا لها بشيءٍ من السوء أصلاً إكراماً لها لأنها آية الله، والعذاب الأليم هو ما حلَّ بهم حين عقروها {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} أي خلفاء في الأرض، قال الشهاب: لم يقل خلفاء عاد إشارة إلى أن بينهما زماناً طويلاً { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} أي أسكنكم في أرض الحِجْر تبنون في سهولها قصوراً رفيعة {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} أي تنحتون الجبال لسكناكم، قال القرطبي: اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم فإن الأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم {فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي اذكروا نعم الله عليكم واشكروه على ما تفضل به ولا تعيثوا في الأرض فساداً {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} أي قال الأشراف المستكبرون من قوم صالح للمؤمنين المستضعفين من أتباع صالح عليه السلام {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} أي أن الله أرسله إلينا وإِليكم، وهذا قالوه على سبيل السخرية والاستهزاء {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي أجابوهم بالأسلوب الحكيم بالإِيمان برسالته. قال أبو حيان: وعدولهم عن قولهم هو مرسل إلى قولهم {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} في غاية الحسن إذْ أمر رسالته معلوم واضح مسلَّم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي ءامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي قال المستكبرون نحن كافرون بما صدَّقتم به من نبوة صالح وإنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً لمقالتهم {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي نحروا الناقة واستكبروا عن امتثال أمر الله {وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي جئنا يا صالح بما تعدنا من العذاب الذي تخوفنا به إن كنت يا صالح حقاً رسولاً، قالوا ذلك استهزاء به وتعجيزاً {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أخذتهم الزلزلة الشديدة فصاروا في منازلهم هامدين موتى لا حِراك بهم. قال في البحر: أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوتُ كل شيء له صوتٌ في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أي أدبر عنهم صالح بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم وقال على سبيل التفجع والتحسر عليهم: لقد بلّغتكم الرسالة وحذرتكم عذاب الله وبذلت وسعي في نصيحتكم ولكن شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} قال الزمخشري حكاية حال ماضية قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت -وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة-: يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني؟



فاحشة مبتكرة عند قوم لوط



{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ(80)إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(81)وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82)فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ(83)وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(84)}



{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} أي واذكر وقت أن قال لوط لقومه أهل سدوم على سبيل الإِنكار والتوبيخ: أتفعلون تلك الفعلة الشنيعة المتناهية في القبح التي ما عملها أحد قبلكم في زمنٍ من الأزمان! والفاحشة هي إتيان الذكور في الأدبار، أنكر عليهم أولاً فعلها ثم وبخهم بأنهم أول من فعلها. قال أبو حيان: ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه، ومركوزاً في العقول فحشه أتى به معرفاً بالألف واللام {الْفَاحِشَةَ} بخلاف الزنى فإنه قال فيه {إنه كان فاحشة} فأتى به منكراً، والجملة المنفية {مَا سَبَقَكُمْ} تدل على أنهم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها، والمبالغة في {مِنْ أَحَدٍ} حيث زيدت مِنْ لتأكيد نفي الجنس، وفي الإِتيان بعموم {الْعَالَمِينَ} جمعاً قال عمرو بن دينار: ما رؤي ذكرٌ على ذكر قبل قوم لوط {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} هذا بيانٌ للفاحشة وهو توبيخٌ آخر أشنع مما سبق لتأكيده بإنَّ وباللام أي إنكم أيها القوم لتأتون الرجال في أدبارهم شهوة منكم لذلك الفعل الخبيث المكروه دون ما أحله الله لكم من النساء ثم أضرب عن الإِنكار إلى الإِخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح واتباع الشهوات فقال {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي لا عذر لكم بل أنتم عادتكم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء. قال أبو السعود: وفي التقييد بقوله {شَهْوَةً} وصفٌ لهم بالبهيمية الصِّرفة وتنبيهٌ على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النسل لاقضاء الشهوة {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي ما كان جوابهم للوطٍ إذ وبخهم على فعلهم القبيح إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطاً وأتباعه المؤمنين من بلدتكم لأنهم أناس يتنزهون عما نفعله نحن من إتيان الرجال في الأدبار، قال ابن عباس ومجاهد: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي يتقذرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء، قالوا ذلك سخرية واستهزاءً بلوط وقومه وعابوهم بما يمدح به الإِنسان {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي أنجيناه من العذاب الذي حلّ بقومه وأهله المؤمنين إلا امرأته فلم تنج وكانت من الباقين في ديارهم الهالكين. قال الطبري: أي أنجينا لوطاً وأهله المؤمنين به إلا امرأته فإنها كانت للوطٍ خائنة وبالله كافرة فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي أرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً هو حجارة من سجيل كما في الآية الأخرى { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} وشبه العذاب بالمطر المدرار لكثرته حيث أرسل إرسال المطر {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي انظر أيها السامع إلى عاقبة هؤلاء المجرمين كيف كانت؟ وإلى أي شيءٍ صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟!



