التعامل بالربا
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس: إنَّ هناك ظاهرة خطيرة جداً، ظاهرة انتشرت في المدن والريف، هذه الظاهرة تحدث عنها المتحدثون، وكتب عنها الكاتبون، وسرد الأدلة على تحريمها الحافظون، وحصر صورها وأشكالها ومفاسدها المتقنون، وبكي لقبحها وشناعتها العابدون، ظاهرة انتشرت في العالم الإسلامي انتشار النار في الهشيم، ولُبِّس في حكمها على كثير من المسلمين؛ فسميت بأسماء متعددة، ولكنها كما قيل: تعددت الأسماء والشيء واحد، ظاهرة لها تقسيمات يطول عدّها، ويعسر الإلمام بجميعها، ولكن في الإشارة إلى بعضها عبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ إنها ظاهرة التعامل بالربا.
عباد الله: وقبل الشروع في ذكر بعض صور هذه الظاهرة الخطيرة، نشير إلى حكم التعامل بها، فنقول: إنَّ التعامل بالربا يُعد كبيرة من كبائر الذنوب؛ وحرام بدليل الكتاب والسنة والإجماع1. وعدها كبيرة من كبائر الذنوب هو ما أجمع عليه اتباعاً لما جاء في الأحاديث الصحيحة الصريحة2. ومن تلكم الآيات والأحاديث- يا عباد الله- التي حرم الله فيها الربا؛ قوله المولى -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}سورة البقرة(275) (276). ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} سورة البقرة (278)- (279). وقال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} سورة آل عمران (130-131). قال ابن حجر-رحمه الله- بعد أن ذكر الآيات السابقة معلقاً على قوله –تعالى-: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الرِّبَا يَكُونُ مَعَ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ, لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ تِلْكَ الْمُحَارَبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وَأَدَّتْ بِهِ إلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النــور(63). وَتَأَمَّلْ وَصْفَ اللَّهِ –تَعَالَى- تِلْكَ النَّارَ بِكَوْنِهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ, فَإِنَّ فِيهِ غَايَةَ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي إذَا عَلِمُوا بِأَنَّهُمْ مَتَى فَارَقُوا التَّقْوَى دَخَلُوا النَّارَ الْمُعَدَّةَ لِلْكَافِرِينَ, وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ عَظَمَةُ عُقُوبَةِ الْكَافِرِينَ انْزَجَرُوا عَنْ الْمَعَاصِي أَتَمَّ الِانْزِجَارِ. فَتَأَمَّلْ -عَفَا اللَّهُ عَنَّا وَعَنْك- مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ –تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَعِيدِ آكِلِ الرِّبَا يَظْهَرُ لَك إنْ كَانَ لَك أَدْنَى بَصِيرَةٍ قُبْحُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَزِيدُ فُحْشِهَا, وَعَظِيمُ مَا يَتَرَتَّبُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهَا, سِيَّمَا مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي إلَّا مُعَادَاةَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ –تَعَالَى- الْمُقَارِبَةِ لِفُحْشِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وَقُبْحِهَا. وَإِذَا ظَهَرَ لَك ذَلِكَ رَجَعْت وَتُبْت إلَى اللَّهِ -تَعَالَى- عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْمُهْلِكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَقَدْ شَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طَوَى التَّصْرِيحُ بِهِ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ وَالْقَبَائِحِ الْحَاصِلَةِ لِأَهْلِ الرِّبَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ وَغَيْرِهَا أَحْبَبْت هُنَا ذِكْرَ كَثِيرٍ مِنْهَا لِيَتِمَّ لِمَنْ سَمِعَهَا مَعَ مَا مَرَّ الِإنْزِجَارُ عَنْهَ3.
وأما الأحاديث-عباد الله-المحذرة من الربا، والمبينة أنها كبيرة من كبائر الذنوب فهي كثيرة جداً؛ فمنها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)4. ولعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، والمحلل، والمحلل له5. وقال-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً)6. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا- والحوب هو الذنب الكبير- أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ)7. وغير ذلك من الأحاديث.
