السحر والحسد في القرآن الكريم :
أيها الأخوة المؤمنون، مِن أكثر الأسئلة التي ترد لمن يعمل في حقل الدعوة قضايا السحر، وقضايا الجن، وهناك آلاف القصص حولها، ذلك أنّ فلاناً دخل فيه جني، والشيخ الفلاني وعَدَنا أن يخرجه، وقضية أخرى أنّ فلاناً مسحور، وفلاناً محسود، وعين الحاسد تبلى بالعمى، وما إلى ذلك، قصص لا تعد ولا تحصى حول موضوع الحسد وموضوع السحر.
الشيء الثابت أن الحسد ورد في القرآن الكريم، قال تعالى:
﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾
[ سورة الفلق: 5 ]
والشيء الثابت أنّ السحر ورد في القرآن الكريم، نحن بين أيدينا تعليمات الصانع، كلُّ ما في القرآن حقٌّ، لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلفه، ولكن الإشكال: يا ترى هؤلاء السحرة هل أعطاهم الله قدرةً أن يضروا مَن يسحروه؟ إن أعطاهم قدرة ينشأ إشكال ثانٍ، أنا علاقتي مع مَن إذاً؟ يجب أن أتقي غضب هذا الساحر، وكذلك الجن، وكذلك الحاسد، فهل هناك حاسد، وجني، وساحر؟
كيف أجمع بين أن السحر والحسد ورد في القرآن الكريم، وهو ثابت قطعاً، وبين أن الإنسان حر، ومحاسب عن أعماله الاختيارية، وأن الله بيده كل شيء؟ هنا الموضوع دقيق، ويحتاج إلى أمثلة كثيرة، فمثلاً سمَح الله عز وجل لقومِ إبراهيمَ أن يلقوا القبض عليه، فلو أنهم لم يلقوا القبض عليه لقالوا: لو وقع في أيدينا لنكلتْ به آلهتنا، سمح لهم أن يلقوا القبض عليه، وسمح لهم أن يضرموا ناراً عظيمة ليحرقوه، وكان من الممكن أن يختفي، ويمكنهم أن يقبضوا عليه، وهو نبي عظيم، وهو أبو الأنبياء، وكان من الممكن لهذه النار المشتعلة أنْ تأتيها أمطار غزيرة فتطفئُها، ولقال عبّاد الأحجار والأوثان عندئذٍ: لولا هذه المطر لنكلتْ به آلهتُنا، في النهاية لا يقع إلا ما يريده الله قال تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 69 ]
الله جل جلاله بيده أن يعطي الأسباب فاعليتها أو لا يعطي :
كيف يكون الإنسان مخيراً، والفعل بيد الله عز وجل؟ لو أن مجرماً أراد قتل إنسان، فإنه يشتري المسدس، ويمكنه من شراء المسدس، ويمكنه من التدرب عليه، ويمكنه أن يجتمع بعدوه في مكان خالٍ، أيْ يسَّر كل الأسباب، ولكن ليس باختياره أن يقتل أو لا يقتل، قد تطيش الرصاصة فينجو المقتول، قد يسمع صوتاً مخيفاً فيقع المسدس من يده، قد ينحني فجأةً فينجو من هذه الرصاصة، الله عز وجل يمكِّن وينسق والفعل فعله، لو وُجِد سحرة وحاسدون، لو وُجِدَ أعداء، لو وجِدَ جن، فهذه مخلوقات مخيرة يمكنها الله عز وجل مِن الأخذ بالأسباب، ولكن هذه الأسباب لا تفعل فعلها إلا إذا أراد مسبب الأسباب.
يمكِّن الله عز وجل هذه المخلوقات مِن أنْ تأخذ بالأسباب، لكن الله جل جلاله بيده أن يعطي هذه الأسباب فاعليتها أوْ لا يعطي، لذلك هناك دعاء رائع في موضوع السحر: اللهم إنك قد أقدرت بعض خلقك على السحر والشر، ولكنك احتفظت لذاتك بإذن الضر، فأعوذ بما احتفظت به ممّا أقدرت عليه بحق قولك:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾
[ سورة البقرة: 102 ]
هذه الآية اعتبرْها دستوراً، لا تستطيع جهة على وجه الأرض: ساحر، جني، حاسد، عدو، أن يصل إليك إلا إذا سمح الله، يمَكِّنه من كل الأسباب، أما أن يكون بيده أن تفعل هذه الأسباب فعْلَها فلا، لأنّ هذا بيد الله وحده، هناك سحر، وجن، وحساد، وأشرار، وقد مُكِّنوا من الأسباب، أما أن تفعل هذه الأسباب فِعْلَها فهذا لا يكون إلا بإذن رب العالمين.
أيها الأخوة، قصص لا تعدُّ ولا تحصى، فمثلاً نافذة في طائرة كسرت فجأةً، وكانت تركب إلى جانبها امرأةٌ ذاهبة من الرياض إلى الباكستان، فدخلت الريحُ مِن هذه النافذة فسحبتْ ولديها، ووقعا فوق بحر الخليج من ارتفاع أربعين ألف قدم، واليقين القطعي أن هذين الطفلين ماتا، وفي الباكستان أعلمت هذه الأم أهلها بموت ولديها، وبعد أسبوعين جاءت رسالة تدعو الأم إلى أن تأتي إلى الخليج على حساب الشركة فإذا بولديها أمامها.
مِن الممكن للإنسانٍ أنْ يملك الأسباب كلها بإذن الله تعالى لكن يبقى الفعلُ فعْلَه :
مِن الممكن للإنسانٍ أنْ يملك الأسباب كلها بإذن الله عز وجل، لكن يبقى الفعلُ فعْلَه، أسباب الموت قائمةً مئة بالمئة، وسقط هذان الطفلان الصغيران أمام صياد، فغاص في الماء، وأنقذهما، وأوصلهما إلى مستشفى.
وإنسان آخر يقع من طائرة فوق جبال الألب، على ارتفاع أربعين ألف قدم، تنشطر الطائرة إلى جنب مقعده، والموت محقق فتهوي على غابة من الصنوبر في جبال الألب، سماكة الثلج خمسة أمتار والأغصان مرنة نزل واقفاً سليماً، يمكن أن تأخذ بكل الأسباب، أما أن تفعل هذه الأسباب فعْلَها فهذا بيد الله وحده، اجعل هذه الآية منهجاً، قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102 ]
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
[ سورة إبراهيم: 22 ]
كن مع الله ولا تبالِ :
قد تغرق عَبَّارةٌ في البحر الأحمر، وعليها ثمانمئة راكب، فينجو مَن ينجو بقدر الله، ويموت مَن يموت بقدر الله، وقد يقع بناء فينجو مَن ينجو، ويموت من يموت، قد يأتي عمود فوق إنسان مِن البناء الذي انهار فيحميه من تهشم جمجمته، ويسمح له بالهواء، فيقال: بقي ستاً وثلاثين ساعة تحت الأنقاض، ثم أنقذ، بينما إنسان يموت لأتفه سبب، مرة في الحرب الأخيرة مع الصهاينة، حرب تشرين، جرى قصف، فأحد البيوت سقطتْ عليه قذائف كثيرة فأصبح البيت أربع بلاطات، كل بلاطة عشرين سم، البناء كله سماكته أقل من متر، أحد أصحاب البيوت يعمل تاجراً، فلما علم أن البناء تهدم جاء فوقع مغمى عليه، وفي هذا البيت زوجة وخمسة أولاد، أُخِذ إلى بيت أهل زوجته، فإذا زوجته وأولاده الخمسة موجودون هناك، فما هي القصة؟ جاء أخو الزوجة مِن سفرٍ، وأخبرها أني وصلت بإجازة بعد ساعات فتعالي إلي، وتعلق بها أبناؤها بأنه لا بد أن نذهب معكِ، فقبْل انهيار البناء خرجت من البيت، بينما إنسان آخر جاء إلى البيت ليلقى حتفه، قضية الموت والحياة، قضية السحر، قضية الجن، الأشرار كثيرون، وما أشدّ ضررهم، ولكن واللهِ أيها الأخوة لا يستطيعون أن يخدشوا خدشاً إلا بإذن الله، فاطمئن، وكن مع الله، ولا تبالِ.
كن مع الله ترَ الله معك واترك الكل وحاذر طمعك
* * *
هذه أول حقيقة، قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102 ]
الله موجود والنفع والضر بيده وحده سبحانه :
الأمثلة لا تعد ولا تحصى، قد تنجو والموت كان محقَّقاً، وقد يموت الإنسان لأتفه سبب، رجل غني كبير، ذكي، ومتمكن جداً، في أوج نجاحه، وتألقه، وصحته، خطر في باله أن يجدد قاطعاً كهربائيّاً في الحمام، فجاء بمَن يجدِّد له هذا القاطع الكهربائي، فقال له: لو نرفعه إلى أعلى يا سيدي، وهو رجل من علية القوم بالمقياس المادي، وليس بالمقياس الديني، وفي اليوم التالي أراد أن يستعمله فلم يصل إليه، فأحضر كرسياً، وصعد عليه، فوقع، فدخل الكرسي في مقعدتِه، وبقي ثمانية عشر يوماً في المستشفى، حتى انتهى به المرض إلى الموت، لأتفه سبب، وقد تنجو بمعجزة.
فهناك سحر، وجن، وحساد، وأشرار، لكنّ الله موجود، والله بيده كل شيء، الضر بيده، النفع بيده، قد يمكِّن عدوه مِن الأخذِ بكل الأسباب.
