فن الرسالة عند الأديب نجيب الكيلاني مجلة الوعي الإسلامي (العدد : 525)

تعود أسباب المراسلة بيني وبين الأديب نجيب الكيلاني -يرحمه الله- إلى سنوات 1977 - 1980م عندما كنت طالبا أتابع دراستي الجامعية الأولى بمعهد الآداب والثقافة العربية بجامعة عنابة، وكان يومها يدرسنا مجموعة من الأساتذة المصريين -رحمهم الله جميعا- وعلى رأسهم د. عبدالعزيز نبوي يوسف، والأستاذ محمود غنيم والأستاذ محمود حجاج وغيرهم، ممن زكى في أعماقنا حب الأدب العربي، ونمى في وجداننا تذوقه، وفتح عقولنا لدراسته وفهمه، والذود عنه في الجزائر العربية الإسلامية التي كان يطارد فيها وقتئذ الحرف العربي الإسلامي الأصيل.
وكان هؤلاء الأساتذة قد لمسوا فينا الحماس الديني الفياض، من خلال نشاطاتنا المسجدية والدينية في رحاب الجامعة الجزائرية البائسة، المليئة بفلول الشيوعيين والاشتراكيين والملحدين والعلمانيين والفرنكوفونيين والانتفاعيين.. سعى أولئك الأساتذة الفضلاء لتوجيهنا بلطف وبتلميح عابر الى ضرورة البحث عن الجانب الأدبي والفني لدى الأديب سيد قطب، حيث كانت تستهوينا كتاباته الدعوية والفكرية والحركية والتنظيرية، وللأسف الشديد فإننا لم نكن نحفل باكتشاف الجانب الأدبي والفني لديه، بمقدار احتفالنا بالجانب الحركي والتوعوي، ومن هنا تفتقت اعيننا على مفاهيم الأدب الإسلامي الأصيل، وصادف ان عرّفنا د. عبدالعزيز نبوي يوسف الأستاذ بجامعة عين شمس، على بعض قصائد سيد قطب عندما كان يتخذها مادة شهية لتدريس البلاغة والعروض والشعر الحديث والمعاصر وشعر التفعيلة وغيره، ثم انتقل ليعرفنا بقصائد الشاعر الإسلامي هاشم الرفاعي، ولما لمس منا الاستعداد الأكيد، وحب الاستزادة والاطلاع على الأدب الإسلامي عرج بنا -رحمه الله- على الأديب المرحوم نجيب الكيلاني، فقرأنا له «الإسلامية والمذاهب الأدبية»، ومنها قررت أن يكون بحث تخرجي الصفي لنيل اجازة الليسانس في اللغة والأدب العربي حول جزئية من جزئيات الأدب الإسلامي، على الرغم من احتفاء الكثير من أساتذة القسم بأن ندير ظهورنا لمثل هذه الدراسات الإسلامية التي -حسب زعمهم- مازالت في بداياتها الأولى، وأنها غير مستقرة بعد في عالم الأدب والنقد والدراسات الأدبية، وأنها ستجلب لنا الكثير من المشاكل.
وكان قصدهم الخفي في ذلك صرفنا -حسب زعمهم- عن الغرقة في الأصولية الأدبية، فوق أصوليتنا الدينية، حيث نجحوا في توجيه الكثير من زملائنا في دفعة التخرج -ممن اختيروا بعدها حسب مقاس الايديولوجيا الشيوعية والاشتراكية والعلمانية كمعيدين ولتحضير شهادتي الماجستير والدكتوراة في القسم- لإنجاز مذكرات تخرجهم الصفية في المواضيع التالية:
1- الحانة في روايات الأديب الجزائري الطاهر وطار.
2- المرأة في رواية «ريح الجنوب» للأديب الجزائري عبدالحميد بن هدوقة.
3- لون الخمرة في شعر أبي نواس.
4- الرجل الثوري في رواية «اللاز» للطاهر وطار.
5- صورة المرأة في رواية «عرس بغل» للطاهر وطار.
ومثيلاتها من المواضيع المتهافتة التي تساقطت بتساقط خرافة انهيار جدار برلين وفلسفة الايديولوجيا الشيوعية، وتداعي الالحاد الوثني والرأسمالي.