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
شعيب عليه السلام يدعو قومه إلى توحيد الله وترك كل أنواع الإيذاء



{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(85)وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(86)وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ ءامَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(87)}



{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي وأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً داعياً لهم إلى توحيد الله وعبادته. قال ابن كثير: ومدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب "معان" من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره {قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي معجزة تدل على صدقي {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} أي أتموا للناس حقوقهم بالكيل الذي تكيلون به والوزن الذي تزنون به {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تُنْقصوهم إياها {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} أي لا تعملوا بالمعاصي بعد إصلاحها ببعثة الرسل {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ما أمرتكم به من إخلاص العبادة لله وإيفاء الناس حقوقهم وترك الفساد في الأرض خير لكم إن كنتم مصدقين لي في قولي {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ} أي لا تجلسوا بكل طريق تخوّفون من آمن بالقتل. قال ابن عباس: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي تريدون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة بمعنى تصويرهم أن دين الله غير مستقيم كما يقول الضالون في هذا الزمان: "هذا الدين لا ينطبق مع العقل" لأنه لا يتمشى مع أهوائهم الفاجرة {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} أي كنتم قلة مستضعفين فأصبحتم كثرة أعزة فاشكروا الله على نعمته {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} هذا تهديد لهم أي انظروا ما حلّ بالأمم السابقة حين عصوا الرسل كيف انتقم الله منهم واعتبروا بهم {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ ءامَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي إذا كان فريق صدقوني فيما جئتهم به وفريق لم يصدقوني فاصبروا حتى يفصل الله بحكمه العادل بيننا وهو خير الفاصلين. قال أبو حيان: هذا الكلام من أحسن ما تلطّف به في المحاورة إذا برز المتحقق في صورة المشكوك وهو من بارع التقسيم فيكون وعداً للمؤمنين بالنصر ووعيداً للكافرين بالعقوبة والخسارة.



{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88)قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ(89)وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ(90)فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(91)الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ(92)فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ(93)}



{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي قال أشراف قومه المستكبرين عن الإِيمان بالله ورسله { لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أقسموا على أحد الأمرين: إما إخراج شعيب وأتباعه وإما العودة إلى ملتهم أي إلى الكفر والمعنى لنخرجنك يا شعيب ومن آمن بك من بين أظهرنا أو لترجعن أنت وهم إلى ديننا قال شعيب مجيباً لهم {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أي أتجبروننا على الخروج من الوطن أو العودة في ملتكم ولو كنّا كارهين لذلك؟ والاستفهام للإِنكار{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} أي إِن عدنا إِلى دينكم بعد أن أنقذنا الله منه بالإِيمان وبصّرنا بالهدى نكون مختلقين على الله أعظم أنواع الكذب، وهذا تيئيسٌ للكفار من العودة إلى دينهم {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} أي لا ينبغي ولا يصح لنا أن نعود إلى ملتكم ودينكم إلا إذا شاء الله لنا الانتكاس والخذلان فيمضي فينا قضاؤه {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي وسع علمه كل الأشياء {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أي اعتمادنا على الله وهو الكافي لمن توكل عليه {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي احكم بيننا وبينهم بحكمك الحق الذي لا جور فيه ولا ظلم وأنت خير الحاكمين {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي قال الأشراف من قومه الفجرة الكفرة: إذا اتبعتم شعيباً وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه إنكم إذاً لخاسرون لاستبدالكم الضلالة بالهدى قال تعالى {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي فأخذتهم الزلزلة العظيمة فأصبحوا ميّتين جاثمين على الركب {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي أهلك الله المكذبين كأنهم لم يقيموا في ديارهم منعَّمين {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} إخبارٌ عنهم بالخسار بعد الهلاك والدمار {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} قاله تأسفاً لشدة حزنه عليهم لأنهم لم يتبعوا نصحه {فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي كيف أحزن على من لا يستحق أن يُحزن عليه، قال الطبري: أي كيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم؟



سنة الله في التضييق على الأمم قبل إهلاكها



{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94)ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءابَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(95)}



{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} في الكلام حذفٌ أي وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبه أهلها {إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} أي عاقبناهم بالبؤس والفقر، والمرض وسوء الحال {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنوبهم {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} أي ثم أبدلناهم بالفقر والمرض، الغنى والصحة {حَتَّى عَفَوا} أي حتى كثروا ونموا {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءابَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} أي أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا كفراناً لها: هذه عادة الدهر وقد مسّ آباءنا مثل ذلك من المصائب ومن الرخاء وليست بعقوبة من الله فلنبق على ديننا، والغرضُ أن الله ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه فما فعلوا، ثم بالحسنة ليشكروا فما فعلوا، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب ولهذا قال تعالى {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي أخذناهم بالهلاك والعذاب فجأةً من حيث لا يدرون.