في الهجرة أحاطوا بمنزل رسول الله، ولو خرج قبل أن يحيطوا به لقالوا: نجا قبْل محاصرته، ولو أمسكناه لكانت القاضية، ولكن الله مكَّنهم أن يحيطوا به، ومكنهم أن يحملوا السيوف، وائتمروا على قتله، فلما أراد الله له الهجرة ما رأوه حين خرج إطلاقاً، وقال: شاهت الوجوه. الأمر بيد الله، قال له أبو بكر في الغار: لقد رأونا، قال له: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، ثم قال له: لقد رأونا، قال له: ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ﴾
[ سورة الأعراف: 198 ]
أحياناً تقف أمام إنسان بإمكانه أن يؤذيك، فتراه يتساهل معك، ورحب بك، سهّل لك أمورك بشكل عجيب، وإنسان آخر يبحث لك عن مشكلة تافهة، يجعلها أكبر عقبة أمامك، مشكلة لا تحل في سنتين، ينقصها توقيع أو رقم، ويتعلَّل بأتفه التعليلات، وأكبر مشكلة تحل بأتفه سبب، ليس ثمة قاعدة، فقد مكّن اللهُ عباده من الأسباب، أما أن تفعل هذه الأسبابُ فعْلَها فلا، لأنّ فعْلَها بيد الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102]
المحسود إذا كان موصولاً بالله فلا يستطيع الحسد أن يؤثر فيه إطلاقاً :
أيها الأخوة، مع موضوع دقيق، الحسد خلاصتُه أنّ إنساناً يتمنى زوال النعمة عن أخيه دون أن تتحوّل إليه، لو أنه أراد أن تتحول عن أخيه إليه لكان هذا موضوعاً آخرَ، نقول: إنه تنافس، أما الحاسد فلا يتمنى إلا أن تزول النعمة عن المحسود، دون أن يستفيد شيئاً، الحاسد إنسان شرير، لذلك كثرة الظهور تقصم الظهور، لا تظهر كثيراً، كن بشكل طبيعي، قال تعالى:
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
[سورة القصص:79]
كل إنسان يفتخر بمتاع الحياة الدنيا حوله حساد كثيرون، يا ترى هذا الحاسد قد يملك أسباب إيذاء المحسود، فالسرُّ مجهول، والحدث موجود، هناك شيء يقرب الموضوع تقريباً لطيفاً، أخيراً توصَّل العلماء إلى إجراء عمليات معقدة جداً بأشعة الليزر دون مشرط، دون فتح بطن، ودون فتح عين، أشعة الليزر دقيقة دقيقة، وخفية خفية، تتسرب إلى جسم الإنسان، وتحرك بأدوات من خارج الجسم، وتجرى بعض العمليات في تفتيت حصاة بالليزر، وكذلك في ترقيع شبكية بالليزر، واللهُ أعلم فلعلّ الحاسد تخرج منه قوة خفية تتغلغل في نفس المحسود، ورد هذا في حديث، لكن هذا الحديث يحتاج إلى مراجعة، وخلاصته: أن العين أي عين الحاسد تضع الجمل في القدر والرجل في القبر، يؤكد هذا قول الله عز وجل:
﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾
[ سورة الفلق: 5 ]
أهم نقطة في هذا الموضوع أن المحسود إذا كان موصولاً بالله فلا يستطيع الحسد أن يؤثر فيه إطلاقاً.
من كان غافلاً عن الله يصيبه الحسد :
أمّا المحسود الغافل عن الله، والحاسد الحاقد، ولعل عنده أشعة، وهذا الشيء يعلمه معظم الناس، فمثلاً إنسان أظهر ما عنده من متاع الحياة الدنيا أمام إنسان محروم، وبعيدٍ عن الله، وهو شاكٌّ في عدالة الله، وهو محروق على أن يكون مثل فلان، لعل هناك أشعة تخرج منه فتؤذي هذا المحسود، فالحاسد إنسان شرير، والحاسد إنسان كافر لماذا؟ لعله كُفْرٌ جزئي، كافر بعدالة الله، مع أن الله عز وجل وزّع الحظوظ بالتساوي، لكن الناس لجهلهم يتوهمون أن الحظ الذي يُقيَّم به الناس هو المال، راحة البال لا تقِلُّ أهميةً عن المال، والصحة لا تقل عن المال، والزواج الناجح لا يقل عن المال، والأولاد الأبرار لا تقل أهمِّيتُهم عن المال، وقد يكون المال سبب قتل إنسان، قضية التوفيق شيء عجيب، أنا أعتقد أن هذه الحظوظ موزعة بالتساوي، ترى إنساناً فقيراً دخلُه محدود، ولكنه يتمتع بصحة مثل الحصان، إذا أكل فلافل يقول لك: أطيب طعام، وأجهزته كلها سليمة، ليس لديه أيّة مشكلة، وترى إنساناً يملك الملايين المملينة يعاني من خمسين علة، هذه الأكلة ممنوع عنها، وهذه تفعل له مشكلة، وهذه تصبه بخلل في جسمه، فلو خيرنا المعطوب أتتمنى أن يكون دخلك محدوداً وصحتك جيدة يقول أتمنى والله، أنا أعلم علم اليقين أن هناك أشخاصاً يتمنون أن يفقدوا كل ما يملكون نظير صحة، أو نظيرة راحة بال، أو نظير حظ آخر يفتقده، فالمشكلة أنّنا نقيِّم بعضنا في المال فقط، مع أن مؤمناً تقيّاً خفيّاً إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يفتقد، هذا النقي التقي عنده من راحة البال، وعنده من التوازن والطمأنينة ما لو وُزِّع على أهل بلد لكفاهم، شيء رائع، على كل فالحسد لولا أن الله عز وجل أثبته في القرآن الكريم لمَا عرفناه، نرى مصائب كثيرةً، نرى بيتاً احترق، وطفلاً مات، طفلاً جميل الصورة، وأمه تباهي به أمام امرأةٍ محرومة من الأطفال، فهناك نساء حمقاوات جداً تعرض ما عندها على الناس، ما عندها على المحرومين، وبين الناس محروم جاهل، ومحروم غير مؤمن، محروم كافر، هذا الكافر يكفر بعدالة الله فيحسد ذا النعمة، ويحقد عليهم، فإذا كان الآخرُ غافلاً عن الله يصيبه الحسد، لولا أن الله عز وجل أخبرنا، "ومن شر حاسد إذا حسد" لكنا في ضياع، ومتاهة أمام ما يحدث.
قد يكون عند الحاسد شيء مؤثر ومهلك كفيروس الإيدز :
ثمة نقطة مهمة، وهي أنّ الشيء الخفي أيها الأخوة له فعْلٌ كبير، تصور دول العالم كلها، فهناك دول عندها قنابل تدمر الأرض خمسين مرة خمس قارات، ودول عندها رقابة على الأرض، إذا تحرك شيءٌ في السرِّ في القارات الخمس فهو مكشوف، أقمار صناعية، وسائل الاتصال مذهلة، في أثناء حرب الخليج كان المراسلُ يوجه الآلة إلى السماء، ويبعث (فاكس)، ولا يحتاج إلى هاتف، ولا إلى شبكة اتصالات، معه فاكس موصول بالأقمار مباشرةً، إنه تقدم مذهل، ومع ذلك الشيء الخفي له فعل عجيب، العالم كله الآن بكل مؤسساته، بكل إمكاناته، بكل أمواله، بكل طاقاته، ففي العالم أموالٌ يصعب أن تتصوروها، أرقام فلكية في الدول الغنية، ومع ذلك العالم كله يقف مكتوف اليدين أمام أضعف فيروس على وجه الأرض، فيروس الإيدز، الذي إذا خرج من الإنسان لمسافة عشرة سنتمترات يموت فوراً، وهذا الفيروس حير علماء الأرض، ومشكلته كمَن يُدخل فرقة عسكرية إلى بلد معادٍ بلباس وأسلحة وأعلام كأعلام الجيش المعادي نفسه، فيظنونه صديقاً، يدخل فيروس الإيدز جسم الإنسان على شكل كريات بيضاء، والكريات البيضاء معروفة بأنها هي التي تقوم بمهمة الدفاع عن الجسم، فلا تقترب من هذا الفيروس، لأنه كما يبدو ليس جسماً غريباً، بل هو صديق، له مواصفاته ذاتها، كما تراه، لأنّ فيروس الإيدز شكله شكل كرية بيضاء، ومنها مكمن قوته وخطرِه، فإذا دخل فلا شيء يقاومه، فإذا تمكن قاوم كل هذه الكريات وأكلها، أحياناً يخصِّصون مبلغ ثلاثين ملياراً على أبحاث لكشف مصل مضاد، فيغيِّر هذا الفيروسُ شكله، لكن هذه الأموال ذهبت سدى، فعنده قدرة على تغيير شكله، وكل الأجهزة عندنا لكشف فيروس الإيدز بالعالم كله متخصصة في سلالة واحدة منه، لكن كما بيَّن العلمُ أنّ له أربع سلالات، وقد يجري الخبراءُ فحصاً وتجارب فتكون النتيجة سلبية، لأن البحث جرى على سلالة واحدة، ثلاث سلالات أخرى، ولم يتمكّن من السلالات الثلاث الأخرى لعجزه عن فهمها، وإذا أردنا أنْ نفحص إنساناً بحثاً عن هذه السلالات الثلاث نحتاج إلى خمسين ألف ليرة، وهذا فوق طاقة الإنسان، ولو وجدنا مصلاً فثمنه خمسة عشر مليون تقريباً، إذاً تصور العالم كله مكتوف اليدين أمام أضعف فيروس، إذا كان فيروس الإيدز له هذا التأثير فيمكن أن يكون عند الحاسد شيء مؤثر مهلك، لذلك قال تعالى:
﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾
[ سورة الفلق: 5 ]
في القرآن بعض السور كالمعوذتين فيهما علاج من السحر والحسد :
أن تضع حذوة حصان فهذا شرك، أو خرزة زرقاء فهذا شرك، وأنْ تضع تميمة فهذا شرك كذلك، إذاً أمَا يكفي أن تكون مع الله، إنّ المحسود إذا كان متصلاً بالله لم تؤثر فيه أشعة الحاسد، وأنت ممكن أن تركب سيارة مصفحة، لو أطلق الرصاص على بلورها لمَا أمكنَه أنْ يخترقه، ولو أطلق على عجلاتها لمَا كان له تأثير، ولا على أبوابها، فالإنسان إذا كان مع الله كأنه يركب سيارة مصفحة، ومهما كان مع الخصم أسلحة فلن تؤثر فيك، هذا هو حال المؤمن، فهو محصن، والمحسود المغفَّل هو الذي يناله الأذى وحده.
