من حيل الحروب في المعارك الإسلامية
كان انتصار فارس الإسلام سعد بن أبي وقاص وجنده البواسل على رستم، قائد الفرس الأشهر، وجيشه الذي لا يغلب في معركة القادسية، المفتاح الذي فتح للجند الإسلامي أبواب العراق وفارس، حيث أخذ سعد وجنده، بعد القادسية، ينتصرون على الجيوش الفارسية، انتصاراً اثرَ انتصار، ويتوغلون في بلادهم، يحطمون كل قوة تعترض طريقهم، أو تقف في سبيلهم، فيسقط العدو ما بين قتيل وجريح وأسير، أما من كتبت له الحياة، فكان يفر نجاة بنفسه لا يلوي على شيء.
وكان مما نجا من قواد الفرس في معركة القادسية، قائد مشهور يعرف بالهرمزان، ففر إلى الأهواز، مقر حكمه ومركز عصبيته. وهناك حدثته نفسه أنه يستطيع الوقوف في وجه المسلمين، إذا جمع إلى عصبيته وأهله، فلولَ الجند الفارسي الهارية، وتهيأ له أنه بهذا الجيش يستطيع أن يحطم القوة الإسلامية الفتية، فوقف للجند الإسلامي ليصد تدفقه العارم، ولكن القتال العنيف من الجانبين حطم أمله في الانتصار على المسلمين، ففر هو الآخر بمن ثبت معه إلى رامهرمز، ليجرب حظه مرة أخرى، عساه يستطيع الانتصار على عدوه ولو مرة، ولكن عندما لحقه المسلمون وأحاطوا به، تبين له أن لا طاقة له بقتال من باعوا أرواحهم في سبيل الله والحق، فطلب الصلح منهم، ورضي أن يكون تابعاً لهم، يجمع لهم جزية بلاده التي فتحوها بالسيف والتي لم يفتحوها.
وكان لانتصارات المسلمين المتتابعة، وقع أليم في نفس يزدجرد ملك فارس، الذي كان يفر من بلد إلى بلد كلماسمع بانتصار المسلمين وهزيمة جيوشه التي انتصرت على جيوش الامبراطورية البيزنطية أكثر من مرة، حتى استقر في مرو، وقد ظن أنه قد أمن على نفسه بها، فأخذ يكاتب أهل فارس ويحمسهم، ويثير أحقادهم على المسلمين، الذي استولوا على العراق العربي كله، وكادوا أن يأخذوا العراق العجمي جميعه أيضاً، ثم يتدفقوا منه إلى بلاد فارس نفسها. أرسل يزدجرد بكل هذا إلى أهل فارس، وأرسل إليهم يلومهم ويعنفهم لضعفهم أمام المسلمين، وكان مما قاله لهم: "يا أهل فارس لقد رضيتم أنه قد غلبكم العرب على السواد وما والاه والأهواز، ثم لم يرضوا بعد ذلك حتى توردوكم في بلادكم وعقر داركم." فحرك تعنيف يزدجرد أهل مرو فتحمسوا له، وداخلهم نشاط عجيب، ثم أخذوا يراسلون البلاد التي خضعت للمسلمين يثيرون عليهم أهلها، وأوعزوا إلى أهل الأهواز بالانتقاض والثورة، وأن يجتمعوا جميعاً على الهرمزان، ينقادون إليه في الحرب، فلبوا جميعاً النداء، واجتمعوا على حرب المسلمين بقيادة الهرمزان.