الترغيب بالإيمان والترهيب من الكفر



{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ(97)أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(98)أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(100)}



{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوْا} أي ولو أن أهل تلك القرى الذين كَذَّبوا وأُهلكواآمنوا بالله ورسله واتقوا الكفر والمعاصي {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي لوسّعنا عليهم الخير من كل جانب وقيل: بركاتُ السماء المطرُ، وبركات الأرض الثمارُ، قال السدي: فتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ولكنْ كذّبوا الرسل فعاقبناهم بالهلاك بسوء كسبهم {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} الهمزة للإِنكار أي هل أمن هؤلاء المكذبون أن يأتيهم عذابنا ليلاً وهم نائمون غافلون عنه؟ {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}؟ أم هل أمنوا أن يأتيهم عذابنا ونكالنا نهاراً جهاراً وهم يلهون ويشتغلون بما لا يُجدي كأنهم يلعبون؟ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} أي أفأمنوا استدراجه إياهم بالنعمة حتى يهلكوا في غفلتهم؟ فإنه لا يأمن ذلك إلا القوم الذين خسروا عقولهم وإنسانيتهم فصاروا أخسَّ من البهائم. قال الحسن البصري: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفقٌ خائفٌ وجلٌ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو مطمئن آمن {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} أي أولم يتضح ويتبيّن للذين يخلفون الأرض بعد هلاك أهلها الذين كانوا يعمرونها قبلهم، والمراد بها كفار مكة ومن حولهم {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي لو أردنا لأهلكناهم بسبب ذنوبهم كما أهلكنا من قبلهم. قال في البحر: أي قد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحل بكم ما حلّ بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي ونختم على قلوبهم فلا يقبلون موعظةً ولا تذكيراً ولا ينتفعون بسماعهما.



العبرة من قصص الماضين



{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ(101)وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ(102)}



{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} أي تلك القرى المذكورة نقصُّ عليك يا محمد بعض أخبارها وما حصل لأهلها من الخسف والرجفة والرجم بالحجارة ليعتبر بذلك من يسمع وما حدث أهولُ وأفظع {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي جاءتهم بالمعجزات والحجج القاطعات {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} أي ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به لرسل لتكذيبهم إياهم قبل مجيئهم بالمعجزات وبعد مجيئهم بها فحالهم واحد في العتو والضلال. قال الزمخشري: أي استمروا على التكذيب من لدنْ مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرّين لا يرعوون مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم نطبع على قلوب الكافرين فلا يكاد يؤثر فيهم النُّذر والآيات، وفيه تحذير للسامعين {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أي ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء للعهد بل وجدناهم خارجين عن الطاعة والامتثال، قال ابن كثير: والعهد الذي أخذه هو ما فطرهم عليه وأخذه عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم فخالفوه وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع.



قصة موسى عليه السلام مع فرعون



{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(103)وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(104)حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(105)قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(106)فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107)وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(108)قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(109)يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(110)قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(111)يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(112)وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(113)قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(114)قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ(115)قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116)}.



{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} أي ثم بعثنا من بعد الرسل المتقدم ذكرهم موسى بن عمران بالمعجزات الباهرات والحجج الساطعات {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} أي أرسلناه إلى فرعون - ملك مصر في زمن موسى - وقومه {فَظَلَمُوا بِهَا} أي كفروا وجحدوا بها ظلماً وعناداً {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي انظر أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين كيف أغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه، وهذا أبلغُ في النكال لأعداء الله، وأشفى لقلوب أولياء الله {وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي إني رسولٌ إليك من الخالق العظيم رب كل شيء وخالقه ومليكه {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} أي جديرٌ بي وحقٌ عليَّ أن لا أخبر عن الله إلا بما هو حقٌ وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي جئتكم بحجة قاطعة من الله تشهد على صدقي فخلِّ واترك سبيل بني إسرائيل حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطنُ آبائهم. قال أبو حيان: ولما كان فرعون قد ادعى الربوبية فاتحه موسى بقوله {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطلٌ لا محقٌ، ولما كان قوله {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} أردفها بما يدل على صحتها وهو قوله {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} ولما قرّر رسالته فرَّع عليها تبليغ الحكم وهو قوله {فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ} {قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي قال فرعون لموسى: إن كنت جئت بآية من ربك كما تدّعي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك، قال ذلك على سبيل التعجيز لموسى {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} أي فإذا بها حية ضخمة طويلة. قال ابن عباس: تحولت إلى حية عظيمة فاغرة فاها مسرعةً نحو فرعون و {مُبِينٌ} أي ظاهر لا متخيَّل {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي أخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً عجيباً يغلب نورها نور الشمس. قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي قال الأشراف منهم وهم أصحاب مشورته إن هذا عالمٌ بالسحر ماهرٌ فيه، وقولهم {عَلِيمٌ} أي بالغٌ الغاية في علم السحر وخدعه وفنونه {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} أي يخرجكم من أرض مصر بسحره {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي بأي شيء تأمرون أن نفعل في أمره؟ وبأي شيء تشيرون فيه؟ قال القرطبي: قال فرعون: فماذا تأمرون وقيل: هو من قول الملأ أي قالوا لفرعون وحده {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} كما يُخاطب الجبارون والرؤساء: ما ترون في كذا، {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي أخِّر أمرهما حتى ترى رأيك فيهما وأرسل في أنحاء البلاد من يجمع لك السحرة {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} أي يأتوك بكل ساحرٍ مثله ماهر في السحر، وكان رؤساء السحرة بأقصى صعيد مصر {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} في الكلام محذوفٌ يدل عليه السياق وهو أنه بعث إلى السحرة وطلب أن يُجمعوا له فلما جاءوا فرعون قالوا: إنَّ لنا لأجراً عظيماً إن نحن غلبنا موسى وهزمناه وأبطلنا سحره؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} أي قال فرعون: نعم لكم الأجر وأزيدكم على ذلك بأن أجعلكم من المقربين أي من أعزّ خاصتي وأهل مشورتي. قال القرطبي: زادهم على ما طلبوا {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} أي قال السحرة لموسى: اختر إمّا أن تُلقي عصاك أو نلقي نحن عصيّنا. قال الزمخشري: تخييرهم إيّاه أدبٌ حسن كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يخوضوا في الجدال هذا ما قاله الزمخشري، والأظهر أنهم قالوا ذلك من باب الاعتزاز بالنفس وتوهم الغلبة وعدم الاكتراث بأمر موسى كما يقول المعتد بنفسه: أبدأ أو تبدأ {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} أي قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا العصيّ والحبال سحروا أعين الناس أي خيلوا إليهم ما لا حقيقة له كما قال تعالى { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} أي أفزعوهم وأرهبوهم إرهاباً شديداً حيث خيلوها حياتٍ تسعى وجاءوا بسحر عظيم يهابه من رآه قال ابن اسحق: صُفَّ خمسة عشر ألف ساحر مع كل ساحرٍ حبالُه وعصيُّه وفرعون في مجلسه مع أشراف مملكته فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد ثم ألقى رجل منهم ما في يده من العصيّ والحبال فإِذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً.