لكنْ ماذا عندنا لنقاوم الحسد، والسحر، أو نقاوم الجن، عند عامَّة الناس ألف علاج، وأكثر هذه العلاجات أشخاص يحتالون على الناس دجّالون، يوهمون أنه بإمكانهم إخراج الجني، إذا كان خالق الأكوان قال لك: استعذ بي، ومليون إنسان قال لك: هناك إنسان يُخرِج الجني، أفتصدِّق؟ هذا كله شرك أيها الأخوة، العلاج الوحيد: قل أعوذ برب الفلق، الفلق الصبح، الفلق النور، هذا الإله العظيم الذي خلق النور المادي نور الشمس كي نرى كل شيء في النهار، وخلق نور الإيمان الذي إذا ألقي في القلب نرى الحقيقة، الله عز وجل نوَّر الأرض بنور الشمس، ونوَّر القلوب بنوره، فإذا كان في قلبك إيمان، ولديك اتصال بالله سبحانه فقلبك منوَّر بنور الله عز وجل، لذلك رؤيتك صحيحة، والقرار سليم، وإذا توفرتْ لديك رؤية صحيحة، وقرار سليم، كانت النتائج مضمونة إن شاء الله، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾
[ سورة الفلق: 1 ]
في القرآن بعض السور كالمعوذتين، فيهما علاج، قال عليه الصلاة والسلام:
((يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما يعني المعوذتين.))
[أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن عامر]
فهاتان أهم سورتين تعالجان ما أمامك مِن أخطار لا تعد ولا تحصى، فإذا كان دونك حاسد، حاقد، جني، ساحر، وإنسان محروم شرير، قل: أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب هذه الشمس الذي أطلعها من مشرقها ونوَّرت الأرض، كان عليه الصلاة والسلام يقول:
((إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَأَيْنَ النَّهَارُ))
[أحمد عن سعيد بن أبي راشد]
الليل غابة مخيفة، كلها أشباح، مكان سحيق، صحراء وعرة، الليل مظلم بهيم، تأتي الشمس، وتزيل هذا القلق.
الشر المطلق يتناقض مع وجود الله :
قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِِ ﴾
[ سورة الفلق: 1 ]
الفلق: إما الصبح، أو النور، أو النور الإلهي الذي يُقذَف في قلب الإنسان، فيريه الحق حقاً، والباطل باطلاً، عندئذ يكون قراره سليماً ونتائجه مضمونة.
﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾
[ سورة الفلق: 2 ]
آية دقيقة جداً، فإنّ الله عز وجل لا يخلق إلا الخير، أما الشر فهو نسبي، كما قال عليه الصلاة والسلام:
((والشر ليس إليك))
[رواه أحمد ومسلم عن علي بن أبي طالب]
الشر المطلق يتناقض مع وجود الله، كيف أن النور والظلام يتناقضان إذا أثبتَّ أن هذا المسجد مظلم، أيْ ليس فيه نور، نقضت وجود النور، وإذا أثبتَّ أن هذا المسجد مُنار بالكهرباء فقد نفيت الظلام، والنور والظلام متناقضان، لأنّ وجود أحدهما يرفض وجود الآخر، الشر المطلق يتناقض مع وجود الله، أنت مخير، فإن آمنت بالشر المطلق فمعنى ذلك أن الله غير موجود، وإذا آمنت بوجود إله عظيم، فمعنى ذلك أن الشر المطلق لا وجود له، لكن ماذا نقول؟ هناك شر نسبي، الشر النسبي أساسه بأبسط تعريف سوءُ استعمال، كأنْ تقول: سكر، وملح، ومسحوق غسيل، ثلاثة مساحيق بيضاء، إنْ تضع في الشاي ملحاً تتلفه، وإنْ تضع الملح في الحلويات تتلفها، الملح مادة جيدة، لكن في الحلويات يفسدها إذاً فما هو الشر؟ سوء استعمال، الزواج والزنا عملية واحدة، ولكن واحد بقانون شرعي، هذه زوجته مدى الحياة، والثمرة إنجاب أولاد، ثمار يانعة، لكن الزنا لقاء عابر أفسد هذه الفتاة، وتركها كمنديل مسحت به أقذر عملية، ثم أُلقي في الطريق، فالشر سوء استعمال فقط، لكنّ الله عز وجل ما خلق إلا الخير فقط.
الشر هو اتباع الهوى بغير هدى من الله :
الشر أساسه أنّ الإنسان مخلوق مخير، أٌودعِت به الشهوات ليرقى بها، وأعطي منهجاً، لكنّه ضرب بالمنهج عُرض الحائط، وتحرك وفق شهواته بلا منهج، هذا هو الشر، قال تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
[ سورة القصص: 50 ]
هذا هو الشر، اتباع الهوى بغير هدى من الله، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾
[ سورة الفلق: 1 ]
إنسان بعيد عن الله، بعيد عن منهج الله، أُودِعت فيه شهوات مستعرة، وتُرِك طليقاً مخيراً، يفعل ما يريد، عندئذٍ يؤذي، فيأكل مال الناس، ويضطهدهم، ويستعلي عليهم، ويذلهم، ويهينهم، ِمن شرِّ ما خلق، ولكن كما قلت قبل قليل: قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102]
الظالم سوط الله ينتقم به ثم ينتقم منه وهذا قانون سماوي :
أنت مخير أن تفعل ما تشاء ولكن لا على مَن تشاء على مَن يشاء الله، فالظالم سوطُ الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه، ولقد سمعت أن شرطيّاً أوقف سيارة، فلم تقف، ثم أشار للسيارة الثانية، والثالثة، والرابعة، وهو شرطي يرى أنه يجب أنْ يُطاع، وكذلك الخامسة والسادسة، فامتلأ غيظاً، لكنّ رجلاً وقف له فضربه ضرباً مبرحاً، فقال له: ماذا فعلت؟ وكان هذا السائق قد ضرب أمَّه صباحاً، فجعل الله هذا الشرطي يصبُّ كل غضبه عليه.
الظالم سوط الله، ينتقم به ثم ينتقم منه، هذا قانون سماوي، أنت مخير أن تفعل ما تشاء، ولكن لا على من تشاء، على من يشاء الله، كأن الله جل جلاله جعل هذا الإنسان الشرير سواء كان حاسداً، أو جنيّاً، أو ساحراً، أو أيّ إنسان ماكر، أراد الشر فقاده الله إلى من يستحق هذا الشر، ينتقم به ثم ينتقم منه. نريد دليلاً أقوى، قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِيْنَ بَعْضَاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 129]
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ* وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ* ﴾
[ سورة الفلق ]
الغاسق هو الليل، وكذلك هو الشيطان إذا دخل قلب الإنسان، يقال: فلان بداخله إبليس، أو داخل فيه شيطان، كل كلامه مؤذٍ، حركاته مؤذية، نظراته خبيثة، تعليقاته لاذعة، كتلة شر متحركة، فإما أنه من الشيطان، أو أن الله عز وجل يأمرنا أن نستعيذ من الليل، السبب أنّك نائم، والنائم ميت، أما إذا كان الإنسان يقظاً فيحمي نفسه، لأنه منتبه لما يجري حوله، والله جعل الليل سكناً والنهار معاشاً، فما دام الإنسان مستيقظاً فبإمكانه أن يتخذ الاحتياطات اللازمة أما نائم فهو أعزل ومستسلم.
مهمة الشيطان الخبيثة التحريش بين المؤمنين :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ))
[متفق عليه عن أبي هريرة]
﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾
[ سورة الفلق: 4 ]
هؤلاء الحاسدون السحرة كفرة، ومَن سَحَر فقد كفر، سأقول لكم حقيقتين، ومعظم الناس واقعون في خطأ فاحش، الساحر، والجني، والحاسد أشرار حاقدون، هؤلاء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إلا بإذن الله، فعلاقتك مع الله، وليس معهم.
