الكنعانيون تاريخهم واّثارهم
سمع الكثير من الناس عن الكنعانيين و يقرءوا عنهم ، إلا أن الغموض يكتنف الكثير من الأمور حولهم ، من أين أتوا وما هي علاقاتهم بالحضارات التي عاشت في زمنهم ، وأين انتشروا ؟ .
ويعود ذلك لقلة الحفريات التي تجيب بوضوح عن تلك الأسئلة ، وقد كتب الدكتور خزعل الماجدي كتابا تحت عنوان ( المعتقدات الكنعانية ) صدر عن دار الشروق في عمان عام 2001 ، ويقع في 306 صفحات من القطع المتوسط ، وسنحاول انتقاء ما يمكن منه للإسهام في تقديم ما يساعد على التعرف على تلك الحضارة القديمة ..
استعرض المؤلف الأسماء القديمة المحتملة للكنعانيين في تراث الحضارات الأخرى التي عاصرت أو تلت حقبة الكنعانيين ..
1 ـ الاسم الأكدي : يرى بعض المؤرخين أنه ربما كان الاسم الأكدي (كناجي أو كناخني Kinakhni) الذي أطلقه البابليون عليهم ، والذي ظهر في رسائل (تل العمارنة ) في مصر ، هو أصل هذه التسمية والذي يعني (اللون الأحمر الأرجواني) .
2 ـ الاسم المصري : ورد اسم ( بي كنعان Pekanan) عند المصريين للدلالة على المناطق الجنوبية والغربية من سوريا . وكذلك استعمل المصريون منذ عصر الدولة القديمة كلمة (فنخو) للدلالة على شعب من شعوب الشام ، وقد يكون أن الإغريق استعملوا هذا اللفظ وحوروه الى (فويفكس Phoivikes) للدلالة على (فينيقيا ) ولفظ (فويفيكن Phoivikn) للدلالة على الفينيقيين .
3 ـ الاسم الكنعاني : استعمل الكنعانيون أنفسهم الكلمة السابقة للدلالة عليهم في بعض الأحيان .. ويؤيد ذلك نص الملك (أدريمي) ملك ( الالاخ) وهي مملكة كنعانية ازدهرت في شمال غرب سوريا قرب أنطاكيا ، وذلك في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد ( أنظر السواح 19: 1995) .
4ـ الاسم العبري : تعني كلمة كنعان باللغة العبرية ، بلاد الأرجوان ، ولكن جذر (ك ن ع ) تعني بالعبرية انخفض .. وهذا يشير الى أنهم سكان البلاد المنخفضة وهي القريبة من نهر الأردن .
5 ـ الاسم العربي : لا يختلف اللفظ العربي والجذر كثيرا عن العبري ف (خنع وقنع و كنع ) تعني الهبوط والانخفاض والتواضع ..
6ـ الاسم الحوري : يرى بعض الباحثين أن أصل كلمة كنعان مشتق من كلمة حورية هي (كناجي Kanaggi) أي الصبغة الأرجوانية أو القرمزية التي اشتهر الكنعانيون بصناعتها .. ولا يعرف عما إذا كان الحوريون هم من أخذ عن الأكديين تلك التسمية أم الأخيرون قد أخذوها عنهم .
7ـ الاسم الإغريقي : ربما حور الإغريق الكلمة المصرية (فنخو) التي تحولت الى (فينيكس ) للدلالة على الفينيقيين ، وهي تعني اللون الأحمر .. وإن تأكد ذلك فإننا في صدد الحديث عن حضارة واحدة وهي الكنعانية أو الفينيقية .
8ـ الاسم الروماني : استعمل الرومان كلمة بوني (Poeni) للدلالة على الفينيقيين الغربيين (القرطاجيين) في إفريقيا .. وهي كلمة تعني اللون الأحمر الأرجواني أيضا .. وهذا يؤكد التقارب القديم ما بين مغارب أفريقيا و شرق البحر المتوسط .. ويفسر الاستعداد للتلاقح الحضاري والثقافي بينهما .
وعلى أي حال إن كانت فينيق تعني الطائر الأسطوري الذي يطير من بين الرماد والذي كان يرمز له المصريون القدماء بطائر اللقلق ، أو كانت تعني الأرجوان ، أو النخلة كما في بعض الأبحاث فنحن نتحدث عن حضارة تغلغلت منذ أربعة آلاف عام في عموم المنطقة التي يطلق عليها الآن اسم الوطن العربي
__________________
مراحل التأريخ الكنعاني :
أولا :ـ المرحلة القديمة ( الأصول ) 3000ـ 4000 ق.م
قد تخطئ التقديرات في التاريخ أعلاه بمدة قد تصل الى 5000سنة ، وهذا لاضطراب الموجود من الدلائل حول بداية نشأة الكنعانيين و موطنهم الأصلي .. لنستعرض النظريات التي وضعت لاقتراح المكان الأول للكنعانيين ..
1 ـ جزيرة العرب :
قد تكون نظرية أن الكنعانيين أصلهم من جزيرة العرب ، هي الأكثر شيوعا بين النظريات ، لا للكنعانيين وحدهم بل ذهب كثير من العلماء أن أصل الساميين كلهم من جزيرة العرب ، وهي نظرية أقرب للاعتقاد منها للحقيقة لندرة الوقائع المدونة التي بالنقوش والآثار ..
ويرى البعض أن هذه النظرية تصلح لهجرة واحدة حدثت حوالي 2500ق م وذهبت باتجاه الصحراء السورية العراقية ، فانقسمت الى قسمين : الأموريين الذين بقوا في تلك الصحراء ، ثم اختلط قسم منهم بأهل العراق القديم واصطبغوا بالمؤثرات الحضارية العراقية ، وقسم استمر في هجرته نحو سواحل المتوسط وهم الكنعانيون . وهو سيناريو مكرر نراه في كل الهجرات السامية في النصوص التاريخية .
2 ـ سواحل الخليج العربي :
طرح هذا الرأي العلاَمة ( سترابون) وقال : إن سكان الخليج العربي كانوا يسمون مدنهم بأسماء المدن الكنعانية ( صور ، صيدا ، أرواد ، جبيل ) ورجح أن تكون تلك المدن أقدم من التي على سواحل المتوسط .. كما أن معابدهم القديمة ، تتشابه مع معابد الكنعانيين .. فافترض أن الهجرة تمت من الخليج العربي باتجاه البصرة ثم بلاد الشام .
