بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
توفية حق الله عز وجل بالتمام و الكمال شيء من المستحيلات :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثاني والعشرين من دروس: "آيات الأحكام"، وآية اليوم من سورة المائدة وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
أوفى ووفّى، الأولى رباعية والثانية رباعية، إلا أن الأولى مخففة والثانية مشددة، والتي هي مشددة أبلغ من المخففة، ومن أوفى بعهده من الله، وإبراهيم الذي وفّى، وقد وردت هذه الكلمات في القرآن الكريم، المشددة فيها معنى المبالغة، قال تعالى:
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ﴾
[ سورة الأعراف: 102 ]
المقصرون كم مرة عاهدوا الله عز وجل ثم نقضوا عهدهم؟ الحجاج في بيت الله الحرام كلهم عند الحجر الأسود يقولون: عهداً لله على طاعته، إذا عادوا إلى بلادهم غيروا وبدلوا، وكأن عهداً لم يكن بينهم وبين الله، لذلك حينما تقرأ هذه الآية:
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾
[ سورة النجم: 37 ]
تشعر أن هذه النبي كان وفياً لعهد الله، وفّى ما عليه، طبعاً وفّى مجازاً، أما أن توفي حق الله تعالى بالكمال والتمام فهذا من المستحيلات، لكن توفيه نسبياً، من الذين وفوا نسبياً سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
الثبات على المبدأ خلق رفيع :
بالمناسبة أنت حينما تعاهد خالق الكون على الطاعة ينبغي أن يكون هذا العهد في السراء والضراء، في المنشط والمكره، في ضيق الدنيا وفي بحبوحتها، في المرض والصحة، في الغنى والفقر، قبل الزواج وبعد الزواج، هذا هو العهد، لا تعاهد إنساناً بل تعاهد خالق الأكوان، لذلك ربنا عز وجل قال:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
[سورة الأحزاب: 23]
أجمل ما في المؤمن ثباته على المبدأ، والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه، من الخلق الرفيع الثبات على المبدأ، ثابت لا يغير، ولا يبدل، ولا يعدل، ولا يتكاسل، ولا يتوانى.
الحركة تغير معنى الكلمة رأساً على عقب المبالغة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
العقود جمع مفرده عقد، أما العقد فشيء آخر، دقة اللغة، عَقد وعِقد، مَنصِب ومنصَب، مسافة كبيرة جداً، بَر وبِر وبُر، البَر اليابسة، والبُر القمح، والبِر الإحسان، خَلْق خَلِق خُلق، الخُلق الأخلاق، والخَلِق البالي، والخَلْق البنية، كان عليه الصلاة و السلام تام الخَلْق والخُلق، قَدَمَ قَدُمَ قَدِمَ، كل شيء له معنى حركة تغير المعنى رأساً على عقب، العقود جمع عقد، العِقْد الحلي الذي تلبسه المرأة، العَقْد في الأصل الربط، واللغة انطلقت من المعاني المادية إلى المعاني المجازية، فالعَقد في الأساس الربط ومنها العقدة، والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تسأل النبي عليه الصلاة والسلام كيف حبك لي؟ يقول لها: كعقدة الحبل، عقدة لا تنفك تسأله من حين إلى آخر كيف العقدة؟ يقول على حالها.
عقدت البيع لفلان، ربطت هذا الوديع بالعقد الأكيد لفلان، عقد بيع ربط المبيع بالذي اشترى، واليمين التي تنعقد للمستقبل تسمى عقداً لأن الحالف ربط نفسه بالمحلوف في المستقبل، قال: والله لأفعلنّ كذا وكذا، قيد نفسه بعمل يفعله في المستقبل، فهذه اليمين تسمى عقداً لأنها ارتباط.