الحقيقة الثانية: لا تستطيع أن تنجو منهم إلا بالاستعاذة بالله منهم، مع أن هناك دجالين بأعداد كبيرة جداً، يبتزُّون أموال الناس، ويأخذونها باطلاً، ويوهمونهم أنهم يقدرون على خلاصهم، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، كن علميّاً، كن ربانيّاً، القرآن الكريم أمامك، قال لك:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ* وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾
شيطان دخل إلى الصدر، أو الليل إذا لف الأرض، وفي الليل المفاجئات كثيرة جداً، قال تعالى:
﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾
[ سورة الفلق: 4 ]
هؤلاء السحرة الذين ينفثون سحرهم في بعض الناس الغافلين، وللآية تفسير ثانٍ مقبول: ينفثون ما في العُقَدِ، أيّة عقدة بين اثنين، قالت له: كيف حبك لي؟ قال: كعقدة الحبل، هذه العلاقات من يفصمها؟ الحاسدون، أكبر عمل للشيطان وأتباع الشيطان هو التفريق بين الناس، بين الأخ وأخيه، بين الزوج وزوجته، بين الجار وجاره، بين المؤمنين، عندما ييأس الشيطان أن يحمل الإنسان على الكفر، وعلى الشرك، ثم على الكبائر، ثم على الصغائر، ثم على الانشغال بالمباحات، حينما ييأس، حينما يأتيه من بين يديه فلا يفلح، وعن أيمانه فلا يفلح، وعن شمائله فلا يفلح، بقي شيء واحد هو التحريش بين المؤمنين، لم يسلِّم عليَّ مثلاً، أو لم ينظر إليَّ باهتمام، أحياناً أرى أن أخوَين تخاصما، فماذا فعل معك؟ يقول: شاهدني ولم يسلّم علي، مِن الممكن أن يكون غيرَ منتبه، فاحملْ هذا على المحمل الطيب، فالشيطان له أكبر مهمة كبيرة خبيثة هي التحريش بين المؤمنين، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ))
[مسلم عن جابر]
﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾
[ سورة الفلق: 5 ]
أيُّ تعاون بين الإنس والجن محرم ومَن سَحَر فقد كفر :
أهم نقطتين في الدرس أن كل هؤلاء الأشرار لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إلا بإذن الله، فعلاقتك مع مَن؟ إنْ كانت مع الله فاطمئن، وأنه إذا وقع شرُّهم على إنسان لا يستطيع أن ينجو منه إلا بالاستعاذة بالله فقط، لا بشيخ لفته خضراء، ولا برجلٍ يقدر على فكِّ السحر، ولا بشيخ معه جني صالح كما يدَّعون، هذا مؤمن يفهم على أخوانه، هكذا يقول، لا ليس قولُه هذا صحيحاً، لو كان صحيحاً لكان قاله النبي، لأنه ما ترك شيئاً إلا قال فيه ما قال.
أيها الأخوة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ))
[أخرجه النسائي عن أبي هريرة]
واعلمْ أنّه ليس في الإسلام أيُّ تعاون بين الإنس والجن مسموح به، فأيُّ تعاون بين الإنس والجن محرم، ومَن سَحَر فقد كفر، قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102]
باع نفسه بثمن بخس.
الإنسان قيمته عند الله بعلمه واستقامته وأخلاقه :
أيها الأخوة، ما اخترت هذا الموضوع إلا لمّا انهالتْ عليَّ الأسئلة، أن رجلاً دخل فيه جني، وهذه تكره زوجها، وقد أوقع الساحرُ بينها وبين زوجها، واعلموا أنني ما نفيت السحر، وما نفيت فعل الجن، وما نفيتُ الحسد، هذا كله واقع، ولكن لا يقع إلا بإذن الله، لأنّ علاقتك مع الله، لا يقع فعْلُ هؤلاء على الصاحي المقبل المستقيم، أنت في سيارة محصنة، لا أحد يمكن أن يصل إليك إلا إذا خرجت منها، إذا خرجت منها حولك أناس معهم مسدسات، فأيّ واحد يمكنه أنْ يطلق النار عليك، فإذا كنت في هذه السيارة المصفحة فسلامتك محقَّقة، هذه السيارة المصفحة صلتك بالله، أنت موصول مستقيم، ولأنك مستقيم ليس عندك رغبة أن تعرض ما عندك على الناس، وليس عندك رغبة أن تجعل الآخرين أضعف منك، والإنسان قيمته عند الله بعلمه واستقامته وأخلاقه.
وفي الواقع هناك أُسَرٌ، وأشخاص مثقفون يقتنعون أن سببَ سوءِ علاقته مع زوجته هو أن هناك مَن سحرهم، وألقى لهم ماءً وملحاً أمام الباب، فلا يتفاهمان أبداً، هذا شيء مستحيل، لكن الحقيقة أن في البيت معصية، وهذه المعصية سببت الفرقة والخلاف والشقاق. قال تعالى:
﴿ وَمِنَ الَّذِيْنَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيْثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
[ سورة المائدة: 14 ]
كن علمياً، كن ربانيّاً، كن قرآنيّاً، ففي زمنِ الرسول صلى الله عليه وسلم كسفت الشمس، والصحابة فهموا جميعاً أن الشمس كسفت من أجل موت إبراهيم، وكان بإمكان النبي أن يسكت، ولكنه جمع أصحابه ونبَّههم، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي بَكْرَةَ]
الحكمة من تقديم شياطين الإنس في الذِّكر على شياطين الجن :
كنت مرة في مكة المكرمة، وسمعت قصصاً ليست معقولة، وكلها متواترة، أنّ أنواراً في المدينة تصل إلى السماء، وقالوا: إنها أنوار المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهناك درس علم بين المغرب والعشاء، وكنتُ أحب أن أحضره، بعد أن انتهى الدرس قال المدرس: لقد التقيت مع أمير المدينة، وأخبرني أن هذه الأنوار الساطعة من القبة الخضراء أشعة ليزر، صنعت من أجل إرشاد الطائرات أن هنا قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي طريقة تكنولوجية ليس لها علاقة بما يشاع بين الناس، فعندما تكون علميّاً يكون كلامك صحيحاً، وتُحتَرَم، وعندما تسحب سحبات تزعزع ثقة الناس بالدين فالوزر كبير واللهُ يعلم السرَّ وأخفى.
فيما بين الناس حسد مدمر، والعوام يعرفون هذا الشيء، قد تكون المرأةُ محرومةً من الأولاد، نظرت إليه، وتمنت زوال النعمة عن أمه فقط، فإن كان مالاً مثلاً، أو كان مما يُكسَر فوراً، بذلة أنيقة جداً يسير صاحبُها مثل الطاووس فتتمزق، ومن شر حاسد إذا حسد، لا يزول الحسد بحذوة فرس تعلَّق، ولا بجملة مثل: وعين الحاسد تبلى بالعمى، هذا كلام الجهلة، كن مع الله فأنت محصن، أنت في مركبة محصنة إذا كنت مع الله، في الكون جنٌّ، وفيه إنس، قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 112 ]
لقد قدَّم الله شياطين الإنس في الذّكر على شياطين الجن، لأن شياطين الجن يحتاجون إلى ألف درس من شياطين الإنس، فكل إنسي يضع ألف جني في طرف جيبه، نحن عندنا وهمٌ أن فلاناً جني، إذا أردت أن تمدح جنيّاً فصِفْه، وقل: فلان إنسي، هناك أشرار، جن، وحساد، والله موجود، والأمر كله بيده، يعطيهم كل الأسباب، أما أن تفعل هذه الأسباب فعْلَها فلا، لأنّ علاقتك مع الله، وإذا كنت معه لم يستطِعْ أحد أن يؤثِّر فيك، أنت الآن يجب أن ترمي ألف قصة في الحاوية، فلان مسحور، وفلان أصابته عين، وأمثال هذه الخزعبلات.
قد يُمكِّن اللهُ كافراً مِن مؤمن لكنّ في النهاية يحفظ اللهُ المؤمنَ :
كنتُ مرة في جلسة، فسمعت عنها أن كل واحد فسر أحداث لبنان تفسيراً، لكن امرأة قالت: أصاب لبنانَ عينٌ، وعلى كلٍّ فنحن لا ننكر أثر السحر، قال تعالى:
﴿ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾
[ سورة الشعراء: 153 ]
﴿ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ﴾
[ سورة الإسراء: 47 ]
النبي عليه الصلاة والسلام منزَّه أن يؤثر فيه السحر، قد تجري محاولة، وإنّ الله قد حفظ القرآن، فهل معنى حفظ الله لكتابه أنه لا تجري محاولة لتغييره؟ تجري، لكنها لا تنجح، لو كانت لا تجري فثمة مشكلة هناك، واللهُ يسمح أن تجري، ولكن في النهاية لا تنجح، لأن الإنسان مخير، يمكنه اللهُ مِن الأسباب.
سيدنا إبراهيم مكَّن اللهُ قومَه أن يقبضوا عليه، مكّنهم، ولم يكن هناك مطر، فألقوه في النار، قال تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 69 ]
كل دعواهم أصبحت في الوحل، قد يُمكِّن اللهُ كافراً مِن مؤمن، لكنّه في النهاية يحفظ اللهُ المؤمنَ، فلو أنّه لم يمكِّنه منه لمَا أظهر له ضعف الكافر، الكافر معتدٌّ بنفسه، ويقول: لو أمسكه، فلمّا أمسكه لم يقدر عليه، لأنّ الله يحميه ويحفظه، ويعطيه حجة يقيمها على الكافر، ويلقي على المؤمن هيبة، قبل أن يلتقي به يقول: أريد أن أفرمه فرماً، فلمّا التقى به جاء خائباً.
لا تُحَلُّ القضايا إذا وقعت إلا عن طريق الاستعاذة بالله :
قضية الجن، والحسد، والسحر، وهذه الأشياء الخفية المدمرة، فِعْلُها وتأثيرُها بيد الله، فاحفظوا هذه الآية:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102]
علاقتك مع الله، ولا تُحَلُّ القضايا إذا وقعت إلا عن طريق الاستعاذة بالله، فليس هناك مِن منهج آخر، فلان أخرج الساحر الجني منه، ولكن طلب منهم خروفاً ذا قرنين، وديكاً نصفه أسود ونصفه أبيض، يعطيك أشياء مضحكة، ويضع لفة خضراء، ويقولون: إن هذا الشيخ يؤاخي جنّاً مؤمنين فلا تخف منه، كل هذا دجل، أي تعاون بين الإنس والجن تعاون باطل، مَن سَحَرَ فقدْ كفَرَ، والحاسد كافر، كفر بعدالة الله، وشيطان الإنس كافر أراد أن يؤذي الآخرين، والمؤمن محصن:
((يقول الله لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمن عذابي.))