نقض الهرمزان صلحه مع المسلمين وغدر بهم، بعد أن اجتمعت عليه جيوش فارس، وبعد أن وصلت الامدادات الفارسية إلى "تستر" واستقرت بها. وما أن علم سعد بن أبي وقاص قائد جيوش الفتح بغدر الهرمزان ونقضه الصلح، حتى أرسل البطل العظيم النعمان بن مقرن المزني –بطل معركة نهاوند بعد ذلك- ليطفئ ثورة الأهواز وليستطلع خبر الهرمزان. وما كاد الهرمزان يعلم بخروج النعمان إليه حتى استعد لقتاله، وقد امتلأت نفسه بالأمل في الانتصار عليه بما اجتمع عليه –على الهرمزان- من جيوش كثيرة العدد والعدة، والتقى الجمعان عند "اربك" بالقرب من تستر، ولكن لم يثبت الهرمزان طويلاً أمام النعمان، فقد كان قتال النعمان مر المذاق لم يستطع الهرمزان أن يتذوقه، فانهزم وفرّ بمن معه من جنده إلى تستر، وقد قوى عزمه على قتال المسلمين فيها، بما اجتمع فيها من المقاتلة.
سار المسلمون إلى تستر لفتحها وتأديب الهرمزان الغادر. وعلى الجيش الإسلامي قواد ماهرون أمثال أبي موسى الأشعري، وأبي سبرة بن رهم، والنعمان بن مقرن المزني. وفي الجيش أبطال مغاوير، أمثال: البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور وأخيه كعب، وربعي بن عامر، وأمثال منهم كثيرون، وفيه أيضاً فدائيون أشاوس، كان لهم أجمل الأثر في فتح هذه المدينة العاصية.
وصل المسلمون إلى تستر فوجدوها كما لم يتوقعوها، وجدوا أن الهرمزان جعل منها حصناً حصيناً لا يرام، وقلعة قوية بعيدة المنال، فقد جعل الهرمزان حول المدينة خندقاً ملأه بالمقاتلة من أهل الجبال وفلول الأهواز، أما أسوارها فقد اعتلاها الجند الفارسي والكل متحفز للدفاع عنها، أما من بقي في الخندق، فقد أخذوا على عاتقهم حمايته، ومنه المسلمين من اختراقه، وقد صدق من في الخندق في القتال والدفاع عن خندقهم، وردوا المسلمين عنه في كل زحف زحفوه عليهم، حتى بلغت زحوف المسلمين نحواً من ثمانين زحفاً في عدة أشهر، لم يستطيعوا خلالها فتح ثغرة فيه، فشجع هذا الفشل من في الخندق وظنوا أن الضعف بالمسلمين، فعزموا على مواجهتهم في معركة فاصلة، يقفون فيها وجهاً لوجه. ومن ثم خرجوا من خندقهم متكاتفين، وزحفوا على المسلمين زحفاً شديداً، تلقاه المسلمون بصبر وشجاعة، ودار القتال بين الفريقين حاراً عنيفاً استمات فيه المسلمون استماتة تدعو إلى العجب، ثم لم يلبث الفرس أنْ بانَ لهم خطأ ما قدروا بعدما سقط منهم قتلى وجرحى لا يحصون عداً، فلم يستطيعوا الثبات أكثر مما ثبتوا، فأطلق من نجا منهم من سيوف المسلمين أقدامه فاراً إلى المدينة يحمي نفسه فيها، فلحقهم المسلمون واخترقوا الخندق لينفذوا من إلى المدينة، ولكن أسوارها المنيعة ورماتها الحاذقين حال بينهم وبين النفوذ إليها، فالتفوا حولها يحاصرونها حتى يأذن الله بالنصر.