تفسير قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ :
ما معنى قوله تعالى؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
المعنى الأول: أوفوا بالعقود التي بينكم وبين الله، أنت عبد وقد عاهدت الله في عالم الأزل على أن تأتي إلى الدنيا وأن تعبده، فعبادة الله عقد بينك وبينه، لهذا يقول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
من مقتضيات إيمانكم أن توفوا بالعقود التي بينكم وبين ربكم، أي واحد منا لأنه إنسان مسلم مؤمن مرتبط بعقد مع الله، أن يطيعه، وأن يعبده، وأن يتعرف إليه، وأن يزكي نفسه، وأن يجعلها صالحة لعطائه يوم القيامة، فإذا قال الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
أي أوفوا بالعقود التي بينكم وبين الله، وكل إنسان عاهد الله عز وجل حينما عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، هناك عقد -سبحان الله- الإنسان حينما يوفي ما عليه لله عز وجل يشعر براحة، يشعر بقيمته الإنسانية، يشعر أنه في عين الله كبير، ولأن تسقط من السماء إلى الأرض أهون من أن تسقط من عين الله، وقد تخرق العهد الذي بينك وبين الله ولا يطلع أحد على ذلك إلا الله، العبرة أنت، العبرة أن تكون عظيماً أمام نفسك لا أن تكون حقيراً أمام نفسك، عبر عنه علماء النفس بالانهيار الداخلي، الإنسان قد يكون ذكياً، وقد يكون طليق اللسان، وقد يكون عنده قوة إقناع كبيرة، وقد يخرق الستر بينه وبين الله، قد يخون أمانة الله، قد يخون عهد الله ولا أحد يطلع، إلا أن إطلاعه على ذاته بحدّ ذاته يسقطه من عين ذاته، والإنسان حينما يكون منهاراً داخلياً لا يستطيع أن يكون ناجحاً في العلاقات الخارجية، أي أهم شيء في حياة الإنسان إن صحّ التعبير الصمود الداخلي، متماسك، فقير ليس مشكلة، ضعيف ليس مشكلة، قد تكون ضعيفاً لا تستطيع أن تفعل شيئاً لكنك مطيع لله عز وجل وأنت في نظر الله كبير، وأنت عند الله لك مقام كبير، أما يمكن أن تكون في أعلى مقام عند الناس ولكن عند الله صغار.
﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾
[ سورة الكهف: 105 ]
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾
[ سورة غافر: 10 ]
الله يمقتهم، لو سألتموني ما هو أعلى شعور إنساني يسعد الإنسان؟ أن يشعر أنه في طاعة الله، أو في رضوان الله، أو في عين الله، هذا الشعور لا يقدر بثمن، خالق الكون يقول لك: إنك بأعيننا.
المقام الذي ينبغي أن يسعى إليه كل مؤمن أن تكون العلاقة بينه وبين الله عامرة :
يروى أن سيدنا جبريل جاء النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: "قل لصاحبك أن الله راض عن أبي بكر فهل هو راض عن الله؟"، الله عز وجل كما أنك تخطب وده فهو يخطب ودك، كما أنك تشكره يشكرك، كما أنك وفي له فهو وفي لك، هناك مودة أعلى، في المجتمع البشري من يكون على صلة متينة جداً بالملك هذه أعلى ميزة ينالها إنسان في مجتمع، أما أن تكون لك علاقة طيبة، أن تكون العلاقة بينك وبين الله عامرة فشيء لا يقدر بثمن، هذا هو المقام الذي ينبغي أن يسعى إليه كل مؤمن.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا ﴾
[ سورة مريم: 96 ]
هذا الود، لما أنا يواددني إنسان، يبتسم في وجهي، يصافحني بحرارة، يزورني، وأحياناً يكرمني، يدعوني إلى تناول طعام، هذا إذا أردت أن تخطب ود إنسان تفعل ذلك، أما إذا أراد الله أن يودك ماذا يفعل؟ تيسير الأمور من مودة الله عز وجل، أن يملأ قلبك غنى من مودة الله،أن يلهمك الصواب من مودة الله، أن يؤتيك الحكمة من مودة الله، أن يسعدك في بيتك من مودة الله عز وجل، أن يكثر الذين يحبونك من مودة الله.
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
[ سورة الأحزاب: 72 ]
من معاني أوفوا العقود :
1 ـ العبادات التي ألزمنا الله بها يجب أن نؤديها وفي أدائها توفية للعقود :
لذلك المعنى الأول للعقود أدوا الفرائض، وأدوا الواجبات، وأدوا المندوبات، والتزموا بأدائها.
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾
[ سورة النساء: 103 ]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
[ سورة البقرة : 183]
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾
[ سورة البقرة : 196]
﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ*لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾
[ سورة المعارج: 24-25]
العبادات التي ألزمنا الله بها يجب أن نؤديها، وفي أدائها توفية لهذه العقود، هذا أول معنى.