أيها الناس: أما عن صور التعامل بالربا، فقد كثرت الدعايات للتعامل بالربا، وتعددت مجالاته، وتنوعت أساليبه، وتعدد مسمياته؛ فعلى المسلم أن يخشى الله ويتقه، ويعلم أنه موقوف بين يديه يوم القيامة، وعليه أن يعلم أن أبوابه كثيرة جداً؛ فعن عبد الله-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)8. ومن صور التعامل بالربا، وأكثرها شيوعاً، ما يلي:
1. القرض بفائدة، وصورة ذلك، أن يقترض شخص من آخر، أو مؤسسة أو بنك مالاً على أن يرده وزيادة، فهذا هو عين الربا الذي أجمعت الأمة على تحريمه، وجاءت النصوص الشرعية بمنعه والتحذير منه؛ قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة البقرة(275).
1. ومن صور الربا المحرمة بيع العينة، وصورة ذلك، أن يبيع سلعة بثمن مؤجل على شخص، ثم يشتريها منه بثمن حال أقل من الثمن المؤجل، فهذه معاملة ربوية محرمة، جُعلت السلعة فيها حيلة وستارة فقط، يتحايلون على الله –تعالى- كما يتحايلون على الأطفال،- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)9.
2. ربا الدين، وصورته أن يبيع الرجل على آخر بيعاً إلى أجل مسمى، فإذا جاء الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاد في الثمن وأخر عنه في الدفع إلى أجل مسمى آخر، وهذه هو الربا أضعافاً مضاعفة، وهو ربا الجاهلية الذي نهى الله عنه بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ} سورة آل عمران(130).
3. ربا النسيئة، وله صورة متعددة؛ منها: أن يقرض شخصاً مبلغاً من المال على أن يرده وزيادة، ومنها: بيع النقود بالنقود، أو النقود بالذهب إلى أجل بزيادة، أو بيع ذلك من غير تقابض في المجلس، ولو لم يكن هناك زيادة، فهذا عين الربا الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)10. وفي رواية: (مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)11. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض)12. ولا تفضلوا بعضها على بعض، وقال صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة المذكورة: (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز)13. وهذه الأنواع من الربا واقعة اليوم بكثرة جارفة، وتكثر في المصارف، وعند باعة الذهب والحلي، وإذا اختلفت الأصناف حال البيع، فيلزم أن تكون مقبوضة في الحال فقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم، يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم، يداً بيد)14. ولفظ أبي داود: (ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرها، يداً بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرها، يداً بيد، وأما نسيئة فلا)15.
4. ومن صور الربا اليوم أن يُعجل الموظف استلام راتبه قبل نهاية الشهر مقابل فائدة مالية، يسمونها عمولة البطاقة، وفي حقيقتها زيادة مالية ربوية، يرى الناس ظاهرها، ويخفى عليهم باطنها، وهي معاملة ملعون صاحبها وآكلها والمتعامل بها، فاحذروا عباد الله من تلك الألاعيب المكشوفة، التي يتحايلون بها على الناس، ليدخل الربا في أموالهم، فتمحق بركاتها، وتزول خيراتها.
5. ومن صور الربا استبدال الذهب القديم بذهب جديد، ودفع الفرق بينهما، وهذا عين الربا، والصحيح في ذلك أن يبع القديم ويقبض ثمنه، ثم يشتري جديداً.
6. ومن صور الربا أن يشتري ذهباً ديناً أو أقساطاً، وهذا رباً لا يجوز التعامل به، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)16. فليحذر تجار العملات، وتجار السبائك الذهبية ألا يبيعوا حاضراً بغائب، فلابد من التقابض والاستلام والتسليم في مجلس العقد.