إبطال سحر السحرة، وإيمانهم برب العالمين



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117)فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(118)فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ(119)وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120)قَالُوا ءامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(121)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(122)}



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي أوحينا إليه بأن ألق عصاك فألقاها فإِذا هي تبتلع بسرعة ما يزوّرونه من الكذب، قال ابن عباس: {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} لا تمر بشيء من حبالهم وخشبهم التي ألقوها إلا التقمته {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ثبت وظهر الحق لمن شهده وحضره، وبطل إفك السحر وكذبه ومخايله {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} أي غُلب فرعونُ وقومهُ في ذلك المجمع العظيم وصاروا ذليلين {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا ءامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أي خرّوا ساجدين معلنين إيمانهم بربّ العالمين لأن الحق بهرهم قال قتادة: كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
تهديد فرعون السحرة، وعدم مبالاتهم به



{قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(123)لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(124)قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ(125)وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(126)}



{قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون الجبار للسحرة آمنتم بموسى قبل أن تستأذنوني؟ والمقصود بالجملة التوبيخ {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} أي صنيعكم هذا حيلةٌ احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد لتخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل، قال هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإِيمان {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي فسوف تعلمون ما يحلُّ بكم، وهذا وعيد وتهديد ساقه بطريق الإِجمال للتهويل ثم عقّبه بالتفصيل فقال {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي لأقطعنَّ من كل واحد منكم يده ورجله من خلاف. قال الطبري: ومعنى {مِنْ خِلافٍ} هو أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى فيخالف بين العضوين في القطع {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ثم أصلبكم جميعاً تنكيلاً لكم ولأمثالكم، والصلب التعليق على الخشب حتى الموت {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} إنّا راجعون إلى الله بالموت لا محالة فلا نخاف مما تتوعدنا به ولا نبالي بالموت وحبذا الموت في سبيل الله {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} أي ما تكره منا ولا تعيب علينا إلا إيماننا بالله وآياته كقوله {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} قال الزمخشري: أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإِيمان {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي أفضْ علينا صبراً يغمرنا عند تعذيب فرعون إيانا وتوفنا على ملة الإِسلام غير مفتونين.



تحريض فرعون من قومه على موسى، ونصيحته لقومه



{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ(127)قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128)قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(129)}



{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وءالِهَتَكَ} أي قال الأشراف لفرعون: أتترك موسى وجماعته ليفسدوا في الأرض بالخروج عن دينك وترك عبادة آلهتك وفي هذا إغراءٌ لفرعون بموسى وقومه وتحريضٌ له على قتلهم وتعذيبهم {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} أي قال فرعون مجيباً لهم: سنقتل أبناءهم الذكور ونستبقي نساءهم للاستخدام كما كنا نفعل بهم ذلك وإنّا عالون فوقهم بالقهر والسلطان {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} أي قال موسى لقومه تسليةً لهم حين تضجروا مما سمعوا: استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما ينالكم من أذاهم واصبروا على حكم الله {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي الأرض كلها لله يعطيها من أراد من عباده، أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي النتيجة المحمودة لمن اتقى الله {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} أي أوذينا من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعدما جئتنا بها يعنون أن المحنة لم تفارقهم فهم في العذاب والبلاء قبل بعثة موسى وبعد بعثته {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لعل ربكم أن يهلك فرعون وقومه ويجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم وينظر كيف تعملون بعد استخلافكم من الإِصلاح والإِفساد، والغرضُ تحريضهم على طاعة الله، وقد حقق الله رجاء موسى فأغرق فرعون وملّك بني إسرائيل أرض مصر، قال في البحر: سلك موسى طريق الأدب مع الله وساق الكلام مساق الرجاء.