استمر حصار المسلمين للمدينة مدة طويلة، ولكن هذا الحصار لم يوثر على من في المدينة فلم يظهر عليهم الضعف، أو يبدو منهم الميل إلى التسليم. وبينما المسلمون في حصارهم يدبرون الخطط ويتشاورون جاء إلى النعمان رجل فارسي يستأمنه على نفسه على أن يدله على مدخل يدخل المسلمون منه إلى المدينة، فأمنه النعمان على نفسه، فأشار عليه أن يدخلوا المدينة من مجرى الماء الذي يموّن المدينة، والذي يمرّ من تحت أحد أسوارها، فسرعان ما أرسل النعمان إلى أبي موسى الأشعري يخبره بما أشار الفارسي، وكان أبو موسى يرابط بجنده عند مدخل الماء هذا، واستقر رأي النعمان وأبي موسى على تنفيذ الخطة، ولكن تنفيذها فيه الخطورة كل الخطورة، فإنه كان على من يدخل المدينة عن طريق المجرى أن يسبح فيه وينفذ منه إلى داخل المدينة، ومن هذا الذي يخاطر بحياته، ويفدي نفسه ويقوم بهذا العمل الجبار؟ وأخذ النعمان وأبو موسى في رجالهما: من يغامر بحياته، فيدخل المدينة من مجرى الماء، ويفتح للمسلمين أبوابها؟ فتقدم الفدائيون الأشاوس: عامر بن عبد قيس، وكعب بن ثور وأخوه مجزأة، وحسكة الحبطي، وسويد بن ثعلبة، وورقاء بن الحارث، وبشر بن ربيعة الخثعمي، ونافع بن زيد الحميري، وعبد الله بن بشر الهلالي. ولما رأى المسلميون هؤلاء الفدائيون يقدمون أرواحهم رخيصة في سبيل الله، أخذوا يتدافقون ويقدمون أنفسهم للقيام بهذا العمل الجليل، حتى كاد أن يصبح الجيش كله من الفدائيين.
انتظر الفدائيون حتى أرخى الليل سدوله، واستعدوا لتنفيذ المهمة الخطيرة، وهنا تقدم سويد بن ثعلبة وعبد الله بن بشر ليكونا طليعة جيش "البط الآدمي"، فنزلا إلى الماء بسلاحهما وتبعهما أصحابهما من الفدائيين، وأخذوا يسبحون جميعاً في الماء "مثل البط"[1] حتى اخترقوا فتحة السور، ثم أخذ كل من يخرج من المجرى ينفض الماء عن نفسه، وكلما خرجت جماعة اتجهت إلى أحد أبواب المديننة، حتى إذا خرجوا جميعاً انقضوا في لحظة واحدة على حراس الأبواب فأطاحوا بأعناقهم، ثم فتحوا الأبواب على مصاريعها، ثم ارتفعت أصواتهم بالنداء الإلهي "الله أكبر" ينادون على الجيش، وكان الجند على أتم استعداد للهجوم السريع عند سماعهم تكبير إخوانهم الفدائيين، فما كادت تخترق آذانهم أصوات التكبير حتى أجابوهم بترديد تكبيرهم، ثم زحفوا كالهبوب العاصف نحو الأبواب فدخلوها.
أما الفرس فقد روعهم النداء، وراعهم زحف الجيش نحو الأبواب المفتوحة، فحاولوا صد الجيش الزاحف بالنشاب، ولكن ماذا يفعل النشاب في قلوب مؤمنة؟ ودارت في المدينة معركة طاحنة انتهت بهزيمة الفرس هزيمة منكرة، فقتل من قتل، وأسر من أسر، وفر من فر. أما الهرمزان فقد تحصن في قلعة المدينة بعد أن رأى بعينه فناء جيشه، وخيبة مسعاه، وأخذ يرمي المسلمين بالنشاب ليشفي غله وحقده، ولكن المسلمين لم يبالوا بنشابه، والتفوا حول القلعة وتهيؤوا للاستيلاء عليها، فأسقط في يد الهرمزان، وتأكدت له هزيمته فاشترى حياته بالأسر، فقد عرض أن يستسلم للجيش المنتصر، بشرط أن لا يقضي أحد في أمره سوى الخليفة عمر بن الخطاب، فقبلوا شرطه، وسلم نفسه، فاستولى المسلمون على المدينة والقلعة، بعد أن سقط كثير من المسلمين قتلى، ومن بينهم من "البط الآدمي" الفدائيان: مجزأة بن ثور والبراء بن مالك.