2 ـ العقود التي تقع بينك وبين الآخرين عليك ألا تنقضها :
المعنى الثاني: العقود التي تقع بينك وبين الآخرين، أنت وقعت عقداً لا تنكل بهذا العقد، ألزمت نفسك بشيء لا تقصر، عاهدت الآخرين على أن تفعل كذا وكذا لا تنقض عهدك مع الآخرين، المسلمون على شروطهم.
حدثني أخ كريم عنده بيت بمساكن دمر، عرضه للبيع، جاءه بعض الأشخاص، جاءه شاب ساومه على البيت فاتفقا على أن يبيعه إياه بمئتين وتسعين ألفاً، قال له: لنكتب العقد؟ قال: ليس هناك حاجة ائت بالمبلغ وسأسطر لك التنازل، في اليوم التالي جاء من يدفع في هذا البيت ثلاثمئة وخمساً وعشرين ألفاً، بلغ الشاري الأول هذا العرض الجديد، يوم السبت حسب الموعد جاء ومعه المبلغ دخل عليه قال له: المبلغ جاهز؟ قال: جاهز، كتب له عقد تنازل ووقعه فدهش، معقول إنسان يدفع له زيادة ولا يتحرك حركة وينفذ العقد الأقل، بعدما وقع العقد وصار التنازل قال له: هل صحيح أن هناك من دفع مبلغاً أكبر؟ قال: نعم، ولكن لا أبيع ديني بخمسة وثلاثين ألفاً، بعد فترة رتبوا على مالك البيت سبعة وعشرين ألفاً زيادة فالشاري ماذا فعل؟ دفع المبلغ ولم يخبر صاحب البيت وهو على صاحب البيت، هذه علاقة إيمانية، لو كانت علاقتنا فيما بيننا إيمانية لكان حالنا غير هذا الحال، دعاوى القضاء لا تعد ولا تحصى، العلاقات بين الناس ساءت، أما لو أن هناك علاقات إيجابية ووفاء بالعقد، يقال: الآن يوجد أزمة سكن، هذا خلط بل أزمة إسكان، مئات بل مئات الألوف من البيوت المغلقة التي لا تؤجر، السبب: المستأجر لو أعطاك وعداً أن يخرج لا يخرج، تَمَلّك البيت، الناس فقدوا المصداقية، الإنسان حينما يفقد المصداقية انتهى.
حدثني رجل قال: طالبان على مقعد الدراسة بعد حين طويل صار الأول من تجار البناء المشهورين، والثاني بقي في عمل متواضع، عنده بقالية متواضعة، فلما أراد الثاني الزواج ليس هناك بيت، ذهب إلى صديقه تاجر البناء قال له: أنا عندي بيوت للبيع لا للإيجار، فقال له: عهد الله لأن أجرتني بيتاً من بيوتك وجاء من يشتريها أخليها لك في يومين، هذا الصديق رقّ قلبه للصديق الثاني وأجره قبواً في أبي رمانة، سكن فيه أربع أو خمس سنوات ليس هناك بيع، جاء فجأة من يشتري هذا البيت والأسعار تضاعفت، فجاء صاحب البيت إلى صديقه المستأجر وطرق بابه وقال له: أنت عاهدتني أن تخرج من البيت في يومين حينما يجيء من يشتري هذا البيت، والآن جاء من يشتريه، معك ستة أشهر، قال له: أنا على عهدي، بعد يومين طرق باب صاحب البيت صديقه قال: هذه المفاتيح جزاك الله خيراً، الصديق صعق هناك أزمة سكن مستحكمة، الآن هناك شيء اسمه عقد سياحي، أي هناك أمل أن تأخذ بيتاً لستة أشهر، و لكن في ذلك الوقت لم يكن هذا الشيء، هذا ما صدق لعله يمزح، فركب مركبته واتجه إلى البيت، فتح البيت لا شيء فيه، ومنظف، كل شيء كامل جاهز للسكن، لما أغلق الباب وذهب فتح باب الجيران بربك كم أخذ المستأجر منك فروغاً؟ قال: لم يأخذ مني شيئاً هو عاهدني أن يعطيني البيت وأعطاني إياه وما أخذ مني شيئاً، قالوا: والله باع كل أثاث بيته بثمن بخس، والآن هناك فندق في الشام رخيص، فهذا الصديق سأل عن الفندق وذهب إليه، قال له: والله لترجع إلى البيت ولأبيعك إياه بسعر يوم سكنته، وكل ما دفع من أجرة من ثمن البيت وأثاث البيت عليّ، والله هكذا شخص يلغي قانون الإيجار كله.