7. ومن صور الربا الإيداع بفائدة، وصورته أن يضع ماله في أحد البنوك الربوية، ويعطيه البنك فائدة جراء الانتفاع بالمبلغ، وهذا حرام، وفيه تعاون على الإثم والعدوان، ومعصية الرحمن. نسأل العافية والسلامة، ونعوذ به من الخسران.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأصلي وأسلم على خير داع إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
أيها المسلمون: لا ريب أن المسلمين أخوة، يساعد بعضهم بعضاً، ويعين أحدهم أخاه، بشفاعة حسنة، أو واسطة لا ظلم فيها، أو غير ذلك من أوجه المنفعة، فمن شفع لأخيه أو قضى له منفعة، فلا يجوز له أن يأخذ مقابل ذلك أجراً، ومن فعل فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)17. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: من شفع لرجل شفاعة فأهدى إليه هدية فهي سحت.
أمة الإسلام: ربما وقع المسلم في الربا وهو لا يعلم، فمن كان كذلك، وجب عليه رد الحقوق إلى أهلها، وترك الربا فوراً؛ لأنه من أسباب سخط الله، ومن وقع في الربا مع بنك أو مصرف أو غيرها فإنه يرفع أمره للمحاكم الشرعية، ليتبين الحق من الباطل، ألا فاعلموا أيها الناس أن من وقع في الربا عارفاً أو جاهلاً، فالعقد باطل؛ لحديث بلال-رضي الله عنه- أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمر جيد، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : (من أين هذا؟)، فقال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع، فقال النبي- صلى الله عليه وسل :(هذا ربا فردوه، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا)18. وهذا دليل واضح على بطلان العقد ولو تم التوقيع عليه ، والموافقة من قبل المتعاقدين، فكل تلك الأمور لا تجيز العمل بالربا.
أمة الإسلام: لقد كان سلفنا الصالح -رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أجمعين-، أبعد الناس عن الحرام، بل وتركوا المباح، خوفاً من الوقوع في الحرام، عرفوا قدر الأموال، وأمعنوا النظر في سبيلها، وطرق الحصول عليها، فكانوا لا يحصلونها إلا من طريق مباح، ولا يصرفونها إلا في وجه له منفعة، سلكوا في تحصيلها سبيل الورع، وفي تصريفها سبيل الكرم والبذل المحمود، كان لأبي بكر -رضي الله عنه- غلاماً، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر -رضي الله عنه-، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ لقد كان ثمناً للكهانة، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه. وشرب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟، قال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. هكذا أيها المسلمون: كان سلفنا الصالح يخرجون الحرام من بطونهم، بعد أكله وهم جاهلون به، وما ضرهم ذلك الفعل، بل ملكوا زمام الدنيا، ومفاتيح الآخرة، وكانت حياتهم طيبة، وعاقبتهم حميدة، الله أكبر يا عباد الله، ما أعظم الفرق بين قوم أخرجوا الحرام من بطونهم، وقوم عرفوا الحرام، وقرءوا كتاب الله، وتدبروا سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ثم أقدموا على أكل الحرام، شتان بين الفريقين، فريق ملكوا الأرض وخيراتها، وفريق ضاع ملكهم اليوم، فأصبحوا عبيداً للأهواء والشهوات والشبهات؛ قال الله –تعالى- : {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} سورة الرعد (11)، وإذا كان أخف الناس عذاباً يوم القيامة، رجل توضع تحت قدميه جمرتان من النار، يغلي منهما دماغه، فكيف بمن يأكل الربا وقد توعده الله بالخلود في النار، فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أن الله -عز وجل- ختم آيات النهي عن الربا، والأمر بتركه في سورة البقرة بقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} سورة البقرة(281). فهل بعد هذا البيان من النصوص الشرعية بيان؟ لهي أعظم دليل وبرهان، ولكن صدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} سورة ق (37). وقوله سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} سورة الفرقان (44)ٍ. وفي الموضوع أدلة كثيرة، وأخبار غزيرة، وفيما ذكرت كفاية، لمن أدركته العناية، هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المختار، صادق الأخبار، سيد الأبرار، حيث أمركم بذلك العزيز الغفار؛ فقال الواحد القهار: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}19.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس: إنَّ هناك ظاهرة خطيرة جداً، ظاهرة انتشرت في المدن والريف، هذه الظاهرة تحدث عنها المتحدثون، وكتب عنها الكاتبون، وسرد الأدلة على تحريمها الحافظون، وحصر صورها وأشكالها ومفاسدها المتقنون، وبكي لقبحها وشناعتها العابدون، ظاهرة انتشرت في العالم الإسلامي انتشار النار في الهشيم، ولُبِّس في حكمها على كثير من المسلمين؛ فسميت بأسماء متعددة، ولكنها كما قيل: تعددت الأسماء والشيء واحد، ظاهرة لها تقسيمات يطول عدّها، ويعسر الإلمام بجميعها، ولكن في الإشارة إلى بعضها عبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ إنها ظاهرة التعامل بالربا.