وكنت قرأت يومها رواية «دم لفطير صهيون»، و«عذراء جاكرتا»، و«نور الله»، وتأثرت بها أيما تأثر، وبخاصة رواية دم لفطير صهيون، وقررت يومها أن يكون بحثي الصفي للتخرج عن جزئية فيها، ولكن حالت دون ذلك أمور ثم وجدت رواية «قاتل حمزة» فاقتنيتها من السوق، وقرأتها فأعجبت بها، وقررت ان يكون بحثي الصفي دراسة لشخصية البطل في الرواية الاسلامية، من خلال تطور شخصية بطل رواية «قاتل حمزة» وحشي، ودراسة دوافعه ومحفزاته وظروف حياته وتطلعاته بين المادية الوثنية والقيمية، وقد أسميته «الصراع لدى البطل في الرواية الاسلامية -من خلال رواية قاتل حمزة»، وقد اشرف على البحث د.نسيب نشاوي الدمشقي -يرحمه الله-، فكان خير مؤطر ومشرف وموجه، حيث وجهني - يرحمه الله - الى مراسلة الأديب نجيب الكيلاني، الذي دلنا عليه الاستاذ رضوان دعبول -يرحمه الله - الذي وافانا بهذه الرسالة القيمة.
الرسالة شكلها وهيكلها
رسالة الأديب المرحوم نجيب الكيلاني التي ارسلها إليّ تتكون من ثلاث صفحات كبيرة، من نوع صفحات الرسالة العادية، حيث حوت الصفحة الأولى والثانية ثلاثا وثلاثين سطرا، والصفحة الثالثة حوت ثمانية عشر سطرا، بمعدل اثنتي عشرة كلمة في السطر الواحد، وهي مكتوبة بخط مشرقي صغير، وهي مذيلة بتوقيع الكاتب -يرحمه الله -، وبعنوانه الشخصي في دولة الامارات العربية المتحدة بدبي، وبتاريخ كتابتها، وقبل تحليل جزئياتها نحب ان نقدم لمحة عن فن المراسلة في الأدب العربي.
فن المراسلة في الأدب العربي
عرف عرب الجاهلية فن الرسالة كنوع أدبي قبيل مجيء الإسلام، واستخدموه في بعض شؤونهم الحياتية على نطاق ضيق، وقد غلب عليه الأسلوب الشفهي والشعري معا اكثر من غلبة الأسلوب النثري المدون، نظرا لشيوع الأمية فيهم، وقلة القادرين على الكتابة والتدوين، ولندرة وسائل التدوين أيضاً (1).
وقد ازدهر فن الرسالة كنوع أدبي في العصر الإسلامي عندما نزل القرآن الكريم من أول يوم ممجدا الكتابة والتدوين والقراءة في الكليات العقدية، ومن ذلك قوله تعالى {ن والقلم وما يسطرون} (القلم: 1)، وحاثا على الكتابة والتدوين في الكثير من فروع المعاملات الشرعية، من ذلك مثلا قوله تعالى {يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل...}(2).
أهمية الرسالة
يمكن إجمال أهمية هذه الرسالة في العوامل التالية:
1- كونها مرسلة من طرف الأديب المرحوم نجيب الكيلاني، أحد رواد الأدب الإسلامي في العصر الحديث (3).
2- كونها مدونة بخط يده، وغير مرقونة على أي جهاز كتابة (آلة كاتبة، جهاز إعلام آلي).
3- مضى عليها أكثر من عقدين من الزمان.
4- قيمة المعلومات التي حوتها.
5- كونها إحدى الوثائق التاريخية عن الأديب نجيب الكيلاني يرحمه الله.
6- الخشية من ضياعها أو اندثارها أو كتمانها في مكتبة نائية لأحد الباحثين الإسلاميين بمدينة تبسة بالجزائر، وعدم استفادة المسلمين منها، والفوائد المرجوة من تعريف المثقفين المسلمين بها(4).
7- قيمة دوافع وغايات كاتبها -يرحمه الله - الذي كانت تحركه الفكرة الإسلامية فقط دون النظر لمنابت وأصل الأفراد المنتمين إليها، واهتمامه بالجناح الغربي لوطنه الإسلامي المتعطش -يومها- للأدب الإسلامي.