3 ـ سواحل البحر الأحمر :
هذا الرأي تبناه ( هيرودوتس ) باعتبار أن طبائع الكنعانيين والفينيقيين وهم اسمان لشعب واحد ، هي طبائع ساحلية ، فافترض أنهم قدموا من سواحل البحر الأريتيري ( الأحمر ) .
4 ـ سيناء والنقب :
ظهر في بعض وثائق ( رأس شمرا ) ما يشير الى أن سكانها قدموا من شبه جزيرة سيناء أو من النقب ، ومن جزيرة العرب و من سواحل البحر الأحمر معا .
5 ـ مصر :
كان للعلاقة المتميزة بين الكنعانيين و المصريين أثر كبير في ظهور رأي قديم مفاده أنهما من أصل واحد . ويظهر هذا الرأي من خلال الأساطير التي جمعها المؤرخ الإغريقي ( إيسوب ) التي ترى بأن الإلهين ( قدم وفينيق) جاءا من مدينة ( طيبة) المصرية ليتملكا مدن صور وصيدا . وقد ذهبت التوراة في هذا المنحى إذ سلخت الكنعانيين من سلالة سام لتضع ( كنعان و مصراييم ) من سلالة حام ( سفر التكوين 6:10)
ثانيا ـ المرحلة الشامية ( 3000ـ 1200 ق. م )
بدأت هذه المرحلة مبكرة إبان بدء العصور التاريخية ، حيث بدأت الهجرة الكنعانية من السواحل العراقية للخليج العربي وضفاف الفرات الجنوبي ، وربما اتخذ مسار هذه الهجرة طريقين : الأول مع نهر الفرات صعودا ، ثم الاتجاه الى السواحل الشامية الشمالية وتأسيس مدن ( رأس من شمرا ) و (أوجاريت) و(أرواد) و (جبيل) و (صيدا) و (صور) .. أي سواحل سوريا ولبنان .
أما الهجرة الثانية ، فكانت برا باتجاه فلسطين مباشرة ، وقد أسسوا أو سكنوا مدنا برية مثل ( قادش و بيت شان و شكيم وأريحا وبوس (أورشليم ) وبئر سبع و مجدو والسامرة .. الخ ) . ومدنا ساحلية مثل (عكا و دور و يافا و غزة الخ ) .. وقد كانت المدن تعبر عن اسمها الكنعاني ( رأس شمرا ) والسامرة
وهي مشتقة من سام و شام و أصبح سكانها فيما بعد شوام و شاميون الخ .
وبالتأكيد فإن الكنعانيون لم يكونوا أول من وطئ أرض سوريا أو فلسطين ، وعندما حضروا وجدوا في تلك الأرض أقوام سبقتهم خصوصا في مناطق (تل المريبط) و (تل الرمد) و منطقة ( المنحطة ) و (البيضا ) وغيرها .. فاندمج الكنعانيون مع السكان الأقدم .. ومع ذلك لم يستطيعوا تكوين دولة موحدة واحدة ، بل كانت هناك دول ( المدن ) كما كانت منتشرة تلك الظاهرة في تلك الأزمنة ، وكان لكل مدينة إلهها رغم أنه كان هناك إله واحد لكل الكنعانيين . وقد أدى عدم تنسيق دول المدن فيما بينها الى مشاكل كثيرة أمام العدو الخارجي .
ويمكن تقسيم فترات التاريخ الكنعاني في بلاد الشام الى :
أ ـ فترة تأسيس المدن الكنعانية ( 3000ـ 2400ق.م)
يربو عدد المدن التي عثر عليها و رد أصلها للكنعانيين في بلاد الشام عن 135 مدينة ، من أهمها رأس شمرا ، وأوغاريت ، وأرواد (جزيرة) وجبيل وبيروت و صيدا وصور وعكا و عسقلان و أسدود و جت و غزة ، و قادش و بيسان و بيت إيل و جبعون أريحا و يبوس (أورشليم) وبيت لحم و حبرون و عجلون وبئر السبع وغيرها .. كما وجد 1200 قرية تعود نشأتها للكنعانيين .
ب ـ فترة النفوذ المصري ( 2400ـ 1500ق م ) :
ابتدأت فترة النفوذ المصري على الساحل الشرقي للبحر المتوسط ، مع بداية الأسرة السادسة ، وبالذات أيام الملك الأول من تلك الأسرة و اسمه (تتي) فقد جهز جيشا بقيادة (وني) مكون من عشرات الألوف من الجنود . ويعتقد أن هذا الإجراء جاء نتيجة تهديد بقطع خطوط التجارة التي تمر بفلسطين ، من قبل جهات متمردة داخل تلك الأراضي ، أو من تهديد سومري في احتلال تلك المنطقة ، إذ تزامن إجراء المصريين ، مع تحرك لقوات الملك السومري (لوكال زاليزي) .. وما تلاها من تحرك لقوات الملك الأكدي ( سرجون ) .. للهيمنة على سواحل المتوسط الشرقية .
وبقيت بلاد كنعان تحت السيطرة المصرية حوالي ألف عام ، ولم يجعلها تتخلص من السيطرة المصرية ، إلا أثناء حكم الرعاع و الهكسوس لمصر زهاء قرنين من الزمان .. هذا مما حقق استقلالا للمدن الكنعانية .
في حين برزت في تلك الفترة ممالك مثل (أوغاريت) وملكها (نقمد) ومملكة (رأس شمرا) و (جبيل) وغيرها .
فترات التاريخ الكنعاني في بلاد الشام
ج ـ فترة الصراع المصري الحوري الحيثي (1200ـ 1500) ق م
كان الملك الحيثي (خاتوشيلي الأول ) 1530ـ1570ق م .. قد مهد للنفوذ الحيثي شمال سوريا ، عندما أسس أمارة في حلب ، واستطاع أن ينفصل بالنصف الشمالي من سوريا و ينتزعها من النفوذ المصري ، وكان ذلك في عهد الملكة (حتشبسوت) .. واستطاع النفوذ الحيثي أن يتوسع ، وبقي كذلك ، حتى استطاع الملك (تحتمس الثالث) (1450ـ 1502ق م) أن يسترد النصف الشمالي من سوريا . وهكذا استطاع تحتمس الثالث من خلال سبعة عشر حملة أن يحتل في آخرها حصن قادش (حمص ) ، حيث تزعمت تلك المدينة الحلف المناوئ للمصريين .