أنواع العذاب لآل فرعون



{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(130)فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(131)وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءايَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(132)فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ(133)}



{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد ابتلينا واختبرنا فرعون وأتباعه بالجدب والقحط {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} أي وابتليناهم بإِذهاب الثمار من كثرة الآفات، قال المفسرون: كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون وترقُّ قلوبهم فإِن الشدة تجلب الإِنابة والخشية ورقة القلب، ثم بيّن تعالى أنهم مع تلك المحن والشدائد لم يزدادوا إِلا تمرداً وكفراً فقال {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي إذا جاءهم الخِصْب والرّخاء قالوا هذه لنا وبسعدنا ونحن مستحقون لذلك {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} أي وإِذا جاءهم الجدب والشدة تشاءموا بموسى ومن معهمن المؤمنين أي قالوا: بشؤمهم قال تعالى رداً عليهم {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي إِن ما يصيبهم من خير أو شر بتقدير الله وليس بشؤم موسى، قال ابن عباس: الأمر من قِبَل الله ليس شؤمهم إِلاّ من قِبَله وحكمه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن ما لحقهم من القحط والشدائد من عند الله بسبب معاصيهم لا من عند موسى {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي قال قوم فرعون لموسى: أي شيء تأتينا به يا موسى من المعجزات لتصرفنا عما نحن عليه فلن نؤمن لك، قال الزمخشري: فإِن قلت كيف سموها آية ثم قالوا {لِتَسْحَرَنَا بِهَا}؟ قلت: ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية وإِنما قصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} أي أرسلنا عليهم المطر الشديد حتى عاموا فيه وكادوا يهلكون، قال ابن عباس: الطوفان كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار {وَالْجَرَادَ} أي وأرسلنا عليهم كذلك الجراد فأكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم {وَالْقُمَّلَ} وهو السوس حتى نخر حبوبهم وتتّبع ما تركه الجراد وقيل: هو القمل المشهور كان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه {وَالضَّفَادِعَ} جمع ضفدع حتى ملأت بيوتهم وطعامهم وإِذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إِلى فمه {وَالدَّمَ} أي صارت مياههم دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إِلا وجدوه دماً {ءايَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} أي علامات ظاهرات فيها عبرٌ وعظاتٌ ومع ذلك استكبروا عن الإِيمان {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أي استكبروا عن الإِيمان بها لغلوهم في الإِجرام.



description  تَفْسِيرُ القرآن  كاملا  هدية الي المنتدي احلي حكاية - صفحة 4 Emptyرد: تَفْسِيرُ القرآن كاملا هدية الي المنتدي احلي حكاية

more_horiz
الرجوع إلى موسى عليه السلام عند وقوع العذاب، وإغراق فرعون وقومه



{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(134)فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ(135)فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(136)}



{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} أي وحين نزل بهم العذاب المذكور {قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي ادع لنا ربك ليكشف عنا البلاء بحق ما أكرمك به من النبوة، قال الزمخشري: أي أسعفنا إِلى ما نطلب إِليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} اللام لام القسم أي والله لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه يا موسى لنصدقنَّ بما جئت به ولنطلقنَّ سراح بني إسرائيل، وقد كانوا يستخدمونهم في أرذل الأعمال {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} أي فلما كشفنا بدعاء موسى عنهم العذاب إِلى حدٍّ من الزمان هم واصلون إِليه ولا بدَّ. قال ابن عباس: هو وقت الغَرق {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي إِذا هم ينقضون عهودهم ويصرّون على الكفر {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي فانتقمنا منهم بالإِغراق في البحر {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي بسبب تكذيبهم بآيات الله وإِعراضهم عنها وعدم مبالاتهم بها.



وراثة الأرض لبني إسرائيل



{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ(137)}.



{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} أي وأورثنا بني إِسرائيل الذين كانوا يُستذلون بالخدمة أرض الشام وملّكناهم جميع جهاتها ونواحيها: مشارقها ومغاربها {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالخيرات وكثرة الثمرات {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي تمَّ وعد الله الصادق بالتمكين لبني إِسرائيل في الأرض ونصره إِياهم على عدوهم، قال الطبري: وكلمتُه الحسنى هي قوله جل ثناؤه {ونريد أن نُمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ..} الآية {بِمَا صَبَرُوا} أي بسبب صبرهم على الأذى {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} أي خرّبنا ودمّرنا القصور والعمارات التي كان يشيدها فرعون وجماعته وما كانوا يعرشون من الجنّات والمزارع.



جحود بني إسرائيل النعم الكثيرة



{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(139)قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(140)وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(141)}



وإِلى هنا تنتهي قصة فرعون وقومه ويبتدئ الحديث عن بني إِسرائيل وما أغدق الله عليهم من النعم الجسام، وأراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسوله عليه الصلاة والسلام مما رآه منهم قال تعالى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} أي عبرنا ببني إِسرائيل البحر وهو بحر القُلْزم عند خليج السويس الآن {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} أي مروا على قوم يلازمون على عبادة أصنام لهم {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} أي اجعل لنا صنماً نعبده كما لهم أصنام يعبدونها، قال ابن عطية: الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا فأرادوا ان يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقربُ به إلى الله إلا فبعيدٌ أن يقولوا لموسى اجعل لنا إلهاً نُفرده بالعبادة {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي إِنكم قوم تجهلون عظمة الله وما يجب أن ينزّه عنه من الشريك والنظير، قال الزمخشري: تعجَّبَ من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى، والمعجزة الكبرى فوصفهم بالجهل المطلق وأكّده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} أي هالك مدمَّر ما هم فيه من الدين الباطل وهو عبادة الأصنام {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي باطل عملهم مضمحلٌ بالكلية لأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي أأطلب لكم معبوداً غير الله المستحق للعبادة والحال أنَّ الله فضَّلكم على غيركم بالنعم الجليلة‍‍، قال الطبري: فضَّلكم على عالمي دهركم وزمانكم {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي واذكروا يا بني إِسرائيل النعم التي سلفت مني إِليكم حين أنجيتكم من قوم فرعون يذيقونكم أفظع أنواع العذاب وأسوأه ثم فسره بقوله {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أي يذبحون الذكور ويستبقون الإِناث لامتهانهن في الخدمة {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي وفي هذا العذاب اختبار وابتلاء من الله لكم عظيم فنجاكم منه أفلا تشكرونه؟