القاهرة: عبد القادر طليمات
ليسانس في التاريخ من جامعة عين شمس
حضارة الإسلام، المجلد الثاني، العددالثاني، آب/أغسطس 1961، ص57-61
__________________________________________________ _____
(1 ) هذا تعبير المؤرخ ابن الأثير نفسه. انظر فتح تستر في "الكامل في التاريخ"
كان انتصار فارس الإسلام سعد بن أبي وقاص وجنده البواسل على رستم، قائد الفرس الأشهر، وجيشه الذي لا يغلب في معركة القادسية، المفتاح الذي فتح للجند الإسلامي أبواب العراق وفارس، حيث أخذ سعد وجنده، بعد القادسية، ينتصرون على الجيوش الفارسية، انتصاراً اثرَ انتصار، ويتوغلون في بلادهم، يحطمون كل قوة تعترض طريقهم، أو تقف في سبيلهم، فيسقط العدو ما بين قتيل وجريح وأسير، أما من كتبت له الحياة، فكان يفر نجاة بنفسه لا يلوي على شيء.
وكان مما نجا من قواد الفرس في معركة القادسية، قائد مشهور يعرف بالهرمزان، ففر إلى الأهواز، مقر حكمه ومركز عصبيته. وهناك حدثته نفسه أنه يستطيع الوقوف في وجه المسلمين، إذا جمع إلى عصبيته وأهله، فلولَ الجند الفارسي الهارية، وتهيأ له أنه بهذا الجيش يستطيع أن يحطم القوة الإسلامية الفتية، فوقف للجند الإسلامي ليصد تدفقه العارم، ولكن القتال العنيف من الجانبين حطم أمله في الانتصار على المسلمين، ففر هو الآخر بمن ثبت معه إلى رامهرمز، ليجرب حظه مرة أخرى، عساه يستطيع الانتصار على عدوه ولو مرة، ولكن عندما لحقه المسلمون وأحاطوا به، تبين له أن لا طاقة له بقتال من باعوا أرواحهم في سبيل الله والحق، فطلب الصلح منهم، ورضي أن يكون تابعاً لهم، يجمع لهم جزية بلاده التي فتحوها بالسيف والتي لم يفتحوها.
وكان لانتصارات المسلمين المتتابعة، وقع أليم في نفس يزدجرد ملك فارس، الذي كان يفر من بلد إلى بلد كلماسمع بانتصار المسلمين وهزيمة جيوشه التي انتصرت على جيوش الامبراطورية البيزنطية أكثر من مرة، حتى استقر في مرو، وقد ظن أنه قد أمن على نفسه بها، فأخذ يكاتب أهل فارس ويحمسهم، ويثير أحقادهم على المسلمين، الذي استولوا على العراق العربي كله، وكادوا أن يأخذوا العراق العجمي جميعه أيضاً، ثم يتدفقوا منه إلى بلاد فارس نفسها. أرسل يزدجرد بكل هذا إلى أهل فارس، وأرسل إليهم يلومهم ويعنفهم لضعفهم أمام المسلمين، وكان مما قاله لهم: "يا أهل فارس لقد رضيتم أنه قد غلبكم العرب على السواد وما والاه والأهواز، ثم لم يرضوا بعد ذلك حتى توردوكم في بلادكم وعقر داركم." فحرك تعنيف يزدجرد أهل مرو فتحمسوا له، وداخلهم نشاط عجيب، ثم أخذوا يراسلون البلاد التي خضعت للمسلمين يثيرون عليهم أهلها، وأوعزوا إلى أهل الأهواز بالانتقاض والثورة، وأن يجتمعوا جميعاً على الهرمزان، ينقادون إليه في الحرب، فلبوا جميعاً النداء، واجتمعوا على حرب المسلمين بقيادة الهرمزان.