وبقيت الحروب بين الحيثين والمصريين ، حتى بعد وفاة تحتمس الثالث ومجيء تحتمس الرابع .. ولكنها هدأت وانتهت تقريبا بعد أن تزوج فرعون مصر (أمنحوتب الثالث ) من ابنة الملك الحوري (شوتارنا) .. وأنجبا ولدا هو (أخناتون) الذي تنازل لأخواله عن حكم شمال سوريا ، وقيل أن هذا الاتفاق كان قبل الزواج ..
والجدير بالذكر أن التحالف المضاد للمصريين ، كان يتكون من أمراء كنعانيين وأموريين وملوك الميتانيين ، وكان يسمى ( رابطة القسَم ) ..
وبعد أن ضعف نفوذ المصريين بعد أن استلم الملك (أخناتون) حكم مصر ، عاد نفوذ الحيثيين للبروز ثانية ، في عهد ملكهم المعروف (شوبيلو ليوما ) .. فتنصل الأمراء الموالون للحكم في مصر وانضموا الى الملك الحيثي الذي توسع فاستولى على بيروت وجبيل ..
اغتنم تلك الفترة ملك طامح هو (عبدي عشيرتا) انتزع الحكم عن طريق المراوغة والحيلة ، ووحد الإمارات الكنعانية والأمورية ( حماة ، وسومورو ) وانفرد بشمال سوريا ، وفرض الجزية ابنه (عزيزو) الذي تولى الحكم بعد وفاته .
وبقيت البلاد هكذا حتى اعتلى عرش مصر ( سيتوس الأول ) 1315ـ1301 ق . م .. فأدرك خطر الحيثيين ، فقاد جيشه و احتل جنوب فلسطين و مجدو وحوران ولبنان الخ .. وتكررت حملاته ، حتى أبرم صلحا أقر به الحيثيون سيطرة المصريين على جنوب بلاد الشام ، في حين تركت شمال بلاد الشام للحيثيين ، واستمر الهدوء لمدة قرن من الزمان ..
ولكن الهدوء لم يطل كثيرا ، فكانت العاصفة المدمرة قد هبت في مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، بتهديد عنيف تمثل بغزوات الفستو و الآشوريين والعبريين لتدمر مدن بلاد الشام خلال قرنين من الزمان تدميرا كاملا ..
د ـ فترة تدمير المدن (الغزو الفلستي والآشوري والعبري (1200ـ 1000) ق م :
الغزو الفلستي :
سقطت الدولة الحيثية عام 1190 ق م ، على يد قبائل غريبة عن المنطقة ، هاجمت من الغرب والشمال الغربي ، ويعتقد أن هذا الغزو كان جزءا من حركة الغزو والهجرة التي كانت تقوم بها القبائل الإغريقية من وسط وشمال أوروبا نزولا الى بلاد اليونان واستمرارا الى آسيا الصغرى وسواحل المتوسط الشرقية.
وكان هذا الغزو يتم من خلال ثلاثة محاور :
المحور الأول : من اليونان باتجاه آسيا الصغرى : وتكون من (الفريجيين والمسيين والكاشكيين ) وقد دمر هذا المحور قلب الإمبراطورية الحيثية .
المحور الثاني : من كريت وقبرص : وتكوَن من القبائل التي تجمعت هناك من (الشاردانية ) و ال (لوكية) وال ( ميسية) ، وكان الغزو عن طريق البحر ، وتحالف مع القبائل الليبية ، لكن الملك المصري (رمسيس الثالث) ردهم وأقف زحفهم ، وشتت شملهم ، فغزوا فلسطين من الجنوب واحتلوها أثناء فرارهم من المصريين ..
المحور الثالث : من كريت وقبرص الى السواحل الشامية : وتكون من قبائل (فلستو ، والليرية والزاكارية ) .. ثم انضمت إليهم القبائل المهزومة من رمسيس الثالث ، لتحتل تلك القبائل مجتمعة عموم الساحل الفلسطيني ، حيث احتلت ( عكا و أسدود و عسقلان و جت وغزة ) .. وانصهرت هنا مع قبائل بحر إيجة التي خربت (أوغاريت ) عام 1180 ق م .. والتي قضت عليها نهائيا وهكذا انقسم الشريط الكنعاني الى قسمين : الثلثين العلويين للكنعانيين الذين سيصبح منذ تلك اللحظة اسمهم (الفينيقيين ) والثلث السفلي للفلسطينيين . وستتحالف هذه الكتلتين السياسيتين ضد العبريين فيما بعد .
الغزو الآشوري :
تنفس الآشوريون الصعداء لما حل بالإمبراطورية الحيثية ، خصمهم العتيد الذي حصر نفوذهم وجعله يتقوقع .. فما أن زالت دولتهم حتى اجتاحوا جنوب سوريا ، وفرضوا الجزية على (أرواد) بعد احتلالها .. واستغل الملك الآشوري (تجلات بلاسر الأول ) 1116ـ1090ق م .. وجوده في لبنان ليقطع خشب الأرز الذي يرتبط بالأساطير العراقية في موضوع الخلود (ملحمة كلكامش) .
الغزو العبري :
تكاد المصادر المتيسرة لأيدي المؤرخين ، محصورة بما دون العبريون أنفسهم فلم يتم لحد الآن إيجاد حفريات تؤكد إدعاءاتهم المليئة بالمغالطات ، والتي تسللت الى كتب التاريخ ، ليعيد المؤرخون اعتمادها كأسس تأريخية ، فقولهم أن جن سليمان قد بنا تدمر ، في حين تذكر الحفريات الآشورية أن الملك (شلمن ناصر الثالث) جد الملك الآشوري المذكور أعلاه ، قد ذكر أنه حاصر تدمر لثلاثة شهور دون أن يستطيع فتحها ، وهو دحض لادعاءات اليهود واليونانيين والرومان .. أما العبريين وإدعائهم بأن جن سليمان هم من بنوا تدمر وسليمان ابن داوود و داوود ابن شاؤول الذي كان ملكا عام 1020 ق م يبين كذبهم وافترائهم ..