مناجاة موسى ربه، وطلبه رؤيته تعالى، وتنزيل التوراة عليه



{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ(142)وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(143)قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(144)وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ(145)}



{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي وعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة وأكملناها بعشر ليالٍ فتمت المناجاة أربعين ليلة. قال الزمخشري: روي أن موسى وعد بني إِسرائيل وهو بمصر إِن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتابٍ من عند الله فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمَّ الثلاثين أنكر خلوف فمه "تغير رائحته" فتسوّك فأوحى الله تعالى إِليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي كن خليفتي فيهم إِلى أن أرجع {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}أي وأصلحْ أمرهم ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهملله {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} أي ولما جاء موسى للوقت الذي وعدناه فيه وناجاه ربه وكلمه من غير واسطة {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني ذاتك المقدسة أنظر إليها، قال القرطبي: اشتاق إِلى رؤية ربه لمّا أسمعه كلامه فسأل النظر إِليه {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أي أجابه ربه لن تستيطع رؤيتي في الدنيا فإِن هذه البنية البشرية لا طاقة لها بذلك ولكنْ سأتجلّى لما هو أقوى منك وهو الجبل فإِن ثبت الجبل مكانه ولم يتزلزل فسوف تراني أي تثبت لرؤيتي وإِلاّ فلا طاقة لك {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} أي فلما ظهر من نور الله وتجلّيه اندك الجبل وتفتّت وسقط موسى مغشياً عليه من هول ما رأى. وفي الحديث: فساخ الجبل {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أي فلما صحا من غشيته قال تنزيهاً لك يا رب وتبرئة أن يراك أحدٌ في الدنيا تبتُ إِليك من سؤالي رؤيتك في الدنيا وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك { قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} أي اخترتك على أهل زمانك بالرسالة الإِلهية وبتكليمي إِياك بدون واسطة {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ} أي خذ ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} واشكر ربك على ما أعطاك من جلائل النعم. قال أبوالسعود: والآية مسوقة لتسليته عليه السلام من عدم الإِجابة إِلى سؤال الرؤية كأنه قيل: إِن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما لم اعط أحداً من العالمين فاغتنمها وثابرْ على شكرها {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي كتبنا له كل شيء كان بنو إِسرائيل محتاجين إِليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام مبيّنة للحلال والحرام كلُّ ذلك في ألواح التوراة {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي ليتعظوا بها ويزد جروا وتفصيلاً لكل التكاليف الشرعية {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي خذ التوراة بجدٍّ واجتهادٍ شأن أولي العزم {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} أي وأمر بني إِسرائيل بالحث على اختيار الأفضل كالأخذ بالعزائم دون الرخص فالعفو أفضل من القصاص، والصبر أفضل من الانتصار كما قال تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} قال ابن عباس: أُمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أُمر به قومه {سَأُورِيْكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أي سترون منازل الفاسقين - فرعون وقومه - كيف أقفرت منهم ودُمِّروا لفسقهم لتعتبروا فلا تكونوا مثلهم، فإِن رؤيتها وهي خالية عن أهلها موجبة للاعتبار والانزجار.



عقوبة المتكبرين بصرفهم عن فهم أدلة العظمة الإلهية



{سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءايَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(146)وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(147)}



{سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي سأمنع المتكبرين عن فهم آياتي فلا يتفكرون، ولا يتدبرون بما فيها، وأطمس على قلوبهم عقوبةً لهم على تكبرهم قال الزمخشري: وفيه إِنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يُصرفون عن آيات الله لتكبرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءايَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي وإِن يشاهدوا كل آية قرآنية من الآيات المنزلة عليهم أو يرَوْا كل معجزة ربانية لا يصدقوا بها {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي وإِن يروا طريق الهدى والفلاح لا يسلكوه {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي وإِن يروا طريق الضلال والفساد سلكوه كقوله {فهديناهم فاستحبوا العمى على الهُدى} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي ذلك الانحراف عن هَدْي الله وشرعه بسبب تكذيبهم بآيات الله {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي وغفلتهم عن الآيات التي بها سعادتهم حتى لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بما أنزل الله {وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي وكذبوا بلقاء الله في الآخرة أي لم يؤمنوا بالبعث بعد الموت {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم الخيرية التي عملوها في الدنيا من إِحسانٍ وصلة رحم وصدقة وأمثالها وذهب ثوابها لعدم الإِيمان {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي هل يُثابون أو يعاقبون إِلا بما عملوا في الدنيا؟



اتخاذ السامري العجل



{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ(148)وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(149)}