عباد الله: وقبل الشروع في ذكر بعض صور هذه الظاهرة الخطيرة، نشير إلى حكم التعامل بها، فنقول: إنَّ التعامل بالربا يُعد كبيرة من كبائر الذنوب؛ وحرام بدليل الكتاب والسنة والإجماع1. وعدها كبيرة من كبائر الذنوب هو ما أجمع عليه اتباعاً لما جاء في الأحاديث الصحيحة الصريحة2. ومن تلكم الآيات والأحاديث- يا عباد الله- التي حرم الله فيها الربا؛ قوله المولى -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}سورة البقرة(275) (276). ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} سورة البقرة (278)- (279). وقال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} سورة آل عمران (130-131). قال ابن حجر-رحمه الله- بعد أن ذكر الآيات السابقة معلقاً على قوله –تعالى-: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الرِّبَا يَكُونُ مَعَ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ, لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ تِلْكَ الْمُحَارَبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وَأَدَّتْ بِهِ إلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النــور(63). وَتَأَمَّلْ وَصْفَ اللَّهِ –تَعَالَى- تِلْكَ النَّارَ بِكَوْنِهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ, فَإِنَّ فِيهِ غَايَةَ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي إذَا عَلِمُوا بِأَنَّهُمْ مَتَى فَارَقُوا التَّقْوَى دَخَلُوا النَّارَ الْمُعَدَّةَ لِلْكَافِرِينَ, وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ عَظَمَةُ عُقُوبَةِ الْكَافِرِينَ انْزَجَرُوا عَنْ الْمَعَاصِي أَتَمَّ الِانْزِجَارِ. فَتَأَمَّلْ -عَفَا اللَّهُ عَنَّا وَعَنْك- مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ –تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَعِيدِ آكِلِ الرِّبَا يَظْهَرُ لَك إنْ كَانَ لَك أَدْنَى بَصِيرَةٍ قُبْحُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَزِيدُ فُحْشِهَا, وَعَظِيمُ مَا يَتَرَتَّبُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهَا, سِيَّمَا مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي إلَّا مُعَادَاةَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ –تَعَالَى- الْمُقَارِبَةِ لِفُحْشِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وَقُبْحِهَا. وَإِذَا ظَهَرَ لَك ذَلِكَ رَجَعْت وَتُبْت إلَى اللَّهِ -تَعَالَى- عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْمُهْلِكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَقَدْ شَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طَوَى التَّصْرِيحُ بِهِ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ وَالْقَبَائِحِ الْحَاصِلَةِ لِأَهْلِ الرِّبَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ وَغَيْرِهَا أَحْبَبْت هُنَا ذِكْرَ كَثِيرٍ مِنْهَا لِيَتِمَّ لِمَنْ سَمِعَهَا مَعَ مَا مَرَّ الِإنْزِجَارُ عَنْهَ3.
وأما الأحاديث-عباد الله-المحذرة من الربا، والمبينة أنها كبيرة من كبائر الذنوب فهي كثيرة جداً؛ فمنها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)4. ولعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، والمحلل، والمحلل له5. وقال-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً)6. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا- والحوب هو الذنب الكبير- أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ)7. وغير ذلك من الأحاديث.