نقض الهرمزان صلحه مع المسلمين وغدر بهم، بعد أن اجتمعت عليه جيوش فارس، وبعد أن وصلت الامدادات الفارسية إلى "تستر" واستقرت بها. وما أن علم سعد بن أبي وقاص قائد جيوش الفتح بغدر الهرمزان ونقضه الصلح، حتى أرسل البطل العظيم النعمان بن مقرن المزني –بطل معركة نهاوند بعد ذلك- ليطفئ ثورة الأهواز وليستطلع خبر الهرمزان. وما كاد الهرمزان يعلم بخروج النعمان إليه حتى استعد لقتاله، وقد امتلأت نفسه بالأمل في الانتصار عليه بما اجتمع عليه –على الهرمزان- من جيوش كثيرة العدد والعدة، والتقى الجمعان عند "اربك" بالقرب من تستر، ولكن لم يثبت الهرمزان طويلاً أمام النعمان، فقد كان قتال النعمان مر المذاق لم يستطع الهرمزان أن يتذوقه، فانهزم وفرّ بمن معه من جنده إلى تستر، وقد قوى عزمه على قتال المسلمين فيها، بما اجتمع فيها من المقاتلة.
سار المسلمون إلى تستر لفتحها وتأديب الهرمزان الغادر. وعلى الجيش الإسلامي قواد ماهرون أمثال أبي موسى الأشعري، وأبي سبرة بن رهم، والنعمان بن مقرن المزني. وفي الجيش أبطال مغاوير، أمثال: البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور وأخيه كعب، وربعي بن عامر، وأمثال منهم كثيرون، وفيه أيضاً فدائيون أشاوس، كان لهم أجمل الأثر في فتح هذه المدينة العاصية.
وصل المسلمون إلى تستر فوجدوها كما لم يتوقعوها، وجدوا أن الهرمزان جعل منها حصناً حصيناً لا يرام، وقلعة قوية بعيدة المنال، فقد جعل الهرمزان حول المدينة خندقاً ملأه بالمقاتلة من أهل الجبال وفلول الأهواز، أما أسوارها فقد اعتلاها الجند الفارسي والكل متحفز للدفاع عنها، أما من بقي في الخندق، فقد أخذوا على عاتقهم حمايته، ومنه المسلمين من اختراقه، وقد صدق من في الخندق في القتال والدفاع عن خندقهم، وردوا المسلمين عنه في كل زحف زحفوه عليهم، حتى بلغت زحوف المسلمين نحواً من ثمانين زحفاً في عدة أشهر، لم يستطيعوا خلالها فتح ثغرة فيه، فشجع هذا الفشل من في الخندق وظنوا أن الضعف بالمسلمين، فعزموا على مواجهتهم في معركة فاصلة، يقفون فيها وجهاً لوجه. ومن ثم خرجوا من خندقهم متكاتفين، وزحفوا على المسلمين زحفاً شديداً، تلقاه المسلمون بصبر وشجاعة، ودار القتال بين الفريقين حاراً عنيفاً استمات فيه المسلمون استماتة تدعو إلى العجب، ثم لم يلبث الفرس أنْ بانَ لهم خطأ ما قدروا بعدما سقط منهم قتلى وجرحى لا يحصون عداً، فلم يستطيعوا الثبات أكثر مما ثبتوا، فأطلق من نجا منهم من سيوف المسلمين أقدامه فاراً إلى المدينة يحمي نفسه فيها، فلحقهم المسلمون واخترقوا الخندق لينفذوا من إلى المدينة، ولكن أسوارها المنيعة ورماتها الحاذقين حال بينهم وبين النفوذ إليها، فالتفوا حولها يحاصرونها حتى يأذن الله بالنصر.