{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} قال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى عن ضلال من ضلَّ من بني إِسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامريُّ من الحليّ، فشكّل لهم منه عجلاً جسداً لا روح فيه وقد احتال بإِدخال الريح فيه حتى صار يسمع له خُوار أي صوتُ كصوت البقر ومعنى {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد ذهاب موسى إِلى الطور لمناجاة ربه {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً مع أنه ليس فيه شيء من صفات الخالق الرازق، فإِنه لا يملك قدرة الكلام ولا قدرة هدايتهم إِلى سبيل السعادة فكيف يتخذ إِلهاً؟ {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} أي عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً فكانوا ظالمين لأنفسهم حيث وضعوا الأشياء في غير موضعها، وتكرير لفظ {اتَّخَذُوا} لمزيد التشنيع عليهم {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي ندموا على جنايتهم واشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} أي تبينوا ضلالهم تبيناً جلياً كأنهم أبصروه بعيونهم {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} أي لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته {لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي لنكوننَّ من الهالكين، قال ابن كثير: وهذا اعترافٌ منهم بذنبهم والتجاءٌ إِلى الله عز وجل.



غضب موسى على أخيه هارون وتعنيفه له



{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(150)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(151)}



{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ} أي ولما رجع موسى من المناجاة {غَضْبَانَ} مما فعلوه من عبادة العجل {أَسِفًا} أي شديد الحزن {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} أي بئس ما فعلتموه بعد غيبتي حيث عبدتم العجل {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور؟ والاستفهام للإِنكار {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} أي طرح الألواح لما عراه من شدة الغم، وفرط الضجر غضباً لله من عبادة العجل، وأخذ بشعر رأس أخيه هارون يجره إليه ظناً منه أنه قصَّر في كفهم عن ذلك وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه، قال ابن عباس: لمّا عاين قومه وقد عكفوا على العجل ألقى الألواح فكسرها غضباً لله وأخذ برأس أخيه يجره إليه {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} أي قال هارون يا ابن أمي - وهو نداء استعطاف وترفق - إن القوم استذلوني وقهروني وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك فأنا لم أقصّر في نصحهم {فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تُسئْ إليَّ حتى يُسرَّ الأعداء بي ويشمتوا بإهانتك إليَّ ولا تجعلني في عداد الظالمين بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير، قال مجاهد: {الظَّالِمِينَ} أي الذين عبدوا العجل {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} لما تحقق لموسى براءة ساحة هارون عليه السلام من التقصير طلب عند ذلك المغفرة له ولأخيه فقال {اغْفِرْ لِي وَلأَخِي} الآية قال الزمخشري: استغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه مما عسى أن يكون فرط منه في حين الخلافة، وطلب ألاّ يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.



عقاب الظالمين المتخذين العجل إلهاً، وقبول توبة التائبين



{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ(152)وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَءامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(153)}



{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي إن الذين عبدوا العجل - ذكر البقر - واتخذوه إلهاً سيصيبهم غضب شديد من الرحمن، وينالهم في الدنيا الذل والهوان، قال ابن كثير: أما الغضب الذي نال بني إسرائيل فهو أن الله تعالى لن يقبل لهم توبة حتى يقتل بعضُهم بعضاً، وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصَغَاراً في الحياة الدنيا {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} أي كما جازينا هؤلاء بإِحلال الغضب والإِذلال كذلك نجزي كل من افترى الكذب على الله قال سفيان بن عُيينة: كلُّ صاحب بدعة ذليل {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَءامَنُوا} أي عملوا القبائح والمعاصي ثم تابوا ورجعوا إلى الله من بعد اقترافها وداموا على إيمانهم وأخلصوا فيه {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إنَّ ربك يا محمد من بعد تلك التوبة لغفور لذنوبهم رحيم بهم قال الألوسي: وفي الآية إعلامٌ بأنَّ الذنوب وإن جلّتْ وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجلُّ، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له:

يا ربِّ إنْ عَظُمتْ ذنوبي كثــرةً فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ

إن كانَ لا يَرْجوكَ إلا محســنُ فبمنْ يلوذُ ويستجيرُ المــجرمُ؟



سكون غضب موسى وأخذه الألواح



{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ(154)}



{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} أي سكن غضب موسى على أخيه وقومه {أَخَذَ الأَلْوَاحَ} أي ألواح التوراة التي كان ألقاها {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} أي وفيما نُسخ فيها وكُتب هداية للحق ورحمة للخلق بإرشادهم إلى ما فيه سعادة الدارين {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي هذه الرحمة للذين يخافون الله ويخشون عقابه على معاصيه.