لكن العبريين استطاعوا أن يسيطروا في عهد شاؤول على فلسطين عدا الساحل منها .. وكان ذلك في حدود عام 1000 ق م .. ولكن مملكتهم قد انقسمت في عهد سليمان الى قسمين ( السامرة ويهودا ) ..
ويعتقد أن المعارضين للسكان الأصليين هم من أوجد تلك الشرذمة في المنطقة والتي حاولت طيلة وجودها الانخراط بالمنطقة وسكانها ، تتقرب من الأنبياء تارة وتقتلهم في النهاية .. وهذا دأبهم منذ دخلوا تحت مسميات مختلفة منذ الألف الأول قبل الميلاد أو قبله بقليل ( مع الفصل بين الأدعياء و ما ترك نبي الله ابراهيم عليه السلام من أتقياء اعتنقوا في النهاية ديانة الرسل الذين تلوهم ) .
المرحلة الفينيقية (1200ـ 232 ق م ) :
أ ـ الفينيقيون الشرقيون ( 1200ـ 232 ق م ) :
بعد أن دمرت معظم المدن الكنعانية البرية والساحلية على أيدي الغزاة المختلفين من فلستينيين و آشوريين وعبريين ، مرت المدن والحضارة الكنعانية بمنحدر خطير وطويل من الاحتلال و الغزو الجديد على أيدي المصريين والآشوريين والفرس والبابليين والإغريق والرومان والبيزنطيين ، تم بعد كل ذلك فقدان البلاد هويتها الكنعانية ..
1 ـ الاحتلال المصري :
قام الفرعون (بسوينس) من الأسرة (الحادية والعشرين)، في حدود 1000ق م ، بالهجوم من جديد على جنوبي فلسطين واستولى على مدينة (جزر) الكنعانية وأحرقها ..
وفي فترة حكم الفرعون (شيشناق الأول) والتي امتدت بين 950ـ929 ق م استنجد ملك إسرائيل (يربهام) بالملك المصري لينصره على ملك يهودا (رحبعام) ، فجهز الفرعون (شيشناق الأول) جيشا قويا انطلق به من عاصمته (بوبيتيس) في الشرقية واكتسح فلسطين و151 مدينة في آسيا .. واستولى على كنوز الملك سليمان أثناء إسقاط مملكة يهودا (ملكها رحبعام) .. فتراكضت الزعامات الكنعانية وولاة فينيقيا على كسب ود هذا الفرعون القوي ..
2 ـ الاحتلال الآشوري :
يعتبر عهد الملك (آشور دان الثاني) 930ـ910ق م .. هو الأهم بين المحاولات العراقية للسيطرة على فلسطين وبلاد الشام .. ثم تجددت تلك المحاولات بخلفائه الملك (آشور ناصر بال الثاني) 883ـ859ق م ثم في عهد ابنه (شلما نصر الثالث ) 860ـ825 ق م .. الذي كان يأخذ الجزية من المدن الكنعانية ، ولما رفضت أرواد الدفع هزمها في معركة حاسمة .. ثم تلاه (أدد) الذي غزا سوريا عام 805 ق م ..
وكان بسط السيادة الآشورية على سوريا يتمثل بأخذ الجزية ، أكثر من كونه احتلالا .. وبقيت الأمور هادئة بين 805 و 745 ق م عندما اعتلى عرش آشور ( تجلات بلاسر الثالث ) والذي فرض الجزية على سوريا وصيدا وصور .
ولكن صور استطاعت في عهد الملك الآشوري ( شلما نصر الخامس) أن تدمر أسطوله الذي كان يجوب شرق المتوسط .. وأسرت 500 ملاح آشوري ..
وتصاعد العنف الآشوري في عهد الأسرة السرجونية التي لم تعد تكتفي بالجزية بل بالاحتلال ، وقد قسمت البلاد الى ثلاث ولايات (صيدا وصور وسميرا) .. وقد حرض فرعون مصر (طبرقا) صور على الانفصال عن الدولة الآشورية فاستجابت له ، لكن الملك الآشوري (اسرحدون) كان لها بالمرصاد .
3 ـ الاحتلال البابلي :
سقطت الإمبراطورية الآشورية عام 612ق م .. فتنفست المدن الكنعانية الصعداء ، لكن الفرعون المصري (نخاو ) أراد استغلال تلك الضعضعة في الوضع العراقي، فحاول بسط نفوذه على كل بلاد الشام ، لكنه اصطدم بانتباه الملك البابلي (نبوخذ نصر) الذي انتصر على فرعون مصر في معركة (قرقيش) عام 605م .. وكان هذا الانتصار إيذانا باحتلال بابلي لكل بلاد الشام، وبالرغم من أن نبوخذ نصر قد وضع ولاة وحكام إداريين من الفينيقيين إلا أنه سرعان ما استبدلهم ببابليين ..
4 ـ الاحتلال الفارسي :
ظل حكام المدن الشامية البابليون ، وبعد سقوط بابل على يد (كورش) الفارسي ، هم من يحكمون المدن في بلاد الشام باسم الدولة الفارسية .. وبعد أن تولى (قمبيز) الحكم استبدلهم بحكام فرس، وقد كانت بلاد الشام تشكل في أحلام الفارسيين نقطة انطلاق لإفريقيا .. ففهم سكان مدن بلاد الشام تلك الأحلام وعرضوا مساعدتهم للفرس مقابل إعطائهم حرية في التحركات التجارية البحرية وجعلهم يحكمون أنفسهم بما يشبه الحكم الذاتي ..وكان لهم ذلك .. فاتحدت مدن (أرواد وصيدا وصور) وأنشأت مدينة تكون مركزا للتنسيق هي مدينة تريبوليس (طرابلس اليوم في لبنان طبعا) .. وكان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد ، وقد أطلق الإغريق عليها هذا الاسم وهو يدل دلالة واضحة على اتحاد المدن الثلاثة وتمثيل تلك المدينة لهم ( تري : ثلاثة .. بوليس : مدينة ) .
وقبل نهاية الحكم الفارسي ثارت مدينة صيدا فدمرها الفرس تدميرا شاملا ، ثم جاء الاسكندر المقدوني الذي هزم الفرس عام 333 ق م في معركة إيسوس . وقد قاومت صور طويلا قبل أن يحتلها الاسكندر .. وبمجيء الإغريق، أخذت الحضارة الفينيقية بالاضمحلال نتيجة انصهارها بالثقافة اليونانية ومن بعدها الرومانية في عام 64 ق م
سمع الكثير من الناس عن الكنعانيين و يقرءوا عنهم ، إلا أن الغموض يكتنف الكثير من الأمور حولهم ، من أين أتوا وما هي علاقاتهم بالحضارات التي عاشت في زمنهم ، وأين انتشروا ؟ .