[ابن عساكر عن علي]
فحصِّنْ نفسك بطاعة الله، والاستقامة على أمره، ولا تخشَ أحداً، لا تخشَ إلا الله، فهو القائلُ:
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾
[ سورة الأعراف: 54 ]
والحمد لله رب العالمين
أيها الأخوة المؤمنون، مِن أكثر الأسئلة التي ترد لمن يعمل في حقل الدعوة قضايا السحر، وقضايا الجن، وهناك آلاف القصص حولها، ذلك أنّ فلاناً دخل فيه جني، والشيخ الفلاني وعَدَنا أن يخرجه، وقضية أخرى أنّ فلاناً مسحور، وفلاناً محسود، وعين الحاسد تبلى بالعمى، وما إلى ذلك، قصص لا تعد ولا تحصى حول موضوع الحسد وموضوع السحر.
الشيء الثابت أن الحسد ورد في القرآن الكريم، قال تعالى:
﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾
[ سورة الفلق: 5 ]
والشيء الثابت أنّ السحر ورد في القرآن الكريم، نحن بين أيدينا تعليمات الصانع، كلُّ ما في القرآن حقٌّ، لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلفه، ولكن الإشكال: يا ترى هؤلاء السحرة هل أعطاهم الله قدرةً أن يضروا مَن يسحروه؟ إن أعطاهم قدرة ينشأ إشكال ثانٍ، أنا علاقتي مع مَن إذاً؟ يجب أن أتقي غضب هذا الساحر، وكذلك الجن، وكذلك الحاسد، فهل هناك حاسد، وجني، وساحر؟
كيف أجمع بين أن السحر والحسد ورد في القرآن الكريم، وهو ثابت قطعاً، وبين أن الإنسان حر، ومحاسب عن أعماله الاختيارية، وأن الله بيده كل شيء؟ هنا الموضوع دقيق، ويحتاج إلى أمثلة كثيرة، فمثلاً سمَح الله عز وجل لقومِ إبراهيمَ أن يلقوا القبض عليه، فلو أنهم لم يلقوا القبض عليه لقالوا: لو وقع في أيدينا لنكلتْ به آلهتنا، سمح لهم أن يلقوا القبض عليه، وسمح لهم أن يضرموا ناراً عظيمة ليحرقوه، وكان من الممكن أن يختفي، ويمكنهم أن يقبضوا عليه، وهو نبي عظيم، وهو أبو الأنبياء، وكان من الممكن لهذه النار المشتعلة أنْ تأتيها أمطار غزيرة فتطفئُها، ولقال عبّاد الأحجار والأوثان عندئذٍ: لولا هذه المطر لنكلتْ به آلهتُنا، في النهاية لا يقع إلا ما يريده الله قال تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 69 ]
الله جل جلاله بيده أن يعطي الأسباب فاعليتها أو لا يعطي :
كيف يكون الإنسان مخيراً، والفعل بيد الله عز وجل؟ لو أن مجرماً أراد قتل إنسان، فإنه يشتري المسدس، ويمكنه من شراء المسدس، ويمكنه من التدرب عليه، ويمكنه أن يجتمع بعدوه في مكان خالٍ، أيْ يسَّر كل الأسباب، ولكن ليس باختياره أن يقتل أو لا يقتل، قد تطيش الرصاصة فينجو المقتول، قد يسمع صوتاً مخيفاً فيقع المسدس من يده، قد ينحني فجأةً فينجو من هذه الرصاصة، الله عز وجل يمكِّن وينسق والفعل فعله، لو وُجِد سحرة وحاسدون، لو وُجِدَ أعداء، لو وجِدَ جن، فهذه مخلوقات مخيرة يمكنها الله عز وجل مِن الأخذ بالأسباب، ولكن هذه الأسباب لا تفعل فعلها إلا إذا أراد مسبب الأسباب.
يمكِّن الله عز وجل هذه المخلوقات مِن أنْ تأخذ بالأسباب، لكن الله جل جلاله بيده أن يعطي هذه الأسباب فاعليتها أوْ لا يعطي، لذلك هناك دعاء رائع في موضوع السحر: اللهم إنك قد أقدرت بعض خلقك على السحر والشر، ولكنك احتفظت لذاتك بإذن الضر، فأعوذ بما احتفظت به ممّا أقدرت عليه بحق قولك:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾
[ سورة البقرة: 102 ]
هذه الآية اعتبرْها دستوراً، لا تستطيع جهة على وجه الأرض: ساحر، جني، حاسد، عدو، أن يصل إليك إلا إذا سمح الله، يمَكِّنه من كل الأسباب، أما أن يكون بيده أن تفعل هذه الأسباب فعْلَها فلا، لأنّ هذا بيد الله وحده، هناك سحر، وجن، وحساد، وأشرار، وقد مُكِّنوا من الأسباب، أما أن تفعل هذه الأسباب فِعْلَها فهذا لا يكون إلا بإذن رب العالمين.
أيها الأخوة، قصص لا تعدُّ ولا تحصى، فمثلاً نافذة في طائرة كسرت فجأةً، وكانت تركب إلى جانبها امرأةٌ ذاهبة من الرياض إلى الباكستان، فدخلت الريحُ مِن هذه النافذة فسحبتْ ولديها، ووقعا فوق بحر الخليج من ارتفاع أربعين ألف قدم، واليقين القطعي أن هذين الطفلين ماتا، وفي الباكستان أعلمت هذه الأم أهلها بموت ولديها، وبعد أسبوعين جاءت رسالة تدعو الأم إلى أن تأتي إلى الخليج على حساب الشركة فإذا بولديها أمامها.
مِن الممكن للإنسانٍ أنْ يملك الأسباب كلها بإذن الله تعالى لكن يبقى الفعلُ فعْلَه :
مِن الممكن للإنسانٍ أنْ يملك الأسباب كلها بإذن الله عز وجل، لكن يبقى الفعلُ فعْلَه، أسباب الموت قائمةً مئة بالمئة، وسقط هذان الطفلان الصغيران أمام صياد، فغاص في الماء، وأنقذهما، وأوصلهما إلى مستشفى.
وإنسان آخر يقع من طائرة فوق جبال الألب، على ارتفاع أربعين ألف قدم، تنشطر الطائرة إلى جنب مقعده، والموت محقق فتهوي على غابة من الصنوبر في جبال الألب، سماكة الثلج خمسة أمتار والأغصان مرنة نزل واقفاً سليماً، يمكن أن تأخذ بكل الأسباب، أما أن تفعل هذه الأسباب فعْلَها فهذا بيد الله وحده، اجعل هذه الآية منهجاً، قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102 ]
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
[ سورة إبراهيم: 22 ]
كن مع الله ولا تبالِ :
قد تغرق عَبَّارةٌ في البحر الأحمر، وعليها ثمانمئة راكب، فينجو مَن ينجو بقدر الله، ويموت مَن يموت بقدر الله، وقد يقع بناء فينجو مَن ينجو، ويموت من يموت، قد يأتي عمود فوق إنسان مِن البناء الذي انهار فيحميه من تهشم جمجمته، ويسمح له بالهواء، فيقال: بقي ستاً وثلاثين ساعة تحت الأنقاض، ثم أنقذ، بينما إنسان يموت لأتفه سبب، مرة في الحرب الأخيرة مع الصهاينة، حرب تشرين، جرى قصف، فأحد البيوت سقطتْ عليه قذائف كثيرة فأصبح البيت أربع بلاطات، كل بلاطة عشرين سم، البناء كله سماكته أقل من متر، أحد أصحاب البيوت يعمل تاجراً، فلما علم أن البناء تهدم جاء فوقع مغمى عليه، وفي هذا البيت زوجة وخمسة أولاد، أُخِذ إلى بيت أهل زوجته، فإذا زوجته وأولاده الخمسة موجودون هناك، فما هي القصة؟ جاء أخو الزوجة مِن سفرٍ، وأخبرها أني وصلت بإجازة بعد ساعات فتعالي إلي، وتعلق بها أبناؤها بأنه لا بد أن نذهب معكِ، فقبْل انهيار البناء خرجت من البيت، بينما إنسان آخر جاء إلى البيت ليلقى حتفه، قضية الموت والحياة، قضية السحر، قضية الجن، الأشرار كثيرون، وما أشدّ ضررهم، ولكن واللهِ أيها الأخوة لا يستطيعون أن يخدشوا خدشاً إلا بإذن الله، فاطمئن، وكن مع الله، ولا تبالِ.
كن مع الله ترَ الله معك واترك الكل وحاذر طمعك
* * *
هذه أول حقيقة، قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102 ]
الله موجود والنفع والضر بيده وحده سبحانه :
الأمثلة لا تعد ولا تحصى، قد تنجو والموت كان محقَّقاً، وقد يموت الإنسان لأتفه سبب، رجل غني كبير، ذكي، ومتمكن جداً، في أوج نجاحه، وتألقه، وصحته، خطر في باله أن يجدد قاطعاً كهربائيّاً في الحمام، فجاء بمَن يجدِّد له هذا القاطع الكهربائي، فقال له: لو نرفعه إلى أعلى يا سيدي، وهو رجل من علية القوم بالمقياس المادي، وليس بالمقياس الديني، وفي اليوم التالي أراد أن يستعمله فلم يصل إليه، فأحضر كرسياً، وصعد عليه، فوقع، فدخل الكرسي في مقعدتِه، وبقي ثمانية عشر يوماً في المستشفى، حتى انتهى به المرض إلى الموت، لأتفه سبب، وقد تنجو بمعجزة.
فهناك سحر، وجن، وحساد، وأشرار، لكنّ الله موجود، والله بيده كل شيء، الضر بيده، النفع بيده، قد يمكِّن عدوه مِن الأخذِ بكل الأسباب.