اختيار موسى سبعين رجلاً لملاقاة الله



{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ(155)}



{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} أي اختار موسى من قومه سبعين رجلاً ممن لم يعبدوا العجل للوقت الذي وعده ربه الإِتيان فيه للاعتذار عن عبادة العجل {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي فلما رجف بهم الجبل وصعقوا {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} أي قال موسى على وجه التضرع والإِستسلام لأمر الله: لو شئت يا ربِّ أن تهلكنا قبل ذلك لفعلتَ فإِنّا عبيدك وتحت قهرك وأنت تفعل ما تشاء {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}؟ أي أتهلكنا وسائر بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء السبعون في قولهم: {أرنا الله جهرة}؟ والاستفهام استفهام استعطاف وتذلل فكأنه يقوله: لا تعذبنا يا ألله بذنوب غيرنا قال الطبري في رواية السدي: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعداً فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإِنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهُم وقد أهلكتَ خيارهم لو شئت أهلكتَهم من قبل وإياي" أقول: إذا كان هذا قول الأخيار من بني إسرائيل فكيف حال الأشرار منهم؟ نعوذ بالله من خبث اليهود {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أي ما هذه الفتنة التي حدثت لهم إلا محنتك وابتلاؤك تمتحن بها عبادك {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} أي تضل بهذه المحنة من تشاء إضلاله وتهدي من تشاء هدايته {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} أي أنت يا رب متولي أمورنا وناصرنا وحافظنا فاغفر لنا ما قارفناه من المعاصي وارحمنا برحمتك الواسعة الشاملة {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} أي أنت خير من صفح وستر، تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.



دعاء موسى عند الرجفة، وربط الإيمان برسالته وبالإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم



{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)}



{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} هذا من جملة دعاء موسى عليه السلام أي حقّقْ وأثبتْ لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا ورجعنا إليك من جميع ذنوبنا {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} أي قال تعالى أما عذابي فأصيب به من أشاء من عبادي وأما رحمتي فقد عمَّتْ خلقي كلهم. قال أبو السعود: وفي نسبة الإِصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمة مقتضى الذات، وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} أي سأجعل هذه الرحمة خاصة في الآخرة بالذين يتقون الكفر والمعاصي ويعطون زكاة أموالهم ويصدّقون بجميع الكتب والأنبياء {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} أي هؤلاء الذين تنالهم الرحمة هم الذين يتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم النبيَّ العربي الأمي أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، قال البيضاوي: وإنما سمّاه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى، ونبياً بالإِضافة إلى العباد {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} أي الذي يجدون نعته وصفته في التوراة والإِنجيل. قال ابن كثير: هذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثته وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} أي لا يأمر إلا بكل شيء مستحسن ولا ينهى إلا عن كل شيء قبيح {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} أي يحل لهم ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة بشؤم ظلمهم ويُحرّم عليهم ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة التي تشبه الأغلال كقتل النفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب والقصاص من القاتل عمداً كان القتل أو خطأً وشبه ذلك {فَالَّذِينَ ءامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} أي فالذين صدقوا بمحمد وعظّموه ووقّروه ونصروا دينه {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} أي واتبعوا قرآنه المنير وشرعه المجيد {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الفائزون بالسعادة السرمدية.



عموم رسالة الإسلام للناس كافة



{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(158)}



{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} هذا بيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع الخلق أي قل يا محمد للناس إني رسولٌ من عند الله إلى جميع أهل الأرض {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي المالك لجميع الكائنات {لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِِ وَيُمِيتُ} أي لا ربَّ ولا معبود سواه فهو الإِله القادر على الإِحياء والإِفناء {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي صدّقوا بآيات الله وصدقوا برسوله المبعوث إلى جميع خلقه {النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} أي آمنوا بالنبي الأمي صاحب المعجزات الذي لا يقرأ ولا يكتب المصدق بالكتب التي أنزلها الله عليه وعلى غيره من الأنبياء {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي اسلكوا طريقه واقتفوا أثره رجاء اهتدائكم إلى المطلوب.



أَتباع الحق من قوم موسى، ونعم الله تعالى على بني إسرائيل في صحراء التيه



{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ(159)وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(160)}



{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي ومن بني اسرائيل جماعة مستقيمون على شريعة الله يهدون الناس بكلمة الحق لا يجورون. قال الزمخشري: لما ذكر تعالى الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين: عبادة العجل، وطلب رؤية الله، ذكر أن منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم ويرشدونهم على الاستقامة {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} أي وفرقنا بني إسرائيل فجعلناهم قبائل شتّى اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من أولاد يعقوب. قال أبو حيان: أي فرقناهم وميزّناهم أسباطاً ليرجع أمر كل سبط أي "قبيلة" إلى رئيسه ليخفَّ أمرهم على موسى ولئلا يتحاسدوا فيقع الهرج، ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عيناً لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء، وجعل لك سبطٍ نقيباً ليرجعوا في أمورهم إليه {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} أي حين استولى عليهم العطش في التيه {أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} أي أوحينا إِليه أن يضرب الحجر بعصاه فضربه {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} أي انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً من الماء بعدد الأسباط {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} أي قد عرف كل سبطٍ وجماعة منهم عينهم الخاصة بهم، قال الطبري: لا يدخل سبطٌ على غيره في شربه {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} أي جعلنا الغمام يكنّهم من حر الشمس ويقيهم من أذاها، قال الألوسي: وكان الظلُّ يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي وأكرمناهم بطعام شهي هو {الْمَنَّ} وهي شيء حلوٌ ينزل على الشجر يجمعونه ويأكلونه و{السَّلْوَى} وهو طائر لذيذ اللحم يسمى السُمَّاني، كلُّ ذلك من إفضال الله وإنعامه عليهم دون جهدٍ منهم {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لهم كلوا من هذا الشيء الطيب اللذيذ الذي رزقناكم إياه {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} في الكلام محذوف تقديره: فكفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا ولكنْ ظلموا أنفسهم حيث عرّضوها بالكفر لعذاب الله.



privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد