طيف هواري بومدين عاد هذه الأيام ليصول ويجول، وعادت رائحته أيضا لتريح بعض الأنوف والأذواق وتزكم أخرى، عاد بومدين مع تباشير ذكرى رحيله، ذات 27 ديسمبر 1978، في لحظة شاردة من تاريخ الجزائر، وعاد أيضا عبر تعابير الشباب، وحتى بين سطور الصحافة الفرنسية المتهاطلة خلال زيارة الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إلى الجزائر، واستحضرت مواقفه المعروفة من فرنسا، وهي تجتهد لطي صفحة الماضي، بما فيها قناعات الرجل، ذات الصلة.
عاد طيف الرئيس الراحل، وكأنه توفي البارحة فقط، وعادت معه أسئلة كثيرة تحوم حول حياته، انجازاته، وفاته الغريبة، وأخرى حول سر تعلق الأجيال الجديدة وبطريقة أسطورية، فرغم أنها لم تعرفه ولم تعايشه، فإنها تكون قد وجدت فيه عين الصدق والإخلاص لقيم الثورة ولخدمة الشعب، وتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية في اقتسام الثروة وغنائم الثورة، وفق الخيارات التي كانت مطروحة في تلك الفترة، سواء التي تأسست في الداخل الجزائري بعد ثورة عظيمة، أو المحيط الدولي، المنقسم بين عالم رأسمالي امبريالي وآخر شيوعي.
كلما عادت ذكرى الرئيس الراحل، هواري بومدين، عادت أسئلة حائرة معلقة، تريد كشف حقيقة مرضه الغريب ووفاته المفاجئة، وقد طرحت المسألة بحدة هذه المرة عندما تقرر التحقيق الجيني في أسباب وفاة الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، بطلب من زوجته، بعدما تأكد تعرضه لتسميم مقصود، كما نُبشِت جثة الرئيس التركي السابق، تورغوت أُوزال، قبل أَيام، لكشف ملابساتِ وفاته في 1993، وقالت لجنة تحقيق إِنَّ سُماً وُضع في كأس عصيرٍ شربَه فقضى مقتولاً، غير أن أرملة الرئيس الراحل، أنيسة بومدين، رفضت اقتفاء أثر سها عرافات، وأوكلت الأمر إلى الله عز وجل، وتضرعت له بالرحمة وحسن المآب، شأنه شأن قضية اغتيال جمال عبد الناصر بسم مجرد شبهة إلى حد الآن.
كل الساسة الذين رافقوا الرئيس، هوراي بومدين، لم يترددوا في التساؤل عن طبيعة المرض المفاجئ الذي أرقده الفراش وقتله، حيث فشل العلاج في وقف انهيار صحة الرئيس، البعض منهم راح يتهم النظام العراقي، وبالتحديد صدام حسين، وآخرون اتهموا المخابرات الفرنسية بالنظر إلى رفض بومدين تطبيع العلاقات مع باريس أو حتى زيارتها، ومنهم من اتهم المخابرات الإسرائيلية، لأن الرجل أصبح كبيرا وينظر إلى أبعد من حدود الجزائر، وخاصة بعد وقوفه على منصة الأمم المتحدة وطبيعة خطابه، في حين وجه البعض الآخر أصابع الاتهام إلى نظام المخزن في المغرب في عهد الحسن الثاني، وتبقى كلها مجرد فرضيات واتهامات، في نظر الرأي العام، وحتى أرملته، أنيسة بومدين، التي تحفظت عن الخوض في المسألة، وتجنبت الرد على أسئلتنا المطروحة، وعن الجهة المستفيدة، وما إذا كانت تعتزم فتح الملف وإجراء تحقيق طبي، مكتفية بتأكيد إصابته بأعراض جديدة خطيرة من آلام وشحوب، مغايرة لتلك التي كانت مرتبطة بإصابته بمرض في المثانة.