في الهجرة أحاطوا بمنزل رسول الله، ولو خرج قبل أن يحيطوا به لقالوا: نجا قبْل محاصرته، ولو أمسكناه لكانت القاضية، ولكن الله مكَّنهم أن يحيطوا به، ومكنهم أن يحملوا السيوف، وائتمروا على قتله، فلما أراد الله له الهجرة ما رأوه حين خرج إطلاقاً، وقال: شاهت الوجوه. الأمر بيد الله، قال له أبو بكر في الغار: لقد رأونا، قال له: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، ثم قال له: لقد رأونا، قال له: ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ﴾
[ سورة الأعراف: 198 ]
أحياناً تقف أمام إنسان بإمكانه أن يؤذيك، فتراه يتساهل معك، ورحب بك، سهّل لك أمورك بشكل عجيب، وإنسان آخر يبحث لك عن مشكلة تافهة، يجعلها أكبر عقبة أمامك، مشكلة لا تحل في سنتين، ينقصها توقيع أو رقم، ويتعلَّل بأتفه التعليلات، وأكبر مشكلة تحل بأتفه سبب، ليس ثمة قاعدة، فقد مكّن اللهُ عباده من الأسباب، أما أن تفعل هذه الأسبابُ فعْلَها فلا، لأنّ فعْلَها بيد الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102]
المحسود إذا كان موصولاً بالله فلا يستطيع الحسد أن يؤثر فيه إطلاقاً :
أيها الأخوة، مع موضوع دقيق، الحسد خلاصتُه أنّ إنساناً يتمنى زوال النعمة عن أخيه دون أن تتحوّل إليه، لو أنه أراد أن تتحول عن أخيه إليه لكان هذا موضوعاً آخرَ، نقول: إنه تنافس، أما الحاسد فلا يتمنى إلا أن تزول النعمة عن المحسود، دون أن يستفيد شيئاً، الحاسد إنسان شرير، لذلك كثرة الظهور تقصم الظهور، لا تظهر كثيراً، كن بشكل طبيعي، قال تعالى:
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
[سورة القصص:79]
كل إنسان يفتخر بمتاع الحياة الدنيا حوله حساد كثيرون، يا ترى هذا الحاسد قد يملك أسباب إيذاء المحسود، فالسرُّ مجهول، والحدث موجود، هناك شيء يقرب الموضوع تقريباً لطيفاً، أخيراً توصَّل العلماء إلى إجراء عمليات معقدة جداً بأشعة الليزر دون مشرط، دون فتح بطن، ودون فتح عين، أشعة الليزر دقيقة دقيقة، وخفية خفية، تتسرب إلى جسم الإنسان، وتحرك بأدوات من خارج الجسم، وتجرى بعض العمليات في تفتيت حصاة بالليزر، وكذلك في ترقيع شبكية بالليزر، واللهُ أعلم فلعلّ الحاسد تخرج منه قوة خفية تتغلغل في نفس المحسود، ورد هذا في حديث، لكن هذا الحديث يحتاج إلى مراجعة، وخلاصته: أن العين أي عين الحاسد تضع الجمل في القدر والرجل في القبر، يؤكد هذا قول الله عز وجل:
﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾
[ سورة الفلق: 5 ]
أهم نقطة في هذا الموضوع أن المحسود إذا كان موصولاً بالله فلا يستطيع الحسد أن يؤثر فيه إطلاقاً.
من كان غافلاً عن الله يصيبه الحسد :
أمّا المحسود الغافل عن الله، والحاسد الحاقد، ولعل عنده أشعة، وهذا الشيء يعلمه معظم الناس، فمثلاً إنسان أظهر ما عنده من متاع الحياة الدنيا أمام إنسان محروم، وبعيدٍ عن الله، وهو شاكٌّ في عدالة الله، وهو محروق على أن يكون مثل فلان، لعل هناك أشعة تخرج منه فتؤذي هذا المحسود، فالحاسد إنسان شرير، والحاسد إنسان كافر لماذا؟ لعله كُفْرٌ جزئي، كافر بعدالة الله، مع أن الله عز وجل وزّع الحظوظ بالتساوي، لكن الناس لجهلهم يتوهمون أن الحظ الذي يُقيَّم به الناس هو المال، راحة البال لا تقِلُّ أهميةً عن المال، والصحة لا تقل عن المال، والزواج الناجح لا يقل عن المال، والأولاد الأبرار لا تقل أهمِّيتُهم عن المال، وقد يكون المال سبب قتل إنسان، قضية التوفيق شيء عجيب، أنا أعتقد أن هذه الحظوظ موزعة بالتساوي، ترى إنساناً فقيراً دخلُه محدود، ولكنه يتمتع بصحة مثل الحصان، إذا أكل فلافل يقول لك: أطيب طعام، وأجهزته كلها سليمة، ليس لديه أيّة مشكلة، وترى إنساناً يملك الملايين المملينة يعاني من خمسين علة، هذه الأكلة ممنوع عنها، وهذه تفعل له مشكلة، وهذه تصبه بخلل في جسمه، فلو خيرنا المعطوب أتتمنى أن يكون دخلك محدوداً وصحتك جيدة يقول أتمنى والله، أنا أعلم علم اليقين أن هناك أشخاصاً يتمنون أن يفقدوا كل ما يملكون نظير صحة، أو نظيرة راحة بال، أو نظير حظ آخر يفتقده، فالمشكلة أنّنا نقيِّم بعضنا في المال فقط، مع أن مؤمناً تقيّاً خفيّاً إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يفتقد، هذا النقي التقي عنده من راحة البال، وعنده من التوازن والطمأنينة ما لو وُزِّع على أهل بلد لكفاهم، شيء رائع، على كل فالحسد لولا أن الله عز وجل أثبته في القرآن الكريم لمَا عرفناه، نرى مصائب كثيرةً، نرى بيتاً احترق، وطفلاً مات، طفلاً جميل الصورة، وأمه تباهي به أمام امرأةٍ محرومة من الأطفال، فهناك نساء حمقاوات جداً تعرض ما عندها على الناس، ما عندها على المحرومين، وبين الناس محروم جاهل، ومحروم غير مؤمن، محروم كافر، هذا الكافر يكفر بعدالة الله فيحسد ذا النعمة، ويحقد عليهم، فإذا كان الآخرُ غافلاً عن الله يصيبه الحسد، لولا أن الله عز وجل أخبرنا، "ومن شر حاسد إذا حسد" لكنا في ضياع، ومتاهة أمام ما يحدث.
قد يكون عند الحاسد شيء مؤثر ومهلك كفيروس الإيدز :
ثمة نقطة مهمة، وهي أنّ الشيء الخفي أيها الأخوة له فعْلٌ كبير، تصور دول العالم كلها، فهناك دول عندها قنابل تدمر الأرض خمسين مرة خمس قارات، ودول عندها رقابة على الأرض، إذا تحرك شيءٌ في السرِّ في القارات الخمس فهو مكشوف، أقمار صناعية، وسائل الاتصال مذهلة، في أثناء حرب الخليج كان المراسلُ يوجه الآلة إلى السماء، ويبعث (فاكس)، ولا يحتاج إلى هاتف، ولا إلى شبكة اتصالات، معه فاكس موصول بالأقمار مباشرةً، إنه تقدم مذهل، ومع ذلك الشيء الخفي له فعل عجيب، العالم كله الآن بكل مؤسساته، بكل إمكاناته، بكل أمواله، بكل طاقاته، ففي العالم أموالٌ يصعب أن تتصوروها، أرقام فلكية في الدول الغنية، ومع ذلك العالم كله يقف مكتوف اليدين أمام أضعف فيروس على وجه الأرض، فيروس الإيدز، الذي إذا خرج من الإنسان لمسافة عشرة سنتمترات يموت فوراً، وهذا الفيروس حير علماء الأرض، ومشكلته كمَن يُدخل فرقة عسكرية إلى بلد معادٍ بلباس وأسلحة وأعلام كأعلام الجيش المعادي نفسه، فيظنونه صديقاً، يدخل فيروس الإيدز جسم الإنسان على شكل كريات بيضاء، والكريات البيضاء معروفة بأنها هي التي تقوم بمهمة الدفاع عن الجسم، فلا تقترب من هذا الفيروس، لأنه كما يبدو ليس جسماً غريباً، بل هو صديق، له مواصفاته ذاتها، كما تراه، لأنّ فيروس الإيدز شكله شكل كرية بيضاء، ومنها مكمن قوته وخطرِه، فإذا دخل فلا شيء يقاومه، فإذا تمكن قاوم كل هذه الكريات وأكلها، أحياناً يخصِّصون مبلغ ثلاثين ملياراً على أبحاث لكشف مصل مضاد، فيغيِّر هذا الفيروسُ شكله، لكن هذه الأموال ذهبت سدى، فعنده قدرة على تغيير شكله، وكل الأجهزة عندنا لكشف فيروس الإيدز بالعالم كله متخصصة في سلالة واحدة منه، لكن كما بيَّن العلمُ أنّ له أربع سلالات، وقد يجري الخبراءُ فحصاً وتجارب فتكون النتيجة سلبية، لأن البحث جرى على سلالة واحدة، ثلاث سلالات أخرى، ولم يتمكّن من السلالات الثلاث الأخرى لعجزه عن فهمها، وإذا أردنا أنْ نفحص إنساناً بحثاً عن هذه السلالات الثلاث نحتاج إلى خمسين ألف ليرة، وهذا فوق طاقة الإنسان، ولو وجدنا مصلاً فثمنه خمسة عشر مليون تقريباً، إذاً تصور العالم كله مكتوف اليدين أمام أضعف فيروس، إذا كان فيروس الإيدز له هذا التأثير فيمكن أن يكون عند الحاسد شيء مؤثر مهلك، لذلك قال تعالى:
﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾
[ سورة الفلق: 5 ]
في القرآن بعض السور كالمعوذتين فيهما علاج من السحر والحسد :
أن تضع حذوة حصان فهذا شرك، أو خرزة زرقاء فهذا شرك، وأنْ تضع تميمة فهذا شرك كذلك، إذاً أمَا يكفي أن تكون مع الله، إنّ المحسود إذا كان متصلاً بالله لم تؤثر فيه أشعة الحاسد، وأنت ممكن أن تركب سيارة مصفحة، لو أطلق الرصاص على بلورها لمَا أمكنَه أنْ يخترقه، ولو أطلق على عجلاتها لمَا كان له تأثير، ولا على أبوابها، فالإنسان إذا كان مع الله كأنه يركب سيارة مصفحة، ومهما كان مع الخصم أسلحة فلن تؤثر فيك، هذا هو حال المؤمن، فهو محصن، والمحسود المغفَّل هو الذي يناله الأذى وحده.