قال لي أخ: أعرنا إنساناً بيتاً ليدهن بيته لمدة أسبوع، هذه السنة الخامسة عشرة وهم في المحاكم، المسلمون عند شروطهم، أحياناً يقول لي أخ يكبر في عيني: أنا مستعد أن أسكن في خيمة وألا أنقض عهدي مع صاحب البيت، أخ كان من إخواننا في مرتبة عالية جداً ساكن جانب جامع النابلسي انتهت خدمته وهو موظف في الجيش، طرق على صاحب البيت وقال: هذا المفتاح جزاك الله عني خيراً، صعق الرجل ولم يصدق.
أنا أقول لكم: من سابع المستحيلات أن إنساناً يوفي عهد الله في علاقته مع الآخرين وأن يبقى في الدرجة البعيدة إلا في المقدمة، وما من إنسان خرج من بيته وفاءً لعهد الله إلا وأسكنه الله أفضل البيوت، هناك أخ آخر قال لي: أنا ساكن في بيت، هذا الكلام في الأزمات المستحكمة لا يمكن أن تجد بيتاً للسكن ولا في سنة، ساكن في بيت صاحبة البيت قالت له: إن أردت البيت يجب أن تخرج منه؟ قال لها: أنا حاضر، ففي وقت عصيب جداً قالت له: أريد البيت، ووقع عقد تنازل لأربعة أشهر وأصبح بلا بيت، بعد حين دعانا إلى بيت اشتراه أفضل من البيت الأول بمئات المرات، وتوفيق الله عز وجل لا يصدق، وانتقل إلى بيت أكبر وأجمل دعيت إليه، سألته عن قصته فقال: والله صاحبة البيت لها بنت عانس جاءها خاطب فليس عنده بيت قالت لأمها: يا أمي قولي لفلان أن يعطينا البيت لعلي أتزوج به، فاستجاب المستأجر وخرج، ذهبت هذه الفتاة للعمرة طوال الطريق تدعو لهذا المستأجر أن يهبه الله بيتاً خيراً من البيت المستأجر، وهذا الذي حصل، أنت تتعامل مع الله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
من كان مع الله فلن يضيعه :
المسلمون عند شروطهم، لا تخف لن تضيع، الله لن يضيعك، لا تعتمد على مادة في القانون، في القبر ليس هناك قانون بل شرع، لا تستند على مادة تقول: أنا محام، الحامي هو الله، أعرف رجلاً اغتصب بيتاً و عنده بيت أصغر من بيته، بطريقة معقدة جداً وكّل محامياً ووصل إلى حكم لصالحه بطريق غير مشروع، عندئذ اضطرت صاحبة البيت المسكينة أن تبيعه البيت بثلث ثمنه، وقع عقداً، ثلاثون يوماً كان تحت أطباق الثرى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
والله أيها الأخوة لو هذه الآية وحدها طبقها المسلمون لكانت حياتهم غير هذه الحياة، يقول: كل الطرق مسدودة، لا يوجد زواج لأنه لا يوجد بيوت، البيوت موجودة لكن ليس هناك وفاء بالعقود، ولكن إذا وجد الوفاء بالعقود تحل مشكلات كل الشباب.
من نقض عهده فليس بمؤمن :
أنا اخترت هذه الآية: لو أوفينا بالعقود لكنا في حال غير هذا الحال، كلما ضاقت سبل الزواج اتسعت سبل الزنى، يقال: أغلقوا عشرين بيت دعارة بالحي الفلاني في يوم واحد، طرق الزواج كلها مغلقة لأنها تحتاج إلى بيوت، إذاً طرق الدعارة أصبحت مفتوحة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ))
[سنن ابن ماجة ]
اسمعوا الحديث:
((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ))
[أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
لا يوجد دين لا يوجد عهد، صلِّ ما شئت وصم وتمسح بمظاهر الدين ما شئت لست مؤمناً لا ورب الكعبة إذا نقضت عهدك مع من عاهدت.
إذاً العقود التي بينك وبين الله، والعقود التي بينك وبين الناس ينبغي أن تؤديها لتكون مؤمناً وإلا فلست بمؤمن.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
توفية حق الله عز وجل بالتمام و الكمال شيء من المستحيلات :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثاني والعشرين من دروس: "آيات الأحكام"، وآية اليوم من سورة المائدة وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
أوفى ووفّى، الأولى رباعية والثانية رباعية، إلا أن الأولى مخففة والثانية مشددة، والتي هي مشددة أبلغ من المخففة، ومن أوفى بعهده من الله، وإبراهيم الذي وفّى، وقد وردت هذه الكلمات في القرآن الكريم، المشددة فيها معنى المبالغة، قال تعالى:
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ﴾
[ سورة الأعراف: 102 ]
المقصرون كم مرة عاهدوا الله عز وجل ثم نقضوا عهدهم؟ الحجاج في بيت الله الحرام كلهم عند الحجر الأسود يقولون: عهداً لله على طاعته، إذا عادوا إلى بلادهم غيروا وبدلوا، وكأن عهداً لم يكن بينهم وبين الله، لذلك حينما تقرأ هذه الآية:
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾
[ سورة النجم: 37 ]
تشعر أن هذه النبي كان وفياً لعهد الله، وفّى ما عليه، طبعاً وفّى مجازاً، أما أن توفي حق الله تعالى بالكمال والتمام فهذا من المستحيلات، لكن توفيه نسبياً، من الذين وفوا نسبياً سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
الثبات على المبدأ خلق رفيع :
بالمناسبة أنت حينما تعاهد خالق الكون على الطاعة ينبغي أن يكون هذا العهد في السراء والضراء، في المنشط والمكره، في ضيق الدنيا وفي بحبوحتها، في المرض والصحة، في الغنى والفقر، قبل الزواج وبعد الزواج، هذا هو العهد، لا تعاهد إنساناً بل تعاهد خالق الأكوان، لذلك ربنا عز وجل قال:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
[سورة الأحزاب: 23]
أجمل ما في المؤمن ثباته على المبدأ، والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه، من الخلق الرفيع الثبات على المبدأ، ثابت لا يغير، ولا يبدل، ولا يعدل، ولا يتكاسل، ولا يتوانى.
الحركة تغير معنى الكلمة رأساً على عقب المبالغة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
العقود جمع مفرده عقد، أما العقد فشيء آخر، دقة اللغة، عَقد وعِقد، مَنصِب ومنصَب، مسافة كبيرة جداً، بَر وبِر وبُر، البَر اليابسة، والبُر القمح، والبِر الإحسان، خَلْق خَلِق خُلق، الخُلق الأخلاق، والخَلِق البالي، والخَلْق البنية، كان عليه الصلاة و السلام تام الخَلْق والخُلق، قَدَمَ قَدُمَ قَدِمَ، كل شيء له معنى حركة تغير المعنى رأساً على عقب، العقود جمع عقد، العِقْد الحلي الذي تلبسه المرأة، العَقْد في الأصل الربط، واللغة انطلقت من المعاني المادية إلى المعاني المجازية، فالعَقد في الأساس الربط ومنها العقدة، والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تسأل النبي عليه الصلاة والسلام كيف حبك لي؟ يقول لها: كعقدة الحبل، عقدة لا تنفك تسأله من حين إلى آخر كيف العقدة؟ يقول على حالها.
عقدت البيع لفلان، ربطت هذا الوديع بالعقد الأكيد لفلان، عقد بيع ربط المبيع بالذي اشترى، واليمين التي تنعقد للمستقبل تسمى عقداً لأن الحالف ربط نفسه بالمحلوف في المستقبل، قال: والله لأفعلنّ كذا وكذا، قيد نفسه بعمل يفعله في المستقبل، فهذه اليمين تسمى عقداً لأنها ارتباط.
تفسير قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ :
ما معنى قوله تعالى؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
المعنى الأول: أوفوا بالعقود التي بينكم وبين الله، أنت عبد وقد عاهدت الله في عالم الأزل على أن تأتي إلى الدنيا وأن تعبده، فعبادة الله عقد بينك وبينه، لهذا يقول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
من مقتضيات إيمانكم أن توفوا بالعقود التي بينكم وبين ربكم، أي واحد منا لأنه إنسان مسلم مؤمن مرتبط بعقد مع الله، أن يطيعه، وأن يعبده، وأن يتعرف إليه، وأن يزكي نفسه، وأن يجعلها صالحة لعطائه يوم القيامة، فإذا قال الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
أي أوفوا بالعقود التي بينكم وبين الله، وكل إنسان عاهد الله عز وجل حينما عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، هناك عقد -سبحان الله- الإنسان حينما يوفي ما عليه لله عز وجل يشعر براحة، يشعر بقيمته الإنسانية، يشعر أنه في عين الله كبير، ولأن تسقط من السماء إلى الأرض أهون من أن تسقط من عين الله، وقد تخرق العهد الذي بينك وبين الله ولا يطلع أحد على ذلك إلا الله، العبرة أنت، العبرة أن تكون عظيماً أمام نفسك لا أن تكون حقيراً أمام نفسك، عبر عنه علماء النفس بالانهيار الداخلي، الإنسان قد يكون ذكياً، وقد يكون طليق اللسان، وقد يكون عنده قوة إقناع كبيرة، وقد يخرق الستر بينه وبين الله، قد يخون أمانة الله، قد يخون عهد الله ولا أحد يطلع، إلا أن إطلاعه على ذاته بحدّ ذاته يسقطه من عين ذاته، والإنسان حينما يكون منهاراً داخلياً لا يستطيع أن يكون ناجحاً في العلاقات الخارجية، أي أهم شيء في حياة الإنسان إن صحّ التعبير الصمود الداخلي، متماسك، فقير ليس مشكلة، ضعيف ليس مشكلة، قد تكون ضعيفاً لا تستطيع أن تفعل شيئاً لكنك مطيع لله عز وجل وأنت في نظر الله كبير، وأنت عند الله لك مقام كبير، أما يمكن أن تكون في أعلى مقام عند الناس ولكن عند الله صغار.
﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾
[ سورة الكهف: 105 ]
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾
[ سورة غافر: 10 ]
الله يمقتهم، لو سألتموني ما هو أعلى شعور إنساني يسعد الإنسان؟ أن يشعر أنه في طاعة الله، أو في رضوان الله، أو في عين الله، هذا الشعور لا يقدر بثمن، خالق الكون يقول لك: إنك بأعيننا.
المقام الذي ينبغي أن يسعى إليه كل مؤمن أن تكون العلاقة بينه وبين الله عامرة :
يروى أن سيدنا جبريل جاء النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: "قل لصاحبك أن الله راض عن أبي بكر فهل هو راض عن الله؟"، الله عز وجل كما أنك تخطب وده فهو يخطب ودك، كما أنك تشكره يشكرك، كما أنك وفي له فهو وفي لك، هناك مودة أعلى، في المجتمع البشري من يكون على صلة متينة جداً بالملك هذه أعلى ميزة ينالها إنسان في مجتمع، أما أن تكون لك علاقة طيبة، أن تكون العلاقة بينك وبين الله عامرة فشيء لا يقدر بثمن، هذا هو المقام الذي ينبغي أن يسعى إليه كل مؤمن.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا ﴾
[ سورة مريم: 96 ]
هذا الود، لما أنا يواددني إنسان، يبتسم في وجهي، يصافحني بحرارة، يزورني، وأحياناً يكرمني، يدعوني إلى تناول طعام، هذا إذا أردت أن تخطب ود إنسان تفعل ذلك، أما إذا أراد الله أن يودك ماذا يفعل؟ تيسير الأمور من مودة الله عز وجل، أن يملأ قلبك غنى من مودة الله،أن يلهمك الصواب من مودة الله، أن يؤتيك الحكمة من مودة الله، أن يسعدك في بيتك من مودة الله عز وجل، أن يكثر الذين يحبونك من مودة الله.
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
[ سورة الأحزاب: 72 ]
من معاني أوفوا العقود :
1 ـ العبادات التي ألزمنا الله بها يجب أن نؤديها وفي أدائها توفية للعقود :
لذلك المعنى الأول للعقود أدوا الفرائض، وأدوا الواجبات، وأدوا المندوبات، والتزموا بأدائها.
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾
[ سورة النساء: 103 ]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
[ سورة البقرة : 183]
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾
[ سورة البقرة : 196]
﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ*لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾
[ سورة المعارج: 24-25]
العبادات التي ألزمنا الله بها يجب أن نؤديها، وفي أدائها توفية لهذه العقود، هذا أول معنى.