أيها الناس: أما عن صور التعامل بالربا، فقد كثرت الدعايات للتعامل بالربا، وتعددت مجالاته، وتنوعت أساليبه، وتعدد مسمياته؛ فعلى المسلم أن يخشى الله ويتقه، ويعلم أنه موقوف بين يديه يوم القيامة، وعليه أن يعلم أن أبوابه كثيرة جداً؛ فعن عبد الله-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)8. ومن صور التعامل بالربا، وأكثرها شيوعاً، ما يلي:
1. القرض بفائدة، وصورة ذلك، أن يقترض شخص من آخر، أو مؤسسة أو بنك مالاً على أن يرده وزيادة، فهذا هو عين الربا الذي أجمعت الأمة على تحريمه، وجاءت النصوص الشرعية بمنعه والتحذير منه؛ قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة البقرة(275).
1. ومن صور الربا المحرمة بيع العينة، وصورة ذلك، أن يبيع سلعة بثمن مؤجل على شخص، ثم يشتريها منه بثمن حال أقل من الثمن المؤجل، فهذه معاملة ربوية محرمة، جُعلت السلعة فيها حيلة وستارة فقط، يتحايلون على الله –تعالى- كما يتحايلون على الأطفال،- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)9.
2. ربا الدين، وصورته أن يبيع الرجل على آخر بيعاً إلى أجل مسمى، فإذا جاء الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاد في الثمن وأخر عنه في الدفع إلى أجل مسمى آخر، وهذه هو الربا أضعافاً مضاعفة، وهو ربا الجاهلية الذي نهى الله عنه بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ} سورة آل عمران(130).
3. ربا النسيئة، وله صورة متعددة؛ منها: أن يقرض شخصاً مبلغاً من المال على أن يرده وزيادة، ومنها: بيع النقود بالنقود، أو النقود بالذهب إلى أجل بزيادة، أو بيع ذلك من غير تقابض في المجلس، ولو لم يكن هناك زيادة، فهذا عين الربا الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)10. وفي رواية: (مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)11. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض)12. ولا تفضلوا بعضها على بعض، وقال صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة المذكورة: (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز)13. وهذه الأنواع من الربا واقعة اليوم بكثرة جارفة، وتكثر في المصارف، وعند باعة الذهب والحلي، وإذا اختلفت الأصناف حال البيع، فيلزم أن تكون مقبوضة في الحال فقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم، يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم، يداً بيد)14. ولفظ أبي داود: (ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرها، يداً بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرها، يداً بيد، وأما نسيئة فلا)15.
4. ومن صور الربا اليوم أن يُعجل الموظف استلام راتبه قبل نهاية الشهر مقابل فائدة مالية، يسمونها عمولة البطاقة، وفي حقيقتها زيادة مالية ربوية، يرى الناس ظاهرها، ويخفى عليهم باطنها، وهي معاملة ملعون صاحبها وآكلها والمتعامل بها، فاحذروا عباد الله من تلك الألاعيب المكشوفة، التي يتحايلون بها على الناس، ليدخل الربا في أموالهم، فتمحق بركاتها، وتزول خيراتها.
5. ومن صور الربا استبدال الذهب القديم بذهب جديد، ودفع الفرق بينهما، وهذا عين الربا، والصحيح في ذلك أن يبع القديم ويقبض ثمنه، ثم يشتري جديداً.
6. ومن صور الربا أن يشتري ذهباً ديناً أو أقساطاً، وهذا رباً لا يجوز التعامل به، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)16. فليحذر تجار العملات، وتجار السبائك الذهبية ألا يبيعوا حاضراً بغائب، فلابد من التقابض والاستلام والتسليم في مجلس العقد.