لكنْ ماذا عندنا لنقاوم الحسد، والسحر، أو نقاوم الجن، عند عامَّة الناس ألف علاج، وأكثر هذه العلاجات أشخاص يحتالون على الناس دجّالون، يوهمون أنه بإمكانهم إخراج الجني، إذا كان خالق الأكوان قال لك: استعذ بي، ومليون إنسان قال لك: هناك إنسان يُخرِج الجني، أفتصدِّق؟ هذا كله شرك أيها الأخوة، العلاج الوحيد: قل أعوذ برب الفلق، الفلق الصبح، الفلق النور، هذا الإله العظيم الذي خلق النور المادي نور الشمس كي نرى كل شيء في النهار، وخلق نور الإيمان الذي إذا ألقي في القلب نرى الحقيقة، الله عز وجل نوَّر الأرض بنور الشمس، ونوَّر القلوب بنوره، فإذا كان في قلبك إيمان، ولديك اتصال بالله سبحانه فقلبك منوَّر بنور الله عز وجل، لذلك رؤيتك صحيحة، والقرار سليم، وإذا توفرتْ لديك رؤية صحيحة، وقرار سليم، كانت النتائج مضمونة إن شاء الله، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾
[ سورة الفلق: 1 ]
في القرآن بعض السور كالمعوذتين، فيهما علاج، قال عليه الصلاة والسلام:
((يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما يعني المعوذتين.))
[أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن عامر]
فهاتان أهم سورتين تعالجان ما أمامك مِن أخطار لا تعد ولا تحصى، فإذا كان دونك حاسد، حاقد، جني، ساحر، وإنسان محروم شرير، قل: أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب هذه الشمس الذي أطلعها من مشرقها ونوَّرت الأرض، كان عليه الصلاة والسلام يقول:
((إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَأَيْنَ النَّهَارُ))
[أحمد عن سعيد بن أبي راشد]
الليل غابة مخيفة، كلها أشباح، مكان سحيق، صحراء وعرة، الليل مظلم بهيم، تأتي الشمس، وتزيل هذا القلق.
الشر المطلق يتناقض مع وجود الله :
قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِِ ﴾
[ سورة الفلق: 1 ]
الفلق: إما الصبح، أو النور، أو النور الإلهي الذي يُقذَف في قلب الإنسان، فيريه الحق حقاً، والباطل باطلاً، عندئذ يكون قراره سليماً ونتائجه مضمونة.
﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾
[ سورة الفلق: 2 ]
آية دقيقة جداً، فإنّ الله عز وجل لا يخلق إلا الخير، أما الشر فهو نسبي، كما قال عليه الصلاة والسلام:
((والشر ليس إليك))
[رواه أحمد ومسلم عن علي بن أبي طالب]
الشر المطلق يتناقض مع وجود الله، كيف أن النور والظلام يتناقضان إذا أثبتَّ أن هذا المسجد مظلم، أيْ ليس فيه نور، نقضت وجود النور، وإذا أثبتَّ أن هذا المسجد مُنار بالكهرباء فقد نفيت الظلام، والنور والظلام متناقضان، لأنّ وجود أحدهما يرفض وجود الآخر، الشر المطلق يتناقض مع وجود الله، أنت مخير، فإن آمنت بالشر المطلق فمعنى ذلك أن الله غير موجود، وإذا آمنت بوجود إله عظيم، فمعنى ذلك أن الشر المطلق لا وجود له، لكن ماذا نقول؟ هناك شر نسبي، الشر النسبي أساسه بأبسط تعريف سوءُ استعمال، كأنْ تقول: سكر، وملح، ومسحوق غسيل، ثلاثة مساحيق بيضاء، إنْ تضع في الشاي ملحاً تتلفه، وإنْ تضع الملح في الحلويات تتلفها، الملح مادة جيدة، لكن في الحلويات يفسدها إذاً فما هو الشر؟ سوء استعمال، الزواج والزنا عملية واحدة، ولكن واحد بقانون شرعي، هذه زوجته مدى الحياة، والثمرة إنجاب أولاد، ثمار يانعة، لكن الزنا لقاء عابر أفسد هذه الفتاة، وتركها كمنديل مسحت به أقذر عملية، ثم أُلقي في الطريق، فالشر سوء استعمال فقط، لكنّ الله عز وجل ما خلق إلا الخير فقط.
الشر هو اتباع الهوى بغير هدى من الله :
الشر أساسه أنّ الإنسان مخلوق مخير، أٌودعِت به الشهوات ليرقى بها، وأعطي منهجاً، لكنّه ضرب بالمنهج عُرض الحائط، وتحرك وفق شهواته بلا منهج، هذا هو الشر، قال تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
[ سورة القصص: 50 ]
هذا هو الشر، اتباع الهوى بغير هدى من الله، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾
[ سورة الفلق: 1 ]
إنسان بعيد عن الله، بعيد عن منهج الله، أُودِعت فيه شهوات مستعرة، وتُرِك طليقاً مخيراً، يفعل ما يريد، عندئذٍ يؤذي، فيأكل مال الناس، ويضطهدهم، ويستعلي عليهم، ويذلهم، ويهينهم، ِمن شرِّ ما خلق، ولكن كما قلت قبل قليل: قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102]
الظالم سوط الله ينتقم به ثم ينتقم منه وهذا قانون سماوي :
أنت مخير أن تفعل ما تشاء ولكن لا على مَن تشاء على مَن يشاء الله، فالظالم سوطُ الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه، ولقد سمعت أن شرطيّاً أوقف سيارة، فلم تقف، ثم أشار للسيارة الثانية، والثالثة، والرابعة، وهو شرطي يرى أنه يجب أنْ يُطاع، وكذلك الخامسة والسادسة، فامتلأ غيظاً، لكنّ رجلاً وقف له فضربه ضرباً مبرحاً، فقال له: ماذا فعلت؟ وكان هذا السائق قد ضرب أمَّه صباحاً، فجعل الله هذا الشرطي يصبُّ كل غضبه عليه.
الظالم سوط الله، ينتقم به ثم ينتقم منه، هذا قانون سماوي، أنت مخير أن تفعل ما تشاء، ولكن لا على من تشاء، على من يشاء الله، كأن الله جل جلاله جعل هذا الإنسان الشرير سواء كان حاسداً، أو جنيّاً، أو ساحراً، أو أيّ إنسان ماكر، أراد الشر فقاده الله إلى من يستحق هذا الشر، ينتقم به ثم ينتقم منه. نريد دليلاً أقوى، قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِيْنَ بَعْضَاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 129]
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ* وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ* ﴾
[ سورة الفلق ]
الغاسق هو الليل، وكذلك هو الشيطان إذا دخل قلب الإنسان، يقال: فلان بداخله إبليس، أو داخل فيه شيطان، كل كلامه مؤذٍ، حركاته مؤذية، نظراته خبيثة، تعليقاته لاذعة، كتلة شر متحركة، فإما أنه من الشيطان، أو أن الله عز وجل يأمرنا أن نستعيذ من الليل، السبب أنّك نائم، والنائم ميت، أما إذا كان الإنسان يقظاً فيحمي نفسه، لأنه منتبه لما يجري حوله، والله جعل الليل سكناً والنهار معاشاً، فما دام الإنسان مستيقظاً فبإمكانه أن يتخذ الاحتياطات اللازمة أما نائم فهو أعزل ومستسلم.
مهمة الشيطان الخبيثة التحريش بين المؤمنين :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ))
[متفق عليه عن أبي هريرة]
﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾
[ سورة الفلق: 4 ]
هؤلاء الحاسدون السحرة كفرة، ومَن سَحَر فقد كفر، سأقول لكم حقيقتين، ومعظم الناس واقعون في خطأ فاحش، الساحر، والجني، والحاسد أشرار حاقدون، هؤلاء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إلا بإذن الله، فعلاقتك مع الله، وليس معهم.