ويعود ذلك لقلة الحفريات التي تجيب بوضوح عن تلك الأسئلة ، وقد كتب الدكتور خزعل الماجدي كتابا تحت عنوان ( المعتقدات الكنعانية ) صدر عن دار الشروق في عمان عام 2001 ، ويقع في 306 صفحات من القطع المتوسط ، وسنحاول انتقاء ما يمكن منه للإسهام في تقديم ما يساعد على التعرف على تلك الحضارة القديمة ..
استعرض المؤلف الأسماء القديمة المحتملة للكنعانيين في تراث الحضارات الأخرى التي عاصرت أو تلت حقبة الكنعانيين ..
1 ـ الاسم الأكدي : يرى بعض المؤرخين أنه ربما كان الاسم الأكدي (كناجي أو كناخني Kinakhni) الذي أطلقه البابليون عليهم ، والذي ظهر في رسائل (تل العمارنة ) في مصر ، هو أصل هذه التسمية والذي يعني (اللون الأحمر الأرجواني) .
2 ـ الاسم المصري : ورد اسم ( بي كنعان Pekanan) عند المصريين للدلالة على المناطق الجنوبية والغربية من سوريا . وكذلك استعمل المصريون منذ عصر الدولة القديمة كلمة (فنخو) للدلالة على شعب من شعوب الشام ، وقد يكون أن الإغريق استعملوا هذا اللفظ وحوروه الى (فويفكس Phoivikes) للدلالة على (فينيقيا ) ولفظ (فويفيكن Phoivikn) للدلالة على الفينيقيين .
3 ـ الاسم الكنعاني : استعمل الكنعانيون أنفسهم الكلمة السابقة للدلالة عليهم في بعض الأحيان .. ويؤيد ذلك نص الملك (أدريمي) ملك ( الالاخ) وهي مملكة كنعانية ازدهرت في شمال غرب سوريا قرب أنطاكيا ، وذلك في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد ( أنظر السواح 19: 1995) .
4ـ الاسم العبري : تعني كلمة كنعان باللغة العبرية ، بلاد الأرجوان ، ولكن جذر (ك ن ع ) تعني بالعبرية انخفض .. وهذا يشير الى أنهم سكان البلاد المنخفضة وهي القريبة من نهر الأردن .
5 ـ الاسم العربي : لا يختلف اللفظ العربي والجذر كثيرا عن العبري ف (خنع وقنع و كنع ) تعني الهبوط والانخفاض والتواضع ..
6ـ الاسم الحوري : يرى بعض الباحثين أن أصل كلمة كنعان مشتق من كلمة حورية هي (كناجي Kanaggi) أي الصبغة الأرجوانية أو القرمزية التي اشتهر الكنعانيون بصناعتها .. ولا يعرف عما إذا كان الحوريون هم من أخذ عن الأكديين تلك التسمية أم الأخيرون قد أخذوها عنهم .
7ـ الاسم الإغريقي : ربما حور الإغريق الكلمة المصرية (فنخو) التي تحولت الى (فينيكس ) للدلالة على الفينيقيين ، وهي تعني اللون الأحمر .. وإن تأكد ذلك فإننا في صدد الحديث عن حضارة واحدة وهي الكنعانية أو الفينيقية .
8ـ الاسم الروماني : استعمل الرومان كلمة بوني (Poeni) للدلالة على الفينيقيين الغربيين (القرطاجيين) في إفريقيا .. وهي كلمة تعني اللون الأحمر الأرجواني أيضا .. وهذا يؤكد التقارب القديم ما بين مغارب أفريقيا و شرق البحر المتوسط .. ويفسر الاستعداد للتلاقح الحضاري والثقافي بينهما .
وعلى أي حال إن كانت فينيق تعني الطائر الأسطوري الذي يطير من بين الرماد والذي كان يرمز له المصريون القدماء بطائر اللقلق ، أو كانت تعني الأرجوان ، أو النخلة كما في بعض الأبحاث فنحن نتحدث عن حضارة تغلغلت منذ أربعة آلاف عام في عموم المنطقة التي يطلق عليها الآن اسم الوطن العربي
__________________
مراحل التأريخ الكنعاني :
أولا :ـ المرحلة القديمة ( الأصول ) 3000ـ 4000 ق.م
قد تخطئ التقديرات في التاريخ أعلاه بمدة قد تصل الى 5000سنة ، وهذا لاضطراب الموجود من الدلائل حول بداية نشأة الكنعانيين و موطنهم الأصلي .. لنستعرض النظريات التي وضعت لاقتراح المكان الأول للكنعانيين ..
1 ـ جزيرة العرب :
قد تكون نظرية أن الكنعانيين أصلهم من جزيرة العرب ، هي الأكثر شيوعا بين النظريات ، لا للكنعانيين وحدهم بل ذهب كثير من العلماء أن أصل الساميين كلهم من جزيرة العرب ، وهي نظرية أقرب للاعتقاد منها للحقيقة لندرة الوقائع المدونة التي بالنقوش والآثار ..
ويرى البعض أن هذه النظرية تصلح لهجرة واحدة حدثت حوالي 2500ق م وذهبت باتجاه الصحراء السورية العراقية ، فانقسمت الى قسمين : الأموريين الذين بقوا في تلك الصحراء ، ثم اختلط قسم منهم بأهل العراق القديم واصطبغوا بالمؤثرات الحضارية العراقية ، وقسم استمر في هجرته نحو سواحل المتوسط وهم الكنعانيون . وهو سيناريو مكرر نراه في كل الهجرات السامية في النصوص التاريخية .
2 ـ سواحل الخليج العربي :
طرح هذا الرأي العلاَمة ( سترابون) وقال : إن سكان الخليج العربي كانوا يسمون مدنهم بأسماء المدن الكنعانية ( صور ، صيدا ، أرواد ، جبيل ) ورجح أن تكون تلك المدن أقدم من التي على سواحل المتوسط .. كما أن معابدهم القديمة ، تتشابه مع معابد الكنعانيين .. فافترض أن الهجرة تمت من الخليج العربي باتجاه البصرة ثم بلاد الشام .