2 ـ العقود التي تقع بينك وبين الآخرين عليك ألا تنقضها :
المعنى الثاني: العقود التي تقع بينك وبين الآخرين، أنت وقعت عقداً لا تنكل بهذا العقد، ألزمت نفسك بشيء لا تقصر، عاهدت الآخرين على أن تفعل كذا وكذا لا تنقض عهدك مع الآخرين، المسلمون على شروطهم.
حدثني أخ كريم عنده بيت بمساكن دمر، عرضه للبيع، جاءه بعض الأشخاص، جاءه شاب ساومه على البيت فاتفقا على أن يبيعه إياه بمئتين وتسعين ألفاً، قال له: لنكتب العقد؟ قال: ليس هناك حاجة ائت بالمبلغ وسأسطر لك التنازل، في اليوم التالي جاء من يدفع في هذا البيت ثلاثمئة وخمساً وعشرين ألفاً، بلغ الشاري الأول هذا العرض الجديد، يوم السبت حسب الموعد جاء ومعه المبلغ دخل عليه قال له: المبلغ جاهز؟ قال: جاهز، كتب له عقد تنازل ووقعه فدهش، معقول إنسان يدفع له زيادة ولا يتحرك حركة وينفذ العقد الأقل، بعدما وقع العقد وصار التنازل قال له: هل صحيح أن هناك من دفع مبلغاً أكبر؟ قال: نعم، ولكن لا أبيع ديني بخمسة وثلاثين ألفاً، بعد فترة رتبوا على مالك البيت سبعة وعشرين ألفاً زيادة فالشاري ماذا فعل؟ دفع المبلغ ولم يخبر صاحب البيت وهو على صاحب البيت، هذه علاقة إيمانية، لو كانت علاقتنا فيما بيننا إيمانية لكان حالنا غير هذا الحال، دعاوى القضاء لا تعد ولا تحصى، العلاقات بين الناس ساءت، أما لو أن هناك علاقات إيجابية ووفاء بالعقد، يقال: الآن يوجد أزمة سكن، هذا خلط بل أزمة إسكان، مئات بل مئات الألوف من البيوت المغلقة التي لا تؤجر، السبب: المستأجر لو أعطاك وعداً أن يخرج لا يخرج، تَمَلّك البيت، الناس فقدوا المصداقية، الإنسان حينما يفقد المصداقية انتهى.
حدثني رجل قال: طالبان على مقعد الدراسة بعد حين طويل صار الأول من تجار البناء المشهورين، والثاني بقي في عمل متواضع، عنده بقالية متواضعة، فلما أراد الثاني الزواج ليس هناك بيت، ذهب إلى صديقه تاجر البناء قال له: أنا عندي بيوت للبيع لا للإيجار، فقال له: عهد الله لأن أجرتني بيتاً من بيوتك وجاء من يشتريها أخليها لك في يومين، هذا الصديق رقّ قلبه للصديق الثاني وأجره قبواً في أبي رمانة، سكن فيه أربع أو خمس سنوات ليس هناك بيع، جاء فجأة من يشتري هذا البيت والأسعار تضاعفت، فجاء صاحب البيت إلى صديقه المستأجر وطرق بابه وقال له: أنت عاهدتني أن تخرج من البيت في يومين حينما يجيء من يشتري هذا البيت، والآن جاء من يشتريه، معك ستة أشهر، قال له: أنا على عهدي، بعد يومين طرق باب صاحب البيت صديقه قال: هذه المفاتيح جزاك الله خيراً، الصديق صعق هناك أزمة سكن مستحكمة، الآن هناك شيء اسمه عقد سياحي، أي هناك أمل أن تأخذ بيتاً لستة أشهر، و لكن في ذلك الوقت لم يكن هذا الشيء، هذا ما صدق لعله يمزح، فركب مركبته واتجه إلى البيت، فتح البيت لا شيء فيه، ومنظف، كل شيء كامل جاهز للسكن، لما أغلق الباب وذهب فتح باب الجيران بربك كم أخذ المستأجر منك فروغاً؟ قال: لم يأخذ مني شيئاً هو عاهدني أن يعطيني البيت وأعطاني إياه وما أخذ مني شيئاً، قالوا: والله باع كل أثاث بيته بثمن بخس، والآن هناك فندق في الشام رخيص، فهذا الصديق سأل عن الفندق وذهب إليه، قال له: والله لترجع إلى البيت ولأبيعك إياه بسعر يوم سكنته، وكل ما دفع من أجرة من ثمن البيت وأثاث البيت عليّ، والله هكذا شخص يلغي قانون الإيجار كله.