ولعل أهم شهادة نسوّقها، ما قاله الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في مذكراته، "...كنت ألاحظ الإرهاق على ملامحه وكان يعاني بعض الآلام، لكنه لم يكن يشتكي، كان يتحمّل الألم في صمت وشجاعة، وكان يقطب وجهه باستمرار، أرجعت سبب ذلك إلى إفراطه في العمل، ولم أدرك آنذاك أنه كان مريضا، كان يحدثني عن شجاعة الرئيس جورج بومبيدو ومعاناته من المرض... ومازلت أذكر عبارته حرفيا -إني أقدر صبر بومبيدو-. ولم أربط آنذاك بين ما كان يعانيه وبين حديثه عن مرض بومبيدو، واتضح فيما بعد أن الاثنين ماتا بنفس المرض، "واندستروم"" Wandenstrom "، وهو مرض خبيث ونادر"، كما سبق للرئيس الراحل الشاذلي في 2008 وأن شبه وفاة هواري بومدين بوفاة ياسر عرفات، في إشارة إلى أن وفاته لم تكن طبيعية.
وبغض النظر عن الجهة المتورطة في هذا الإغتيال البطيء، أجمع كل من عرف بومدين على أن الوفاة لم تكن عادية، فهذا نايف حواتمة، أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في تصريح لـ"العربية نت"، في 2006، يقول"أعرف أن الرئيس هواري بومدين مات مسموما بنفس طريقة موت عرفات"، دون أن يحدد الجهات المتورطة في عملية التسميم؟
الروايات السائدة حول أسباب مرضه القاتل، تتهم الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، بتدبير الأمر، على غرار اتهامه بتفجير طائرة وزير الخارجية، محمد الصديق بن يحيى، في 1982، حيث كان يعتقد النظام البعثي في العراق بأن الجزائر وقتئذ كانت تقف إلى جانب طهران.
وتفيد الرواية بأن الرئيس الراحل، عرّج على بغداد لمدة أربع ساعات في طريق عودته من قمة الصمود والتصدي المنعقدة بدمشق، وتضيف أنه في مأدبة غداء دست له مادة "الليثيوم" السامة، التي تقضي على كل من استهلكها، وتعجل بوفاته.
وذهب وزير الخارجية العراقية الأسبق، حامد الجبوري، في تصريح لـ "شاهد على العصر" بقناة "الجزيرة" في 2008، إلى أن بومدين تعرض لتسمم بعد زيارته إلى بغداد، وقال إن الموت كان مصير كل من تناول هذا السم في العراق، وهو ذات الكلام الذي أكده السوري، اللواء مصطفى طلاس، في 1996. كما نقل عن الأستاذ حسن العلوي السفير العراقي في دمشق تأكيده بأن صدام اعترف بقتله ذات مرة.
فرضية تورط المغرب في وفاة الرئيس هواري بومدين، مطروحة بحدة، خاصة وأنها نابعة عن مخاوف عبّر عنها بومدين نفسه، فضلا عن العلاقات المتوترة بين البلدين بسبب الصحراء الغربية وأطماع المغرب التوسعية على حساب الجزائر، وأبرز شهادة في هذا الشأن ما نقله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في مذكراته، حيث قال"تناقشت مع الرئيس وكاشفني بشأن اتصالات مع الحسن الثاني، ولقائه المرتقب ببروكسل في 20 سبتمبر 1978، وطلبت منه حينها تأجيل اللقاء"، ويضيف "بومدين تحدث عن أمر هزني، ولم أستطع استيعابه في حينه، قال لي العاهل إنه إذا لم نلتق هذه المرة يمكن ألا نلتقي أبدا، لماذا قال لي الملك هذا"، ليصل الإبراهيمي إلى ربط الأمر بوفاة بومدين، مشيرا إلى أن "مرض بومدين نادر، وأن سبب وفاته يبقى سرا، إلا بالنسبة لمن خطط له ونفذه".
ورغم تحفظ الدكتور طالب الإبراهيمي عن الخوض في القضية، والجزم باتهام طرف معين، لم يستبعد فرضية تورط إسرائيل في وفاة بومدين.
نفس الشهادة أوردها العقيد أحمد بن شريف، الذي اطلع على وصفة الطبيب المعالج للرئيس، حيث قال "كان الرئيس مريضا في جهازه البولي، الذي كان يتبوّل دما"، وأوضح أن الأطباء الروس لم يكونوا في المستوى، وأنه لو نقل إلى أوروبا كان أحسن وقد تنقذ حياته، وينتهي الرجل إلى القول "وفاة بومدين مثل وفاة عرفات تماما"، لكن بن شريف لم يتحدث عن الجهة المتورطة في الاغتيال.
وتبقى الأسئلة حول وفاته معلقة إلى حين