3 ـ سواحل البحر الأحمر :
هذا الرأي تبناه ( هيرودوتس ) باعتبار أن طبائع الكنعانيين والفينيقيين وهم اسمان لشعب واحد ، هي طبائع ساحلية ، فافترض أنهم قدموا من سواحل البحر الأريتيري ( الأحمر ) .
4 ـ سيناء والنقب :
ظهر في بعض وثائق ( رأس شمرا ) ما يشير الى أن سكانها قدموا من شبه جزيرة سيناء أو من النقب ، ومن جزيرة العرب و من سواحل البحر الأحمر معا .
5 ـ مصر :
كان للعلاقة المتميزة بين الكنعانيين و المصريين أثر كبير في ظهور رأي قديم مفاده أنهما من أصل واحد . ويظهر هذا الرأي من خلال الأساطير التي جمعها المؤرخ الإغريقي ( إيسوب ) التي ترى بأن الإلهين ( قدم وفينيق) جاءا من مدينة ( طيبة) المصرية ليتملكا مدن صور وصيدا . وقد ذهبت التوراة في هذا المنحى إذ سلخت الكنعانيين من سلالة سام لتضع ( كنعان و مصراييم ) من سلالة حام ( سفر التكوين 6:10)
ثانيا ـ المرحلة الشامية ( 3000ـ 1200 ق. م )
بدأت هذه المرحلة مبكرة إبان بدء العصور التاريخية ، حيث بدأت الهجرة الكنعانية من السواحل العراقية للخليج العربي وضفاف الفرات الجنوبي ، وربما اتخذ مسار هذه الهجرة طريقين : الأول مع نهر الفرات صعودا ، ثم الاتجاه الى السواحل الشامية الشمالية وتأسيس مدن ( رأس من شمرا ) و (أوجاريت) و(أرواد) و (جبيل) و (صيدا) و (صور) .. أي سواحل سوريا ولبنان .
أما الهجرة الثانية ، فكانت برا باتجاه فلسطين مباشرة ، وقد أسسوا أو سكنوا مدنا برية مثل ( قادش و بيت شان و شكيم وأريحا وبوس (أورشليم ) وبئر سبع و مجدو والسامرة .. الخ ) . ومدنا ساحلية مثل (عكا و دور و يافا و غزة الخ ) .. وقد كانت المدن تعبر عن اسمها الكنعاني ( رأس شمرا ) والسامرة
وهي مشتقة من سام و شام و أصبح سكانها فيما بعد شوام و شاميون الخ .
وبالتأكيد فإن الكنعانيون لم يكونوا أول من وطئ أرض سوريا أو فلسطين ، وعندما حضروا وجدوا في تلك الأرض أقوام سبقتهم خصوصا في مناطق (تل المريبط) و (تل الرمد) و منطقة ( المنحطة ) و (البيضا ) وغيرها .. فاندمج الكنعانيون مع السكان الأقدم .. ومع ذلك لم يستطيعوا تكوين دولة موحدة واحدة ، بل كانت هناك دول ( المدن ) كما كانت منتشرة تلك الظاهرة في تلك الأزمنة ، وكان لكل مدينة إلهها رغم أنه كان هناك إله واحد لكل الكنعانيين . وقد أدى عدم تنسيق دول المدن فيما بينها الى مشاكل كثيرة أمام العدو الخارجي .
ويمكن تقسيم فترات التاريخ الكنعاني في بلاد الشام الى :
أ ـ فترة تأسيس المدن الكنعانية ( 3000ـ 2400ق.م)
يربو عدد المدن التي عثر عليها و رد أصلها للكنعانيين في بلاد الشام عن 135 مدينة ، من أهمها رأس شمرا ، وأوغاريت ، وأرواد (جزيرة) وجبيل وبيروت و صيدا وصور وعكا و عسقلان و أسدود و جت و غزة ، و قادش و بيسان و بيت إيل و جبعون أريحا و يبوس (أورشليم) وبيت لحم و حبرون و عجلون وبئر السبع وغيرها .. كما وجد 1200 قرية تعود نشأتها للكنعانيين .
ب ـ فترة النفوذ المصري ( 2400ـ 1500ق م ) :
ابتدأت فترة النفوذ المصري على الساحل الشرقي للبحر المتوسط ، مع بداية الأسرة السادسة ، وبالذات أيام الملك الأول من تلك الأسرة و اسمه (تتي) فقد جهز جيشا بقيادة (وني) مكون من عشرات الألوف من الجنود . ويعتقد أن هذا الإجراء جاء نتيجة تهديد بقطع خطوط التجارة التي تمر بفلسطين ، من قبل جهات متمردة داخل تلك الأراضي ، أو من تهديد سومري في احتلال تلك المنطقة ، إذ تزامن إجراء المصريين ، مع تحرك لقوات الملك السومري (لوكال زاليزي) .. وما تلاها من تحرك لقوات الملك الأكدي ( سرجون ) .. للهيمنة على سواحل المتوسط الشرقية .
وبقيت بلاد كنعان تحت السيطرة المصرية حوالي ألف عام ، ولم يجعلها تتخلص من السيطرة المصرية ، إلا أثناء حكم الرعاع و الهكسوس لمصر زهاء قرنين من الزمان .. هذا مما حقق استقلالا للمدن الكنعانية .
في حين برزت في تلك الفترة ممالك مثل (أوغاريت) وملكها (نقمد) ومملكة (رأس شمرا) و (جبيل) وغيرها .
فترات التاريخ الكنعاني في بلاد الشام
ج ـ فترة الصراع المصري الحوري الحيثي (1200ـ 1500) ق م
كان الملك الحيثي (خاتوشيلي الأول ) 1530ـ1570ق م .. قد مهد للنفوذ الحيثي شمال سوريا ، عندما أسس أمارة في حلب ، واستطاع أن ينفصل بالنصف الشمالي من سوريا و ينتزعها من النفوذ المصري ، وكان ذلك في عهد الملكة (حتشبسوت) .. واستطاع النفوذ الحيثي أن يتوسع ، وبقي كذلك ، حتى استطاع الملك (تحتمس الثالث) (1450ـ 1502ق م) أن يسترد النصف الشمالي من سوريا . وهكذا استطاع تحتمس الثالث من خلال سبعة عشر حملة أن يحتل في آخرها حصن قادش (حمص ) ، حيث تزعمت تلك المدينة الحلف المناوئ للمصريين .