استمر حصار المسلمين للمدينة مدة طويلة، ولكن هذا الحصار لم يوثر على من في المدينة فلم يظهر عليهم الضعف، أو يبدو منهم الميل إلى التسليم. وبينما المسلمون في حصارهم يدبرون الخطط ويتشاورون جاء إلى النعمان رجل فارسي يستأمنه على نفسه على أن يدله على مدخل يدخل المسلمون منه إلى المدينة، فأمنه النعمان على نفسه، فأشار عليه أن يدخلوا المدينة من مجرى الماء الذي يموّن المدينة، والذي يمرّ من تحت أحد أسوارها، فسرعان ما أرسل النعمان إلى أبي موسى الأشعري يخبره بما أشار الفارسي، وكان أبو موسى يرابط بجنده عند مدخل الماء هذا، واستقر رأي النعمان وأبي موسى على تنفيذ الخطة، ولكن تنفيذها فيه الخطورة كل الخطورة، فإنه كان على من يدخل المدينة عن طريق المجرى أن يسبح فيه وينفذ منه إلى داخل المدينة، ومن هذا الذي يخاطر بحياته، ويفدي نفسه ويقوم بهذا العمل الجبار؟ وأخذ النعمان وأبو موسى في رجالهما: من يغامر بحياته، فيدخل المدينة من مجرى الماء، ويفتح للمسلمين أبوابها؟ فتقدم الفدائيون الأشاوس: عامر بن عبد قيس، وكعب بن ثور وأخوه مجزأة، وحسكة الحبطي، وسويد بن ثعلبة، وورقاء بن الحارث، وبشر بن ربيعة الخثعمي، ونافع بن زيد الحميري، وعبد الله بن بشر الهلالي. ولما رأى المسلميون هؤلاء الفدائيون يقدمون أرواحهم رخيصة في سبيل الله، أخذوا يتدافقون ويقدمون أنفسهم للقيام بهذا العمل الجليل، حتى كاد أن يصبح الجيش كله من الفدائيين.
انتظر الفدائيون حتى أرخى الليل سدوله، واستعدوا لتنفيذ المهمة الخطيرة، وهنا تقدم سويد بن ثعلبة وعبد الله بن بشر ليكونا طليعة جيش "البط الآدمي"، فنزلا إلى الماء بسلاحهما وتبعهما أصحابهما من الفدائيين، وأخذوا يسبحون جميعاً في الماء "مثل البط"[1] حتى اخترقوا فتحة السور، ثم أخذ كل من يخرج من المجرى ينفض الماء عن نفسه، وكلما خرجت جماعة اتجهت إلى أحد أبواب المديننة، حتى إذا خرجوا جميعاً انقضوا في لحظة واحدة على حراس الأبواب فأطاحوا بأعناقهم، ثم فتحوا الأبواب على مصاريعها، ثم ارتفعت أصواتهم بالنداء الإلهي "الله أكبر" ينادون على الجيش، وكان الجند على أتم استعداد للهجوم السريع عند سماعهم تكبير إخوانهم الفدائيين، فما كادت تخترق آذانهم أصوات التكبير حتى أجابوهم بترديد تكبيرهم، ثم زحفوا كالهبوب العاصف نحو الأبواب فدخلوها.
أما الفرس فقد روعهم النداء، وراعهم زحف الجيش نحو الأبواب المفتوحة، فحاولوا صد الجيش الزاحف بالنشاب، ولكن ماذا يفعل النشاب في قلوب مؤمنة؟ ودارت في المدينة معركة طاحنة انتهت بهزيمة الفرس هزيمة منكرة، فقتل من قتل، وأسر من أسر، وفر من فر. أما الهرمزان فقد تحصن في قلعة المدينة بعد أن رأى بعينه فناء جيشه، وخيبة مسعاه، وأخذ يرمي المسلمين بالنشاب ليشفي غله وحقده، ولكن المسلمين لم يبالوا بنشابه، والتفوا حول القلعة وتهيؤوا للاستيلاء عليها، فأسقط في يد الهرمزان، وتأكدت له هزيمته فاشترى حياته بالأسر، فقد عرض أن يستسلم للجيش المنتصر، بشرط أن لا يقضي أحد في أمره سوى الخليفة عمر بن الخطاب، فقبلوا شرطه، وسلم نفسه، فاستولى المسلمون على المدينة والقلعة، بعد أن سقط كثير من المسلمين قتلى، ومن بينهم من "البط الآدمي" الفدائيان: مجزأة بن ثور والبراء بن مالك.
القاهرة: عبد القادر طليمات
ليسانس في التاريخ من جامعة عين شمس
حضارة الإسلام، المجلد الثاني، العددالثاني، آب/أغسطس 1961، ص57-61
__________________________________________________ _____
(1 ) هذا تعبير المؤرخ ابن الأثير نفسه. انظر فتح تستر في "الكامل في التاريخ"