7. ومن صور الربا الإيداع بفائدة، وصورته أن يضع ماله في أحد البنوك الربوية، ويعطيه البنك فائدة جراء الانتفاع بالمبلغ، وهذا حرام، وفيه تعاون على الإثم والعدوان، ومعصية الرحمن. نسأل العافية والسلامة، ونعوذ به من الخسران.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأصلي وأسلم على خير داع إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
أيها المسلمون: لا ريب أن المسلمين أخوة، يساعد بعضهم بعضاً، ويعين أحدهم أخاه، بشفاعة حسنة، أو واسطة لا ظلم فيها، أو غير ذلك من أوجه المنفعة، فمن شفع لأخيه أو قضى له منفعة، فلا يجوز له أن يأخذ مقابل ذلك أجراً، ومن فعل فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)17. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: من شفع لرجل شفاعة فأهدى إليه هدية فهي سحت.
أمة الإسلام: ربما وقع المسلم في الربا وهو لا يعلم، فمن كان كذلك، وجب عليه رد الحقوق إلى أهلها، وترك الربا فوراً؛ لأنه من أسباب سخط الله، ومن وقع في الربا مع بنك أو مصرف أو غيرها فإنه يرفع أمره للمحاكم الشرعية، ليتبين الحق من الباطل، ألا فاعلموا أيها الناس أن من وقع في الربا عارفاً أو جاهلاً، فالعقد باطل؛ لحديث بلال-رضي الله عنه- أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمر جيد، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : (من أين هذا؟)، فقال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع، فقال النبي- صلى الله عليه وسل :(هذا ربا فردوه، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا)18. وهذا دليل واضح على بطلان العقد ولو تم التوقيع عليه ، والموافقة من قبل المتعاقدين، فكل تلك الأمور لا تجيز العمل بالربا.
أمة الإسلام: لقد كان سلفنا الصالح -رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أجمعين-، أبعد الناس عن الحرام، بل وتركوا المباح، خوفاً من الوقوع في الحرام، عرفوا قدر الأموال، وأمعنوا النظر في سبيلها، وطرق الحصول عليها، فكانوا لا يحصلونها إلا من طريق مباح، ولا يصرفونها إلا في وجه له منفعة، سلكوا في تحصيلها سبيل الورع، وفي تصريفها سبيل الكرم والبذل المحمود، كان لأبي بكر -رضي الله عنه- غلاماً، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر -رضي الله عنه-، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ لقد كان ثمناً للكهانة، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه. وشرب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟، قال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. هكذا أيها المسلمون: كان سلفنا الصالح يخرجون الحرام من بطونهم، بعد أكله وهم جاهلون به، وما ضرهم ذلك الفعل، بل ملكوا زمام الدنيا، ومفاتيح الآخرة، وكانت حياتهم طيبة، وعاقبتهم حميدة، الله أكبر يا عباد الله، ما أعظم الفرق بين قوم أخرجوا الحرام من بطونهم، وقوم عرفوا الحرام، وقرءوا كتاب الله، وتدبروا سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ثم أقدموا على أكل الحرام، شتان بين الفريقين، فريق ملكوا الأرض وخيراتها، وفريق ضاع ملكهم اليوم، فأصبحوا عبيداً للأهواء والشهوات والشبهات؛ قال الله –تعالى- : {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} سورة الرعد (11)، وإذا كان أخف الناس عذاباً يوم القيامة، رجل توضع تحت قدميه جمرتان من النار، يغلي منهما دماغه، فكيف بمن يأكل الربا وقد توعده الله بالخلود في النار، فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أن الله -عز وجل- ختم آيات النهي عن الربا، والأمر بتركه في سورة البقرة بقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} سورة البقرة(281). فهل بعد هذا البيان من النصوص الشرعية بيان؟ لهي أعظم دليل وبرهان، ولكن صدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} سورة ق (37). وقوله سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} سورة الفرقان (44)ٍ. وفي الموضوع أدلة كثيرة، وأخبار غزيرة، وفيما ذكرت كفاية، لمن أدركته العناية، هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المختار، صادق الأخبار، سيد الأبرار، حيث أمركم بذلك العزيز الغفار؛ فقال الواحد القهار: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}19.