الحقيقة الثانية: لا تستطيع أن تنجو منهم إلا بالاستعاذة بالله منهم، مع أن هناك دجالين بأعداد كبيرة جداً، يبتزُّون أموال الناس، ويأخذونها باطلاً، ويوهمونهم أنهم يقدرون على خلاصهم، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، كن علميّاً، كن ربانيّاً، القرآن الكريم أمامك، قال لك:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ* وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾
شيطان دخل إلى الصدر، أو الليل إذا لف الأرض، وفي الليل المفاجئات كثيرة جداً، قال تعالى:
﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾
[ سورة الفلق: 4 ]
هؤلاء السحرة الذين ينفثون سحرهم في بعض الناس الغافلين، وللآية تفسير ثانٍ مقبول: ينفثون ما في العُقَدِ، أيّة عقدة بين اثنين، قالت له: كيف حبك لي؟ قال: كعقدة الحبل، هذه العلاقات من يفصمها؟ الحاسدون، أكبر عمل للشيطان وأتباع الشيطان هو التفريق بين الناس، بين الأخ وأخيه، بين الزوج وزوجته، بين الجار وجاره، بين المؤمنين، عندما ييأس الشيطان أن يحمل الإنسان على الكفر، وعلى الشرك، ثم على الكبائر، ثم على الصغائر، ثم على الانشغال بالمباحات، حينما ييأس، حينما يأتيه من بين يديه فلا يفلح، وعن أيمانه فلا يفلح، وعن شمائله فلا يفلح، بقي شيء واحد هو التحريش بين المؤمنين، لم يسلِّم عليَّ مثلاً، أو لم ينظر إليَّ باهتمام، أحياناً أرى أن أخوَين تخاصما، فماذا فعل معك؟ يقول: شاهدني ولم يسلّم علي، مِن الممكن أن يكون غيرَ منتبه، فاحملْ هذا على المحمل الطيب، فالشيطان له أكبر مهمة كبيرة خبيثة هي التحريش بين المؤمنين، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ))
[مسلم عن جابر]
﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾
[ سورة الفلق: 5 ]
أيُّ تعاون بين الإنس والجن محرم ومَن سَحَر فقد كفر :
أهم نقطتين في الدرس أن كل هؤلاء الأشرار لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إلا بإذن الله، فعلاقتك مع مَن؟ إنْ كانت مع الله فاطمئن، وأنه إذا وقع شرُّهم على إنسان لا يستطيع أن ينجو منه إلا بالاستعاذة بالله فقط، لا بشيخ لفته خضراء، ولا برجلٍ يقدر على فكِّ السحر، ولا بشيخ معه جني صالح كما يدَّعون، هذا مؤمن يفهم على أخوانه، هكذا يقول، لا ليس قولُه هذا صحيحاً، لو كان صحيحاً لكان قاله النبي، لأنه ما ترك شيئاً إلا قال فيه ما قال.
أيها الأخوة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ))
[أخرجه النسائي عن أبي هريرة]
واعلمْ أنّه ليس في الإسلام أيُّ تعاون بين الإنس والجن مسموح به، فأيُّ تعاون بين الإنس والجن محرم، ومَن سَحَر فقد كفر، قال تعالى:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102]
باع نفسه بثمن بخس.
الإنسان قيمته عند الله بعلمه واستقامته وأخلاقه :
أيها الأخوة، ما اخترت هذا الموضوع إلا لمّا انهالتْ عليَّ الأسئلة، أن رجلاً دخل فيه جني، وهذه تكره زوجها، وقد أوقع الساحرُ بينها وبين زوجها، واعلموا أنني ما نفيت السحر، وما نفيت فعل الجن، وما نفيتُ الحسد، هذا كله واقع، ولكن لا يقع إلا بإذن الله، لأنّ علاقتك مع الله، لا يقع فعْلُ هؤلاء على الصاحي المقبل المستقيم، أنت في سيارة محصنة، لا أحد يمكن أن يصل إليك إلا إذا خرجت منها، إذا خرجت منها حولك أناس معهم مسدسات، فأيّ واحد يمكنه أنْ يطلق النار عليك، فإذا كنت في هذه السيارة المصفحة فسلامتك محقَّقة، هذه السيارة المصفحة صلتك بالله، أنت موصول مستقيم، ولأنك مستقيم ليس عندك رغبة أن تعرض ما عندك على الناس، وليس عندك رغبة أن تجعل الآخرين أضعف منك، والإنسان قيمته عند الله بعلمه واستقامته وأخلاقه.
وفي الواقع هناك أُسَرٌ، وأشخاص مثقفون يقتنعون أن سببَ سوءِ علاقته مع زوجته هو أن هناك مَن سحرهم، وألقى لهم ماءً وملحاً أمام الباب، فلا يتفاهمان أبداً، هذا شيء مستحيل، لكن الحقيقة أن في البيت معصية، وهذه المعصية سببت الفرقة والخلاف والشقاق. قال تعالى:
﴿ وَمِنَ الَّذِيْنَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيْثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
[ سورة المائدة: 14 ]
كن علمياً، كن ربانيّاً، كن قرآنيّاً، ففي زمنِ الرسول صلى الله عليه وسلم كسفت الشمس، والصحابة فهموا جميعاً أن الشمس كسفت من أجل موت إبراهيم، وكان بإمكان النبي أن يسكت، ولكنه جمع أصحابه ونبَّههم، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي بَكْرَةَ]
الحكمة من تقديم شياطين الإنس في الذِّكر على شياطين الجن :
كنت مرة في مكة المكرمة، وسمعت قصصاً ليست معقولة، وكلها متواترة، أنّ أنواراً في المدينة تصل إلى السماء، وقالوا: إنها أنوار المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهناك درس علم بين المغرب والعشاء، وكنتُ أحب أن أحضره، بعد أن انتهى الدرس قال المدرس: لقد التقيت مع أمير المدينة، وأخبرني أن هذه الأنوار الساطعة من القبة الخضراء أشعة ليزر، صنعت من أجل إرشاد الطائرات أن هنا قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي طريقة تكنولوجية ليس لها علاقة بما يشاع بين الناس، فعندما تكون علميّاً يكون كلامك صحيحاً، وتُحتَرَم، وعندما تسحب سحبات تزعزع ثقة الناس بالدين فالوزر كبير واللهُ يعلم السرَّ وأخفى.
فيما بين الناس حسد مدمر، والعوام يعرفون هذا الشيء، قد تكون المرأةُ محرومةً من الأولاد، نظرت إليه، وتمنت زوال النعمة عن أمه فقط، فإن كان مالاً مثلاً، أو كان مما يُكسَر فوراً، بذلة أنيقة جداً يسير صاحبُها مثل الطاووس فتتمزق، ومن شر حاسد إذا حسد، لا يزول الحسد بحذوة فرس تعلَّق، ولا بجملة مثل: وعين الحاسد تبلى بالعمى، هذا كلام الجهلة، كن مع الله فأنت محصن، أنت في مركبة محصنة إذا كنت مع الله، في الكون جنٌّ، وفيه إنس، قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 112 ]
لقد قدَّم الله شياطين الإنس في الذّكر على شياطين الجن، لأن شياطين الجن يحتاجون إلى ألف درس من شياطين الإنس، فكل إنسي يضع ألف جني في طرف جيبه، نحن عندنا وهمٌ أن فلاناً جني، إذا أردت أن تمدح جنيّاً فصِفْه، وقل: فلان إنسي، هناك أشرار، جن، وحساد، والله موجود، والأمر كله بيده، يعطيهم كل الأسباب، أما أن تفعل هذه الأسباب فعْلَها فلا، لأنّ علاقتك مع الله، وإذا كنت معه لم يستطِعْ أحد أن يؤثِّر فيك، أنت الآن يجب أن ترمي ألف قصة في الحاوية، فلان مسحور، وفلان أصابته عين، وأمثال هذه الخزعبلات.
قد يُمكِّن اللهُ كافراً مِن مؤمن لكنّ في النهاية يحفظ اللهُ المؤمنَ :
كنتُ مرة في جلسة، فسمعت عنها أن كل واحد فسر أحداث لبنان تفسيراً، لكن امرأة قالت: أصاب لبنانَ عينٌ، وعلى كلٍّ فنحن لا ننكر أثر السحر، قال تعالى:
﴿ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾
[ سورة الشعراء: 153 ]
﴿ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ﴾
[ سورة الإسراء: 47 ]
النبي عليه الصلاة والسلام منزَّه أن يؤثر فيه السحر، قد تجري محاولة، وإنّ الله قد حفظ القرآن، فهل معنى حفظ الله لكتابه أنه لا تجري محاولة لتغييره؟ تجري، لكنها لا تنجح، لو كانت لا تجري فثمة مشكلة هناك، واللهُ يسمح أن تجري، ولكن في النهاية لا تنجح، لأن الإنسان مخير، يمكنه اللهُ مِن الأسباب.
سيدنا إبراهيم مكَّن اللهُ قومَه أن يقبضوا عليه، مكّنهم، ولم يكن هناك مطر، فألقوه في النار، قال تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 69 ]
كل دعواهم أصبحت في الوحل، قد يُمكِّن اللهُ كافراً مِن مؤمن، لكنّه في النهاية يحفظ اللهُ المؤمنَ، فلو أنّه لم يمكِّنه منه لمَا أظهر له ضعف الكافر، الكافر معتدٌّ بنفسه، ويقول: لو أمسكه، فلمّا أمسكه لم يقدر عليه، لأنّ الله يحميه ويحفظه، ويعطيه حجة يقيمها على الكافر، ويلقي على المؤمن هيبة، قبل أن يلتقي به يقول: أريد أن أفرمه فرماً، فلمّا التقى به جاء خائباً.
لا تُحَلُّ القضايا إذا وقعت إلا عن طريق الاستعاذة بالله :
قضية الجن، والحسد، والسحر، وهذه الأشياء الخفية المدمرة، فِعْلُها وتأثيرُها بيد الله، فاحفظوا هذه الآية:
﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 102]
علاقتك مع الله، ولا تُحَلُّ القضايا إذا وقعت إلا عن طريق الاستعاذة بالله، فليس هناك مِن منهج آخر، فلان أخرج الساحر الجني منه، ولكن طلب منهم خروفاً ذا قرنين، وديكاً نصفه أسود ونصفه أبيض، يعطيك أشياء مضحكة، ويضع لفة خضراء، ويقولون: إن هذا الشيخ يؤاخي جنّاً مؤمنين فلا تخف منه، كل هذا دجل، أي تعاون بين الإنس والجن تعاون باطل، مَن سَحَرَ فقدْ كفَرَ، والحاسد كافر، كفر بعدالة الله، وشيطان الإنس كافر أراد أن يؤذي الآخرين، والمؤمن محصن:
((يقول الله لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمن عذابي.))
[ابن عساكر عن علي]
فحصِّنْ نفسك بطاعة الله، والاستقامة على أمره، ولا تخشَ أحداً، لا تخشَ إلا الله، فهو القائلُ:
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾
[ سورة الأعراف: 54 ]
والحمد لله رب العالمين