8- الخشية من أن أحشر مع كاتمي العلم يوم القيامة عملا بقوله تعالى، الذي يعيب على أحبار وعلماء يهود كتمانهم للعلم، {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيانات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة: 158) (5).
محتويات الرسالة
كتب الأستاذ نجيب الكيلاني - يرحمه الله - رسالته الي بأدب إسلامي جم، وبأسلوبه الرقيق السلس العذب الجذاب، وقد فاضت سطورها لتكشف عن انسان متواضع خلوق رقيق مؤمن، متضمنة المسائل التالية:
1- الديباجة الأدبية للرسالة الإسلامية وتضمنت: «البسملة، النداء والمخاطبة بألقاب الاحترام، التحية الإسلامية: (السلام)، عبارة فصل الخطاب: وبعد».
2- توضيحات حول رسالة الأخ الناشر (رضوان دعبول) إليه، مع الشكر والثناء، وحسن الظن به وبأدبه.
3- وعد منه بتزويدي بما يستطيعه من معلومات أو نتاجات مستقبلا.
4- البدء بتناول ووصف رواية «قاتل حمزة» المكتوبة سنة 1969م، والتي نالت جائزة مجمع اللغة العربية المصري سنة 1972م.
5- التعرض لخلفيتها التنظيرية، حيث كتبها مستندا الى مفهوم الأدب الإسلامي، الذي اصدر فيه سلسلة تنظيرية، تدعم توجهاته الابداعية.
6 - لمحة موجزة عن حياته.
7- تخرجه طبيبا من كلية طب القصر العيني سنة 1960م.
8- سفره الى دولة الامارات العربية المتحدة سنة 1968م وعمله بها كطبيب، ثم كمدير للثقافة الصحية الى تاريخ كتابة الرسالة سنة 1984م، ووظائفه المهنية فيها كطبيب، ثم كمدير للثقافة الصحية في وزارة الصحة.
9- كتابته لأول عمل نثري في السجن سنة 1956م، الذي دشنه برواية «الطريق الطويل» التي نالت جائزة وزارة التربية والتعليم سنة 1957م، ثم قررت لتدرس على طلاب المرحلة الثانوية في الصف الثاني الثانوي عام 1959م.
10- كتابته لرواية «اليوم الموعود» سنة 1960م، التي نالت جائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر في العام نفسه، ثم رواية «في الظلام» التي نالت الجائزة في العام التالي 1961م.
11- تعداد مؤلفاته الأخرى، وهي: المجتمع المرضي، الإسلام والقوى المضادة، الطريق الى اتحاد إسلامي، لمحات من حياتي سيرة ذاتية، شوقي في ركب الخالدين، في رحاب الطب النبوي (10).
عبرة ..
وبرحيل الأديب نجيب الكيلاني عن عالمنا الأرضي.. تبقى روحه وآثاره خالدة بخلود القيم الفاضلة، وبخلود الإسلام مادامت السماوات والأرض، وصدق رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) حين قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» (رواه مسلم).

الهوامش
1- انظر: شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي 1، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، دون تاريخ، ص 851 .. و893.
2- ابن كثير، السيرة النبوية، دار المعارف، بيروت، دون طبعة، 102ه 182م، ج3، ص494.. ومحمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الرابعة، 1403ه 1983م، 76.
3- يشكل الأديب نجيب الكيلاني حلقة في سلسلة الأدباء والكتاب الاسلاميين في القرن العشرين، امثال المرحوم: سيد قطب، ومحمد علي قطب، ومحمد عبدالحليم عبدالله، وأحمد علي باكثير، وهاشم الرفاعي.
4- الرسالة محفوظة عندي من يوم ان وصلتني يوم 20 حزيران 1984م، وأخشى أن تضيع لأن المؤمّن لا يملك من نفسه شيئا.
5- وبالر غم من حرصي على ظهورها وعدم كتمانها، وسعيي الحثيث لدى الكثير من اصحاب المطابع والمكتبات ودور النشر، فإن البحث مازال مخطوطا منذ سنة 1984م، وهو في بضع وستين صفحة مكتوب بالآلة الكاتبة.