وبقيت الحروب بين الحيثين والمصريين ، حتى بعد وفاة تحتمس الثالث ومجيء تحتمس الرابع .. ولكنها هدأت وانتهت تقريبا بعد أن تزوج فرعون مصر (أمنحوتب الثالث ) من ابنة الملك الحوري (شوتارنا) .. وأنجبا ولدا هو (أخناتون) الذي تنازل لأخواله عن حكم شمال سوريا ، وقيل أن هذا الاتفاق كان قبل الزواج ..
والجدير بالذكر أن التحالف المضاد للمصريين ، كان يتكون من أمراء كنعانيين وأموريين وملوك الميتانيين ، وكان يسمى ( رابطة القسَم ) ..
وبعد أن ضعف نفوذ المصريين بعد أن استلم الملك (أخناتون) حكم مصر ، عاد نفوذ الحيثيين للبروز ثانية ، في عهد ملكهم المعروف (شوبيلو ليوما ) .. فتنصل الأمراء الموالون للحكم في مصر وانضموا الى الملك الحيثي الذي توسع فاستولى على بيروت وجبيل ..
اغتنم تلك الفترة ملك طامح هو (عبدي عشيرتا) انتزع الحكم عن طريق المراوغة والحيلة ، ووحد الإمارات الكنعانية والأمورية ( حماة ، وسومورو ) وانفرد بشمال سوريا ، وفرض الجزية ابنه (عزيزو) الذي تولى الحكم بعد وفاته .
وبقيت البلاد هكذا حتى اعتلى عرش مصر ( سيتوس الأول ) 1315ـ1301 ق . م .. فأدرك خطر الحيثيين ، فقاد جيشه و احتل جنوب فلسطين و مجدو وحوران ولبنان الخ .. وتكررت حملاته ، حتى أبرم صلحا أقر به الحيثيون سيطرة المصريين على جنوب بلاد الشام ، في حين تركت شمال بلاد الشام للحيثيين ، واستمر الهدوء لمدة قرن من الزمان ..
ولكن الهدوء لم يطل كثيرا ، فكانت العاصفة المدمرة قد هبت في مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، بتهديد عنيف تمثل بغزوات الفستو و الآشوريين والعبريين لتدمر مدن بلاد الشام خلال قرنين من الزمان تدميرا كاملا ..
د ـ فترة تدمير المدن (الغزو الفلستي والآشوري والعبري (1200ـ 1000) ق م :
الغزو الفلستي :
سقطت الدولة الحيثية عام 1190 ق م ، على يد قبائل غريبة عن المنطقة ، هاجمت من الغرب والشمال الغربي ، ويعتقد أن هذا الغزو كان جزءا من حركة الغزو والهجرة التي كانت تقوم بها القبائل الإغريقية من وسط وشمال أوروبا نزولا الى بلاد اليونان واستمرارا الى آسيا الصغرى وسواحل المتوسط الشرقية.
وكان هذا الغزو يتم من خلال ثلاثة محاور :
المحور الأول : من اليونان باتجاه آسيا الصغرى : وتكون من (الفريجيين والمسيين والكاشكيين ) وقد دمر هذا المحور قلب الإمبراطورية الحيثية .
المحور الثاني : من كريت وقبرص : وتكوَن من القبائل التي تجمعت هناك من (الشاردانية ) و ال (لوكية) وال ( ميسية) ، وكان الغزو عن طريق البحر ، وتحالف مع القبائل الليبية ، لكن الملك المصري (رمسيس الثالث) ردهم وأقف زحفهم ، وشتت شملهم ، فغزوا فلسطين من الجنوب واحتلوها أثناء فرارهم من المصريين ..
المحور الثالث : من كريت وقبرص الى السواحل الشامية : وتكون من قبائل (فلستو ، والليرية والزاكارية ) .. ثم انضمت إليهم القبائل المهزومة من رمسيس الثالث ، لتحتل تلك القبائل مجتمعة عموم الساحل الفلسطيني ، حيث احتلت ( عكا و أسدود و عسقلان و جت وغزة ) .. وانصهرت هنا مع قبائل بحر إيجة التي خربت (أوغاريت ) عام 1180 ق م .. والتي قضت عليها نهائيا وهكذا انقسم الشريط الكنعاني الى قسمين : الثلثين العلويين للكنعانيين الذين سيصبح منذ تلك اللحظة اسمهم (الفينيقيين ) والثلث السفلي للفلسطينيين . وستتحالف هذه الكتلتين السياسيتين ضد العبريين فيما بعد .
الغزو الآشوري :
تنفس الآشوريون الصعداء لما حل بالإمبراطورية الحيثية ، خصمهم العتيد الذي حصر نفوذهم وجعله يتقوقع .. فما أن زالت دولتهم حتى اجتاحوا جنوب سوريا ، وفرضوا الجزية على (أرواد) بعد احتلالها .. واستغل الملك الآشوري (تجلات بلاسر الأول ) 1116ـ1090ق م .. وجوده في لبنان ليقطع خشب الأرز الذي يرتبط بالأساطير العراقية في موضوع الخلود (ملحمة كلكامش) .
الغزو العبري :
تكاد المصادر المتيسرة لأيدي المؤرخين ، محصورة بما دون العبريون أنفسهم فلم يتم لحد الآن إيجاد حفريات تؤكد إدعاءاتهم المليئة بالمغالطات ، والتي تسللت الى كتب التاريخ ، ليعيد المؤرخون اعتمادها كأسس تأريخية ، فقولهم أن جن سليمان قد بنا تدمر ، في حين تذكر الحفريات الآشورية أن الملك (شلمن ناصر الثالث) جد الملك الآشوري المذكور أعلاه ، قد ذكر أنه حاصر تدمر لثلاثة شهور دون أن يستطيع فتحها ، وهو دحض لادعاءات اليهود واليونانيين والرومان .. أما العبريين وإدعائهم بأن جن سليمان هم من بنوا تدمر وسليمان ابن داوود و داوود ابن شاؤول الذي كان ملكا عام 1020 ق م يبين كذبهم وافترائهم ..
لكن العبريين استطاعوا أن يسيطروا في عهد شاؤول على فلسطين عدا الساحل منها .. وكان ذلك في حدود عام 1000 ق م .. ولكن مملكتهم قد انقسمت في عهد سليمان الى قسمين ( السامرة ويهودا ) ..