قال لي أخ: أعرنا إنساناً بيتاً ليدهن بيته لمدة أسبوع، هذه السنة الخامسة عشرة وهم في المحاكم، المسلمون عند شروطهم، أحياناً يقول لي أخ يكبر في عيني: أنا مستعد أن أسكن في خيمة وألا أنقض عهدي مع صاحب البيت، أخ كان من إخواننا في مرتبة عالية جداً ساكن جانب جامع النابلسي انتهت خدمته وهو موظف في الجيش، طرق على صاحب البيت وقال: هذا المفتاح جزاك الله عني خيراً، صعق الرجل ولم يصدق.
أنا أقول لكم: من سابع المستحيلات أن إنساناً يوفي عهد الله في علاقته مع الآخرين وأن يبقى في الدرجة البعيدة إلا في المقدمة، وما من إنسان خرج من بيته وفاءً لعهد الله إلا وأسكنه الله أفضل البيوت، هناك أخ آخر قال لي: أنا ساكن في بيت، هذا الكلام في الأزمات المستحكمة لا يمكن أن تجد بيتاً للسكن ولا في سنة، ساكن في بيت صاحبة البيت قالت له: إن أردت البيت يجب أن تخرج منه؟ قال لها: أنا حاضر، ففي وقت عصيب جداً قالت له: أريد البيت، ووقع عقد تنازل لأربعة أشهر وأصبح بلا بيت، بعد حين دعانا إلى بيت اشتراه أفضل من البيت الأول بمئات المرات، وتوفيق الله عز وجل لا يصدق، وانتقل إلى بيت أكبر وأجمل دعيت إليه، سألته عن قصته فقال: والله صاحبة البيت لها بنت عانس جاءها خاطب فليس عنده بيت قالت لأمها: يا أمي قولي لفلان أن يعطينا البيت لعلي أتزوج به، فاستجاب المستأجر وخرج، ذهبت هذه الفتاة للعمرة طوال الطريق تدعو لهذا المستأجر أن يهبه الله بيتاً خيراً من البيت المستأجر، وهذا الذي حصل، أنت تتعامل مع الله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
من كان مع الله فلن يضيعه :
المسلمون عند شروطهم، لا تخف لن تضيع، الله لن يضيعك، لا تعتمد على مادة في القانون، في القبر ليس هناك قانون بل شرع، لا تستند على مادة تقول: أنا محام، الحامي هو الله، أعرف رجلاً اغتصب بيتاً و عنده بيت أصغر من بيته، بطريقة معقدة جداً وكّل محامياً ووصل إلى حكم لصالحه بطريق غير مشروع، عندئذ اضطرت صاحبة البيت المسكينة أن تبيعه البيت بثلث ثمنه، وقع عقداً، ثلاثون يوماً كان تحت أطباق الثرى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾
[ سورة المائدة: 1 ]
والله أيها الأخوة لو هذه الآية وحدها طبقها المسلمون لكانت حياتهم غير هذه الحياة، يقول: كل الطرق مسدودة، لا يوجد زواج لأنه لا يوجد بيوت، البيوت موجودة لكن ليس هناك وفاء بالعقود، ولكن إذا وجد الوفاء بالعقود تحل مشكلات كل الشباب.
من نقض عهده فليس بمؤمن :
أنا اخترت هذه الآية: لو أوفينا بالعقود لكنا في حال غير هذا الحال، كلما ضاقت سبل الزواج اتسعت سبل الزنى، يقال: أغلقوا عشرين بيت دعارة بالحي الفلاني في يوم واحد، طرق الزواج كلها مغلقة لأنها تحتاج إلى بيوت، إذاً طرق الدعارة أصبحت مفتوحة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ))
[سنن ابن ماجة ]
اسمعوا الحديث:
((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ))
[أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
لا يوجد دين لا يوجد عهد، صلِّ ما شئت وصم وتمسح بمظاهر الدين ما شئت لست مؤمناً لا ورب الكعبة إذا نقضت عهدك مع من عاهدت.
إذاً العقود التي بينك وبين الله، والعقود التي بينك وبين الناس ينبغي أن تؤديها لتكون مؤمناً وإلا فلست بمؤمن.