ويعتقد أن المعارضين للسكان الأصليين هم من أوجد تلك الشرذمة في المنطقة والتي حاولت طيلة وجودها الانخراط بالمنطقة وسكانها ، تتقرب من الأنبياء تارة وتقتلهم في النهاية .. وهذا دأبهم منذ دخلوا تحت مسميات مختلفة منذ الألف الأول قبل الميلاد أو قبله بقليل ( مع الفصل بين الأدعياء و ما ترك نبي الله ابراهيم عليه السلام من أتقياء اعتنقوا في النهاية ديانة الرسل الذين تلوهم ) .
المرحلة الفينيقية (1200ـ 232 ق م ) :
أ ـ الفينيقيون الشرقيون ( 1200ـ 232 ق م ) :
بعد أن دمرت معظم المدن الكنعانية البرية والساحلية على أيدي الغزاة المختلفين من فلستينيين و آشوريين وعبريين ، مرت المدن والحضارة الكنعانية بمنحدر خطير وطويل من الاحتلال و الغزو الجديد على أيدي المصريين والآشوريين والفرس والبابليين والإغريق والرومان والبيزنطيين ، تم بعد كل ذلك فقدان البلاد هويتها الكنعانية ..
1 ـ الاحتلال المصري :
قام الفرعون (بسوينس) من الأسرة (الحادية والعشرين)، في حدود 1000ق م ، بالهجوم من جديد على جنوبي فلسطين واستولى على مدينة (جزر) الكنعانية وأحرقها ..
وفي فترة حكم الفرعون (شيشناق الأول) والتي امتدت بين 950ـ929 ق م استنجد ملك إسرائيل (يربهام) بالملك المصري لينصره على ملك يهودا (رحبعام) ، فجهز الفرعون (شيشناق الأول) جيشا قويا انطلق به من عاصمته (بوبيتيس) في الشرقية واكتسح فلسطين و151 مدينة في آسيا .. واستولى على كنوز الملك سليمان أثناء إسقاط مملكة يهودا (ملكها رحبعام) .. فتراكضت الزعامات الكنعانية وولاة فينيقيا على كسب ود هذا الفرعون القوي ..
2 ـ الاحتلال الآشوري :
يعتبر عهد الملك (آشور دان الثاني) 930ـ910ق م .. هو الأهم بين المحاولات العراقية للسيطرة على فلسطين وبلاد الشام .. ثم تجددت تلك المحاولات بخلفائه الملك (آشور ناصر بال الثاني) 883ـ859ق م ثم في عهد ابنه (شلما نصر الثالث ) 860ـ825 ق م .. الذي كان يأخذ الجزية من المدن الكنعانية ، ولما رفضت أرواد الدفع هزمها في معركة حاسمة .. ثم تلاه (أدد) الذي غزا سوريا عام 805 ق م ..
وكان بسط السيادة الآشورية على سوريا يتمثل بأخذ الجزية ، أكثر من كونه احتلالا .. وبقيت الأمور هادئة بين 805 و 745 ق م عندما اعتلى عرش آشور ( تجلات بلاسر الثالث ) والذي فرض الجزية على سوريا وصيدا وصور .
ولكن صور استطاعت في عهد الملك الآشوري ( شلما نصر الخامس) أن تدمر أسطوله الذي كان يجوب شرق المتوسط .. وأسرت 500 ملاح آشوري ..
وتصاعد العنف الآشوري في عهد الأسرة السرجونية التي لم تعد تكتفي بالجزية بل بالاحتلال ، وقد قسمت البلاد الى ثلاث ولايات (صيدا وصور وسميرا) .. وقد حرض فرعون مصر (طبرقا) صور على الانفصال عن الدولة الآشورية فاستجابت له ، لكن الملك الآشوري (اسرحدون) كان لها بالمرصاد .
3 ـ الاحتلال البابلي :
سقطت الإمبراطورية الآشورية عام 612ق م .. فتنفست المدن الكنعانية الصعداء ، لكن الفرعون المصري (نخاو ) أراد استغلال تلك الضعضعة في الوضع العراقي، فحاول بسط نفوذه على كل بلاد الشام ، لكنه اصطدم بانتباه الملك البابلي (نبوخذ نصر) الذي انتصر على فرعون مصر في معركة (قرقيش) عام 605م .. وكان هذا الانتصار إيذانا باحتلال بابلي لكل بلاد الشام، وبالرغم من أن نبوخذ نصر قد وضع ولاة وحكام إداريين من الفينيقيين إلا أنه سرعان ما استبدلهم ببابليين ..
4 ـ الاحتلال الفارسي :
ظل حكام المدن الشامية البابليون ، وبعد سقوط بابل على يد (كورش) الفارسي ، هم من يحكمون المدن في بلاد الشام باسم الدولة الفارسية .. وبعد أن تولى (قمبيز) الحكم استبدلهم بحكام فرس، وقد كانت بلاد الشام تشكل في أحلام الفارسيين نقطة انطلاق لإفريقيا .. ففهم سكان مدن بلاد الشام تلك الأحلام وعرضوا مساعدتهم للفرس مقابل إعطائهم حرية في التحركات التجارية البحرية وجعلهم يحكمون أنفسهم بما يشبه الحكم الذاتي ..وكان لهم ذلك .. فاتحدت مدن (أرواد وصيدا وصور) وأنشأت مدينة تكون مركزا للتنسيق هي مدينة تريبوليس (طرابلس اليوم في لبنان طبعا) .. وكان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد ، وقد أطلق الإغريق عليها هذا الاسم وهو يدل دلالة واضحة على اتحاد المدن الثلاثة وتمثيل تلك المدينة لهم ( تري : ثلاثة .. بوليس : مدينة ) .
وقبل نهاية الحكم الفارسي ثارت مدينة صيدا فدمرها الفرس تدميرا شاملا ، ثم جاء الاسكندر المقدوني الذي هزم الفرس عام 333 ق م في معركة إيسوس . وقد قاومت صور طويلا قبل أن يحتلها الاسكندر .. وبمجيء الإغريق، أخذت الحضارة الفينيقية بالاضمحلال نتيجة انصهارها بالثقافة اليونانية ومن بعدها الرومانية في عام 64 ق م